الفصل الحادي والثلاثون: الآباء الأوّلون

 

الفصل الحادي والثلاثون

الآباء الأوّلون
11: 1 - 7

نحن هنا في الاتجاه الأول (11: 1 - 40) من القسم الرابع (11: 1 - 12: 13). قسمنا هذا الاتجاه إلى أربعة مقاطع: الآباء الأولون (11: 1 - 7)، ابراهيم (آ 8 - 22)، موسى (آ 23 - 31)، أبطال منتصرون وأبطال متألمون (ا 32 - 40). ونتوقّف عند المقطع الأول.
بعد مقدّمة تعطي تحديد الإيمان، ومبدأ يربط ما لا يرى بما يرى، يقدّم لنا الكاتب ثلاثة أشخاص جاؤوا في الكتاب المقدس قبل ابراهيم: هابيل، أخنوخ، نوح.

1 - تفسير الآيات
نوزّع هذا التفسير في خمس محطّات كما ترد في نص عب.

أ - ما هو الإيمان (11: 1 - 2)
لسنا هنا أمام تحديد للايمان في كل معنى الكلمة، بل وصف له بالنظر إلى الرجاء، وتشديد على النتائج العمليّة في حياة المؤمن. نقرأ ((هيبوستاسيس)) ما يُوضع تحت، السند، الاساس، القوام. يقابل في العبرية ((م ش ا)) (تث 1: 2) ((س ود)) (إر 23: 22) ((ت ك و ن ه)) (حز 43: 11). إلى الإيمان يستند كل ما نرجوه. فالايمان يكفل السماويات التي نرجوها. هو لا ينفي كل شك وحسب، بل يعطينا الثقة بأننا ننعم بها بشكل نهائيّ. هناك متانة وثبات في الايمان: بستيس مع هيبوستاسيس. فالحياة الأبدّية التي بدأت هنا، هي باكورة القيامة والخلاص (2 كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 14). وهذا الخلاص الذي تمّ بالنسبة إلى المؤمنين، ينتظر ملء كماله في يوم الرب (روم 8: 23 - 25، 30؛ غل4: 7).
وموضوع الايمان موضوعان: مستقبل وُعدنا به (الخيرات الابديّة التي نلناها بالفداء)، وحاضر غير منظور مثل تشفع الحبر من أجلنا في السماء. ((برغماتون))، الأشياء، الأمور. نربطها بـ ((المرجّوة)) (البيزومانون) أو بـ ((المرئيّة)) (بلابومانون). الأمور غير المرئيّة. فالأمور اللامرئية لا تتوافق كل الموافقة مع الأمور المرجوّة. فهي تضمّ أحداثًا معاصرة أو سابقة لا نعرفها إلا بتلك الطريقة، مثل الخلق (آ 3). وهكذا نكون أمام عالمين (8: 5): الروحيّ أو الالهيّ، والمادي. بالإيمان ينال الروحي يقينًا لا نجده عند المادي. أما الأمور المرجوّة، فالايمان يكفل اقتناءها، يُدركها بشكل من الأشكال، فيولّد الثقة. جُعل اسم الفاعل ((البيزومانون)) في صيغة الجمع، لأن موضوع الرجاء كما يُنظر إليه هنا، متنوّع لدى الاشخاص الذين سيتكلّم عنهم ف 11.
((برغماتا)) لا تعني فقط الأشياء الجامدة. بل ((الأمور))، وذلك في إطار قانونيّ (1 كور 6: 1)، أو عمل (براسو) شخص حرّ ومسؤول: عب 6: 18؛ رج لو 1: 1؛ برغماتون، أي خبر أعمال المسيح. رج أيضًا سفر ((أعمال الرسل)) براكسايس تون ابوستولون. أما هنا، فاللفظة تعني السلوك الحياتيّ حسب مشيئة الله (كما في ف 11). أو الأشارة إلى وساطة المسيح الكهنوتيّة وارتفاعه إلى السماء، إلى عمل ذبيحته السامي. إذن ((أو بلابومانون)) اللامرئيات، تدل على نشاط حبرنا في السماء، وهو نشاط لا يُرى إلاّ على ضوء الايمان. وهكذا نكون أمام موضوعي الايمان: أمور نرجوها. الباعث على الثقة. وهكذا ينظر المسيحيّ إلى اللامنظور.
((إلانخوس)) (مراحدة في العهد الجديد، هـ و ك ح ت)، يعني في السبعينية: البحث (حك 1: 9)، التحكيم (أي 16: 21)، النقد (أي 6: 26)، التذكّر (حسب 2: 1)، اللوم (حك 2: 14)، التوبيخ (أم 1: 22 ،25، 30؛ سي 20: 1؛ 21: 6)، الشجب (سي 16: 21، العقاب (هو 5: 9). أما هنا فيعني: البرهان، وسيلة إقناع. وهكذا جاء الشقّ الثاني يوضح الشقّ الأول ويكملّه على المستوى العقلي: ليس الايمان فقط ما يكفل الامتلاك، بل ما يبعث على اليقين بوجود أمور نرجو امتلاكها أو هي تبقى خفيّة. هو برهان دائم يولّد اليقين، وبالتالي الثقة والصبر والجهاد. رج ((ي ك ح)) في العبريّة: أقنع، برهن، حكم في قضيّة. فالانسان العائش في الشك لابتعاد مجيء الرب الثاني، يحتاج إلى الإيمان ((ليُعاين ما لا يرى)) (آ 27). هنا نذكر ((هيبوستاسيس)) وارتباطها بالايمان (ا م ن، ا م و ن ه، ثبات، دوام، حقيقة). ولا ننسى ((إلانخوس)) التي تشير إلى البرهان القانونيّ. فكفالة الايمان وقوّته لا تأتيان إلاّ من الله الذي يُسند يقيننا في العهد القديم (الانتظار) كما في العهد الجديد، بعد أن تمّ لنا سرّ الخلاص في يسوع المسيح.
تشكل آ 2 انتقالة بين سمات الايمان الأساسيّة وممارسته لدى الأباء. وتوضح الموضوعَ العام في ف 11. فالايمان (غار) أكيد وحقيقيّ، بحيث إن الذين عاشوه نالوا رضى الله. تيقّنوا أن تعلّقهم بالامور المنظورة كان مؤسَّسًا أساسًا متينًا. الأقدمون (براسبيتاروي) هم (الآباء) (1: 1؛ مت 25: 2)، ويقابلون ((نحن)) (هامايس، 12: 1). وأول الآباء ابراهيم كما قال فيلون في كتابه حول ابراهيم (270). كان الأقدمون شهود الايمان بالمستقبل وباللامرئيات، بواسطة أقوالهم وحياتهم، فنالوا بركة الله. ((إن توتي)) تعود إلى الايمان: نال الأقدمون شهادة الايمان. أي شهد لهم الايمان كأنه شخص حيّ.

ب - المنظور واللامنظور (11: 3)
انتظرنا لائحة الشهود الذين رضي الله عنهم، فاذا نحن أمام بند من بنود الايمان: خلْق العالم، الذي هو موضوع وحي إلهي. آمن به المؤمنون في كل الأجيال، في العهد القديم كما في العهد الجديد. رج آ 1 ب وبرهان يقدّمه الايمان للعقل. ننطلق ممّا يُرى (العالم) فنصل إلى ما لا يرى، إلى الله خالق العالم بكلمته. تجاهل الفلاسفة (والهراطقة) تدخّل الله في خلق العالم (2 بط 3: 5). أما المسيحيّ الذي يؤمن (بستاي، صيغة الجر، أي بواسطة إيمانه، أو بالطريقة التي بها يؤمن، 2 كور 1: 24؛ تي 2: 2) فينضمّ إلى الآباء ويفهم تكوين العالم. نوياوو أي جعل في فكره بواسطة الحواس، أو بعد إعمال الفكر (على ضوء الله، 2 تم 2: 7). فهم. نحن هنا في خاتمة برهان ينطلق من بعض المعطيات (مثلاً، المعجزة)، فيصل إلى فهم الامور واكتناهها (مت 15: 17؛ 16: 9 - 11 مع ((ديالوغيزاماي)) 24: 15؛ أف 3: 4). ندرك بُعد البرهان. ونستخرج النتيجة. فنكتشف ما ليس بمنظور (حك 13: 4؛ رو 1: 20). وبمختصر الكلام ننطلق من فعل الايمان، الذي يفترض قبول الوحي، فنصل إلى معرفة الحقيقة الالهيّة (10: 26). وهنا، في عب، يقرّ المؤمن أن الله صنع الخليقة (أي 38: 4 ي) ت ي ز و. إن فعل ((كاتيرتيزو)) يعني رتّب، نظّم (10: 5؛ رج مز 54: 16؛ 89: 38، في العبرية: ك و ن) يدل على توزيع أعمال الخلق كما في تك 1. لهذا، لا تدل لفظة ((أيوناس)) على مراحل أعمال الخلق في الزمان (الدهور)، بل على مختلف المخلوقات: الجلَد، الأرض، الكواكب (أي كل مخلوق يمفرده، بنتا، رج أي 1: 3). جاء الفعل في صيغة الكامل، فدلّ على ديمومة هذا العمل المتشعّب (2 بط 3: 4) الذي رتّبه الله بكلمته، بقدرته. الذي جعله متناسقًا بحكمته.
أما آ 3 ب فتدلّ على ما وصل إليه تمييزُ الايمان. إن الأداة ((ايس تو)) مع المصدر تدلّ على النتيجة (بحيث إن) لا على الغاية (كي). رج روم 1: 20؛ 6: 12؛ 2 كور 8: 6؛ غل 3: 17. بكلمة الله كُوّنت الخلائق بحيث إن العالم المنظور لم يخرج من المنظورات، المرئيات. اللامرئيّ هو علّة المرئيّ. الله خالق هو. والمادة ليست أزليّة. وهكذا نرفض الالحاد (وإنكار وجود الله) والحلوليّة (يحلّ الله في كل شيء فيصبح كل شيء الله) والشرك (هناك أكثر من إله) والثنائيّة (هناك إلهان، الله والعالم أو المادة). هكذا نكون أمام مبدأ التدبير الالهي الذي يتعلّق به الايمان. ينظر المؤمن إلى ((صورة هذا العالم)) (1 كور 7: 31)، إلى الأحداث البشرية ووقائع التاريخ، فيفهم أن كل هذا يدلّ على حكمة الله وعنايته. ذاك هو الإطار لما سيقوله الكاتب فيما بعد: الخليقة الماديّة هي الموضع الذي فيه يسير التاريخ البشريّ.

ج - ذبيحة هابيل وشهادة الله (11: 4)
لم يذكر الكاتب آدم وحواء. فمديح الايمان يبدأ مع الجيل البشري الثاني، مع رجلين لم يريا الله، فمثّلا عندذاك التمييز بين الأخيار والأشرار. نشير هنا إلى أن التقليد اليهودي امتدح هابيل كثيرًا (يوبيلات 4: 1 - 4 ،7 ،31؛ رؤيا موسى 1: 3؛ 2: 2...؛ أخنوخ الأول 22: 6 - 7...). كما نشير إلى أن أول فعل إيمان ارتبط بذبيحة (ذبيحة المسيح). ((بلايون))، نوعيّة أحسن (قال تيودوريتس: تيميوتاران؛ رج مت 5: 20؛ 6: 25: مر12: 43؛ يو 21: 15). أو كميّة أكبر (1 كور 9: 19؛ 15: 6). يطرح سؤال: بماذا تفوّقت ذبيحة هابيل (أبكار القطيع) على ذبيحة قايين (محاصيل الأرض، رج تك 4: 3 - 4)؟ قال يوسيفوس (العاديات 1: 2): كان قايين جشعًا بخيلاً، يحتفظ بالاحسن له، أما هابيل فقدّم أفضل ما عنده. لا ننسى أننا أمام تفضيل للذبائح الدمويّة، على التقادم الزراعية، حين دوّن سفر التكوين في شكله النهائي، أي القرن الخامس ق.م. هناك تلميح خفيّ في السبعينيّة يدلّ على أن قايين كان يقدّم ما يقع تحت يده، فلا يختار الأفضل. أما هابيل فيقدّم البكور أي الأفضل.
حسب عب، ايمان ابراهيم المرتبط بعاطفة السجود للعزّة الالهية، هو الذي جعل ذبيحته مقبولة لدى الله. قابل أوغسطينس (رسالة يوحنا الأول 5: 8) بين محبّة هابيل، وبغض قايين. لهذا، دلّ الله على رضاه واعتبر عبده مبرّرًا. نُسبت صفة البرارة أول ما نُسبت إلى نوح، في العهد القديم (تك 6: 9)، ثم نسبها الرب نفسه إلى هابيل (مت 23: 5). هناك من يقول: بُرّر بالذبيحة (دي هيس تعود إلى تيسيا أي الذبيحة). وآخر: برّر بالايمان (بستيس). إذا كان الايمان أعطى الذبيحة ثمنها، فالذبيحة أنالت هابيل المؤمن البرّ. رج تك 4: 4. المؤمن الأول كان أول من نال شهادة من الله (آ 2)، أول من برِّر (روم 3: 21). وكيف ظهر ذلك التبرير؟ بمعجرة. قالوا نزلت نار من السماء كما حدث لإيليا (1مل 18: 38)
فهم الشق الأخير من الآية كما يلي: ايمان هابيل وموته مثل بليغ لجميع الأجيال، في الكتاب المقدس. فالشهادة (مرتيرونتوس) هي أن الايمان قد يواجه الموت (12: 4)، فيبقى واثقًا بأن الله لا يتخلّى عنه. ((أبوتاناوو)) (مات). ليس الكلمة الأخيرة في حياة البار (ديكايوس). وهكذا صار المؤمنُ الأول الشهيد الأول، ونموذج المسيح الذي هو الشهيد الأخير (عب 12: 24). دم هابيل ما زال يتكلّم فيصل إلى أذني الله: هو يدعو البشر إلى المصالحة، ويذكّرهم بأن المسيح كفّر عن خطاياهم. وهكذا يصل صوت هابيل إلى الله، وإن مات.

د - انتقال أخنوخ وشهادة الله (11: 5 - 6)
وضعُ أخنوخ الذي ولد متوشالح (تك 5: 22) وضعٌ فريد، بعد ما توسّع فيه التقليد اليهوديّ والمسيحي: هو نموذج الحكمة والتقوى. خليل الله وصديقه، حامل وحي عن أسرار الله. ماهى المعلّمون مع ((ماتاترون)) الجالس على العرش، الذي يتوسّط الله والبشر، فيلعب دور الشفاعة والمصالحة بالنسبة إلى بني إسرائىل. أما عب فاحتفظت بسمتين من هذا التقليد الواسع: رضي الله عنه، نقله.
قال تك 5: 24 إن أخنوخ سلك مع الله (مديح لم ينله أبٌ من الآباء). قالت السبعينية: أرضى الله (رج تك 17: 1؛ 24: 40؛ 48: 15؛ مز 115: 9). ورضى الله عنه ميّزه عن سائر الآباء، فلم يمت. يقول النص العبري: لم يوجد بعد (إ ي ن ن و)، لأن الله أخذه. إن فعل ((ل ق ح)) (ر ج سي 44: 16) الذي نجده في السبعينيّة (ماتاتيتيمي). يعني بدّل، نقل من مكان إلى آخر (رج أع 7: 16). قد صار في سي 49: 14: أنالمبانو (أخذ ورفع إلى فوق) وفي حك 4: 10 ((هربازو)). كيف نفهم هذا الارتفاع؟ اعتبر آباء الكنيسة أنه جُعل في الفردوس الأرضيّ. ولكن هذا الفعل يعني أيضًا: مات (انتقل إلى ديار الربّ). نقله الله من هذا العالم الفاسد. اعتبر الدفاع المسيحي انتقال أخنوخ كصورة مسبقة عن المسيح القائم من الموت، فردّ المعلّمون اليهود أنه مات موتًا طبيعيًا بل لم يصل إلى ما وصل إليه سائر الآباء من عمر مديد. هنا نشير إلى أن عمره هو سنة كاملة من السنين: 365 سنة.
أما عب فحدّدت هدف (أو نتيجة) هذا الانتقال، هذا الاختطاف: ما مات بسبب الشيخوخة، بل مات باكرًا فكان موته بركة. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الامتياز كان جزاء ايمانه. هو ما زال حيًا، كما ما زال هابيل يتكلّم. قبل أن يُخطف أخنوخ، نال من الكتاب شهادة تدلّ على رضى الله عنه. بل إن هذا الاختطاف يدلّ على رضى الله.
وتتحدّث آ 6 عن ضرورة الايمان المطلقة من أجل الخلاص. انطلقت من أخنوخ الذي لم يُذكر إيمانه في تك 5: 22 - 24: لا بدّ أنه كان رجل إيمان ليقول الكتاب إن الله رضي عنه.
فبدون الايمان لا نستطيع أن نرضي الله. هو مبدأ عام يستعيد 10: 38: البار بالايمان يحيا. رج ((إواراستيو)) (13: 16، مراحدة في العهد الجديد، يرتضي، وهناك الصفة ((إوارستوس)) (مرضيّ) في روم 12: 1؛ 14: 18؛ 2 كور 5: 9؛ فل 4: 18. بدون الايمان يستحيل هذا الارضاء. هذا يعني أن الايمان هو كل شيء، وهو يضمّ مجمل علاقات الانسان بالله. فهي تتيح (داي، يجب، على مستوى الطبيعة وعلى مستوى العناية الالهيّة) للانسان أن يطلب الله والخلاص (أع 15: 17؛ روم 3: 11)، أن يقترب منهما (7: 25؛ 10: 22)، وينالهما (4: 6، 16). لهذا، كان الايمان قوام (أساس) ما نرجو.
ويكون لهذا الايمان موضوعان يقابلان ((غير المرئيات)) (أوبلابوماننتس) والمرجوات (البيزومانوي) كا في آ 1: الايمان بوجود إله شخصيّ (حك 13: 1)، غير منظور في طبيعته (روم 1: 20؛ (تم 1: 17). الايمان بعنايته التي تجازي، والتي هي أساس ما ننتظره من سعادة: فالله يعطي (غيناتاي. يصير، يُصبح، يجعل نفسه. لا ((استين))، هو) الجزاء العادل للذين ابتغوه (ميستابودوتيس، مراحدة بيبليّة؛ رج 2: 2؛ 10: 35).

هـ - من اللامنظور إلى الخلاص (11: 7)
وصُوّر ايمان نوح (((حفيد)) أخنوخ) أفضل ممّا صُوّر إيمان سابقيه، فصار مثالاً مباشرًا لقرّاء الرسالة. فهذا الايمان يستند إلى وحي إلهيّ صريح (خريماتيزو). وجب عليه أن يُعدّ السفينة (الفلك، التابوت كذا في العبرية: ت ب ت) لينجو من كارثة لم يكن شيء منظور يُنذر بها. طوفان تام! هل هذا معقول؟ ومع ذلك، آمن نوح بكلمة الله، فبرهن بإيمانه عن واقع لا يُرى (آ 1). ولم يكن إيمانه هذا عاطفة سريعة فقط. بل تعلّق تعلّقًا دينيًا عميقًا بهذا القول الالهي (اولابيوماي، مراحدة في العهد الجديد، رج 5: 7): بنى، صنع، كانت طاعته ناشطة، فاعلة.
إيمان نوح رفعه فبنى السفينة. وبهذا الايمان (دي هيس) شجب العالم، وحكم على معاصريه الذين لم يهتّموا باللامرئيات، وتمرّدوا على كلمة الله (رج حك 4: 16؛ مت 12: 41؛ 24: 37 - 39؛ 2بط 3: 20؛ 2 بط 2: 5). حكم على معاصريه، كما حكمت توبةُ أهل نينوى على لا إيمان اليهود. فنوح وأهل بيته وجدوا نفوسهم في تعارض مع ((العالم))، فنالوا الخلاص في إيمان عبرّوا عنه في إعداد ((التابوت)). أما الباقون فهلكوا.
شدّد النصّ على المجازاة الشخصيّة التي نالها الايمان: برّر نوح (10: 38): ورث (امتلك 1: 14) هذا البرّ، الذي لا نناله في أعمال حسب الشريعة (7: 5)، بل في الإيمان (روم 4: 11 ،13). فالايمان هو الوسيلة التي بها نرضي الله، والتي بها سُمِّي نوح ((ص د ي ق)) (صدّيق، بار، حسب الكتاب، تك 6: 9؛ 7: 1). وبهذا الايمان أيضًا يتغلّب المسيحيون على تعييرات المضطهدين (10: 33) وينالون باكورة مواعيد الله (11: 12؛ رج 10: 36).

2 - قراءة إجماليّة
(( أما الايمان فهو قوام المرجوّات، وبرهان غير المرئيّات. به شُهد للأقدمين شهادة حسنة)) (11: 1 - 2)
قال الكاتب في 10: 39: ((نحن من أبناء الايمان)). وها هو يطلق مديحًا للايمان يبدأ بتحديد قصير. نلاحظ هنا أن تحديد الايمان هذا لا يحيط بهذه الفضيلة الالهيّة من كل جوانبها، بل هو يجعلها في منظور الرجاء الذي ينتج عن مواعد الله. وهذه المواعد لم تتمّ بعد في خبرة أهل الايمان الذين ينتمون إلى الزمن السابق لمجيء المسيح، والذين يبدون مثال البطولة لموضوع يريد الكاتب أن يتوسّع فيه. فالانسان الذي لا إيمان له، يكون رجاؤه غير أكيد، ويتأثّر بالخوف. أما رجل الايمان، فرجاؤه أكيد وهو يستند إلى الحقيقة التي بها وعد الله الذي لا يمكن أن يكذب. ارتبط الايمان بالرجاء ارتباطًا وثيقًا، فصار الواحد يحلّ محلّ الآخر. ((فاعتراف رجائنا)) (10: 23) الذي نتمسّك به بدون انحراف ولا تراخ، يقابل ((اعتراف إيماننا)) لأن الذي وعد أمين. و((ثقة الايمان التامّة)) التي تدعونا للاقتراب من الحضرة الالهيّة (10: 22) تقابَل مع ((ثقة الرجاء التامّة)) (6: 11) والرجاء الافضل الذي به نقترب من الله (7: 19). وفي 6: 18، ألحّ الكاتب على قرّائه أن يتمسّكوا بهذا الرجاء الموضوع أمامهم. ولكن هذا التمسّك (أو الثبات) هو فعل إيمان حين يكون الغرض الذي نطلبه هو الرجاء الذي يتركّز على كلمة وعد لا بدّ أن تتمّ. ذاك هو الارتباط الوثيق بين الايمان والرجاء، وهو يظهر بشكل واضح في آ 1: الايمان يوكّد لنا الأمور التي نرجوها.
حدّد الايمان بأنه ((يقين (برهان) أمور غير مرئيّة)). وحده الايمان يكفل البركات التي نرجوها، ويؤكّد أمورًا ما زالت غير مرئيّة الآن. فمع أن هذه البركات الموعودة لم تُكشف بعد، إلاّ أن رجل الايمان مقتنع بحقيقتها. وهذا اليقين هو الذي دفع بولس لكي يقول بثقة تامة: ((إن آلام الدهر الحاضر، لا توازي المجد الذي سيُكشف لنا)) (روم 8: 18). لهذا أعلن أن لا شيء يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربنا: لا الموت ولا الحياة... ولا خليقة أخرى (روم 8: 38 - 29). وهذه الثقة (وهذا اليقين) هي صفة ديناميكية، صفة تدفعنا إلى اتخاذ موقف عمليّ، لا أن نتوقّف عند شعور يجعلنا نرضى عن نفوسنا ولا نتحرّك.
بهذا الايمان الذي حدّدته آ 1 ورسمه مثال أناس عاشوا في العهد القديم، مثل الآباء أو الأقدمين، ننال رضى الله. فبالنسبة إلينا، كما بالنسبة إليهم، يجب أن يكون الايمان الدافع لكل سلوكنا. من شهد للأقدمين؟ هذا ما لا يقوله النصّ. هو الله نفسه. وقد يكون الكتابَ الذي يحمل كلام الله. أجل، الله شهد لهم فهل يحتاجون بعد إلى شهادة الناس؟
((بالايمان نفهم أن العالم أنشئ بكلمة الله، بحيث إن ما يرى صدر عمّا لا يُرى)) (11: 3)
من المنطق أن ينتقل النصّ من آ 2 إلى آ 4: ذكر الأقدمين. فلماذا لم يبدأ حالاً بهابيل، بل بدأ كلامه عن الخلق؟ لقد أراد أن يتبع الترتيب التقليدي الذي يبدأ بخبر الخلق (تك 1: 1ي) ليصل إلى الكلام عن الآباء. وتبدأ الآية بلفظة ((بالايمان)) التي ستعود أكثر من مرّة (آ 3 ،4 ،5 ،6 ،7، 8...) في ف 11. بالإضافة إلى ذلك، فكلمة الله التي هي قوّة حياة وحركة بها خُلق العالم وتوجّه إلى كمال أعدّ له (1: 3؛ 4: 12) هي الحقيقة، التي دلّت مواعيدُها على الايمان وثبتّت مؤمني العهد القديم في الرجاء. فإيمانهم (وإيماننا) اعترف بالله خالقًا وفاديًا، وأدرك أن الخلق الجديد في المسيح يكمّل قصد الله حين خلق الكون والانسان. ففي نظر الايمان، لا يفترق المستقبل عن الماضي، والأصل عن التكملة، والنهاية هي منذ الآن في البداية. ففي المسيح، صالح الله مع نفسه العالم الذي خلقه (2 كور 5: 19). والايمان يضمّ الخلق والخلق الجديد. أجل ((بالايمان)) نفهم أن العالم خُلق بكلمة الله.
والايمان الذي يتحدّث عنه الكاتب، ليس إيمانًا أعمى، ولا تصديقًا فارغًا لا يستند إلى العقل. فالايمان هو حسّ رفيع تنيره الحقيقة. فكلمة الله التي نتجاوب معها هي قوّة وهي نور (مز 119: 105). ففي المنظور البيبليّ، الايمان والوحي يسيران معًا، والوحي يتضمّن نشاطًا عقليًا: بالايمان نفهم. وأصل كل ما تمّ بكلمة الله الخلاّقة، حقيقة تعلن أن كل ما نعرفه إنما نعرفه بالوحي، وهذا ما يتطلّب جواب الايمان.
إن قوّة كلمة الله الخلاّقة تظهر أول ما تظهر في سفر التكوين مع عبارة: وقال الله: ليكن (تك 1: 3 ،6 ،9...). ونجد الحقيقة عينها في مز 33: 6 ي: ((بكلمة الرب صُنعت السماوات... لتخف الأرض الرب... قال فكان كل شيء. أمر فصار كل موجود)). وأعلن الانجيلي: ((به صُنع كل شيء، وبدونه لم يكن شيء ممّا كوّن)) (يو 1: 3). وشرح الرسول كيف أن كلمة الله التي عملت في الخلق، هي التي تعمل في الخلق الجديد: ((لأن الإله الذي قال: ((يشرق من الظلمة نور))، هو الذي أشرق في قلوبنا، لكي تسطع فيها معرفة مجد الله المتألق في وجه المسيح)) (2 كور 4: 6). وأكّد بطرس أننا وُلدنا من جديد بكلمة الله الحيّة الخالدة (1 بط 1: 23). فالمسيح الكلمة هو الذي يفعل في الخلق الأول وفي الخلق الثاني (2 كور 5: 17)، بحيث إن الكلام عن الواحد يعني الكلام عن الآخر.
((بالايمان قرّب هابيل لله ذبيحة أكمل من ذبيحة قايين وبه شُهد له أنه بارّ إذ شهد الله نفسه لقرابينه)) (11: 4)
والكلمة المفتاح في ف 11 (بالايمان) تبدأ سلسلة من الوجوه الايمانيّة التي سبقت مجيء المسيح (رأوا من بعيد المواعد وحيّوها، آ 13). وقد جُعلت في أربع حقبات ((تاريخية)): (1) ما قبل الطوفان (آ 4 - 7): هابيل أخنوخ، نوح. (2) في الحقبة السابقة لموسى (آ 8 - 22): ابراهيم، سارة، اسحاق، يعقوب، يوسف. (3) الحقبة الموسويّة (آ 23 - 29): موسى نفسه. (4) بعد موسى (آ 30 - 38): راحاب وسواها من أبطال الايمان سواء دُعوا بأسمائهم أم لم يُدعوا، من جيل إلى جيل. وأول هؤلاء هو هابيل الذي حدّثنا سفر التكوين (4: 2ي) عن مولده وموته.
رضي الله عن هابيل بسبب إيمانه وكمال قلبه. هو أول مثال عمّا قيل في 10: 38 (رج حب 2: 4) عن البار الذي يحيا بالايمان. إنه ينتمي إلى أولئك الذين كانوا من أبناء الايمان، فنالوا الخلاص وكانت لهم الحياة (10: 39). مع أنهم ذُبحوا على يد أناس أشرار. لا شكّ في أن هابيل مات، ولكنه ما زال حيًا، لأنه ما زال يتكلّم. هذا ما يعود بنا إلى تك 4: 10 حيث نقرأ: ((صوت دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض)). وإلى رؤ 6: 9 - 10، حيث دم الشهداء يصرخ إلى الله. وسوف نقرأ في عب 12: 24 إن دم يسوع ((أبلغ منطقًا من دم هابيل)). هذا ما يدلّ في معنى أول على التكفير والمصالحة. ويدلّ في معنى ثان، أن مثال إيمان هابيل ما زال بليغًا حتى اليوم، مع أنه مات من زمن طويل. فمشهد كماله في ثقته بالله، تجاه العنف، يدعونا كي نثبت بالوسائل عينها ونقهر. أجل، مات هابيل. ولكنه ما زال حيًا بإيمانه. هنا نتذكّر كلام الرب لمرتا: ((من كان حيًا وآمن بي، لن يموت أبدًا)) (يو 11: 26).
بالإيمان نُقل أخنوخ كي لا يرى الموت، ولم يُوجد بعد لأن الله نقله. فإنه من قبل أن يُنقل، شُهد له أنه أرضى الله)) (11: 5)
ما نعرفه في العهد القديم عن أخنوخ، نقرأه في تك 5: 18 - 24: هو ابن يارد، ووالد متوشالح. عاش 365 سنة. سار مع الله. ولم يعد موجودًا في العالم، لأن الله أخذه. وقالت السبعينية: ((أرضى الله)) بدل ((سلك مع الله)). ولكن لا اختلاف بين النصّين، لأن من يرضي الله هو الذي يسلك مع الله، فينعم بعلاقة حميمة معه. هنا نتذكّر الله الذي كان يتمشّى عند برودة المساء في الجنّة. لا شكّ مع الانسان. في العهد الجديد، يُذكر أخنوخ مرتين. مرّة أول في سلسلة نسب يسوع كما في لوقا (3: 37). ومرّة ثانية في يهو 14 - 15 الذي يقول إن أخنوخ جاء يجري الدينونة ويقدّم الحجّة للمنافقين. أما في التقليد اليهودي، فوجه أخنوخ وجه مشرق.
خُطف. هذا لا يعني أنه أخذ من موضع إلى آخر، بل مات، وعنه يقول حك 4: 11 - 13: ((رضي الله عنه فأحبّه، وكان يعيش بين الخاطئين فانتشله منهم... وبلغ أخنوخ من الكمال حدًا لم يبلغه سواه في سنين كثيرة)). لا تقول عب شيئًا عن انتقال أخنوخ، بل تشدّد على إيمانه بعد موته.
((وبدون إيمان يستحيل إرضاء الله، إذ لا بدّ لمن يدنو إلى الله، أن يؤمن بأنه كائن، وأنه يثيب الذين يبتغونه)) (11: 6)
أخنوخ هو مثال حيّ عن مبدأ عام يعلنه الكاتب الآن: ((بدون الايمان يستحيل علينا أن نرضي الله)). فالايمان هو استعداد يميّز علاقة الخليقة بالخالق. فالايمان رباط وثيق يجد تعبيرًا في طاعة إراديّة، وفي خضوع لكلمة الله السامية، وفي إقرار بأعمال الله الخيّرة التي لا يشوبها نقص، وفي ثقة تامّة بمواعيده. ويبيّن لنا تك 3 أن فقدان الايمان يدلّ على تمرّد على سلطة الله، وتساؤل عن صلاحه، وإنكار لحقيقة كلامه. فالتخلّي عن الايمان يقود إلى تصرّف يدلّ على أن الله غير موجود، غير حاضر وفاعل. والانسان الذي لا إيمان له، هو من يحاول بشرّه أن يلغي حقيقة الله (روم 1: 18ي). لا يمكن أن يُحسب في عداد الذين يرضون الله. فمن طلّق إيمانه، قطع الرباط الذي يربطه بالخالق وبالتالي خسر معنى وجوده. صار بدون إله في هذا العالم، صار بدون رجاء (أف 2: 12).
من أراد أن يدنو من الله، يؤمن به أنه موجود. نحن نؤمن، والله هو موضوع إيماننا. كما نؤمن أنه يجازي. هو إله شخصيّ، يسمع صراخ خلائقه فيمنح رحمته وغفرانه للذين يتوبون ويجعلون ثقتهم فيه. لسنا هنا أمام منطق التاجر الذي ينتظر ((الثمن)). بل إن الاقتراب من الله بالايمان يتضمّن قولاً بأنه الاله الشخصيّ، أنه القدوس والعادل، أنه يحبّ خلائقه. هو يجازي الذين يطلبونه. ولا يجازي الذين يطلبون جزاءه. فجزاؤه هو عطاء ذاته: من يطلبه يجده هو. والاقتراب من الله لا يكون فقط حين نمارس أعمال العبادة، بل في كل مجالات حياتنا، في الصلاة والعمل، في الشدّة كما في الراحة، في الصحّة والمرض. حياتنا مسيرة مع الله وهو يقود خطانا.
نلاحظ أن الكاتب لا يحاول أن يقدّم البرهان عن وجود الله. فوجود الله لم يكن يومًا في الكتاب المقدس موضوع شك أو جدال. فالتفكير في هذا المجال (مز 19: 1 ي؛ روم 1: 19ي) ينطلق من ثقة أكيدة. فالله هو الواقع السامي واساس وينبوع كل خليقة. وحين يُقال للقارئ الذي يقترب من الله، بأن عليه أن يؤمن أنه موجود، لا يُدعى إلى أن يسير في الظلمة، بل أن يميل إلى النور. لا يطلب منه الايمان الأعمى، بل الثقة في من هو النور والحياة. عندئذ تكون ذبيحتنا ((خدمة عقليّة)) (روم 12: 1)، خدمة يُسندها العقل البشريّ الذي يرى نفسه منجذبًا إلى من هو حياة حياته ونور قلبه.
((بالايمان نوح، إذ أنذر بوحي بما لم يكن بعدُ منظورًا، تورّع فأعدّ تابوتًا (السفينة، الفلك) لخلاص أهل بيته. وبالايمان حكم على العالم، وصار وارثًا للبرّ الذي نناله بالايمان)) (11: 7)
والمثل الثالث للايمان المنتصر يقودنا إلى نوح، الذي اختلف عن هابيل وأخنوخ، فرُوي خبره مطولاً في تك 5: 28 - 9: 29. قيل عنه أنه كان بارًا، تامًا، لا لوم عليه في جيله. أنه سلك مع الله (6: 9) مثل أخنوخ، فنال بركة هي علاقة حميمة مع الله. وأشار حزقيال (14: 14) إلى برّ نوح. أما العهد الجديد فصوّره ذاك ((المنادي بالبرّ)) (2 بط 2: 5). ذاك الذي ظلّ ذكره حيًا، لأنه دعا المنافقين إلى التوبة، وإلى الايمان بالله، وحذّرهم من دينونة الله القاسية إن ظلّوا على عنادهم. وفي 1 بط 3: 19 - 20، كانت سنوات بناء التابوت سنوات حلم الله الذي يتأنّى وينتظر عودة الانسان إلى التوبة.
دلّ نوح على إيمانه حين أخذ في بناء السفينة. أنبأه الله بأمور لا تُرى، بأحداث آتية، وهي طوفان مدمّر، يدين الذين لا يتوبون ويخلّص الذين يأتون إلى السفينة. إن سلوك نوح يؤكّد تحديد الايمان كما في آ 1: ما يرجوه هو الخلاص. يقين ما لا يُرى هو دينونة الطوفان. كل هذا تأسّس على إيمانه بكلمة تلقّاها من الله. من أجل هذا، تورّع، تنبّه، فقام بعمل اعتبره معاصروه جنونًا. غير أن نوحًَا لبث ثابتًا في إيمانه، وبهذا الايمان حكم على العالم. كما صار وارثًا للبرّ. هو وارث وسوف يمتلك البرّ الذي يمنحنا الله إياه في المسيح.
إن خبر نوح يدلّ على تزامن بين الدينونة والخلاص. ففي الوقت عينه، كان الخلاص لبيت نوح والهلاك لعالم رفض أن يسمع كلمة الله ويخضع لها. وما كان وسيلة خلاص كان وسيلة هلاك: فالماء الذي أغرق المعاندين هو الذي حمل السفينة مع من فيها. ففي ساعة الدينونة، تكون الراحة للذين استترت حياتهم في المسيح (كو 3: 3). وما نجا حينذاك سوى الثمانية الذين كانوا مع نوح في الفلك: ((نجوا بالماء)) (1 بط 3: 20). أجل، إن يوم مجيء المسيح لن يكون فقط زمن خلاص تام للذين هم للمسيح، بل زمن دينونة أخيرة للذين استمروا في كفرهم وعدم إيمانهم. فمن لا يريد الله مخلصًا سيجده ديّاناً.
خاتمة
تلك كانت الامثلة الأولى في مسيرة الايمان: هابيل، أخنوخ، نوح. آمنوا بما لا يُرى فذاقوا الرجاء قبل أن يتمّ هذا الرجاء في المسيح. عندئذ رضي الله عنهم، وشهدت لهم الكتب المقدسة، فصاروا لنا مثالاً يُفهمنا أن طريق الخلاص أمامنا وطريق الهلاك، ونحن نختار. نختار المجد والكرامة والخلود حين نصبر على العمل الصالح. أو نختار الغضب والسخط حين ننقاد للشرّ (روم 2: 7 - 8). هكذا يظهر إيماننا، وبهذا الايمان نرضي الله. ولكن هل توقّفت المسيرة مع نوح؟ بل هي تواصلت حتى تبلغ إلينا. تواصلت في شخص ابراهيم الذي دعاه الله فلبّى النداء معبّرًا عن إيمانه. هذا ما يكون موضوع الفصل التالي في هذه اللوحة الواسعة عن أبطال الايمان.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM