الفصل الـخامس والثلاثون: الثبات الضروري

الفصل الـخامس والثلاثون

الثبات الضروري
12: 1 - 13

اكتشفنا في القسم الرابع (11: 1 - 12: 13) اتجاهين. كان عنوان الأول (11: 1 - 40) الايمان والثبات. وها نحن ندرس الاتجاه الثاني (12: 1 - 13) وعنوانه الثبات الضروريّ. فبعد أن رسم الكاتب أمام عيون قرّائه لوحة عن أبطال العهد القديم الذين آمنوا وثبتوا في ايمانهم، دعاهم إلى أن يعيشوا هذا الايمان عينه والثبات، فيجعلوا نصب عيونهم يسوع نفسه الذي فيه وجد جميعُ اشخاص العهد القديم كمالهم وغايتهم.
بعد مقدّمة (12: 1 - 3) تدعو المؤمنين إلى الثبات، في خطى يسوع، يتوسّع الكاتب في تأديب الربّ الذي يعتبره رحمة (آ 4 - 11). وينتهي بخاتمة (آ 12 - 13) تبدو بشكل تضمين. تدعو القرّاء للنهوض من كبوتهم ومتابعة الجهاد الذي قد يصل بهم حتى الدم إزاء الخطيئة.

1 - تفسير الآيات
جاءت الآية الأولى بشكل انتقالة، فقدّمت لنا العبرة التي استخلصناها من ف 11: ثبات في الايمان. تألّم ((القديسون)) في العهد القديم وجاهدوا. والمسيحيون يجاهدون لكي ينالوا الموعد (10: 36). لكي يصلوا إلى المسيح.

أ - المقدمة (12: 1 - 3)
جاءت المقدّمة في فكرتين: نداء إلى الثبات (آ 1)، اتباع مثل يسوع (آ 2 - 3).
أولاً: نسعى بثبات (آ 1)
إن الاداة ((تويغارون)) (لذلك، أي 22: 10، ع ل. ك ن، ر ج 1تس 4: 8. أقوى من ديو، آ 12، 28. رج توينين في 13: 13) تدلّ على استعادة التحريض بالحاح. أما الكلمتان المفتاح فهما: هيبوموني (الثبات، الصبر)، أغون (نضال، حرب). هذه الأخيرة التي استُعملت في الأصل في إطار مبدأ ومكان مقدس، دلّت على كل مبارزة: هناك عدوّ يجب أن نزيحه، فكرة يجب أن نفرضها. هنا الكلام عن السعي (تراخاين، رج 1 كور 9: 24؛ غل 2: 2؛ فل 2: 16؛ 5: 7). فالمؤمن على الأرض يبدو كأنه في حلبة سباق يراه المشاهدون العديدون (1 كور 4: 9؛ فل 3: 12؛ 1 تم 6: 12؛ 2 تم 2: 5). ثم إن ((مرتيس)) ليس فقط الشاهد البسيط الذي يكتفي بأن ينظر ويحمّس، بل هو يشهد. هذا يعني أن تدخّله إيجابيّ وفاعل. وعلى المناضل أن يأخذ هذه الوجهة بعين الاعتبار (1تم 6: 12؛ 2 تم 2: 2). في 10: 33، كان معرّضًا لعار البشر. هنا الشهود الكثيرون يتابعون نضالهم من السماء (آ 23). هم كالسحاب (نافوس، مراحدة في العهد الجديد). الكلمة أقوى من ((نافالي)) التي تدلّ على سحابة عابرة. رج أش 60: 8. تدلّ هذه الاستعارة على الكثافة وعلى الارتفاع. ومع ذلك فهذه الجماعة اللامنظورة ليست بعيدة، بل هي تحيط بالمناضل (من أجل الايمان) من كل جهة (باريكايماي، أحاط كما بسور وفي المعنى الرمزي تعلّق). حين يعرف المسيحي أنه محاط بهذا الشكل، يزداد قوّة ويعي أنه جزء من هؤلاء الشهود بعد أن صاروا هم جزءًا منه. حضور يحمل العزاء والتشجيع، ولكنه متطلّب. هنا نتذكّر كلام يسوع عن الذي بدأ بناء برج، وعن الملك الذي أراد أن يحارب... إن لم يكن الواحد على قدر المقام يهزأ به الناظرون لأن هذا الرجل بدأ وما كمّل.
هؤلاء الشهود (مرتيرس لا ترد إلاّ هنا في عب) هم أبطال العهد القديم. نالوا من الله شهادة (شهد لهم الله) حسنة لأجل ثباتهم في الايمان (11: 2 - 4 ،5، 39 مرتيريتنتس، شاهدون). وها هم يشهدون بدورهم (شهادتهم امتداد لشهادة الله، رج أع 22: 15، 20؛ 26: 16). يشهدون لحقيقة الايمان، لقدرة الله التي لا تُقهر في الاضطهادات، ليقين المواعيد الالهيّة. ونخصّ بالذكر أولئك الذين تألموا وسفكوا دمهم، فدلّوا على صدق عقيدتهم وثبتوا في هذه الشهادة (11: 35 - 38؛ رؤ 2: 13). مثَلهم يكفي. وقد ازداد عددهم بعد يسوع. وهكذا جاء شهود العهد الجديد وتسلّموا المشعل في خطى يسوع.
لا يستطيع المصارع (المناضل، الساعي، أغون) أن ينتصر إن لم يستعدّ. لهذا قال بولس: ((كل مسابق يمارس ضبط النفس في كل شيء من أجل إكليل)) ينتظره (1 كور 9: 25). نخفّف وزننا نخفّف حملنا. رج ابوتيتيمي، وضع جانبًا، أبعد. رج 13: 12؛ أف 4: 22 - 25؛ كو 3: 8، هذا ما قاله يسوع لتلاميذه: لا تحملوا نقودًا من ذهب ولا من فضة ولا من نحاس في جيوبكم ولا كيسًا للطريق ولا ثوبًا آخر ولا حذاء ولا عصا (مت 10: 9). وهكذا يستعدّ المسيحي فينطلق. لا تهتمّ عب بالسرعة، بل بالثبات حتى النهاية (رج مت 24: 13). بالصبر والثبات (10: 36) نربح السباق الذي بدأنا به (بروكايماي، آ 3 ،6 ،18). ولا ننسى سحابة الشهود الذين يرافقوننا بعيونهم وبمثلهم، بعد أن سبقونا إلى الجهاد ونالوا الاكليل.
ثانيًا: بدأ يسوع وهو يكمّل (آ 2 - 3)
حين يبدأ السباق، لن يهتمّ السابق بشيء آخر: لا ينظر إلى الوراء، لا ينظر يمينًا ولا شمالاً، بل يحدّق بالهدف ويفكّر في النصر. هكذا يفعل المسيحيّ الذي يشاهد المسيح ويسمّر عليه عينيه. أفوراوو: نظر من بعيد (مراحدة في العهد الجديد. رج أبوبلابو، 11: 26). دوّر عينيه ليرى شخصًا يبصره. جاء الفعل في صيغة الحاضر ليدلّ على أننا لسنا أمام نظرة عابرة، بل متواصلة. هكذا ينظر الرسّام إلى المثال الذي أمامه. وينظر المؤمن إلى يسوع في بشريته، وفي علاقته بالايمان. هو المبدئ (ارخيغوس) وهو المكمّل (تالايوتيس مراحدة بيبلية). المسيح يوجّه إيماننا ويوصله إلى المنتهى، إلى الكمال. وهو الذي يثبت هذا الايمان كما يحقّق الرجاء الذي يتضّمنه هذا الايمان (بستيس 11: 1ي). إن يسوع يهتمّ بالمتسابقين منذ الخطوة الأولى ولا يتركهم حتى النهاية. هو ((أرخي)) و((تالوس)) (رؤ1: 17؛ 2: 8؛ 22: 13). هو الألف والياء: الأوّلون شهدوا له، والآخرون أيضًا. رج 1 بط 1: 10 - 11.
هناك من ترجم ((بستيس)) ثقة (2: 13؛ 3: 2). فالمسيح هو أيضًا قد حارب حرب الايمان منذ تجاربه في البرّية حتى الموت على الصليب. منذ بداية حياته حتّى نهايتها، قبلَ كلّ شيء مستسلمًا إلى مشيئة الأب. تعلّم الرحمة (2: 17) والطاعة (5: 8). وتعلّم أيضًا الثقة بالله. وهكذا صار يسوع العربون الذي لا يخطئ لانتصار أكبر: حارب وانتصر عابرًا محنة الموت، وهو يعطي الناس المضطهدين الذين يتعلّقون به بالايمان، يقينَ الانتصار هذا، ويدلّهم على الطريق. طريق الجلجلة.
كان باستطاعة يسوع أن يخلّصنا دون أن يتألّم ويموت فيحيا حياة من السرور والراحة. ولكنه ما تمسّك بامتيازات طبيعته الالهيّة (فل 2: 6). بدل السرور (والاكرام على الأرض) اختار الصليب، اختار الهزء والعار (مت 4: 8؛ يو 6: 15؛ 2 كور 8: 9). في هذا المعنى قابل ((ستاوروس)) (الصليب) ((النضال المفتوح أمام المسيحيين)) (آ 1). هذا خطّ الذهبي الفم ومدرسة انطاكية (يوحنا الدمشقي). أما مدرسة الاسكندريّة مع كيرلس وغريغوريوس النازيانزي، فاعتبرت السرور الذي هو أمام يسوع، السعادةَ التي ينعم بها الكلمة في طبيعته الالهيّة. تجرّد عنها في التجسّد (5: 8) ثم استعادها حين جلس عن يمين الله (رج 11: 25؛ فل 2: 6).
نقرأ: كاتافرونيساس (صيغة الاحتمال): اختار المخلّص ما اختار بملء حريته، وضحّى بالسعادة التي هي حقّ يرتبط بشخصه. ونقرأ ((بروكايماني)) الذي يعني الحاضر، لا المستقبل (رج آ 1): ليغيث إخوته (2: 9 - 18). مثل هذه الفكرة تشجّع المسيحيين الذين يفضلّون شهادة الايمان على كل خير يقدمّه لهم المضطهدون. ويشخصون بأبصارهم إلى الرب في النضال ( في الجهاد) (أغون) الذي فُرض عليه فتخلّى عن امتيازات السماء، كما تجرّد عن كل شيء من أجل الظفر.
((هيباماينن)) (رج 10: 32) يدلّ على الصلب وعلى ثبات بطوليّ وصبر طويل عاشه المخلّص لمّا أصابته الآلام، فقبلها بكل إرادته. عذاب خاص بالعبيد والمجرمين، عذاب العار. رج ((أيسيخيني))؛ في 13: 3 نقرأ ((أونايويسموس)). رج 10: 33؛ 11: 11، 26. هذا الذي كان له المجد حصل على العار. هذا الذي هو السيّد والرب عومل كالعبيد. هذا الاله القدوس، جُعل مع الخطأة. ولكن ذاك الذي لم يرفض العار في نظر البّر هو اليوم عن يمين الله، في ملء الكرامة والسعادة. نقرأ فعل ((كاكاتيكن)) (صيغة الكامل ي ش ب، ارتاح، اطمأن): ينتهي الألم ولكن المجد يدوم إلى الأبد. هذا ما ينتظر المسيحيين الذين يتخلّون عن أمور الأرض لينتصروا في الجهاد: يشاركون في مجد المسيح وكماله، وينعمون بالسعادة.
وتستخرج آ 3 (الأمر في صيغة الاحتمال) البعد النموذجي (غار، الفاء) لآلام تحمّلها المسيح فانتصر. لا يكتفي المسيحيّون بأن يشخصوا بأبصارهم إلى المخلّص المصلوب، بل يتأمّلون في آلامه ويقابلون محنه بمحنهم، فيرونها كلا شيء. هو القائد في كل شيء. وهو الأول في الألم. هكذا يكون الأول في المجد (ارخيغوس). نقرأ ((أناغوليزوماي)) حسب، قابل (مراحدة بيبليّة). تجاه مقاساة الصليب (آ 2) نجد مقاساة أخرى من قبل الخطأة. ((انتيلوغيا)) ر ي ب. م ر ي ب ه، خر 18: 16؛ تث 1: 12؛ 17: 8؛ 19: 17؛ 25: 1. نجد هنا تلميحًا إلى عداوة واجهها يسوع خلال حياته على الأرض (مقاومة وثورة مع ((أنتي))، مز 18: 44)، وإلى محاكمته في مناخ من الحقد والعنف والهزء (رج مز 80: 7). الشهود (مرتيرس) يشجّعون المتسابقين. أمّا الخطأة (هامرتولوي) فيثبّطون هممهم (مر 14: 41). في المحاكمة رفضوا ليسوع كرامة ابن الله.
كان المسيح علامة خلاف (سيمايون انتيلاغومانون، لو 2: 34). فرذله الخطأة. كان علامة سقوط. كما عارض قورح وداتان وابراهم موسى (2 تم 2: 19) فعوقبوا (عد 16: 27؛ رج يهو11)، كذلك سيكون مصير الخطأة. وأخيرًا، حين يعارض الخاطئ الله يسيء إلى نفسه. رج أم 8: 36؛ 20: 2؛ حب 2: 10؛ 1 مل 2: 23.
أمام المحنة، يستعيد المؤمنون شجاعتهم حين ينظرون إلى آلام المسيح. تجاه العداوة التي يواجهونها في اعتراف إيمانهم (1 تم 6: 13 - 14) يشدّدون نفوسهم (فلا تكلّ ولا تخور) فيتجاوزون العار والعذاب. ويأتي فعل ((اكيوماي)) الذي يعني تراخى، كلّ، تعب على المستوى الماديّ (مت 15: 32) وعلى المستوى الروحيّ (غل 6: 9). فأصعب ما في المسيحيّة ليس بطولة يوم واحد، بل أمانة وثبات في المثال الذي جعلناه نصب عيوننا.

ب - الرب يؤدّبنا كالأبناء (12: 4 - 11)
الآلام حاضرة والاضطهادات. قد ننظر إليها آتية من البشر فيمتلئ قلبنا حقدًا على الناس، وتساؤلاً حول عناية الله وقدرته. وننظر إليها آتية من عند الله، فتصبح تأديبًا لنا وتربية. تصبح نعمة على ما قال الرسول: ((أنعم عليكم لا أن تؤمنوا به فقط، بل أن تتألّموا معه)) (فل 1: 29). هذا ما يحمل العزاء والشجاعة للمسيحيّين الذين يتعرّضون للشدائد. وهكذا جاء هذا التوسّع (آ 4 - 11 في فكرتين: التأديب يدلّ على أننا أبناء الله (آ 4 - 8). التأديب نافع على المدى الطويل وإن لم يبدُ في الحال باعثًا على الفرح.
أولاً: أي ابن لا يودّبه أبوه (آ 4 - 8)
بعد مقدّمة تشكّل انتقالة (آ 4 - 5أ)، يرد النص الكتابي (آ 5ب - 6) المأخوذ من أم 3: 11 - 12، ثم تفسير هذا النصّ (آ 7 - 8) وتطبيقه على وضع القراء.
*مقاومة حتى الدم (آ 4 - 5أ)
هناك طريقتان نشجّع بهما المتألّم: هناك أناس تألمّوا مثلك أو هناك ألم أقوى لم يصل بعد إليك. في الطريقة الأولى، نحسّ أننا لسنا وحدنا. وفي الثانية، نستعدّ لجهاد أكبر وصعود أرفع. رج 1 كور 9: 24 - 26: ((أجروا أنتم مثله حتى تفوزوا)). فالحياة المسيحيّة ليست مجهودًا سهلاً يقود إلى السرور، بل عملاً خطرًا يفترض مقاومات آتية من الخارج. هذا ما يعلّمنا إياه المسيح الذي مات على يد الخطأة (هامرتولوي). أما قرّاء عب فيضطهدون (10: 32 - 34) وتهدّدهم الخطيئة (هامرتيا). في هذا يقوم جهادهم (انتاغونيزوماي، مراحدة بيبليّة، 4 مك 17: 14). لسنا أمام صراع داخليّ مع خطايا شخصيّة (1 بط 2: 11). فالمسيحيّ كفر بالخطيئة (آ 1). بل أمام نضال في وجه المضطهدين الذين اكتفوا حتى الآن بالعنف والسجن... ولكنهم لم يصلوا حتّى الدم. أجل، لم يصل الجهاد بعد إلى الدم، إلى الموت (انتيكاتيستيمي، مراحدة في العهد الجديد، 2 مك 13: 14: جهاد حتى الموت).
يجب أن يستحي المسيحيون من أنفسهم، إن هم تراخوا وتراجعوا عن الجهاد. فلينظروا إلى آبائهم في الايمان (11: 31 - 38). لينظروا إلى مخلّصهم (آ 3): سفك دمه (9: 12 - 14؛ 10: 29). فمصيره يكون مصيرهم. ليستعدّوا له.
ولكن بدأ المسيحيون ينسون (آ 5أ). ضعف إيمانُهم فما عادوا يفهمون مبدأ التربية (بايدايا) الذي شرحه فيلون فقال: تأتي الآلام من الله. هي برهان حبّه الابويّ وبنوّتنا الالهيّة. فحين يكون الله خالقنا وأبانا وحامينا، فهذا يكفي لينجّينا من الغمّ والخوف. نقرأ هنا صيغة الكامل في المجهول: إكلانتانو (مراحدة بيبليّة). نحن أمام سؤال يطلب جوابًا: لا ، لم ننسَ. لا يعلن الكاتب ان المسيحيين نسوا، بل يشجّعهم لكي لا ينسوا. من هنا استعمال ((باراكليسيس)) (حرّض، حث وألحّ) الذي يدل على كلام يوجّهه المعلّم إلى تلميذه.
* تأديب الرب (آ 5ب - 6)
بعد المقدّمة، يرد الاستشهاد الكتابي الذي أخذ من السبعينية، فاختلف بعض الشيء عن النصّ العبري: الابن هو تلميذ الحكيم. عليه أن يحذر كل استخفاف أو إهمال (م اس، أوليغوريو، مراحدة بيبليّة) بالنسبة إلى التربية أو التأديب (م و س ر) الذي يفرضه الربّ، وكل رفض (ق و ص) لعقاب (ت و ك ح ت) يصيبه. لا نكتفي بالاهتمام الجدي بعقاب يرسله الله، بل نعتبره تعليمًا من أجل خيرنا. فالهدف الإيجابي: تنمية عبد الله. لهذا قال أي 5: 17: ((طوبى للرجل الذي يؤدّبه (ي ك ح) الله، ولا يستخفّ بنصيحة (م و س ر، مشورة) القدير)). وقال مز 94: 12: (( طوبى للرجل الذي تؤدّبه يا ربّ، وبشريعتك تعلّمه. ((م و س ر))، هو التأديب، التعليم، الدرس يعود إلى ((ي س ر)) علّم، أدّب، أصلح، أشار (أم 1: 1 - 2). لهذا ترجم ((بايدايا)). نحن أمام تربية الأب لأبنائه (أو لعبيده) مع العقاب الجسدي. رج أم 13: 24 (من يوفّر العصا يبغض ابنه، ولو أحبّه سارع إلى تأديبه)؛ 22: 15؛ 23: 12 - 14؛ سي 22: 6؛ 30: 1؛ 42: 5. فمبدأ التربية الأول هو أن لا نترك ضلالاً بدون عقاب (سي 23: 2).
تلك هي تربية الله تجاه شعبه. يؤدّب، يعاقب، يرسل ((الضربات)) لكي يعلّم، وفي النهاية يمنح نعمه (إر 2: 30؛ حك 3: 5؛ 16: 10-12). تأديبه رحمة وصلاح من أجل الأبرار ولخيرهم (سي 18: 13؛ 2 مك 6: 12 - 17). هذا ما سمّاه المعلمون ((تأديب الحب)) الذي نبارك الله بسببه. في هذا قال فيلون: يجب أن نطلب من الله أن يؤدّبنا.
وتشدّد آ 6 على علاقة بشكل مفارقة، بين محبّة الله وتأديبه بالضربات. ولكن ((أغاباوو)) لا تدلّ فقط على عاطفة ملموسة تتراخى مع الابن (آ10). بل هي أرفع أشكال الحبّ الذي يريد خير الآخر. في العبرية نقرأ: و ك ا ب. وكأب. قرأت السبعينيّة: ي ك ا ب، أو: ي ك ا ي ب: يجلد ((باراداخوماي)) تقبّل. يقابل ((ر ص ه)) رضي، سُرَّ. الله ((يضرب)) الابن الذي يحبّه. إن هذه الرحمة الأبويّة تمارس في العهد القديم كما في العهد الجديد (رؤ 3: 19: الذي أحبّه أؤدّبه). إلى هذا يستند البرهان في تفسير الاستشهاد الكتابي (آ 7 - 8): بايدايا (تربية، تأديب). إلانخو أو مستيغوو: جلد. رج حك 12: 20 - 22؛ تي 2: 11ي.
* أنتم بنون (آ 7 - 8)
يفسّر الكاتب النصّ الكتابيّ ويطبّقه على المؤمنين. إن رفضوا التأديب دلّوا على أنهم ليسوا أولاد شرعيين، بل أولاد زنى (نغول). هذا يعني أنهم لا يعبدون الله الواحد، بل الأوثان، والزنى هو خيانة للربّ. وهكذا جاء الجواب الصريح على سؤال طُرح بشكل ضمنيّ: لماذا يسمح الله بأن نتألّم هكذا؟ جاء فعل ((هيبوموناتي)) (أصبروا، كونوا ثابتين) يربط واقع اضطهاد المسيحيين بالمبدأ الكتابي (آ5ب - 26): ان الضربات التي تصيب الجماعة المسيحية هي تأديب من قبل الله (4: 16؛ 6: 16) لتربية من يحبّهم. فالله لا يتصرّف معنا كسيّد مستبدّ أو لامبال، بل كأب تهمّه تربية أولاده. ((بايدايا)) ترتبط بـ ((بايس)). والتربية ترتبط بالبنوّة. لهذا، كان التأديب امتيازًا ونعمة، لا عقابًا ولعنة.
وجاءت القاعدة العامّة والثابتة (آ 8): إذا كان النموّ المسيحيّ لا يلغي صعوبة ولا ألمًا، فهذا يعني أن الله لا يعاملنا بمحبّة مميّزة (يو 15: 2). عندئذ لا نكون حقًا أبناءه، بل نكون أبناء زنى، فلا يحقّ لنا من بعد بميراثه وحمايته. ((نوتوي)) (نغول، مراحدة في العهد الجديد؛ يوسيفوس، العاديات 5: 233). نفهمها في المعنى القانونيّ القديم، الذي يقابل ((غنيسيوي)) الأولاد الشرعيين الذين يحقّ لهم وحدهم بالميراث. ((نوتوس)) ليس ((ابيكليرس)). هو لا يشارك في الميراث ولا في شعائر العبادة (هيارا). فهو ليس على لائحة المواطنين فأين هو موقعنا؟ أبناء أم نغول؟ أنرضى التربية والتأديب أم نرفضهما؟
ثانيًا: آباؤنا والآب السماوي (آ 9 - 11)
نقرأ هنا مقابلة مثلّثة بين تربية البشر وتربية الله (آ 9) . بين ما يتوخّاه البشر وما يتوخّاه الله (آ10). بين نتيجة ونتيجة (آ11): الحزن أو ثمر البّر.
* آباؤنا يؤدبوننا (آ 9)
إن آباءنا بحسب الجسد يؤدّبوننا لكي نتعلّم التهذيب البشري والتعامل مع الناس. أما تأديب الله فلكي يكوّن فينا الحياة الروحيّة. شتّان ما بين تأديب يكون بحسب الجسد، وتأديب يكون بحسب الروح. إذن، لماذا نقبل تأديب آبائنا ونرفض تأديب الله الآب السماوي؟
نحن هنا أمام برهان (مع بالحري) ينطلق من الأقلّ إلى الأكثر. طريقة الله غير طريقة البشر. فماذا ننتظر لنخضع لتوبيخه؟ الوالد أنجب ابنه وهو يؤدّبه (بايدوتيس، رج روم 2: 20؛ هو 5: 2؛ سي 37: 15 التأديب). والابن يرضى هذا التأديب مهما كان، ويخضع له (انترابو، رج مت 21: 37؛ لو 18: 2. صيغة اللاكامل. هكذا يفعل الأولاد عادّة، لا مرّة واحدة. هذا يعني أن التأديب لا يدوم لحظة. بل العمر كله). نحن أمام واقع عام على مستوى البشر. فكيف يجب أن يتصرّف المسيحيّون تجاه المؤدّب الالهيّ (هيبوتاسو يتضمّن خضوعًا طوعيًا واعترافًا بتبعيّة، رج تي 2: 9؛ 3: 1؛ يع 4: 7) الذي هو أبونا بشكل مطلق. هو خالق حياتنا وسيّدها، هو مبدأ الأرواح وعالم الروح. فإذا أردنا أن تكون لنا الحياة (حياة الجسد وحياة الروح) نخضع لتربية سيّد الحياة وأبي الأرواح.
* تأديب قصير (آ 10)
يؤدبّنا آباؤنا لوقت قصير. هم مائتون، ضعفاء. والمعيار غير أكيد. تقودهم العاطفة وتسيطر عليهم الخطيئة. أما المعيار الالهي فأكيد جدًا، ومرماه يسمو على البشر. يريد أن يشركنا في قداسته. فشتّان بين هدف وهدف، وسيلة ووسيلة.
أجل، الأسلوب التربويّ لدى الله يتفوّق على أسلوب البشر (هو مان... هو دي: من جهة هم. ومن جهة أخرى هو). يربّي الوالدون أولادهم لفترة قصيرة (بروس أوليغون، آ 11؛ حك 16: 6؛ يو 4: 14)، حتّى يبلغوا مرحلة النضوج. يربّونهم حسب نزواتهم (ابايداوون، اللاكامل، المرّة بعد المرّة). أما الله، فتربيته كاملة ودائمة. لا يهمّه إلاّ خيرنا (سيمفارون، رج 1 كور 12: 7). الخير الاسمى الذي يريده لنا: القداسة (هاغيونيتوس). يريد أن يشركنا (ماتالمبانو) في قداسته، في حياته. المسيحيون ((قديسون)) لأنهم مكرّسون لله يفضل ذبيحة المسيح (10: 14، 29)، ويخصّون أبا الأرواح. هذا يعني انفصالاً جذريًا عن العالم والخطيئة (آ 1، 14). ولكن كيف التوصّل إلى هذه الحالة بدون ألم. لهذا كانت الاضطهادات التي تأتي من البشر فيستفيد منها الآب السماويّ من أجل فائدتنا.
* فرح وغمّ (آ 11)
حين ننال التأديب، نغتمّ ونحزن، ولكنّنا في النهاية نفرح حين نرى أن الله عمل فينا عظائم، كما قالت مريم في نشيد التعظيم (لو 1: 49)، حين نرى الثمرة من الحبّة التي غُرست فينا: ثمرة البرّ وثمرة السلام في خط التطويبات: هنيئًا للجياع والعطاش إلى البر، هنيئًا لصانعي السلام (مت 5: 6 ،9).
مهما كانت هذه الاعتبارات الروحيّة رفيعة، يبقى أن كل تأديب يحمل على الغمّ. حين يصيبنا لا يمكن إلاّ أن نشعر بالحزن. تو بارون: في الحال. يقابل هستارون (في ما بعد). يجب أن نحكم على كل شيء بالثمر الذي ينتج عنه (2كور 7: 8ي). فالتأديب ليس فقط ((اغون)) (نضال، سعي) بل ((غيمناسيا)) (رج 5: 14؛ 1تم 4: 7؛ تمرّس طويل. وهو يتطلب نسكًا وتضحيات، ولكنه يعطي ثمرًا. أبوديدومي: ردّ، أعاد، أعقب (مت 6: 4؛ 16: 27؛ 21: 41؛ 2 تم 4: 8؛ رؤ 22: 22، يردّ علينا من خير). هكذا نفهم خصب ((بايدايا)). كانت تضحيات والنتيجة: ثمرة (كربون) سلام (ايرينيكون). يرتاح المناضل بعد السعي (آ 1)، ويعرف الطمأنينة والسلام بعد قتال مرير (آ 4). هو سلام داخليّ مع الله. وخلاص من الشرّ، من الأعدء. ديكايوسينيس: الفضيلة، الاستقامة، الوحدة مع الله (القداسة، آ10)، بل السعادة الأبديّة (11: 7؛ 2 تم 4: 8). دخلنا في مشروع الله، فأدخلنا إلى سعادته.

ج - فانهضوا اذن (12: 12 - 13)
جاءت الخاتمة بشكل نداء إلى النهوض مهما أخذ منّا الوهن مأخذه، ومهما تراخت منا الارادة. بشكل نداء إلى متابعة السبيل، وعدم العودة إلى الوراء، وعدم التهرّب من المسؤوليّة. أما هكذا أراد أن يهرب إيليا، أن يقيم في سيناء بعيدًا عن النضال الذي ينتظره؟ ولكن الله أعاده في الطريق الذي جاء به: أرجع إلى المجاهدين الكثر (سبعة آلاف) الذين لم ينحنوا أمام البعل (1 مل 19: 15، 18). أما أراد التلاميذ الثلاثة أن يظلّوا على الجبل، بينما ينتظرهم وينتظر يسوعَ الصلبُ والموت (مر 9: 5 – 6 وز)؟
في آ 12 نقرأ الاستنتاج العمليّ. ما وصلتم بعد إلى نهاية محنكم. فتسلّحوا بالشجاعة، وتغلبّوا على التراخي والكلل: انورتوو: ثبّت،أنهض، أصلح ما كان ملتويًا (ي ف ر). بارييمي (في المجهول): سقط، خار. يقال عن الأرجل التي ضعفت فكادت تؤدّي إلى السقوط (باراليو، وجمد، صار رخوًا، مت 8: 6؛ رج أش 35: 3؛ سي 25: 23). اليدان تدلاّن على النشاط، والرجلان على القوّة. لا ننسى أننا في صراع (آ 4). إن التراخي على مستوى الجسد صورة عن تراخ من نوع آخر. لهذا نثبت (هيبوموني)، نقاوم الشرّ (أي 4: 3 - 4؛ سي 2: 13) إذا شئنا أن ننتصر.
في الشق الأول من آ 13، نقرأ أم 4: 26 حيث يتعلّم التلميذ الاستقامة في كل أعماله: سبيل ثابت تحت قدميه. يتصرّف بضمير مستقيم، أي يرسم طريقه ويسير فيها. أما آ 13ب فتحثّ المؤمن على أن لا يشكّك الضعفاء فيعثروا ويسقطوا. الأعرج هو المسيحي الضعيف والمتردّد، الذي قد يميل عن الطريق. يجب أن نساعده بمثلنا الطيب بحيث لا يشرد، بل نساعده على الأمانة والثبات. رج 10: 24 - 25؛ روم 14: 1؛ 15: 1ي؛ 1 كور 8: 9ي. رج ((اكترابو)) شرد عن الطريق، شرد عن الايمان (1تم 1: 6؛ 5: 15؛ 2 تم 4: 4). ولكن قد يكون الأعرج ذاك الذي يعرج بين هذا الفريق وذاك (1 مل 18: 21)، تكون رجله الأولى في البور، والثانية في الفلاحة. يكون تارة مع المسيح وطورًا ضد المسيح (من ليس معي فهو ضدي، ومن لا يجمع يفرّق). مثل هذا يحتاج إلى شفاء، لأن الجحود يتهدّده.

2 - قراءة إجمالية
((لذلك نحن أيضًا، إذ يُحدق بنا مثل هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود فلنطرح عنّا كل ثقل الخطيئة التي تكتنفنا، ولنسعَ بثبات إلى الميدان المفتوح أمامنا)) (12: 1)
يطبّق الكاتب الآن على قرّائه (على نفسه، فهو الراعي الحكيم والمحبّ. يجعل نفسه معهم) الدرس الذي تعلّموه من أناس انتصروا بإيمانهم على كل محن الحياة والموت، خلال أجيال قبل مجيء المسيح. فأخذ صورة المتصارعين (المتسابقين) في الحلبة، الذين تنظر إليهم الجموع المحيطة بهم. إن صورة السعي قديمة جدًا. قال فيلون عن ابراهيم إنه سعى، وأنهى حياته بدون عثار، فنال الاكليل والجزاء (هجرة ابراهيم 133). وقال 4 مك 14: 5 إن ((اليعازر أسرع إلى الموت بالعذاب وكأنه يسعى في عجلة الخلود)). وقد شاهده كما شاهد الاخوةَ السبعة، الظالمُ وخصومهم. ولا ننسى بولس الذي شبّه المسيحي بالمتسابق والمتصارع. وقال عن نفسه: ((جاهدتُ الجهاد الحسن، وأتممت شوطي، وحافظتُ على الايمان، والآن ينتظرني إكليل البر الذي سيكافئني به الربّ الديّان العادل في ذلك اليوم، لا وحدي، بل جميع الذين اشتاقوا إلى ظهوره)) (2 تم 4: 6 - 8).
وهكذا صوّر الكاتب نفسه مع قرّائه كمصارعين من أجل الايمان في ساحة الحياة. يحيط بهم جميع الذين سبقوهم. ينظرون بفخر إلى جهادهم، وينظرون الاكليل الذي سبقوا ونالوه قبلهم. كيف يكون الجهاد؟ هناك موقف سلبي: يتحرّرون من الخطيئة التي تُثقل كاهلَهم فتمنعهم من السعي والوصول إلى الهدف وإحراز النجاح. والموقف الايجابي هو سعي وثبات وكفاح. لا ننظر إلى ورائنا كالفلاح فلا نكون أهلاً للملكوت. نبدأ في خطى المسيح الذي بدأ، ونثبت في كفاحنا متأكّدين أن ذاك الذي بدأ يكمّل. لهذا يكون ايماننا ايمان الثقة.
وإليك الكلام الذي به حثّ الذهبي الفم المؤمنين: ((كثيرون منكم شاهدوا أكثر من مرّة الألعاب الاولمبية، فما كانوا فقط مشجّعين للمسابقين، بل متشيّعين لهم ومعجبين. تعرفون أنه خلال نهارات السباق ولياليه، لا يفكّر المنادي بشيء آخر ولا يهتمّ إلاّ بأنّ لا يُعفى المتسابق في سعيه... فإن كان الذي يدخل في سباق أمام البشر يفكّر مثل هذا التفكير يليق بنا أن نفكّر بجديّة، وحياتنا هي صراع كلها)).
شاخصين بأبصارنا إلى مبدئ الإيمان ومكملّه إلى يسوع الذي، بدل السرور الموضوع أمامه، تحمَّل الصليب هازئًا بعاره، وجلس عن يمين عرش الله)) (12: 2)
يركّز المصارع كل قواه، ليربح إكليل النصر. لهذا يُطلب من المشاركين في السعي المسيحيّ أن يتحرّروا من كل ثقل وأن ينطلقوا في الجهاد بلا تردّد. ويُطلب منهم أيضًا بأن ينظروا إلى يسوع، على مثال اسطفانس ساعة كان يُرجم (أع 7: 55 - 56): الهدف فريد فلا يشتّتنا ما يحيط بنا. لهذا نشخص ببصرنا إلى من هو الهدف والجزاء. هذا ما قاله بولس: ((أحسب كل شيء خسارة من أجل الربح الاعظم، وهو معرفة المسيح يسوع ربّي. من أجله خسرتُ كل شيء وحسبت كل شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه)) (فل 3: 8 - 9).
بما أن هذه المسيرة هي مسيرة الايمان، فمن الضروريّ أن نجعل دومًا أمام أبصارنا مبدئ إيماننا ومكمّّله. فبعيدًا عن ذاك الذي وجدت مواعد الله كمالها فيه، لن يجد الجنسُ البشري أساس إيمانه وموضوعه. فعليه تركّز نظرُ الايمان في كل جيل. وبما أنه مبدئ خلاصنا (عب 2: 10)، فهو صاحب إيماننا. فقد بدأ إيماننا معه، وسيتواصل به بعد أن صلّى إلى أبيه لأجل الذين آمنوا به (يو 17: 20)، وطلب لهم أن لا يفقدوا هذا الايمان (لو 22: 31 - 32). لهذا، ننظر إليه كرسول وحبر اعترافنا (3: 1)، ونتأكّد أن الذي بدأ فينا العمل الصالح يتمّمه (فل 1: 6).
بالإضافة إلى كل هذا، الابن المتجسّد هو نفسه رجل الايمان. هو لا يؤمن بشيء أو بشخص كما هو الحال بالنسبة إلينا. هو رجل الايمان أي رجل الثقة بالله (2: 13). فحياته ، منذ بدايتها حتى نهايتها، ارتبطت ارتباطًا تامًا بمشيئة الآب (10: 7 - 10)، وعبّر عن هذا الايمان بالصلاة (5: 7؛ يو 17: 1ي؛ مر 1: 35...)، وانتصر انتصارًا تامًا على التجارب والمضايق، فصار كاملاً عبر الآلام (2: 10؛ 4: 15). وهكذا صار ينبوعَ خلاص أبديّ للذين يطيعونه (5: 8 - 9). حين ننظر إلى يسوع، ننظر إلى ذلك الذي يعرض علينا الايمان، الذي بدأ المسيرة ويتابعها بدون انحراف حتى النهاية. وهو وحده يقدر أن يتشفّع، أن يسند ايمان الذين يتبعونه. إيمان الذين سبقوه قد أفسدته الخطيئة والنقص ولا يمكن أن يقال عن أحد أنه مبدئ الايمان ومكمّله. فالوحيد الذي نستطيع أن نشخص إليه بأبصارنا هو الوسيط الذي لا يستحي بأن يدعونا إخوته (2: 11)، والذي يشعّ مَثلُه أمامنا نحن المجرّبين لكي نتبعه، وهو الذي يعيننا بنعمته بحيث ننتصر معه (2: 17 - 18؛ 4: 15 - 16).
ونتأمل أيضًا فرادة يسوع، في سعيه على الأرض. هو سعى وحده. فقد جاء يفعل ما لم يستطع أحد أن يكمّل، فقاده سعيه إلى الصليب حيث نسعى من أجل جزاء الخلاص الأبدي والمجد الذي اقتناه لنا بموته على الصليب. وهو فريد أيضًا في نضاله الذي عليه سمّر ناظريه. والفرح الذي كان أمامه هو أنه أتمّ عمل المصالحة الذي جاء يتمّمه من أجل خيرنا الأبديّ ولمجد اسم الآب. وهكذا تحقّقت مقاصد الله على مستوى الخلق وكل مواعيده في إطار العهد. فرحه الذي هو ملء الفرح (مز 16: 11) هو أيضًا فرح الاختيار. أراد أن يقيم فرحه فيهم بحيث يتمّ فرحهم (مثل فرحه). من أجل هذا صلّى كي يكون فرحه كاملاً فيهم (يو 15: 11؛ 17: 13). فرحه هو فرح السماء لكل خاطئ يتوب ويعود إلى بيت الآب، كل خروف ضال قد وُجد، لكل ابن كان ميتًا فعاش وضالاً فوُجد (لو 15: 6 - 7 ،24، 32). ولكن يبقى الصليب طريق الفرح، فرح الابن وفرحنا، بالنسبة إلى يسوع الذي قاسى الصليب واحتمل العار، وفي النهاية جلس عن يمين الله، وبالنسبة إلى المؤمنين الذين يشاركونه في الآلام، فيشاركونه في قوّة قيامته (فل 3: 10؛ أف 2: 6؛ كو 3: 1ي).
فتأملّوا بتفصيل ما قاساه الذي صبر على مثل هذه المقاومة لشخصه من قبل الخطأة، لئلا تكلّ نفوسكم وتخور. فإنكم، إلى الآن، لم تقاوموا بعد حتّى الدم في الجهاد ضدّ الخطيئة)) (12: 3 - 4)
إن هؤلاء ((العبرانيين)) الذين يتوجّه إليهم الكاتب، بدأوا انطلاقتهم في حماس، وها هم يدلّون على أن نفوسهم بدأت تكلّ وتخور وثباتهم يفتر، مثل عجلة صاعدة. فالصعوبات جاءت من العالم، والعداوة من اليهود، فتوقّف النضال. ظنّوا أنهم أخطأوا الطريق وأنهم لن يثبتوا إلى النهاية. ما عادوا ينظرون إلى يسوع (آ 2) الذي هو ينبوع قوّة ونور، الذي ينتظرهم في نهاية سيعهم ليقدّم لهم إكليل البرّ (2 تم 4: 7 - 8). لهذا قال لهم الكاتب: تأمّلوا فيه، فكّروا فيه. قابلوا بين آلامكم المحدودة وآلامه التي قاساها فنالت الخلاص الأبديّ، التي احتملها من قبل الخطأة الذين رفضوه ورفضوا نداءه، ورذلوا الذين تبعوه واعترفوا به. مثلُ هذه العداوة ضد يسوع وجدت ذروتها على الصليب حيث تجمّعت كل قوى الشر لتحاول تدميره وهو القدوس والبار وسيّد الحياة (أع 3: 14 - 15؛ 4: 27).
وذكّرهم الكاتبُ بأن خبرة الضيق التي عرفوها، أخفّ من التي عرفها مجاهدون في الماضي وفي الحاضر. ففي صراعهم ضدّ الخطيئة لم يصلوا بعد إلى الدم. فبعد أن تقبّلوا الانجيل ونالوا العماد (10: 31 - 34)، قاسوا مختلف العذابات. ولكن هذه المضايقات لم تصل بهم إلى سفك دمائهم من أجل إيمانهم. فلماذا يتراخون ويحاولون التراجع؟ هل نسوا أن ضمائرهم تطهّرت من الأعمال الميتة، وأنهم نالوا الفداء بدم يسوع الذي سُفك لأجلهم (9: 12، 14؛ رج 10: 29). فكم عليهم أن يستعدوا للصبر والآلام حتّى سفك الدم، امتنانًا لذلك الذي أعطاهم حياته كله حتّى الموت على الصليب.
((هل نسيتم هذا التحريض الموجّه إليك كأنما إلى بنين؟ يا ابني، لا تحتقر تأديبات الرب ولا تيأس إذا وبّخك. لأن من أحبّه الربّ يؤدّبه، ويجلد كل من يرتضيه ابنًا له. فاصبروا على التأديب. إنما الله يعاملكم كبنين ، وأي ابن لا يؤدّبه أبوه؟ فإن لبثتم بدون هذا التأديب الذي يشرك فيه الجميع، فانتم نغول (أولاد زنى) لا بنون)) (12: 5 - 8)
يُنسب يأسُ قرّاء هذه الرسالة جزئيًا، إلى قراءة خاطئة للوضع الذي فيه وجدوا نفوسهم. فالصعوبات والمضايق التي يقاسونها بعد أن اعترفوا بالمسيح، لا يعني أن الله غير معنيّ براحتهم، وأنه تركهمم بدون عون ولا مساندة. ولكن قيل لهم مرارًا أنه دومًا بجانبهم، ومساعدته المجانيّة لا تبتعد عنهم (2: 18؛ 4: 15 - 16؛ 7: 25؛ 10: 19ي). وهناك اعتبار آخر نسوه أو كادوا: كل ما يقاسونه من أجل الانجيل يدعوهم إلى أن يعرفوا أن الله لم يهملهم، بل يدلّ على أنه أب حقيقيّ لهم، فيعاملهم كما يعامل الأب أولاده. لهذا قرأ لهم الكاتب ما يقول سفر الامثال في هذا الشأن: لا تحتقر تأديب الرب.
(( لقد كان آباؤنا بحسب الجسد يؤدّبوننا وكنا ننقاد لهم، فكم بالأحرى يجب أن نخضع لأبي الأرواح فتكون لنا الحياة. إن أولئك كانوا يؤدّبوننا لأيام قلائل، وعلى هواهم. أما هو فلفائدتنا، كي يشركنا في قداسته)) (12: 9 - 10)
برهان من الأقل (العلاقة البشرية بين الآباء والبنين) إلى الأكثر (علاقة روحيّة ننال فيها التأديب من الله نفسه، من أبي الأرواح). ما هو معروف هو أننا ننقاد لآبائنا بدون جدال ولا تردّد. فبالأحرى ننقاد للآب السماوي. فالتعارض واضح بين أب وأب، أب أرضيّ وأب سماوي. بين طريقة وطريقة: تأديب قصير النفس يرافقنا في الصغر ويكون عرضة للضعف البشري، وتأديب لا يخطئ يمارسه ذاك الذي يعرفنا أكثر مّما نعرف نفوسنا. ثمرة التأديب الأرضيّ تبقى على الأرض وفي علاقتنا مع أهل الأرض. أما تأديب السماء فيتوخّى أن يُشركنا في قداسة الله، فننعم بمجده ونفرح بحضوره.
حين نخضع للآب الذي هو ينبوع كل حياة، تكون لنا الحياة. وحين نبتعد عنه، نبتعد عن الحياة. حين نجعل من تأديب الربّ، عبر الصعوبة والضيق، عذرًا يُبعدنا عن سعي الايمان، فهذا يعني أننا نشكّ بعلاقتنا البنويّة بالآب السماوي وبجدّية مشاركتنا في قداسته. فالله لم يدعنا إلى النجاسة، بل إلى القداسة، كما قال بولس في 1 تس 4: 7. وصوّر الكاتب الله ((كذلك الذي يقدّس)). هو مع المفديين، ((مع الذين قُدِّسوا))، أي فُرزوا للقداسة (2: 11؛ رج 10: 10 ،14؛ أع 20: 32). وسوف يقول في آ 14: بدون القداسة لا يعاين أحدٌ الرب. فبدون القداسة لا يقدر أحد أن يرى الربّ، أن يقف في حضرته وينعم برضاه.
((كل تأديب لا يبدو في الحال باعثًا على الفرح، بل على الغمّ. ولكنه في ما بعد، يعقب الذين راضهم ثمر برّ سليمًا. فأنهضوا إذن أيديكم المسترخية وركبكم الواهنة واصطنعوا لأقدامكم مسالك مستقيمة، لكي لا يشرد الأعرج بل بالحري يبرأ)) (12: 11 - 13)
من طبيعة كل تأديب أن يكون مؤلمًا، وإلاّ فهو لم يبلغ هدفه الذي هو ابتعاد عمّا لا فائدة فيه، ومجيء إلى القداسة. ولكن هذا لا يدوم طويلاً. بل يدوم في الوقت الذي نختبر الصعوبة. ومن استفاد من التأديب، وجد أن بعد الألم الفرح. لهذا يجد رجلُ الايمان في هذا التأديب استباقًا لكمال السعادة. لهذا قال بولس وهو في قلب الألم من أجل الانجيل، إن آلامًا مؤقتة تعدّ مجدًا أبديًا (2 كور 4: 7). فزمنُ التأديب هو زمن حجّنا الحاضر على الأرض. وصعوبته ليست بشيء على مستوى الكثرة أو الطول تجاه أبديّة المجد الذي ينتظرنا (روم 8: 18). وأخيرًا نتيجة الألم حصاد وفير من البرّ والسلام.
إذن، شدّوا حالكم (آ 12). هذا هو المنطق العمليّ للبرهان. يطبّق على القرّاء في تحريض تنوّع وطال، فأمتدّ حتى نهاية الرسالة. في آ 12 - 14، نجد من جديد صورة المقاتلين: فمن ترك الممارسة اليوميّة المتواصلة، كلّت يداه وضعفت رجلاه، فيترك المجال لليأس، ولا يعود يسير أمام وجهه لكي يبلغ الهدف. يعرج على الرجلين. المهمّ أن نتابع، لأن النضال هام والمصير الابدي يرتبط بنتيجة. فالمحن الحاضرة هي الطريق للجزاء الأكبر. والذين أرسلت إليهم الرسالة ليسوا أول المحاربين، وليسوا وحدهم محاربين. في هذا قال بولس: ((لا بدّ أن نجتاز كثيرًا من المصاعب لندخل ملكوت الله)) (أع 14: 22).
شجّع الكاتب قرّاءه هنا بكلمات مأخوذة من أش 35: 3: ((شدّوا الايدي المسترخية، وثبّتوا الركب المرتجفة)) الضعيفة. ويتابع النبيّ: ((قولوا لمن فزعت قلوبهم: تشدّدوا ولا تخافوا! ها إلهكم آت لخلاصكم)). ويتابع الكاتب: واجعلوا لأقدامكم طرقًا مستقيمة، لا معوجّة ولا ملتوية. قال أم 4: 26 - 27 في هذا المجال: ((أنظر بعينك إلى الأمام، وسدّد نظراتك قدّامك. بل مهِّد سبيل قدميك، فتثبت جميع طرقك. لا تمل يمينًا ولا شمالاً فتمنع قدمك عن الشر)). هكذا يعين المسيحي اخوته، ولا سيّما الضعفاء منهم. فنحن مسؤولون، بعضنا عن بعض، بحيث لا نضع لأخينا عثرة ولا شكّ.

خاتمة
وهكذا انتهى القسم الرابع (11: 1 - 12: 13) الذي حدّثنا عن ايمان الأقدمين، في اتجاه الأول (11: 1 - 40)، ودعانا إلى السير في خطاهم، في اتجاه ثان (12: 1 - 13). من أجل هذا، بدا 12: 1 - 13 كلام تحريض وجّهه الكاتب إلى قرّائه: جعل أمامهم شخص يسوع الذي يسير أمامنا، الذي يعيننا ويشفع بنا. تألّم ونحن نتألم مثله. ولكنه تمجّد ونحن نتمجّد معه. غيرأن الألم هو غير غضب الله، كما نظنّ حين نقرأ التوراة. إنه وسيلة بها يؤدّبنا الله ويؤمّن تربيتنا، لأننا أولاده. وهنيئًا لنا إن قبلنا التأديب من يد الله، كما نقبله من أيدي أبائنا. عندئذ يكون لنا ثمر وفير، يكون لنا البرّ والسلام، ونشارك الله في قداسته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM