الفصل السابع عشر: شخص ملكيصادق

 

الفصل السابع عشر
شخص ملكيصادق
7: 1 - 10

في الإتجاه الأول (7: 1 - 28) الذي عنوانه: كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق، نجد مقطعين. الأول (7: 1 - 10) ينطلق من تك 14 فيقدّم شخص ملكيصادق ويقابله مع الكهنوت اللاوي. والثاني (7: 11 - 28) يقابل بين كهنوت وكهنوت. ونبدأ بالمقطع الأول، على أن نقسم المقطع الثاني فصلين: استغناء عن الكهنوت القديم والناموس القديم (7: 11 - 19). ثم، كهنوت المسيح الحبر السماوي (7: 20 - 28).
هنا يتحدّث الكاتب عن شخص ملكيصادق الذي هو صورة نبويّة عن المسيح (7: 1 - 3). أبرزَ سماته التي تفيد براهينه: هو ملك شليم، هو كاهن العلي، بارك ابراهيم وأخذ منه العشر، لا نسب له وبالتالي هو أبديّ. نشير هنا إلى أن كهنوت ملكيصادق لم يلقَ في الكتاب المقدس شرحًا سوى ما نقرأ في مز 110. ولكن الكاتب لم يهتمّ إلاّ لشيء واحد: كهنوت ملكيصادق كان ظلاً وعلامة، وهذا ما أتاح له أن يترك كهنوت هارون اللاوي الذي كانت له بداية وله نهاية.

1 - تفسير الآيات
نقسم كلامنا إلى شقين: شخص ملكيصادق (7: 1 - 3)، ملكيصادق والكهنوت اللاوي (آ 4 - 10). وقبل أن نتوسّع في شرح الآيات، نقدّم لمحة تاريخيّة سريعة عن ملكيصادق، حسب تك 14: 17 - 20.

أ - من هو ملكيصادق (7: 1 - 3)
بعد النصر الذي حازه ابرام (= ابراهيم) على كدر لوعامر، ملك عيلام، والملوك المتحالفين معه، جاء ملكيصادق، كاهن الله العلي، أمام المنتصر، مع الخبز والخمر اللذين هما طعام الآلهة وذبيحة. ولما بارك ملكيصادق ابراهيم، عرف هذا كهنوت ملك شليم وأكرمه وقدّم له عشر الاسلاب (رج عد 3: 30، 47). أوجزت عب هذه الحاشية، واحتفظت بألفاظ استعملتها السبعينية، بعد أن بدّلت بنية الجملة. غير أن ((الخروج للقاء ابرام)). كان عمل ملك سدوم (تك 14: 27)، لا ملكيصادق الذي سنراه في آ 18 (وأخرج ملكيصادق...). أما اللقب الأرفع والأهم لهذا الشخص، فهو ((كاهن الله العليّ)) (ع ل ي و ن). نحن هنا أمام تسمية قديمة لله، تشدّد على تساميه (عد 24: 16؛ تث 32: 8؛ أش 4: 14؛ مز 7: 18؛ 50: 1 - 14...). في الحقبة السابقة لشعب اسرائيل، دلّ هذا اللقب على إله كنعاني، الاله شليم، الذي رُويت ولادته في ملاحم، كما عُبد في أرض تمتدّ بين النيل والفرات، على أنه خالق السماوات والارض وسيّدها.
ترجم ((عليون)) في اليونانية: ((هيبستوس)) فدلّ في الحقبة الهلينيّة على إله اليهود (سي 41: 4، 8؛ 42: 2؛ 44: 20؛ 47: 5، 8؛ رج 5: 7؛ أع 16: 17 وما قاله الممسوسون). حسب يوسيفوس (عاديات، 16/6: 2) سمّى أوغسطس هرقانوس ((كاهن الله العلي)). بعد ذلك، نُسب ((هبستوس)) إلى الآلهة الوثنية، فامتنع الأدب الرابيني عن استعماله. ما توسّعت عب في اللقب (الله العليّ) لئلاّ تخلط بين الاله الحقيقيّ والآلهة الكذبة.
كان فيلون قد استخلص من ألقاب ملكيصادق وأعماله تعاليم روحيّة: ((جعل الله من ملكيصادق ملك السلام وكاهنه. لم يبدأ فيذكر عملاً من أعماله، ولكنه جعله أولاً ملكًا، رجلاً هادئًا، جديرًا بالكهنوت. فقد سُمّي الملك البار. غير أن ((ملك)) يعارض ((متسلّط)). فالملك يُدخل الشرائع، أما المتسلّط فيلغي الشرائع...)) (الشرائع 3: 79 - 82). وهذا ما تفعله عب فتقوم بـ((هرميناواين)) أي ترجمة هذه الاسماء. فأصل الالفاظ يكشف في هذا الشخص صورة عن المسيح. م ل ك. ص د ق، يعني ملك البرّ (رج يش 10: 1؛ ا د و ن ي. ص د ق). ذكر فيلون الجبيلي في ((الاجزاء)) (2: 20) إلهًا فينيقيًا هو ((ص د ق)). وهكذا فإن ملكيصادق يكون اسمًا تيوفوريًا (يرتبط بالله، تيوس): صدق هو ملكي. ولكن وجود ((ي)) في نهاية ((م ل ك)) يدعونا لأن نقول: ملك البر كما في فيلون (3: 79) ويوسيفوس.
اسم عاصمته ((ش ل م)): سليم، كامل، مسالم، هادئ. قرأت عب اللفظة كدلالة على السلام ((ش ل م)) مع كسرة تحت الشين واللام، أو ((ش ل و م)) (1أخ 22: 9). إن يوسيفوس (العاديات 1/10: 180) وترجوم أونلكوس حول تك 14: 18، يريان في ((ش ل م)) شكلاً موجزًا وقديمًا لأورشليم (حرفيًا: خليقة الله شليم، رج مز 76: 2 ولفظة أوروشليمو في رسائل تل العمارنة). أما ايرونيموس فرفض تحديد مكانها وجعلها في سليم (يو 3: 23) التي تبعد ثمانية أميال عن بيسان (سيتوبوليس) (رسالة 73: 7). وهذا ما يتوافق مع التقليد السامريّ الذي يجعل ابراهيم يلتقي بملكيصادق، لا في أورشليم، بل في جرزيم (أوسابيوس، التهيئة الانجيلية 9: 17).
ما اهتمّت عب بتحديد مكان ((ش ل م))، ولم تشرح الصفتين: البرّ (ديكايوسيني) والسلام (ايريني) (رج روم 5: 1؛ 14: 17 حيث نجد هاتين الصفتين). فإن هي فسّرت في هذا المعنى نصّ سفر التكوين، فلتدلّ على أن المسيح هو أيضًا كاهن وملك، وأنه يقيم البرّ (1: 9؛ أش 9: 6؛ 32: 1...) والسلام (أش 9: 5؛ 32: 17؛ زك 9: 10) اللذين هما من خيور الخلاص. إذن، نضيف هاتين الصفتين على الأمانة والرحمة اللتين ذُكرتا سابقًا.
وتؤوّل آ 3 النص البيبلي تأويلاً استعاريًا، فتماهي بين ملكيصادق والمسيح، وتستنتج ديمومة كهنوتهما. هكذا نكون في قلب البرهان في ف 7. في العالم السامي، النسل البشريّ مهم جدًا. ولا يُذكر الشخص دون أن يُذكر أبوه وجدّه. أما ملكيصادق فيَبرز بدون علاقة قرابة، ولا يقال شيء عن مولده ولا عن موته. فبما أن هذا الشخص عظيم جدًا، ولاسيّما في علاقاته مع ابراهيم، أبي الشعب المختار، كان لهذا التحفظ مدلول مهمّ، لأنه يرمز إلى وضع استثنائي في تاريخ الكهنوت. فاستغلت عب، شأنها شأن فيلون، هذا البرهان الذي ينطلق من صمت الكاتب لتبيّن كهنوت المسيح.
((أباتور)) (بدون أب)، ((أميتور)) (بدون أم). لا يردان إلاّ هنا في البيبليا. حسب فيلون، يتيم يجهل أبوه، وقد يكون مات. نقرأ في عالم الرابينيين: إ ي ن. ل و. أ ب. و أ م: لا أب له ولا أم. هو يتيم لا يُعرف نسبه (أس 2: 7). تابعت عب غياب كل نسب مع متطلّبات الكهنوت اللاويّ الذي يجب أن يتحدّر من هارون ويُولد من أم يهوديّة (عد 17: 5؛ لا 21: 31ي؛ حز 44: 22؛ عز 2: 61 - 62). أما المسيح الكاهن فلا ينتمي إلى اسرائيل ولا إلى قبيلة كهنوتيّة. هو ((أغنيالوغيتوس)) (لفظ صاغه الكاتب): أي إن ملكيصادق لا جدّ له ولا ولد (آ 6). نحن أبعد من ((لا أب ولا أم))، بل أمام قول يدلّ على أن المسيح، الملك الكاهن بتجسّده، ليس فقط انسانًا، بل هو يتجاوز الانسان والتاريخ. روى الكتاب بالتفصيل موت هارون (عد 20: 22ي)، ولكنه لم يقل شيئًا عن موت ملكيصادق. فعدم الكلام عن البداية والنهاية، تعبير سلبيّ عن الأبديّ'، وهكذا ماهت هذه الصفات كاهن الله العلي مع ابن الله.
((أفومويو)): شبّه، شابه. نجد اسم المفعول (المجهول). هذا يعني أن التماهي بين المسيح وملكيصادق قد تمّ في الكتب المقدسة. لسنا هنا على مستوى التاريخ، بل على مستوى كلمة الله. وصيغة الكامل تشير إلى علاقة حاليّة (اليوم) بين الرمز وتحقيقه.
تجد هذه الجملة مدلولها في كلماتها الاخيرة. ((هياروس))، كاهن. رج كاهن الله العلي (آ 1). ثم ((مانو)): لبث دومًا، بقي من دون تحوّل، ظلّ هو هو. ((دياناكس)) تدلّ على التواصل وعدم الانقطاع. تقابل ((ع د)) في ترجمة مز 48: 15؛ 89: 30 حسب سيماك. اذن، هذا الكهنوت هو أبدي، مثل ابن الله نفسه، وهو يتواصل بحيث يستبعد كل كهنوت آخر.

ب - ملكيصادق وكهنوت لاوي (7: 4 - 10)
في آ 1 - 3 ،قدّم الكاتب معطيات سفر التكوين حول شخص ملكيصادق: ما هو وما عمله (آ 1 - 2أ). ثم أشار إلى أن لا نسب لهذا الشخص، فاستخلص دوام كهنوته. إنه صورة بعيدة عن المسيح. وهنا (آ 4 - 10) تقابلَ ملكيصادق مع الكهنوت اللاوي. انطلق الكاتب من الواقع: أعطاه ابراهيم العشر (آ 4). وكانت مقابلة بين عشور اللاويين وعشر ملكيصادق، فجاءت البركة التي نالها ابراهيم، تدلّ على تفوّق كهنوت على كهنوت. في النهاية، إذا كان ابراهيم أعطى العشر لملكيصادق (وعبره للمسيح)، فهذا يعني أن لاوي يتابع عمل ابراهيم، بحيث يحلّ كهنوت المسيح محلّ كهنوته.
أولاً: عشر أعطاه ابراهيم (آ 4 - 5)
استشففنا من شرح آ 1 - 3 أنه كان لملكيصادق كهنوت يسمو على كهنوت لاوي. انطلق الكاتب (آ 2) من واقع قرأه في تك 14: 20، فبيّن بواسطة برهان ينطلق من الأصغر إلى الأكبر (آ 4 - 6أ) ما يريد أن يقوله: دفع ابراهيم العشر لملك شليم. يدعونا الكاتب إلى التأمل وإمعان النظر: تيوريو (صيغة الأمر، رج يو 3: 17: اكتشف، تطلّع، يو 4: 19): من ينال العشر هو أكبر من الذي يؤدّيه (آ 7). فالذي أدّاه هو أبو الآباء، وجدّ جميع قبائل اسرائيل. ((بتريرخيس)) (رأس الآباء) هذا العظيم قدّم العشر لملكيصادق. هذا يعني عظمة ملكيصادق التي تفوق عظمة ابراهيم. رج ((بيليكوس)) (عظيم، رج غل 6: 11) التي هي اللفظ المفتاح في هذا الاتجاه. فتقدمة العشر الطوعيّة هي اعتراف من قبل ابراهيم بأنه أدنى، بأنه خاضع. ماذا قدّم ابراهيم؟ ((ح ل ب)) (عد 18: 29، حليب، لبن، ثم أفضل): اختار ابراهيم أفضل ما في الاسلاب (أبو بنتون، من كل شيء، آ 2). ونقرأ ((أكروتينيا)) (مرحلة بيبليّة): فوق البيعة، أي أثمن ما في الاسلاب، وهو يُقدَّم شكرًا للآلهة. وهكذا نلاحظ كرامة ملكيصادق العظيمة في ما عمله ابراهيم له.
ذاك هو روح نظام (آ 5) العشر (م ع ش و ر) حسب عد 18: 21ي. حسب لا 27: 30 - 33، فُرض العشر للمعبد. وفي تث 21: 17 - 19؛ 14: 22 - 29؛ 24: 15، للفقراء. تقول عب ((إنتولي)) (وصيّة)، فتدلّ على فريضة كهنوتيّة: فاللاويون والكهنة المكرّسون لخدمة الرب لا يملكون أرضًا على مثال أعضاء سائر القبائل (تث 10: 8، 9؛ 12: 12). فأراد الله أن يؤمّن لهم مدخولاً، هو العشر: أجرة الوظيفة العباديّة (هياراتايا، الوظيفة الكهنوتية؛ هياروسيني، نظام الكهنوت)، وبهذا اعترف بكرامة الكهنوت. الكهنة وحدهم ينعمون بالعشور.
حسب شريعة موسى، لا يأخذ الكهنة العشر (أبوداكاتوو، رج 1صم 8: 15) إلاّ من بني اسرائيل الذين يتحدّرون مثلهم من ابراهيم. هنا نقرأ الذهبي الفم: ((قال: تلك هي كرامة الكهنوت: أناس يتساوون مع الآخرين بالأجداد، لهم معهم أب واحد وحيد ومبدأ بيتهم المشترك، يفضِّلون جدًا ويميّزون تجاه الآخرين، لأنهم يأخذون العشر منهم)). ((اوسفيوس))، صلب (ح ل ص، تك 35: 11؛ 2 أخ 6: 9؛ أع 2: 30). هذا ما يقابل ((أبناء لاوي)): اذن حقوق الكهنة المتحدّرين من لاوي تسمو (كايبر) على حقوق نسل ابراهيم البشريّ.
ثانيًا: من العشر إلى البركة (آ 6 - 8)
إن ملكيصادق، ذلك الغريب، الذي لا ترتبط عظمته بنسب أو بقبيلة (بسبط)،بل ترتبط حقوقه بسلطته الشخصيّة، نال العشر من أبي بني اسرائيل وبالتالي من الكهنة اللاويين. بل إن ملكيصادق بارك ذاك الذي باركه الله بركة احتفاليّة وفاعلة (عب 6: 13 - 14)، والذي تباركت الشعوب فيه (تك 12: 1 - 3). فالبركة تدلّ على السلطة. وحين يبارك الملوك والوالدون أولادهم، فهم يفعلون باسم الله (هم ممثّلوه). رج 2صم 6: 18؛ 1مل 8: 55. ونقلُ البركة الالهيّة جزء من امتيازات الكهنة (عد 6: 22 - 27؛ تث 10: 8؛ 21: 5). أمّا الملك الكاهن الكنعاني الذي اتّخذ هذه المبادرة (وذكرها سفر التكوين)، فقد نالها من الله. اذن، بركةُ هذا الغريب هي علامة واضحة لتفوّقه (روم 9: 12) على ابراهيم وكل نسله (يرد فعل أخذ وبارك في صيغة الكامل فيدلّ على أن نتيجة ما حصل حاضر الآن). أما كهنوته فلا يتأصّل في نسب بشريّ، ولا ينحصر في عرق ولا في أمّة. هو من طبيعة أخرى، من رتبة أرفع (كرايتون). إنه نموذج كهنوت ابن الله.
وتطلّعت آ 9 إلى هذا السموّ من زاوية كهنوت لاوي. في حالة (دي من، هنا، هذا ما يرتبط بالكهنوت اللاوي)، هم ((مائتون)) (ابوتنيسكونتس)، لا ((تنيتوي)) أي يموت الواحد بعد الآخر، ينالون عشرًا فوق عشر (داكاتاس، التكرار. هو في صيغة الجمع، تجاه صيغة المفرد في آ 2 - 4): مات لاوي، وفرض الناموس بأن ينتقل إرثه من الأب إلى الابن. وفي حالة ثانية (إكاي دي، هناك) دلَّ الكاتب (آ 3) أنه يحيا دائمًا. فالكهنوت الملكي والأبدي لا يتأثّر بالموت. والذي يتسلّمه لا ينقل وظيفته. لم يذكر النصّ ملكيصادق ولا المسيح، لجمع النموذج والنموذج المقابل. لا شكّ في أن يسوع مات. ومثله ملكيصادق. أما الكاهن فيحيا إلى الأبد.
ثالثًا: آخذُ العشور دفع العشر (آ 9 - 10)
تختتم آ 9 - 10 البرهان (1كور 7: 40؛ 11: 16): يُجعل كهنوت اللاويين في الموضع الأدنى. ((إن ساغ (صحّ) القول (هوس إبوس ايباين، مراحدة بيبليّة). عبّر الكاتب بوضوح عن فكرته، وقدّمها بدون جدال (انتيلوغيا، آ 7). فيبقى على السامعين أن يأخذوا بها ولا يقولوا: لم يكن ابراهيم كاهنًا، واكرامه لملكيصادق يُلزمه وحده ولا يلزم نسله معه. أما الامتيازات التي أعطيت فيما بعد للاوي، فهي تبقى. غير أن جدّ شعب يعمل باسم نسله كله ويمثّله، ولا سيّما في اسرائيل، حيث النسل البشريّ يكفل جميع البركات ورجاء الخلاص. فالشعب المختار ليس جماعة أشخاص يستقلّ الواحد عن الآخر. فكل عضو يتضامن مع الأجداد، ويرث المواعيد بقدر اتحاده بهم. هو مبارك ((في ابراهيم)) (غل 2: 19)، وابراهيم هو ينبوع البركة لجميع الأجيال الآتية (6: 14؛ تك 12: 2).
بما أن النظرة إلى الميراث هي كذلك، نستطيع القول بأن لاوي طُلب منه أن يدفع العشر (داداكاتوتاي، صيغة الكامل كما في آ 6، ما زال حتّى اليوم يؤدّي العشر) عبر ابراهيم، وهكذا كرّم ملكيصادق. كأني به كان حاضرًا في اللقاء الحاسم بين هذين الشخصين. كان في صلب ابراهيم. ((وهكذا قلب بولس بناء اليهودية بانتصار عجيب ومجيد)) (الذهبي الفم).

2 - قراءة إجمالية
((فملكيصادق هذا، ملك شليم وكاهن الله العلي، الذي خرج للقاء ابراهيم عند رجوعه من كسر الملوك، وباركه، وإليه أدّى ابراهيم العشر من كل شيء. وتفسير اسمه أولاً ملك البرّ، ثم ملك شليم أي ملك السلام)) (7: 1 - 2)
تعود تسمية ملكيصادق هذه إلى تك 14: 18. أما شليم فتماهت مع أورشليم ساعة دوِّنت عب. ذاك هو شرح الترجوم ويوسيفوس وآباء الكنيسة مثل ايرونيموس الذي قال: في الموضع الذي جاء إليه يعقوب في منطقة شليم (تك 33: 18 - 19). ثم ان شليم وصهيون (أورشليم) تترادفان في مز 76: 2 (في شليم، في صهيون). الله العلي هو في الأصل اسم إله وثني، فصار في الكتاب المقدّس اسم الله الحي. هنا لا ننسى أن تك 14 دُوّن بعد المنفى ليدلّ على أن ابراهيم غلب بإيمانه ملوك الأرض كلها (هم أربعة ملوك). أترى سيُغلب شعبُ الله بالسلاح البشري؟ لقد كانت النتيجة دمار أورشليم وحريق الهيكل وذهاب الملك ورجاله إلى السبي.
((وليس له أب ولا أم ولا نسب. وليس له بداءة أيام ولا نهاية حياة. هو المشبّه بابن الله، يقوم كاهنًا إلى الأبد)) (7: 3)
كان شرح تيبولوجي (نمطيّ) لشخص ملكيصادق الذي يدلّ على المسيح: هو ملك البرّ، ملك السلام. نلاحظ هنا أن الكاتب لم ينطلق من النصّ ((التاريخي))، ولا من شخص ملكيصادق، بل انطلق من المسيح وحاول أن يقرأ نصّ سفر التكوين في هذا الضوء. وها هو ينتقل إلى ما لم يُقل عن هذا الشخص، في خطّ فيلون. فالصمت بليغ، ولاسيّما أن ملكيصادق هو نمط. هذا لا يعني أنه كان بشرًا فوق البشر، ولا أنه كان تجليَّ الله. هذا الصمت مليء بالاسرار. فملكيصادق هو وحده بين عابدي الله الذي لا يُذكر أجداده ولا نسله. وها هو يدخل إلى التوراة بدون رباطات عائليّة، عكس الكهنة في نسل هارون.
هذا لا يعني أن ملكيصادق لم يكن له والدان، شأنه شأن كل انسان، وأنه لم يختبر الولادة والموت مثل كل واحد منا. في الواقع، تنطبق هذه الاقوال على المسيح، لا على ملكيصادق. فمفهوم الصمت البيبليّ هو أنه يدلّ على ملكيصادق كنمط لابن الله الذي هو وحده من الأزل إلى الأبد. ملكيصادق هو الصورة، والحقيقة هي المسيح. لا شكّ في أن الابن المتجسّد له أم بشرية، وله سلالة (مت 1: 1ي؛ لو 1: 26ي؛ 3: 23ي؛ روم 1: 3)، ووُلد كما يولد كل انسان، ومات كما يموت البشر. ولكنه كابن الله هو هو إلى الأبد وسنوّه لا تنقضي (عب 1: 12؛ 13: 8).
إن صمت تك 14 لا يتوقّف عند بداية حياة ملكيصادق ونهايتها، بل يصل إلى السلالة الكهنوتية. كل هذا نمطيّ، فيجعلنا نحسّ أننا أمام كهنوت متواصل لم ينقطع، الذي يجد كماله في المسيح حسب ما قيل في مز 110: 4. فكهنوته يتميّز بقوّة حياة لا تزول (آ 16). هو لا ينتقل منه إلى آخر، ((لأنه يبقى إلى الأبد)) (آ 24). صمتُ الكتاب هو صمت الروح القدس الذي سيبرز وجهَ الربّ على ضوء العهد الجديد.
((فانظروا ما أعظم شأن الذي أدّى له ابراهيم، رئيس الآباء، عشرًا من خيار الغنائم. وإن الذين يقلَّدون الكهنوت من بني لاوي، لهم وصية من قبل الناموس، بأن يتقاضوا العشور من الشعب، أي من إخوتهم، مع أنهم هم أيضًا قد خرجوا من صلب ابراهيم. وذلك الذي ليس له نسب في ما بينهم، قد أخذ العشر من ابراهيم، وبارك الذي له المواعد. وممّا لا خلاف فيه أن الأدنى يأخذ البركة من الاعلى)) (7: 4 - 7)
البرهان المقدّم هنا بسيط جدًا. وهو يهدف إلى أن يبيّن عظمة ملكيصادق تجاه ابراهيم، مع أن ابراهيم هو أبو الآباء وجدّ الشعب العبراني ومؤسّسه، وذاك الذي أعطاه الله عهدًا مع وعد بنسل، وبالتالي ذاك الذي يمتلك الأولويّة في الشعب اليهوديّ. فاليهود يفتخرون بأنهم نسل ابراهيم، خليل الله، وقابلُ المواعد (يو 8: 33، 39؛ مت 3: 9؛ فل 3: 4 - 5). ولكن هنا في كتبهم ما هو أعظم من ابراهيم: أعطى له ابراهيم العشر، نال منه بركة. هذا لا يحتاج إلى البرهان، والادنى ينال البركة من الأعلى، ومن يأخذ العشر يتفوّق على الذي يؤدّيه. فإذا كان ملكيصادق، الذي هو علامة وظلّ، قد فضِّل على ابراهيم والكهنوت اللاوي، فما يكون المسيح الذي هو الحقيقة والجوهر. فإن كان نمطُ المسيح أعظم من الذي نال المواعد، فما يكون المسيح نفسه!
عُرفت عادة دفع العشور في التشريع الموسويّ، وما استُثني إلا اللاويون الذين كانوا يأخذونها بسبب خدمتهم في الجماعة، ولأنه لم يكن لهم ميراث في أرض اسرائيل (تث 10: 8 - 9؛ 12: 12). فاللاويون والشعب هو إخوة من أب واحد. والخدمة الكهنوتية انحصرت في سبط هارون ونسله من الذكور الذين شكّلوا سلالة هارون الكهنوتيّة. أما اللاويون فبقي لهم عشر العشر، لأنهم يساعدون هارون في خدمتهم (عد 3: 5ي؛ 18: 1ي؛ نح 10: 37ي).
((فههنا إنما يأخذ العشور أناس يموتون، أما هناك فمن يُشهد له بأنه يحيا. وإن ساغ القول، إن لاوي نفسه الذي أخذ العشور، قد أدّى العشور، في ابراهيم، لأنه كان بعدُ في صلب أبيه حين لاقاه ملكيصادق)) (7: 8 - 10)
((هنا)) أي مع نسل لاوي (آ 5). هم أناس يموتون. ومع ذلك، ينالون العشور. ((هناك)) أي ملكيصادق. نال العشور من ابراهيم. يُشهد له، أي تشهد له الكتب المقدسة. تقول إنه حيّ. فكما في آ ،3 لم يقل تك 14 شيئًا عن موت ملكيصادق. فقُدّم هنا على أنه حيّ، وبالتالي صورة عن المسيح الذي يدوم كهنوته ((كونه يبقى إلى الأبد)) (آ 24).
والمدلول الأهمّ نجده في نظرة بني اسرائيل إلى التضامن في العائلة. حين دفع ابراهيم العشر لملكيصادق، فكأن لاوي نفسه دفع. فلاوي كان في صلب ابراهيم. تلك كانت أيضًا طريقة بولس حين علّم، على أساس تضامن الجنس البشريّ مع آدم، أنه حين خطئ آدم خطئ الجميع (روم 5: 12)، وأن موت آدم كان موت الجميع (1كور 15: 22). وما تمّ في وقت من الأوقات بين ابراهيم وملكيصادق ما زال حاضرًا اليوم. فرتبة ملكيصادق التي تمّت في المسيح، تسمو على رتبة لاوي الذي تجاوزه المسيح وحلّ محلّه.
في المسيح، التقى ابراهيم وملكيصادق أيضًا. وما التقيا فقط كصورة عن نظام زمني وأبدي، بل فيه توحّدا في واقع أبديّ. وهكذا، فالمسيح، ابن الانسان وابن الله، ردم الهوة التي تفصل الانسان الخاطئ عن الله البار. فبذبيحته التكفيريّة على الصليب أتمّ الحاجة إلى المصالحة التي هي كاملة ودائمة. ومجدُه كابن الله صار مجده كابن الانسان، كما صار مجدَ البشر الذين اتّحدوا معه بالايمان إلى الأبد.

خاتمة
إن صورة ملكيصادق التي ذُكرت وتحدّدت هنا بفضل تأويل فيلولوجي (على مستوى الاشتقاق اللغويّ) وتاريخيّ، بعيد كل البعد عن الاعتباطيّة. فالكتاب المقدّس يهتمّ اهتمامًا خاصًا بالأسماء، التي ليست فقط مجموعة حروف أو مقاطع صوتيّة، بل تعبير عن الشخص، عن وظيفته، عن مصيره. فيبقى علينا أن نفكّ الرموز بما سمّاه بولس ((قاعدة الايمان)) (روم 12: 6). هكذا ظهر أن الملك الكاهن الكنعانيّ الذي له قيمة محدودة على مستوى شخصيته، والذي هو مهمّ على المستوى التيبولوجي، لم يكن له كهنوت من النمط اللاوي، لأن لا جدّ له ولا نسل. ومع ذلك، فهو يتفوّق على ابراهيم في أربعة أمور: نال منه العشر، باركه، هو نمط كهنوت لا يموت، نال الاكرام من قبيلة لاوي الحاضرة في صلب ابراهيم. فإن كان ملكيصادق يتفوّق على أبي الآباء، فهو يتفوّق على نسله، على كهنة لاوي. ولكن هنا تختفي صورة ملكيصادق لتظهر صورة المسيح. فالمهم هو المقابلة بين كهنوت المسيح والكهنوت اللاوي، وهذا ما سنتوسّع فيه في الفصل التالي.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM