الفصل الـخامس والعشرون: ذبائح متكرّرة وذبيحة وحيدة

 

الفصل الـخامس والعشرون

ذبائح متكرّرة وذبيحة وحيدة
10: 1 - 10

نقسم هذا الاتجاه الثالث (10: 1 - 18) إلى فصلين. في الفصل الأول نضع المقطعين الأولين. وفي الفصل التالي، المقطعين الأخيرين. دلّ المقطع الأول (10: 1 - 3) على أن الناموس بذبائحه المتكرّرة غير كاف. لهذا سيحلّ محل هذه الذبائح الخارجيّة (10: 4 - 10) ذبيحةُ المسيح الوحيدة.
سفك يسوع دمه لغفران الخطايا، ودخل السماء ليشفع في البشر، فحمل التقديس الحقيقيّ والخلاص الأبدي. ذاك كان موضوع ف 9. وها هو يُبرز، مرّة أخرى، قيمةَ ذبيحة المسيح اللامتناهية. لا يكتفي بأن يقابلها بالاحتفال بيوم كيبور، بل بكل ذبائح العهد القديم (10: 1 - 4). هنا، الانسان يقدّم نفسه، فيرضى الله عن تقدمته (10: 5 - 10). والقبول الالهيّ الذي يدلّ عليه جلوس المسيح عن يمين الله، يجعل هذه الذبيحة الوحيدة فاعلة، بحيث لا تحتاج أن تتكرّر. وهكذا يقابل الكاتب عقم الذبائح الموسويّة ونفع ذبيحة المسيح.

1 - تفسير الآيات
نقرأ هنا مقطعين: عقم الناموس مع ذبائحه المتكرّرة (10: 1 - 3). ثم، ذبيحة المسيح الوحيدة (آ 4 - 10) الفاعلة من أجل تقديسنا.

أ - عقم الناموس (10: 1 - 3)
بدأ الكاتب فأكّد أن الناموس مع ذبائحه، ظلّ بدون ثمرة بالنسبة إلى المؤمنين. ثم قدّم برهانًا نظريًا: لو كان هناك ثمرة لما كانت الحاجة إلى التكرار. وأخيرًا كان البرهان المرتبط بالواقع: الذبائح هي مناسبة لتذكّر الخطايا. هذا يعني أنها لا تزال حاضرة ولم تُغفر.
أولاً: التأكيد (آ 1): عجز الناموس
يرتبط عمل الناموس (= الشريعة) بعمل المسيح، ولكنهما يتعارضان تعارض الظلّ والحقيقة: الناموس عقيم، أما الثمر الذي يقدّمه المسيح فهو تقديس المؤمنين. ((سكيا)) (الظلّ) يرد مع ((هيبودايغما)) (8: 5)، فيدلّ على ما هو باطل، ما هو صورة ناقصة، غير كافية. نحن أمام تعارض بين القديم والجديد، بين ما هو ناجع وما ليس بناجع، بين ((براغماتون)) و ((أغاتون)). في العهد الجديد تعني ((براغما)) بشكل عام: شيء (روم 16: 2)، غرض (1كور 6: 1)، عمل (أع 5: 4؛ يع 3: 16)، واقع (لو 1: 1؛ مت 18: 19). في عب نحن أمام الامور السماويّة والالهيّة (6: 8؛ 11: 1). لهذا (مع الذهبي الفم وغيره) نعطي ((ايكون)) معنى: صورة تعبّر عن جوهر شيء (أو شخص)، عن شكله (روم 8: 29؛ 1كور 15: 49؛ 2كور 3: 18). في هذا المعنى، المسيح هو صورة (ايكون) الله. رج 2كور 1: 15.لا يمتلك الناموس الحقيقة، لا يمتلك فاعليّة ((الخيرات (اغاتون) الآتية)) (9: 11؛ رج 2: 15؛ 6: 5)، أي غفران الخطايا والاقتراب إلى الله (النعمة والمجد). هو يرمز إليها، ويهيّئنا للحصول عليها (كل ظل هو عابر). بالمسيح وحده نحصل عليها منذ الآن.
النظام الموسوي نظام ناقص. إذن، هو عاجز. ولما أراد اليهود أن يقربوا (بروسارخومانوس، ق ر ب، 4: 16؛ 7: 25) بضمير منقّى من الخطيئة (يصيرون كاملين، تالايوساي)، أكثروا من الذبائح التي يقرّبونها (بروسفارو) بواسطة كهنتهم (5: ،1 ،3 7؛ 8: ،3 4؛ 9: 7 - ،9 14، 25، 28)، ولكن عبثًا. شدّد النصّ على التكرار: ((كات انيوتون)) جُعلت في بداية الجملة لا قبل ((ذبائح)) ولا بعدها: إن الدورة الليتورجية السنويّة الغنية والثابتة التي فيها تقرّب ((ذات الذبائح)) (تايس اوتايس)، لم تكن ناجعة. لهذا، يجب أن تتكرّر. ((اودابوتي)) (1كور 13: 8)، اطلاقًا، جُعل قبل ((ديناتاي))، يقدر. أجل، الناموس لا يقدر إطلاقًا. ليس هناك من استثناء. ((ايس تودياناكس)) تعني ((على الدوام)). ولكننا نقول مع الآباء اليونان: لا انقطاع (7: 3). لا ينفكّ المؤمنون يأتون إلى الهيكل ((كل سنة)) (كات انيوتون).
ثانيًا: البرهان النظري (آ 2)
يستخلص الكاتب بشكل استفهام العبرة من تكرار الذبائح بلا انقطاع. ((إباي)) (مع النفي) يعني: ((بما أن بدون)). فلو حصل العابدون في العهد القديم (لاتروونتس، 9: 9) على التطهير (كاتاريزو، 9: 14؛ رج يو 13: 10. صيغة الكامل تدلّ على حالة حصلنا عليها بشكل نهائي) الأبدي والنهائي الذي انتظروه، لامتنعوا (باوو، عدل) عن تجديد طقس صار بعد اليوم لانافعًا. فحين يصل الانسان إلى هدف، يترك الوسائل التي أوصلته إليه. وإن أحسّ العابدون أنهم نالوا غفران الله، أنهم ما عادوا ((مذنبين))، تركوا هذه الذبائح. هنا تحدّث الذهبي الفم عن دواء كامل، يستعمله المريض مرّة واحدة فيُشفى. وحين يستعيد عافيته يتركه. نلاحظ طريقة عرض البرهان: ليس الله هو الذي رفض الذبائح، بل المؤمنون عدلوا عن تقديمها بعد أن اختبروا في داخلهم غفرانًا حصلوا عليه.
ثالثًا: البرهان العملي (آ 3)
ويعود الكاتب إلى الواقع الذي عرفه بنو اسرائيل في الماضي. ما كانت الذبائح تؤمّن لهم الغفران، بل تذكّرهم كل سنة بخطاياهم، تذكّرهم بأنهم مذنبون، وتحرّك فيهم الندامة (2تم 1: 6). ((أنامنيسيس)) ليست تذكارًا عاديًا، ذاتيًا، حميمًا (رج منيمي، منايا)، بل قول أو عمل نفرض فيه على نفوسنا بأن نتذكّر الماضي. ترد اللفظة أيضًا مرّتين في العهد الجديد، فتدلّ على مضمون عبادي: الافخارستيا هي تذكّر الفداء التام الذي حقّقه المخلّص (لو 22: 19، إعملوا هذا لذكري). لهذا ترتبط بفعل ((أخبر)) و ((عمل)) في 1كور 11: 24، 26. رج لا 16: 21 حيث يقرّ هارون بخطايا الشعب (إكساغوروساي). اذن، لسنا أمام استعادة ذكرى بسيطة، بل إن الخطايا ((تحضر)) وتُعلن بشكل احتفالي، وفي إطار ليتورجيّ. اذن، نقرّ بخطايانا سنة بعد سنة. أما في العهد الجديد، فالله لا يذكر بعد خطايانا (آ 17). يقول مي 7: 18 ي في هذا السبيل: ((من مثلك ينسى ذنوبنا ويعفو عن كل معاصينا، نحن بقيّة ميراثك، لأنك يا رب تحبّ الرحمة، ولا تحفظ إلى الأبد غضبك. الرب يرجع ويرحمنا، ويستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا)).

ب - ذبيحة المسيح الوحيدة (10: 4 - 10)
بعد مقدّمة تتحدّث عن بطلان الذبائح الخارجيّة ومجيء المسيح، يأتي إيراد كتابيّ يشير إلى ذبائح رُذلت بمجيء ذاك الذي يعمل بمشيئة الله. وبعد أن يفسّر الكاتب النصّ الكتابي، يختم كلامه عن ذبيحة المسيح الوحيدة من أجل تقديسنا.
أولاً: ذبائح خارجية (آ 4)
المسيح جاء، ففهمنا أن لا نفع من الذبائح الخارجيّة. المبدأ الحاسم (لا نجد التعريف أمام دم، ثيران، تيوس، خطايا) الذي يوافق ديانة الانبياء (إر 11: 15؛ مي 6: 7؛ رج مز 51: 18) الذي نقرأه هنا هو قلب البرهان. وهو يستضيء بما في 9: 3: هناك فقط نفع طقسيّ وخارجيّ من الذبائح الطقسيّة والجسدية، ولا سبيل إلى تطهير الضمائر. فلا نسبة إطلاقًا بين الوسائل الموضوعة والنتيجة المتوخّاة. كيف تستطيع هذه الأدوية الحقيرة أن تشفي من مثل هذا المرض الخطير، من الخطيئة. هنا نقرأ للمرة الثالثة ((أديناتون)) (محال، يستحيل مع ((أ)) التي تنفي القدرة، 6: ،4 18). هو شجب جذري للناموس (في حدّ ذاته) وشعائر عبادته. والفعل ((أفايرو)) (جرّد، أخذ، انتزع) يدلّ على أن وعي الخطيئة يشبه حملاً يثقل كاهلنا (المصدر. هذا يعني أن هذا الثقل يدوم، لهذا يجب أن يزول. فهل تستطيع هذه الذبائح أن تزيله). لا نجد معنى هذا الفعل في العهد الجديد (ما عدا روم 11: 27 التي تورد نصًا كتابيًا)، بل في العهد القديم. رج لا 10: 17؛ عد 14: 18 (ن ث ا، رفع، يو 1: 29)؛ أش 1: 16؛ 6: 7؛ 27: 9؛ حز 45: 9 (س و ر). نشير هنا إلى أن موسى ربط غفران الخطايا بالذبيحة (لا 4: 26، 31؛ 5: 10...). في الواقع، هناك صلاة الكاهن، وإيمان الخاطئ وندامته.
ثانيًا: لذبائح ومشيئة الله (آ 5 - 7)
إن مجيء المسيح إلى هذا العالم، يقدَّم بوضوح مع هدفه الفدائي: جاء ليعوّض عجزَ الذبائح اللاويّة. هو سيقدّم نفسه لأبيه. هذا ما يؤكّده الاعلان الصريح (لاغاي) الوارد في مز 40: 7 - 9 (كما في السبعينية، مع بعض الاختلافات). أنشد المرنّم شكره للرب لأنه نجّاه من خطر يهدّده (مز 40: 2 - 6)، فحدّد الوسائل التي بها يعبّر عن امتنانه. استبعد الذبيحة الدموية (ز ب ح)، والذبيحة اللادموية (م ن ح ه)، والمحرقة (ع ل ه)، والذبيحة عن الخطيئة، أي التي تكفّر عن الخطيئة (ح ط ا ه = باري هامرتياس، رج لا 5: 6؛ 7: 26)، لأنها غير كافية. واحتفظ بشيء واحد: الخضوع لمشيئة الله، واتمامها بالطاعة السريعة. اعتبرت عب هذا المزمور مسيحانيًا في خط تعليم الرابينيين الذين كيّفوا بعض نصوصه مع السبعينيّة ليدلّ على المسيح الآتي.
إن ابن الله الأزلي (1: 6) الذي لا يُذكر مع أنه حاضر في زمن الكاتب، يتوجّه إلى أبيه منذ تجسّده. كأني به يريد أن يبرّر التجسّد. صار انسانًا ليقدّم ذاته. دخل العالم. اتى. في العهد القديم سُمّي المسيح: الآتي (إرخومانوس). أما الدخول (ايسارخومانوس) إلى العالم (كوسموس) فيُفهم عن كل حياة المسيح على الأرض، ولاسيّما الجلجلة (يو 1: 9؛ 6: 14؛ 1تم 1: 15). وهكذا تعبّر كلمات المزمور عن عاطفة لم تكن عابرة في حياة يسوع، بل رافقته طوال حياته: فهمّ مشيئة الآب (يو 4: 34؛ 6: 38) قد قاده إلى الموت (يو 10: 17، 18؛ عب 5: 7 - 9)، وجعل من هذا الموت الذبيحة الكاملة التي تحلّ محلّ ذبائح العبادة القديمة. فلا أحد سوى المسيح جعل من حياته كلها تكريسًا تامًا لله (لو 22: 19 جسدي يُعطى). هكذا ألغى الطريقة القديمة في تقديم الذبائح ودشّن الجديدة (آ 9ب).
أحلّت عب ((هولوكاوتوماتا)) (محرقات، مر 12: 33)، التي هي في صيغة المفرد، في السبعينية، و ((أودوكيساس)) (ارتضى) محل ((إيتيساس)). نقرأ في النصّ العبري: ثقبت لي أذنيّ، أي علّمتني السماع، وبالتالي الطاعة وتقبّل فرائضك (أش 50: 5). ولكن الترجمة قالت ((سوما)) (جسد). هذا يعني أن كيان المسيح كله جُعل في خدمة الله حتى الموت. أضيفت فكرة التقدمة الطوعيّة إلى فكرة الطاعة والجهوزيّة، مع مهمّة يقوم بها. نحن في عب أمام طبيعة الابن البشريّة التي تسلّمها عطيّة من الله (9: 11) وقدّمها له ذبيحة (10: 10) من أجل خلاصنا (كو 1: 22). لا نستطيع أن نتوقّف عند الجسد كجسد، وللحيوان جسد. فكرامة هذا الجسد تعود إلى الابن الذي منح ذبيحته هذه القيمة اللامحدودة.
أجل، فهم الابنُ مشيئة أبيه، ورأى عجز الذبائح في العهد القديم، فعزم على التدخّل شخصيًا وعلى تتميم مشيئة الله الكاملة (آ 7). رج ((هيكو)) (ب ا ت ي، آ 37؛ رج يو 5: 20): ها قد جئتُ (يو 8: 42). ويتابع النص العبري: ((في سفر الكتاب كُتب ما فُرض عليّ (ع ل ي): أسرّ برضاك، يا إلهي. فشريعتك في وسط أحشائي)). لمّح المسيح إلى سفر يتضمّن الفرائض الالهيّة التي تتعلّق به وترسم خطّ سلوكه. وأعلن أنه يعمل بها، وأن قلبه يتعلّق كل التعلّق بشريعة إلهه. أما السبعينية فأحلّت محلّ ((ع ل ي)) ((باري إمو)) (في ما يتعلّق بي، يو 5: 46)، فاعتبرت أن الله هيّأ لمسيحه دورًا كبيرًا يلعبه. أما عب فألغت مز 40: ،9 فنقلت ((بوياساي)) (عمل) بـ ((هيكو)). وهكذا صارت ((عني قد كُتب في درج الكتاب)) معترضة تقطع بين ((آتي)) و ((أعمل)). رج الكتاب. م ج ل ت. س ف ر في العبرية: أي الكتاب المقدس كله (يبدو كدرج ولفيفة). إن الكتاب كله يشهد للمسيح (يو 5: 39، 46 - 27؛ لو 24: 27).
ثالثًا: تقدمة جسد يسوع (آ 8 - 10)
بعد أن أورد الكتاب الاستشهاد الكتابيّ، استعاده لكي يفسّره: وحدها ذبيحة جسد المسيح ترضي الله، وبالتالي تقدّسنا تقديسًا كاملاً. وتوالت الآيات فجعلت الذبيحة الجديدة بعد تسلسل زمني للذبائح القديمة: رفض الربّ هذه، وقبلَ تلك، وفي النهاية، ألغى العبادة القديمة (أنايريو، أزال، دمّر. في المعنى القانوني: ألغى) رغم أنها تأسّست على الناموس (8: 4). وهكذا برزت بوضوح مشيئة (تاليما) الله التي قرّرت أن تحلّ هذه المشيئة محلّ الناموس، فيتقدّس المسيحيون (1تس 4: 3) بوساطة المسيح وحدها (1: 3).
إلى الله، اذن، عادت مبادرة خلاصنا (يو 3: 16؛ روم 8: 32؛ أف 1: 4 - 11). ((إن)) في (بقوّة هذه المشيئة) تعبّر عن العلّة الفاعلة. ((ديا)) (بواسطة) على الاداة. إن كان الله أقام بشكل نهائي (ايستيمي، روم 3: 31؛ 14: 4) هذه العبادة الخلاصيّة وحافظ عليها، فلأنه رضي بخضوع المسيح ابنه لهذه المشيئة. وهو بالتالي يرضى عن ذبيحة جسده، التي قدّمها يسوع طوعًا (أف 5: 2). هذه الذبيحة النابعة من قلب يسوع هي الاكرام التام للآب. والتسمية التامة ((يسوع المسيح)) (13: ،8 21)، الكاهن المقدِّم والضحيّة المقدّمة، تتّخذ لون الانتصار الذي يبرز أيضًا في لفظة ((ابافاكس)) (مرة لا غير) التي جُعلت في آخر الجملة. لسنا فقط أمام تقديس (هيغياسمانوي، صيغة الكامل) المؤمنين، بل أمام تقدمة جسد يسوع تقدمة فريدة ونهائية. ذبيحته هي الذبيحة الأخيرة، وبعده تكون الديانة حتمًا بالروح والحقّ.
2 - قراءة إجماليّة
((وإذ ليس للناموس سوى ظلّ الخيرات الآتية، لا ذات الحقيقة بعينها، لا يمكنه بتلك الذبائح الواحدة التي تقرَّب كل سنة، على غير انقطاع، أن يجعل المقتربين (إلى الله) كاملين. وإلاّ، أفما كان عُدل عن تقريبها، لكون القائمين بهذه العبادة لم يعودوا يشعرون، بعد أن تطهّروا دفعة واحدة، بشيء من الخطايا. إنما بالعكس، فإن في هذه الذبائح عينها، كل سنة تذكرة للخطايا. إذ من المحال أن دم ثيران وتيوس يزيل الخطايا)) (10: 1 - 4)
في هذه الآيات يظهر عجز النظام اللاوي القديم تجاه كهنوت المسيح الفريد في أربع وجهات خاصة. أولاً: طابع النظام الموسوي. إن القول بأن الشريعة التي ارتبط بها الكهنوت اللاوي ارتباطًا دقيقًا (عب 7: 17) هي ظلّ الخيرات الآتية، إعادة لما قيل في 8: 5 بأن الكهنوت الهاروني ((صورة وظلّ في المعبد السماويّ)). فمع أنّ هناك مقابلة بين المعبد الأرضيّ والمعبد السماوي، هناك أيضًا مقابلة بين ذبائح يقدّمها هذا النظام أو ذاك. إن التشديد الأول يشير إلى المسافة بين الظل والحقيقة. ثم إن الظل لا يوجد بدون واقع. إذن، هو يفترض الواقع الذي هو ظلّه. إن الينبوع الحقيقيّ لهذا الظل نجده في شخص وعمل الفادي المتجسّد. ثانيًا: طبيعة الذبائح القديمة المتكرّرة. سبق وتحدثت عب عن تكرار الذبائح اللاويّة (7: 27؛ 9: 25). هناك تصارع بين التكرار والنهائي. فالعمل الذي هو نهائيّ لا يتكرّر. والعمل الذي يتكرّر يدلّ على أننا بعيدون عن الاستنتاج. فالاستنتاجي هو ناقص في ذاته وفي فعله. من هنا كان البرهان: فرض الناموس ذبائح سنة بعد سنة. فبمثل هذه الذبائح لا يتمّ التطهير. فلو كانت هذه الذبائح حصلت على النتيجة المرجوّة لما كانت تتكرّر. ولكن ذبيحة المسيح الكاملة هي التي جعلت الذبائح تتوقّف. ثالثًا: وظيفة الذبائح اللاوية التي تتكرّر، تذكّر الانسان بخطاياه، كما تذكّر الله إلى الوقت الذي فيه يتمّ التكفير كاملاً فينال الايمان النعمة. رابعًا: لا نفع من رفع الحيوانات. هل اعتبر هذا الدم أنه الواقع لا الظلّ؟ فالحيوان منفعل، لا فاعل، لا إرادة له ولا بصيرة. هو لا يستطيع أن يقول: جئتُ لأصنع مشيئتك يا الله (آ 7). وحده الانسان العاقل والحرّ والمسؤول، يستطيع أن يحلّ محلّ الانسان. وهذا ما فعله ابن الله المتجسّد حين اتّخذ بشريّتنا: فاستطاع أن يقدّم نفسه عن كل البشريّة الساقطة (2: ،9 14). ثم، وحده الانسان الكامل، المنزّه عن كل خطيئة، يستطيع أن يقف عن جانب الانسان ويكفر عن خطيئته (2: 14 - 18؛ 4: 15 - 16؛ 5: 8 - 10؛ 7: 26 - 27؛ 9: 26). وفي النهاية، وحده ذاك الذي بقيامته من بين الاموات انتصر كسيّد الحياة، والذي يحيا إلى الأبد، يستطيع أن يكون حبرنا وكامل خلاصنا الأبدي (1: 2 - 4؛ 6: 20؛ 7: 16، 24، 25؛ 8: 1؛ 9: 12؛ 12: 2؛ 13: 8). في ضوء كل هذا، أعلنت عب أن دم الثيران والتيوس لا يستطيع أن يرفع الخطايا.
ويُطرح سؤال: ما قيمة النظام الذبائحيّ الذي ارتبط بشريعة موسى؟ هل كان وهمًا وسرابًا؟ أما حرّك رجاء كاذبًا؟ إن الجواب على هذه الاسئلة يبقى ضمنيًا، لا واضحًا، في عب. أولاً: إن النظام الموسويّ مؤسّس تأسيسًا إلهيًا (3: 2ي؛ 8: 5؛ 12: 8ي)، وبالتالي هو داخل مخطّط الله بالنسبة إلى الجنس البشريّ، ولكن في طبيعته يهيّئ لطريق آخر: يدلّ على جدّية الخطيئة، على واقع التبرير الذي يمنحه الله، على ضرورة التكفير. ثانيًا: مع أنه الظل، لا الحقيقة، لا يستطيع في ذاته أن يُتمّ المصالحة التي يتطلّع إليها. هو يرتبط بمواعيد العهد الجديد. إذن هو يتطلّع إلى تكملة التكفير التام والنهائي عبر حمل الله الذي يرسله الله (7: 11ي؛ 8: 1ي؛ 9: 11ي؛ 10: 11ي). إن العهد القديم هو أرض الانتظار، لا أرض الوصول، كما يقول ف11: نالوا المواعيد ولم يروها تتمّ.
هذا في العهد الاول. أما في العهد الثاني، الذي هو زمن النعمة، فاعلان الصليب يدعو البشر لكي يتذكّروا خطاياهم، ويقدّم لهم الدواء الذي منحه الله في المسيح. فالايمان المسيحي أيضًا لا يمكن أن يُوجد دون تذكّر، لأن حياة المؤمن كلها يجب أن تكون فعل شكر حين يتذكّر الدم الثمين الذي نال لنا الفداء الأبديّ.
X X X
((فلذلك يقول عند دخوله العالم: ذبيحة وقربانًا لم تشأ، غير أنك هيّأت لي جسدًا. لم ترتض محرقات ولا ذبائح خطيئة، حينئذ قلت: هاءنذا آتي، إن عنّي قد كُتب في درج الكتاب، لأعمل بمشيئتك، يا الله. فلقد قال أولاً: إنك لم تشأ ذبيحة وقرابين، ولا محرقات ولا ذبائح خطيئة... ولم ترضَ بها، مع أنها كلّها تقرّب بموجب الناموس. ثم يقول: هاءنذا آتي لأعمل بمشيئتك. فهو إذن يبطل الاول ليقيم الثاني... وبقوّة هذه المشيئة قُدِّسنا نحن بتقدمة جسد يسوع مرّة لا غير)) (10: 5 - 10)
اتخذ الكاتب كلمات مز 40: 5 - ،8 وجعلها على شفتي المسيح في دخوله العالم كرسول المصالحة. أراد المرنّم أن يمتدح الله الذي نجاه، واستعدّ لكي يتمّ مشيئته. غير أن العهد الجديد تطلّع إلى العمل الفدائيّ حين أعاد قراءة هذا المزمور. لا يستطيع المرتّل أن يقول بحقّ ولا يتردّد: جئت لأعمل مشيئتك (وهل يستطيع). فهو يعجز عن ذلك لأنه خاطئ أمام خالقه القدوس. ولكن هذه الكلمات توافق كل الموافقة شفتي المسيح. فهو حسب الوعد وحسب النبوءة، ذاك الآتي، والفادي المسيحاوي الذي انتظر الشعبُ مجيئه طويلاً. ثم كان هدف مجيئه العمل بمشيئة الآب. لهذا قال: ((ما نزلت من السماء لأعمل بمشيئتي، بل بمشيئة الذي أرسلني)) (يو 6: 38). وهذه المشيئة الالهيّة هي خلاص البشريّة الخاطئة. في هذا قال بولس في 1تم 1: 5: ((هذه الكلمة ثابتة وأهل للقبول: جاء المسيح إلى العالم ليخلّص الخطأة)). وقالت عب في المعنى عينه: ((قدِّسنا بهذه المشيئة)) (آ 10). فالتقديس في لغة الرسالة، يتضمّن التطهير من الخطايا والدخول إلى حضرة الله القدوس. تلك هي خبرة الخلاص (2: 11).
وإذ أراد الابن أن يتمّ إرادة الآب، احتاج إلى جسد، لأن الخلاص الموعود طلب منه أن يقدّم نفسه بدل الخطأة. فكالراعي الصالح الذي يبذل حياته عن خرافه، قال: ((أبي يحبّني لأني أبذل حياتي واستردّها)) (يو 10: 11). لهذا، تنازل إلى حالتنا الوضيعة في فعل التجسّد بحيث إن كلمات المرتل (هيّأت لي جسدًا) تمّت فيه بمدلولها الانجيليّ. فالجسد المهيّأ للابن هو الجسد الذي اتّخذه في سرّ التجسّد الذي فيه أطاع الآب حتى الموت والموت على الصليب (فل 2: 8؛ عب 2: 14؛ 5: 8؛ 12: 2). في هذا قال اثناسيوس الاسكندراني: ((بما أنه الكلمة اللامائت وابن الآب، لم يكن بالامكان أن يموت. لهذا السبب، اتخذ جسدًا ليستطيع أن يموت. وإذ انتمى إلى الكلمة الذي هو فوق الجميع، مات فكان التبادل. حين قدّم هيكله الخاص وجسده بدل حياة الجميع، أتمّ في الموت كل ما طلب منه)). وأضاف: ((لبس جسدًا بحيث استطاع أن يجد الموت ويطرده إلى خارج)). ثم: ((ما تحدّد ولا انحصر في جسد، بل تمسّك به بحيث كان فيه وفي كل شيء، كما كان كله خارج المخلوقات مرتاحًا في الله فقط. فالعجب هو أن ذاك الذي هو في الوقت عينه انسان يحيا حياة بشريّة، هو أيضًا الكلمة الذي يسند حياة الكون، والابن المتّحد اتحادًا مستمرًا بالآب)) (التجسّد 9/44: 17).
إن صدق ما كتب المزمور يجد تثبيتًا له لانه ((كُتب)): ((كُتب عني في درج الكتاب)). درج الكتاب هو أسفار موسى التي دوِّنت فيها مشيئة الله والطريق إلى الطاعة (تث 28 - 30). ولكن حين جعلت عب كلمات المزمور على شفتي المسيح، دلّت على أن درج الكتاب هو التوراة أي أسفار العهد القديم كله. هنا نشير إلى أن الشريعة دوّنت بشكل خارجي، بمداد وورق. أما الشريعة فتدوّن في قلب الانسان الجديد في المسيح (عب 8: 10؛ 2كور 3: 3).
في آ 8 - 10، قدّم الكاتب شرحًا للمزمور. أولاً، إن التقادم والذبائح في النظام اللاوي، قرِّبت بموجب الناموس وفرائض شريعة موسى: شاخت وصارت بالية. لما جاء المسيح، حلّ نظام ملكيصادق محلّ نظام لاوي. وهكذا ألغى الابن المتجسد ((الأول))، أي الذبائح التي ارتبطت بشرائع موسى، وأقام الثاني أي مشيئة الله التي تشير إلى تقدمة نفسه كذبيحة عن الخطأة، إلى الأبد. فبهذه المشيئة، وبهذه المشيئة وحدها قدِّسنا، أي طهِّرنا من خطايانا واستعدنا رضى الله.

خاتمة
تحدّث الكاتب عن بطلان الذبائح اللاويّة، واستعان بما في مز 40 الذي أعلن تقدمة يسوع الطوعية. في الواقع، جاء المسيح إلى الأرض وهدفه أن يطهّر خطايا ((العابدين)) من الخطيئة. وكان أمينًا لمخطّطه، فقدّم نفسه لأبيه على الصليب، تقدمة رضي الله عنها، تقدمة حملت الخلاص والقداسة للمؤمنين: ((قدِّسنا بتقدمة جسد يسوع المسيح)) (آ 10). مشيئة الله هي التي رذلت العهد القديم وأقامت الجديد. فإليها يعود الابن حين يتوجّه إلى الآب ويقول له: أتيت لأعمل بمشيئتك. فما أبعد هذه التقدمة الذاتية عن ذبائح العجول والتيوس. وكم تبدو العبادة القديمة ظلاً باهتًا تجاه الحقيقة التي وحدها تمنح الكمال للذين يقتربون من الله بذبيحة ابنه يسوع.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM