الفصل السادس عشر: كاهن على رتبة ملكيصادق

الفصل السادس عشر
كاهن على رتبة ملكيصادق
7: 1 - 28

في القسم الثالث (5: 11 - 10: 39) من عب، كان توسّع في المطلع (5: 11 - 6: 20) الذي انتهى بكلام على الوعدين، وإعلان لموضوع هذا الاتجاه الاول (7: 1 - 28): كاهن على رتبة ملكيصادق. يتألّف هذا الاتجاه من مقطعين: يتحدّث الأول (7: 1 - 10) عن ملكيصادق، والثاني (آ 7 - 28) عن الكهنوت اللاوي وكهنوت يسوع.
يبدأ الكاتب فيقدّم لنا في جملة طويلة ملكيصادق وألقابه المجيدة. ينفتح المقطع الأول (7: 1 - 10) وينغلق على اسم ملكيصادق مع الإشارة إلى لقائه بإبراهيم. نقرأ في 7: 1: ((ملكيصادق هذا، ملك شليم، وكاهن الله العلي، الذي خرج للقاء إبراهيم)). نجد صدى لهذا في 7: 10 فيتكوّن تضمين: ((أدّى العشور في إبراهيم، لأنه كان بعدُ في صلْب أبيه حين لاقاه ملكيصادق)).
والمقطع الثاني يبدأ بلفظة الكمال (تالايوسيس) وينتهي باسم الفاعل ((كامل)) (تالايومانون). نقرأ 7: 11: ((لو كان الكمال بالكهنوت اللاوي)). ثم 7: 28: ((أما كلمة القسم فتقيم الابن كاملاً إلى الأبد)). فالعلاقة واضحة بين آ 11 و آ 28 لأننا في جوّ مقابلة بين كهنوتين: الكهنوت اللاوي، والحبر القدوس، الابن، الذي لا عيب فيه.

1 - المقطع الأول (7: 1 - 10): ملكيصادق وكهنوته حسب تك 14
يذكّرنا المقطع الأول بما قيل في سفر التكوين عن ملكيصادق، ويفسّره لنا. وقد قسم الكاتب نصّه قسمتين (7: 1 - 3؛ 7: 4 - 10). وإليك القسمة الأولى:
7: 1 فملكيصادق هذا، ملك شليم، وكاهن الله العليّ،
الذي خرج للقاء ابراهيم عند رجوعه من كسر الملوك، وباركه
7: 2 وإليه أدّى ابراهيم العشر من كل شيء.
وتفسير اسمه أولاً ملك البرّ
ثم ملك شليم، أي ملك السلام.
7: 3 وليس له أب ولا أم ولا نسب،
وليس له بداءة أيام ولا نهاية حياة.
هو المشبّه بابن الله
يقوم كاهنًا إلى الأبد.
نستطيع أن نرى في لفظة كاهن (آ 1 ،3) تضمينًا، يدلّ على حدود القسمة التي تبدو في ترتيب بسيط: أولاً، معطيات سفر التكوين. ثم شرح (لا جميع المعطيات) ألقاب ملكيصادق كما وردت. وبين شرح لفظة شليم ولقب كاهن، أقحم الكاتب تفسير أمور لم تذكرها التوراة: إن إلغاء كل إشارة إلى عمر ملكيصادق وإلى قرابته، تجعله خارج الزمن. إن هذه المشاركة في الابديّة جعلت منه صورة عن ابن الله، وأشارت إلى وجهة من كهنوته: يبقى كاهنًا إلى الأبد. هي نقطة هامة سيعود إليها الكاتب في كل من المراحل التالية (7: 8؛ 7: 15 - 17؛ 7: 23 - 25).
وترتبط القسمة الثانية (7: 4 - 10) بالقسمة الأولى بفضل ((هوتوس)) الذي يعود إلى فاعل فعل ((قام)) (7: 3). حاولت أن تكمّل تفسيرَ النصّ، فتوقّفت لا عند ألقاب ملكيصادق، بل عند وقائع وأفعال جديرة بالاعتبار. أما الترتيب الذي أخذ به الكاتب فيعاكس ترتيب 7: 1 - 2. ذُكر العشر في الأخير (7: 2)، فظهر أولاً (7: 4) وقدّم لحمة البرهان (7: 5 ،6 ،8 ،9). وذُكر اللقاء في 7: 1، وسوف يُذكر في 7: 10 كمحطة زمنيّة. أما فعل لاقى فقد استُعمل في تضمين بين 7: 1 و7: 10، فشكّل إطار التوسّع. وتبقى البركة التي احتلّت هنا وهناك المركز الرئيسيّ (7: 1ب؛ 7: 6ب - 7).
7: 4 فانظروا ما أعظم شأن
الذي أدّى اليه ابراهيم عشرًا
من خيار الغنائم، رئيس الآباء.
7: 5 فالذين يقلَّدون الكهنوت من بني لاوي
لهم وصيّة من قبل الناموس بأن يتقاضوا العشور من الشعب،
أي من إخوتهم، مع أنهم خرجوا من صلب ابراهيم.
7: 6 وذاك الذي ليس له نسب في ما بينهم
قد أخذ العشر من ابراهيم
...
وبارك الذي له المواعد
7: 7 وممّا لا خلاف فيه
أن الأدنى يأخذ البركة من الأعلى.
7: 8 فههنا أناس يموتون،
يأخذون العشور،
أما هنالك فمن يُشهد له بأنه يحيا.
7: 9 وإن سانح القول: بابراهيم، لاوي نفسه الذي يأخذ العشور
قد أدّى العشور
7: 10 لأنه كان بعدُ في صلب أبيه،
حين لاقاه ملكيصادق.
بداية هذه القسمة ونهايتها تتقابلان تقابلاً تامًا: ((ما أعظم شأن)) (7: 2) يحدّد ((ملكيصادق)) (7: 10). ثم إن 7: 9 يتكلّم، شأنه شأن 7: 4 ،عن العشر وعن ابراهيم. إن الجملة الأولى (7: 4) تعلن الموضوع: عظمة ملكيصادق نستخلصها من تسلّمه العشر من ابراهيم. ويقوى توسّع هذا الموضوع في جملتين تأتيان في بنية مشابهة:
1 - 7: 5 - 6: وإن الذين (كاي هوي مان)... وذاك (هو/دي).
2 - 7: 8: فههنا (كاي هودي مان)... أما هنالك (إكاي دي).
تشدّد هاتان الجملتان على الاختلاف بين تقبّل اللاويين للعشر، وتقبّل ملكيصادق. في 7: 6 ((ليس له نسب في ما بينهم)) تقابل ((ولا نسب)) في 7: 3. بعد أن لاحظ الكاتب أن العشر اللاوي يفترض علاقات على مستوى العرق، وأهمل المساواة الأساسيّة بين الذين يأخذون العشور والذين يؤدّون العشور، لاحظ في وضع ملكيصادق، أن لا رباط على مستوى العرق. ومع ذلك أخضع ملكيصادق أبا الشعب العبراني للعشر. في 7: 8 هي وجهة إيجابيّة لاعتبارات 7: 3، تستعمل: لسنا أمام غياب رباطات النسب، بل أمام تأكيد على الابديّة. حسب 7: 3 ،ملكيصادق، لا نهاية حياة. فيستنتج الكاتب من هنا في 7: 8 ،اختلافًا آخر بين ملكيصادق واللاويين الذين يأخذون العشور: هم أناس مائتون، أما ملكيصادق فيُشهد له بأنه يحيا.
وبين هاتين الجملتين حول العشر، أقحم الكاتب ذكر البركة، فضمّها ضمًا وثيقًا إلى الجملة الأولى. استعمل البركة التي أعطاها ملكيصادق لإبراهيم، ليدلّ أن بين ملكيصادق واللاويين، ليس هناك فرق بسيط، بل تفوّق، لأن الأدنى يأخذ البركة من الأعلى. وهذا التأكيد للتفوّق الذي جُعل في قلب القسمة، يشرف على المجموعة ويلقي بضوئه عليها: أخذ الكاتب بمثل هذا الترتيب لكي ينال هذه النتيجة.
ما قيل بشكل مباشر في 7: 7 هو تفوّق ملكيصادق على إبراهيم. ولكن من الواضح في نظر الكاتب أن هذه الجملة تبدو وصلة تدلّ على تفوّق على الكهنوت اللاويّ. هنا لا ننسى أن الجملتين اللتين تحيطان بهذه الآية (7: 7) تقابلان بين الكهنة اللاويين وبين ملكيصادق.
أما آ 9 - 10 اللتين تختمان المقطع، فتُثبتان هذا التفسير إثباتًا واضحًا وحاسمًا. فهما تدلاّن على أن الاكرام الذي أدّاه ابراهيم لملكيصادق، ألزم بالضرورة لاوي نفسه. فهناك تضامن وثيق بين لاوي وجدّه. ففي شخص ابراهيم، انحنى لاوي أمام ملكيصادق. ولكن لم ينحصر وضعه كأدنى في نتيجة نظريّة، بل ظهر في خضوع واقعيّ. إلى هنا أراد الكاتب أن يصل حين دعانا لكي نتأمل عظمة ملكيصادق الذي أخضع ابراهيم للجزية (7: 4).

2 - المقطع الثاني (7: 11 - 28): رتبة هارون ورتبة ملكيصادق حسب مز 101
اسم لاوي (7: 9) هو الذي أتاح الانتقال من المقطع الأول إلى المقطع الثاني: استعاده في آ 11 حين حدّثنا عن الكهنوت اللاوي. أما النصّ الكتابيّ الذي يستند إليه الكاتب، فليس تك 14،بل قول مز 110. تبدّل طفيف. فالآيات السابقة التي شرحت تك 14، هيّأت في الواقع شرح المزمور، لهذا جاءت كلمات المزمور بشكل يدلّ على هدف الكاتب:
7: 11 على رتبة ملكيصادق
7: 15 على شبه ملكيصادق
7: 17 أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق
7: 21 أقسم الرب ولن يندم
أنت كاهن إلى الأبد
7: 24 إلى الأبد
7: 28 إلى الأبد
إذا ألقينا نظرة سريعة إلى هذه اللوحة، نجد أن المقطع ينقسم قسمتين (آ 17، 21). لهذا، كان تضمينان. واحد في آ 11 و19 (الناموس، الكمال)، وآخر في آ 20 و28 (كلمة القسم). ونقرأ النص:
7: 11 ومن ثمّ، لو كان الكمال بالكهنوت اللاويّ
وعليه يقوم الناموس الذي أعطي للشعب،
إذن، أية حاجة بعد أن، على رتبة ملكيصادق،
يقوم كاهن آخر
ولا يقال على رتبة هارون؟
7: 12 إن تحوّل الكهنوت
يجرّ حتمًا تحوّل الناموس
7: 13 لأن الذي تقال فيه هذه الأقوال،
هو من سبط آخر
لم يلازم أحد منه المذبح.
7: 14 وإنه لواضح أن من يهوذا اشرق
ربنا،
من السبط الذي لم يصفه قط موسى بشيء من الكهنوت.
7: 15 وممّا يزيد الأمر بيانًا
أن على شبه ملكيصادق
كاهن آخر يقوم
7: 16 لم يُنصَّب بحسب ناموس وصيّة بشريّة،
بل بقوّة حياة لا تزول
7: 17 لأن قد شُهد له:
انت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق.
7: 18 فقد أُبطلت الوصيّة السابقة
لضعفها وعدم نفعها
7: 19 لأن الناموس لم يبلُغ بشيء إلى الكمال
وإنما كانت (= الوصيّة) مدخلاً لرجاء أفضل،
به نقترب إلى الله.
نلاحظ شيئًا غريبًا في هذا النص: استعمال ((غار)) الفاء، سبع مرات في هذه الآيات التسع. وهناك من ترجم آ 18: وهكذا أبطلت. لماذا فعل الكاتب ما فعل؟ هناك أولاً رمزيّة العدد سبعة. ثم إننا نلاحظ حول آ 14 (يُذكر فيها اسم ربنا) توازيًا تامًا:
- آ 13: لأن الذي تقال فيه هذه الأقوال...
آ 17: لأن قد شُهد له...
- آ 12: تحولّ الكهنوت... تحوّل الناموس
آ 18: أُبطلت الوصيّة
- آ 11: الناموس الذي أعطي للشعب (هي معترضة)
آ 19: الناموس لم يبلغ بشيء إلى الكمال (هي معترضة).
ومهما يكن من أمر ((غار))، نلاحظ تقابل بداية القسمة مع نهايتها. لسنا فقط أمام تضمين على مستوى الألفاظ، بل أمام قرابة في الموضوع.
- يلاحظ 7: 12 أن تحوّلاً في الكهنوت يجتذب تحوّلاً في الناموس. و7: 18 - 19 يضمّ في منظور واحد من الالغاء، تحديد الكهنوت والناموس كله.
- يفهمنا 7: 11 أن ما يجتذب التحوّل في الكهنوت (الذي هو أساس الشريعة) هو اللا حاجة (اللافاعليّة). وتحدّث 7: 19 في الخطّ عينه وأوضح. وهكذا تأكّد فشل الناموس بدون مواربة، وقُدّمت إمكانية كمال أخرى: الرجاء الأفضل الذي به نقترب من الله. وهكذا تظهر الوحدة الداخليّة في هذه القسمة.
غير أننا نلاحظ في هذه الوحدة مقطوعتين صغيرتين: 7: 11 - 14؛ 7: 15 - 19، يجمعهما استعمال لفظتين متشابهتين (بروديلون، واضح، كاتاديلون، واضح) نجدهما في آ 14 وآ 15. والفاعل هنا وهناك واحد: ((يقوم كاهنٌ آخر على رتبة ملكيصادق)) (7: 11). ((يقوم كاهن آخر على شبه ملكيصادق)) (7: 15).
وهكذا يحمل المقطع الثاني إلى المقطع الأول برهانه: حين نلاحظ شبَه المسيح بملكيصادق، نفهم أنه كان عبور من رتبة إلى رتبة. وهذا الشَبه يشير إلى الصفة كما في 7: 3: دوام الكهنوت. وبالنسبة إلى المسيح، ما يذكّر بهذا الدوام هو قول المزمور.
تنقسم المقطوعة (7: 11 - 14) شقّين على مستوى المضمون كما على مستوى الشكل الخارجي: إن آ 11 - 12 تشيران في استفهام إلى العبور من رتبة هارون إلى رتبة ملكيصادق، فتضعان المبادئ: اللاحاجة (أو اللانفع) تبرّر التحوّل. وفي هذه الحالة، كان الكهنوت والناموس متضامنين (ما يصيب الواحد يصيب الآخر)، وعلى المستوى الأدبي نلاحظ التوازي المتداور:
أ - الكهنوت اللاوي... أعطي الناموس
ب - رتبة ملكيصادق
ج - كاهن آخر
ب ب - لا رتبة هارون
أ أ - تحوّل الكهنوت، تحوّل الناموس.
أما آ 13 - 14 فتأخذان بترتيب متواز وتلاحظان واقعًا: هو أن القول ينطبق على عضو من سبط (قبيلة) لاكهنوتي. إذن، التحوّل الذي أشير إليه هو واقع وحقيقة. ويتكوّن الترتيب الموازي كما يلي: إن 7: 14أ الذي يذكر بوضوح ((ربنا)) ((يهوذا))، يوضح 7: 13أ: ((لأن الذي تقال فيه هذه الأقوال هو من سبط آخر)). والعبارة في 7: 13ب (سبط لم يلازم أحد منه المذبح) تعود في 7: 14ب: ((اودايس)) يقابل ((اودان)) (أحد) و((هيكل)) يقابل ((كهنة)).
ونجد أيضًا ترتيبًا متوازيًا في مقطوعة 7: 15 - 19. إن آ 17 تقابل آ 15؛ آ 16 أ تقابل 18 - 19أ؛ آ 16ب تقابل آ 19ب. والفرضيّة التي قدِّمت في آ 15 (يقوم كاهن آخر على شبه ملكيصادق) تجد حقيقتها في آ 17 (شُهد له: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق). وهكذا نفهم أن سياق الشبه (آ 15) يعني ((الأبد)) (آ 17). وآ 16أ (لم ينصّب بحسب ناموس وصيّة بشريّة) تجد كمالها في آ 18 - 19أ حيث تعود ((وصية، ناموس)) وحيث يتوضّح معنى ((بشرية)) بـ ((ضعف وعدم نفع)). وأخيرًا، إذ تعود آ 19ب إلى آ 16ب (بقوّة حياة لا تزول) تعلن ((مدخلاً لرجاء أفضل به نقترب إلى الله)).
وبمختصر القول نقدّم عن هذه المقطوعة الرسمة التالية:
أ - شبَه مع ملكيصادق
ب - لا وصيّة جسديّة
ج - بل حياة لا تزول
أ أ - القول يشهد على الشبَه
ب ب - أبطلت الوصيّة لعدم نفعها
ج ج - مدخل لرجاء أفضل.
وهكذا ترتبط مقطوعة بمقطوعة برباطات متشعّبة: إن آ 15 (بداية المقطوعة) تقترب أولاً من آ 14 (نهاية المقطوعة السابقة) بـ ((اليقين))، كما تقترب من البداية (آ 11) بالشرطية (لو كان الكمال) وبعبارة طويلة: ((يقدَّم كاهن آخر على رتبة ملكيصادق)). في الواقع، تمتلك المقطوعتان بنية واحدة مؤلّفة من شقين: شق نظري (7: 11 - 12؛ 7: 15 - 16) حيث يتكلّم الكاتب في إطار فرضيّ ويقدّم مبادئ عامة. ثم، ملاحظات واقعيّة (7: 13 - 14؛ 7: 17 - 19) ينتج منها جواب ثابت حسب المبادئ المعطاة. وبطريقة أوضح، نلاحظ في المقطوعة الثانية أن الواقع أوضح: أكّدت جملة آ 13 - 14 أصل ربنا اللاكهنوتي، فما اهتمَّت بأن تستخلص شيئًا من هذه المعطية، بل استعادت الشق النظري من البداية (7: 11 - 21). واستعادت جملة آ 17 - 19 في الوقت عينه، القسمين النظريين وأكّدت أنهما تحقّقا في الواقع: هناك شَبه (آ 17؛ رج آ 15)، وهناك تحوّل (آ 18 - 19؛ رج آ 16)، وهناك الغاء لعدم النفع (آ 18 - 19؛ رج 11 - 12). وهكذا نستطيع بحقّ أن نرى في آ 18 - 19 خاتمة المجموعة. هذا ما قلناه منذ البداية.
أما الكلمات الأخيرة (آ 18 - 19) فتشكّل في الوقت عينه انتقالة: هي تعلن القسمة الثانية (7: 20 - 28). فـ ((الرجاء الافضل)) (7: 19) ينعكس في ((عهد أفضل)). وعبارة ((نقترب إلى الله)) (7: 19) تنعكس في ((به يتقرّبون إلى الله)) (7: 25). فاختلاف المنظور الذي يميّز هذين القسمتين (7: 11 - 19؛ 7: 20 - 28) يظهر خصوصًا في طريقة استعمال المزمور. فالقسمة الاولى استعادت دومًا اسم ملكيصادق وعارضته بهارون: الفكرة المشرفة هي تحوّل في الرتبة سبّبها نقصٌ في الكهنوت اللاوي. والقسمة الثانية لا تتكلم أبدًا عن ملكيصادق، بل تستعيد، في الاستشهاد الكتابي، ذكرَ القسَم وتأكيدَ الأبد. فالموضوع الذي تشدّد عليه هو تفوّق الكهنوت الجديد.
وإليك النص:
7: 20 ولا سيّما وأن هذا لم يكن بغير قسَم.
إن أولئك بغير قسم
صاروا كهنة
7: 21 أما هو فبقسم
ممّن قال له:
أقسم الرب ولن يندم
أنت كاهن إلى الأبد.
7: 22 ومن ثمّ، فإن يسوع صار ضمانة لعهد أفضل.
7: 23 ثم إن أولئك كانوا كهنة كثيرين
لأن الموت كان يحول دون بقائهم
7: 24 أما هو، فملكوته يبقى إلى الأبد،
له كهنوت لا ينتقل (لا يتجاوزه أحد).
7: 25 ومن ثمّ فهو قادر أن يخلّص تمامًا
الذين به يتقرّبون إلى الله.
إذ إنه على الدوام حيّ يشفع فيهم.
7: 26 فذلك هو الحبر الذي يلائمنا
قدوس، زكي، بلا عيب،
تنزّه عن الخطأة وصار أعلى من السماوات
لا حاجة له كل يوم، مثل الاحبار.
7: 27 أولاً عن خطاياه الخاصة
يقرّب ذبائح
ثم عن خطايا الشعب،
لأنه فعل ذلك دفعة واحدة
حين قرّب نفسه.
7: 28 فالناموس إذن يقيم أحبارًا، أناسًا ضعفاء
أما كلمة القسم التي عقبت الناموس فتقيم الابن كاملاً إلى الأبد.
نميّز هنا ثلاث مقطوعات صغيرة: آ 20 - 22؛ 23 - 25؛ 26 - 28. وخاتمة المقطوعتين الاولين تتضمنان التذكيرين بالخاتمة الانتقالة (7: 19ب). فالمقطوعة قريبة جدًا من الأخرى. وقد بُنيتا كلاهما على تعارض بين ((أولئك)) و((هو)). أما المقطوعة الأخيرة (آ 26 - 28) فتختلف كل الاختلاف: إنها تشكّل خاتمة الاتجاه كله (7: 1 - 28).
في آ 20 - 22، يقع التعارض بين أولئك وهو، في جملة يتقابل قسماها: كما أن هذا لم يكن (آ 20)، كذلك عهد أفضل (آ 22). وتفوّقُ كهنوت يسوع يتأسّس هنا على طريقة اعلانه: بقسَم إلهي. لا يتوسّع الكاتب في هذا البرهان، بعد أن جعل اركانه في 6: 31 - 21. والبرهان الثاني الذي تُبرزه آ 23 - 25 هو أبديّة الكهنوت. استُعمل هذا البرهان في 7: 15 - 17 حيث شدّد الكاتب على شبَه مع ملكيصادق (7: 8 و7: 3) واختلاف مع هارون. فإن هو استعاد هنا المعطيات عينها، فهو لم يذكر ملكيصادق ليستنتج تفوّق المسيح الذي كهنوته فريد ونهائي، وبالتالي ينفع كل النفع. ونلاحظ أن استشهاد المزمور يقع في المقطوعتين، وأن اسم يسوع برز بعد أن جُعل في نهاية المقطوعة الأولى، اذن في وسط هذه المجموعة الصغيرة (7: 20 - 25) كما جُعل اسم ((ربنا)) في وسط 7: 11 - 19.
واهتمّ الكاتب اهتمامًا خاصًا بالخاتمة. فلفظة ((حبر)) التي حلّ محلّها ((كاهن))، أمانة حرفيّة لنصوص العهد القديم حول ملكيصادق، دخلت هنا دخولاً احتفاليًا: ((فذلك هو الحبر الذي كان يلائمنا)). أما سلسلة الصفات وأسماء الفاعل التي تصفه، فتشكّل أمرًا جديدًا. فهي تتوافق كل التوافق مع فكرة الآيات السابقة التي شدّدت على تفوّق المسيح. والتعارض الواضح في آ 27 - 28 بين الكهنوتين، يتابع هو أيضًا (وهو أيضًا بشكل مختلف) التعارض بين أولئك وهو كما في آ 20 - 25. ثم نجد في 7: 28 استعادة حرفية لهذه الآيات: عاد طلب القسم إلى 7: 20 - 22 ، وعبارة إلى الأبد، إلى 7: 23 - 25. غير أن الكاتب لا ينسى القسم الأول من مقطوعته (7: 11 - 19). فالكلمة الأخيرة ((تالايومانون)) (كامل) هي تضمين مع ((تالايوسيس)) (كمال) في 7: 11. ثم إن القول في 7: 25 (ذلك هو الحبر الذي يلائمنا) جاء يعطي جوابًا لسؤال 7: 11: ((أية حاجة بعد أن يقام كاهن آخر على رتبة ملكيصادق))؟ وإلى هذه الآيات 11 - 19 يجب أن نعود أيضًا لنتحدّث عن وجود ((الناموس)) في 7: 28 (مرتين، رج 7: 11 ،19). ثم إن آ 28 هذه ترتبط برباطات واضحة مع كل نهاية القسمة المذكورة (7: 18 - 19): بنية متعارضة واحدة، مواضيع واحدة (الناموس، الضعف، كمال). وحدها اللهجة اختلفت: عبّرت آ 18 بوضوح عن الوجهة السلبيّة (إعطاء الترتيب القديم)، وجاءت آ 28 (التي استعملت آ 20 - 25) أكثر دقّة حول الوجهة الايجابيّة (قسَم، الأبد).
خلال المقطع الأول (7: 1 - 10)، لا خلال المقطع الثاني (7: 11 - 28)، تهيّأ استعمال لقب ((الابن)) في 7: 28: فقد قرأنا عن ملكيصادق أنه شُبّه بابن الله (7: 3). وأبرز الكاتب أيضًا عظمة ملكيصادق (7: 4) ليهيّئنا لنتأمّل الآن عظيم كهنتنا الذي هو أرفع من السماوات (7: 26). وهكذا دلّت نقطتا الاتصال بين 7: 1 - 10 و7: 26 - 28 أن آ 26 - 28 شكّلت خاتمة الاتجاه كله.
غير أن هذا لا يكفي: لعبت هذه الآيات دور الخاتمة، وستلعب أيضًا دور الانتقالة، فتهيّئ الاتجاه التالي (8: 1 - 9: 28). فاسم الفاعل ((صار كاملا)) (7: 28) الذي قربناه من ((إتاليوسان)) (7: 19، بلغ الكمال)، و((تلايوسيس)) (7: 11، الكمال)، يرتبط ارتباطًا وثيقًا ِبما في 5: 9 الذي أعلن موضوع الاتجاه المركزي (8: 1 - 9: 28): فالفعل هنا ليس في صيغة المعلوم كما في 7: 19 (رج 7: 10) ولا ترافقه نافية (7: 19) أو شك (7: 10)، بل هو في صيغة المجهول، ويتكلم بوضوح عن المسيح كما في 5: 9. إذن، هو يشكّل استعادة لإعلان الموضوع.
والتلميح إلى الذبائح (7: 27) لا يجد ما يقابله في ف 7. فإذا أردنا أن نجد تعابير مماثلة، نعود إلى 5: 1 - 3، بل نتطلّع إلى ف 8 - 10 التي ستتوسّع مطوّلاً في هذا الموضوع. ونقول الشيء عينه عن الإشارة إلى ((السماوات)) (7: 27). فهي تذكّرنا بما في 4: 14 (لنا حبر رفيع اجتاز السماوات)، وتتوضّح بشكل نهائي في 8: 1 و9: 24.
في الواقع، لا تعود فقط لفظة ((السماوات))، بل إن بداية 7: 26 كلها ستعود في 8: 1 لتبدأ الاتجاه المركزي. قال 7: 26: ((فذلك هو الحبر الذي كان يلائمنا... أرفع من السماوات)). ونجد الجواب في 8: 1: ((لنا حبر كهذا جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات)). وهكذا تحقّق الانتقال من اتجاه إلى آخر، من 7: 1 - 28 إلى 8: 1 - 9: 28.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM