الفصل الـخامس عشر: الوعد لابراهيم والوعد للمسيح

 

الفصل الـخامس عشر

الوعد لابراهيم والوعد للمسيح
6: 13 - 20

وهكذا وصلنا إلى نهاية المطلع (5: 11 - 6: 20) وفيه تنبيه إلى المؤمنين لكي يتركوا التكاسل ويجتهدوا من أجل عمل خلاصهم. لهذا جاء المقطع الثاني (6: 13 - 20)، فعرض لنا شخص ابراهيم في ثلاث محطات: وعده الله وعدًا وأرفق وعده بقسَم (6: 13 - 15). وبعد كلام سريع عن القسم على المستوى البشري (آ 16)، عاد وطبّق ما قاله على قسم الله لابراهيم: أمانة ورسوخ على مثال مرساة تمسك السفينةَ فلا تترك الأمواج تتقاذفها.

1 - تفسير الآيات

أ - وعد لابراهيم وقسَم (6: 13 - 15)
بعد أن أسّس الكاتبُ الرجاء الذي هو ينبوع الصبر وطول الأناة، على مواعد الله بالدخول إلى الراحة (4: 1 - 10)، شجَّع قرّاءه على الثقة بأمانة الله وعلى الثبات في هذه الثقة. ما اكتفى الله بأن يعلن، بل أقسم، فهو لا يغشّنا. في هذا قال الذهبيّ الفم: ((ترى أن الله لا يدافع عن كرامته، فهدفه أن يقنع البشر. لهذا، يقبل الكلام عنه بعبارات غير جديرة به. فهو يريد أولاً أن يقنعنا)). وبما أن الأمثلة الحيّة تفعل أكثر ما تفعل لكي تقنع (آ 12)، رأت عب في وضع ابراهيم جدّ الوارثين (آ 12) والمهاجرين (آ 18) ونموذجهم، صدقَ رجاء يتأسّس على اعلان إلهي، وضرورة الصبر للحصول على تمامه.
أعلن الله أكثر من مرّة لابراهيم بأنه يباركه ويكثر نسله (تك 12: 2 ،3، 7؛ 13: 14، 17؛ 15: 5 - 7 ،13 - 16؛ 17: 4 - 8، 19). أما عب فاحتفظت بالوعد الأخير الذي أعطي بعد ذبيحة اسحاق (تك 22: 16 - 18)، التي هي عمل عظيم في حياة أبي الآباء (عب 11: 17). فهذا الوعد وحده، قد رافقه قسَم، وكانت تلك المرّة الأولى التي فيها أقسم الله منذ بدأ يكلّم البشر. هذا يعني الأهميّة التي يعلّقها على إعلان يهمّ البشريّة الآتية.
حين يقسم الانسان يجعل الله شاهدًا على صحّة ما يقول (إر 28: 14)، ولكن من هو أرفع من الله لكي يكفله؟ لهذا، تنازل الله من أجل البشر، وتكيّف مع عقليّتهم، وألزم نفسه بأكثر من وعد: أقسم بنفسه. قال فيلون: ((ترى أن الله لا يقسم بغيره، لأن لا أفضل منه، بل يُقسم بنفسه وهو يسمو على الجميع)) (الشرائع 3: 203). تساءل المعلّمون: كيف يستطيع الله أن يقسم بنفسه (شموت ربا على خر 31: 13؛ خر ربا 44)، فجاء شرح رابي اليعازر سنة 270 تقريبًا: ((كلّم موسى الله: يا سيّد الكون، إن كنت أقسمت بالسماء أو بالأرض، لكنت قلت: السماء والارض تزولان، وهكذا قسَمُك يزول. أما الآن وقد أقسمت باسمك العظيم (= بنفسك)، فبما أن اسمك العظيم حيّ وباق إلى الأبد، هكذا يظل قسَمك ثابتًا إلى الأبد)) (بركوت 32 أ).
في آ 14، جاء إعلان تك 22: 17 حسب السبعينية تقريبًا. نلاحظ المفعول المطلق من أجل التشديد. وهكذا جاء التعبير يلهم الثقة والطمأنينة، فردّده ابراهيم (تك 24: 7) وموسى (خر 13: 5، 11؛ 33: 13) وداود (1أخ 16: 16؛ مز 105: 9) وزكريا (لو 1: 73). إن هذا الوعد كان أساس رجاء بني اسرائيل، وقد تحقّق في يسوع المسيح وفي الكنيسة (غل 4: 21 - 23).
((وهكذا)) (هوتوس). رج آ 15. تدلّ هذه الأداة على ثقة ابراهيم الثابتة في قسم الله. فكما أن برّ الله يجازي أعمال المحبّة (آ 10)، فأمانته تكلّل الصبر وطول الأناة: مكروتيميساس (آ 12). هذا مع العلم أن كل أمل بنسل كان بعيدًا حين نال وعدًا بخصب بشريّ، فلا هذه المهلة الطويلة ولا المحن حدّت من رجائه وثباته، بل هي أتاحت له أن يرى تحقيق الوعد.
نقرأ هنا ((ابيتنخانو)) (12: 33): وجد، لقي ما طلب، أدرك الهدف (روم 11: 7؛ يع 4: 2). ثم: نجح، كان سعيدًا (ص ل ح، تك 39: 2). فتحقيق المواعيد السعيد هو ثمرة رغبة حارة. أما صيغة الاحتمال (نال) فتشير إلى ولادة اسحاق. ولكن حسب يو 8: 56 (رج غل 3: 8)، قد يكون نظر ابراهيم إلى مولد المخلّص، وإن لم يكن رآه بعينيه. هنا قال الذهبي الفم: نميّز بين وعدين: وعد يتحقّق في ولادة اسحاق، ووعد بأن هذا النسل سيكون أممًا عديدة. لن يشهد ابراهيم الوعد الثاني. أما قرّاء عب فيقدرون أن يلاحظوا أن بركة الله أعطيت لجميع البشر من كل أمّة وشعب.

ب - القسَم بين الناس (6: 16)
هي نتائج مذهلة. لهذا، وجب أن تحدد: ما هو القسم؟ وما هي فائدته؟ نلاحظ أولاً موقع ((هوركوس)) القسم، في آخر الآية. إن البشر قد يكذبون. لهذا، فهم يحتاجون حين يقسمون، إلى شاهد أعظم منهم: الله أو مسكنه، السماء، الهيكل، المذبح. وحين يكون خلاف (انتيلوغيا، 7: 7؛ 12: 3؛ يهو 11 ،نحن في جوّ القضاء، أم 18: 18)، فالسلطة المقدّسة تنهي كل خصام، فيأتي القسم يشكل كفالة لصدقنا.
((بابيوسيس)) تثبيت، تقوية (لا 25: 3؛ مك 6: 18؛ فل 1: 7). وفي النهاية، كفالة من البائع إلى الشاري (2: 2). يقابله، أتاتيسيس، أي كفالة بسيطة لا يمكن أن نركن لها، وقد يتراجع عنها الانسان. أما هنا، فلا استعادة ولا إلغاء ولا رجوع. وحين نقول إن الله أقسم بنفسه، نؤكّد صدقه التام وشرعيّة مواعيده.

ج - نتيجة قسم الله (6: 17 - 20)
النتيجة: تمسّكٌ وثيق بالرجاء. تأكيد بأن الله الذي فعل في الماضي، سيفعل اليوم وغدًا.
أولاً: أقسم الله فبرهن (آ 17 - 18)
((إن هو)) ليس موصولاً (فيه) يعود إلى ((هوركوس)) (قسَم) بل أداة تعني ((لذلك)) (= ديو، رج روم 8: 3). وهكذا يتمّ الرباط مع الجملة السابقة. بما أن هذا هو وضع القسم في العلاقات بين البشر، أراد الله أن يعاملنا بحسب ((عقليّتنا)). نلاحظ مرتين هذه الإرادة، بولومانوس (اسم الفاعل)، بولي (ارادة)، نقرأ ((إبيدايكنيمي)). دلّ بوضوح، برهن بعد أن اتّخذ قراره بملء إرادته. ونجد أفعل التفضيل ((باريسوتارون)) (2: 1؛ 13: 19). اتّخذ قراره ولن يتراجع عنه. وبعده ((أماتاتاتون)) (لا يرد إلاّ هنا في العهد القديم والعهد الجديد، رج 3 مك 7: 11 - 12): لا تراجع إطلاقًا. أما طريقة البرهان ففي الفعل ((ماسيتوو)) (لا يرد إلا هنا في البيبليا): كان في الوسط، توسّط، عمل عمل الحكَم. فكأني بالقسَم صار وسيطًا بين الله وابراهيم. ولكن حين قطع الله عهدًا مع ابراهيم، ومرّ بين (ع ب ر. ب ي ن) الحيوانات المذبوحة بشكل نار (تك 15: 17، 18)، كان أحدَ المتعاهدين وكان الكفيل في الوقت عينه. فكأني بالقسم حلّ محلّ الله، صار الكفيل، رج أي 17: 3؛ أش 38: 14 (يهوه عرابي، ع ر ب ن ي). أعطيت هذه الطمأنينة لابراهيم، وهي تعني في الواقع نسله، لهذا نجد صيغة الجمع (ورثة، كليرونومويس). هناك وعدٌ على المستوى البشري (اسحاق)، ووعد على المستوى الروحي (مز 110: 4).
وتأتي آ 18 لتختم هذا التحريض الطويل وتعطي السبب الذي لأجله أقسم الله: يعطي كفالة ثابتة ومطلقة لرجائنا. استعاد الشقّ الأول من الآية ما قيل في آ 16 - 17 حول القسم: الامران اللذان لا يتحوّلان (براغما، شيء، 10: 1؛ 11: 1؛ مت 18: 19؛ عمل، أع 5: 4؛ واقع، لو 1: 1؛ 1 كور 6: 1؛ 2كور 7: 11) هما الوعد والقسَم. فعلى كل انسان أن يحترم التزامه. أما الله (تيوس) فلا يستطيع أن ((يكذب))، لأنه عند ذاك يعارض طبيعته. هو ((ابسوديس)) (تي 1: 2 مع علاقة بالمواعد والرجاء): لا يكذب: ((ربُّ اسرائيل، جل جلاله، لا يكذب ولا يندم، فما هو بإنسان ليندم)) (1صم 15: 29؛ رج عد 23: 19؛ أش 46: 10 - 11؛ مز 33: 11؛ يع 1: 7).
فالمسيحيّ الذي يتنكّر للمسيح المخلّص ليعود إلى اليهوديّة، يخطئ خطأ كبيرًا. يعتبر أن الله كاذب وقد أخلف بوعده. ولكن المؤمنين الذين ارتكزوا على صدق الله، فيجدون العزاء في محنهم، والشجاعة في ثباتهم وغيرتهم. ((باراكليسيس)) (تشجيع) تقابل فكرة آ 10 - 12 (حتّى المنتهى). نحن هنا أمام قوّة من أجل القتال (إسخيروس، 11: 34؛ مت 21: 29؛ 1يو 2: 14) الروحيّ. فالايمان بصدق الكلمة (لوغوس) والقسم (هوركوس) الالهي، يجعل النفس بعيدة عن التراخي (آ 10)، عن السقوط والارتداد (6: 6) ساعة العاصفة.
مهما تأخّر تحقيقُ المواعد (رج حب 2: 3 - 4)، ومهما كانت الظواهر غير مشجّعة وداعية إلى اليأس، يرى المؤمنون في قسَم الله علامة على صدقه. رج 2تم 1: 21: ((أعرف على من اتكلت وبمن أثق)). نقرأ ((كاتافيغونتس))، اسم الفاعل، هرب، لجأ. رج ((بستوسانتس)) (4: 3، مؤمنون). المشاركون في الدعوة (3: 1). المخلّصون (أع 2: 47). المحروسون (فرورومانوي، 1بط 1: 5). نحن هنا أمام تسميات متعدّدة للمسيحيين. هم يهربون من الاضطهاد، يذهبون إلى المنفى (فيغالوس، 2تم 1: 15)، ويلجأون إلى مدينة هربًا من الاضطهاد (مت 10: 24وز). هذا الهرب (وهذا اللجوء) يقابل صورة المرساة (اسفالي) التي نقرأها في آ 19، ويعطي قوّة لفعل ((كراتيو)) (تمسّك، 4: 4). لم يبق لهؤلاء الهاربين سوى هذا الكنز. هو أمامهم (2كور 8: 12). هو هدف يتطلّعون إليه (بروكايماي). هو الرجاء الذي بدا كمدينة ملجأ نجد فيها الطمأنينة والسعادة.
ثانيًا: الرجاء مرساة (آ 19 - 20)
وتتطوّر الاستعارة وتتوضّح. لم يعد المسيحيون أشخاصًا هاربين، مضطَهدين، منفيين في هذا العالم، بل بحّارة تتقاذف الرياح سفينتهم (مز 107: 25 - 26) فيهدّدها الغرق (1تم 1: 19). غير أن ثقتهم بالوصول إلى المرفأ، وشجاعتهم في الصراع ضدّ القوى المعادية، لم تضعفا، لأن الرجاء مرساة أمينة راسخة في العالم اللا منظور: هي مرساة من نوع آخر، كما قال الذهبي الفم: يجعل البحّارة مرساتهم في أعماق البحر، أما المسيحيّ فيجعلها في أعلى السماء. نشير هنا إلى أن المرساة لم تُذكر في العهد القديم، وليس لها لفظ في العالم السامي (لا ننسى أن البحر هو عالم الشرّ والموت). لهذا، نقرأ في البسيطة هنا وفي أع 27: 29، 30، 40: أوقينا. أما في العالم اليوناني، فالمرساة ترمز إلى المتانة والثبات تجاه البحر المتقلقل. أما في المسيحية فرمزت إلى الرجاء المسيحيّ بقيامة الموتى. قال الذهبيّ الفم: ((بالرجاء نحن منذ الآن في السماء. قال: انتظروا، فالنجاح أكيد، والرجاء يجعلنا نمتلكه منذ الآن. وما قال: نحن في الداخل، بل: رجاؤنا دخل إلى الداخل، وهذا أصحّ وأكثر إقناعًا)).
ونصل إلى آ 20. توسّعت آ 13 - 19 بشكل عظة في تك 22: 16 - 17 وبلغة التوراة. مع آ 17، فهم القرّاء أنهم الورثة الحقيقيون للموعد. وجاءت آ 20 فأوجزت البرهان، بانتقالة لبقة، وأعطت الرجاء طبيعتَه الحقيقيّة: من ابراهيم إلى يسوع المسيح. فالمرساة هي المخلّص. يقول بولس: المسيح رجاؤنا (1تم 1: 1). وأيضًا: ((في الرجاء خلاصنا)) (روم 8: 24). كما تكون السفينة في أمان حين تلامس المرساةُ الصخر، كذلك المسيحيون حين يلامسون المسيح، يتعلّقون به، فيصبحون أقوياء وينجون من الخطر.
ولكن المسيح في عب ليس في داخلنا (كو 1: 17: المسيح فيكم رجاء المجد). إنه في السماء، وإليها دخل يوم الصعود (ايسيلتان، صيغة الاحتمال)، بطريقة سوف يشرحها (9: 12)، ليلعب دور المخلّص تجاهنا (7: 25)، وليهيِّئ لنا هناك موضعًا (يو 14: 2). ((برودروموس))، ركض أمامنا، سبقنا. اسم الفاعل في صيغة الاحتمال. يدلّ على التجسّد وذبيحة الصليب. فالمسيح دخل ككاهن إلى المعبد السماوي. كان الكاهن اللاوي يدخل وحده إلى قدس الأقداس من أجل (هيبار) شعب اسرائيل الذي لا يُسمح له بالدخول. كان يسوع السابق ونحن اللاحقين. هو يسبقنا. يعلن مجيئنا. قال الذهبيّ الفم: ((لم تكن المسافة كبيرة بين السابق والذين يتبعونه، وإلاّ لن يكون السابق. فالسابق وتابعوه هم بالضرورة على ذات الطريق: هو يبدأ المسيرة وهم يزحمونه)). هذا ما فعله يسوع المسيح الذي هو كاهن على رتبة ملكيصادق.

2 - قراءة إجماليّة
((فإن الله لما وعد ابراهيم، ولم يكن في الامكان أن يُقسم بما هو أعظم منه، أقسم بنفسه قائلاً: أباركك مباركة، وأكثرك تكثيرًا. وهكذا بطول الأناة نال الموعد)) (6: 13 - 15)
هناك أمثلة عديدة عن الايمان والصبر (طول الأناة) نقتدي بها. توقّفت عب عند شخص ابراهيم، بشكل خاص. فهو مميَّز في إيمانه بمواعد الله وانتظاره لأن تتمّ هذه المواعد. فإيمانه ولّد عنده رجاء ثابتًا. ومع أن تحقيق ما وعد به الله قد تأخّر، فهذا الرجاء حرّك ثباته مع أن المحنة طالت. في هذا، قال بولس: ((آمن ابراهيم راجيًا حيث لا رجاء)) (روم 4: 18). ومع أن الظواهر بدت معاكسة (هو شاخ، ورحم سارة مات)، إلاّ أنه ظل ثابتًا وما شكّ: ((قوّاه إيمانه فمجّد الله واثقًا بأن الله قادر على أن يفي بوعده)) (آ 20 - 21).
بالإضافة إلى ذلك، ثبّت الله وعده لابراهيم بقسَم. نستغرب حين نجد الله يُقسم. هو لا يحتاج إلى قسم، لأنه الحقّ المطلق (يو 17: 17). ولكنه أراد أن يتنازل إلى ضعفنا البشري. ما أقسم بشيء أو بشخص آخر، لئلاّ نعتبر هذا الشيء أو هذا الشخص أعظم منه، بل أقسم بنفسه. ثم كيف يُقسم بشيء محدود وسائر إلى الزوال، ساعة لا حدود لوعده في الزمان وفي المكان. أجل، كلمة الله لأنها كلمة الله، لا يمكن أن تسقط ولا تحتاج إلى قوّة. فقوّتها فيها، وصدقها يرافقها. وكما وعد الله ابراهيم، أعطاه طمأنينة فوق طمأنينة. كل هذا من أجل الانسان، لا من أجل الله.
دلّ ابراهيم على إيمانه، وعلى ثقته بمواعد الله، فسار إلى حيث دعاه. ولكن قمة الطاعة كانت حين مضى يقدّم ابنه اسحاق. ثبت في المحنة فانتصر إيمانُه، فاستعاد ابنه الذي بدا وكأنه قام من بين الاموات (11: 19، هو رمز يسوع).
((إن الناس يقسمون بمن هو أعظم منهم، وينقضي كل خصام بينهم بالقسم لضمانة أقوالهم. لذلك، لما شاء الله أن يزيد ورثة الموعد بيانًا لعدم تحوّل عزمه، توسّط بالقسم، حتّى نحصل بميثاقين لا يتحوّلان، ولا يمكن أن يُخلف الله فيهما، على دافع قوي، نحن الذين وجدوا ملجأ، إلى التمسّك الوثيق بالرجاء الموضوع أمامنا)) (6: 16 - 18)
اعتاد الناس أن لا يثقوا بعضهم ببعض، لهذا صار استعمال القسم ممارسة عادية ندلّ به على أن قولاً (أو وعدًا) ثابت، وهو يقيّدنا بحيث لا نتراجع عنه. أجل، خسرت الكلمات قوّتها فربطناها بالله. وإذا كان خصام، فهو ينتهي بالقسم، وهذا ما يكفل حسن النوايا. حين نُقسم بالله ((الذي لا يكذب)) (تي 1: 2)، أو حين ندعو الله ليشهد على أن ما نقوله هو الحقيقة، وما نعمله هو الصلاح، نفعل أعظم ما يستطيع أنسان أن يفعله. ولكن حين يتكلّم الله، فلا أعظم منه يقسم به. وحين وعد ابراهيم، أضاف القسم، لا لأن كلامه احتاج إلى سند، بل لأن الناس قليلي الثقة، فأعطى الرب تأكيدين، لا تأكيدًا واحدًا: وعد وأقسم. جعل نفسه وسيطًا من خلال وعده، ومن خلال قسمه. وهكذا كان لابراهيم ميثاقان (عهدان) لا يتحوّلان، لأن الله لا يتحوّل ولا يتبدّل. وهذا الوعد الذي ناله ابراهيم، وصل إلى اسحاق، ثم إلى أهل الايمان، حتّى اليوم، مع المسيح الذي تمّ فيه كل شيء. فجميع الذين اتحدوا بالمسيح هم وارثو عهد ابراهيم. نقرأ في غل 3: 29: ((إن كنتم للمسيح، فأنتم نسل ابراهيم، وورثة بحسب الموعد)).
يتحدّث الكاتب عن ملجأ يهرب إليه. وفي 13: 14، يقول إنه ليس لنا هنا مدينة ثابتة، بل ننتظر الآتية. أترى نحن في فترة اضطهاد أجبر فيها عدد من المؤمنين على الذهاب إلى المنفى؟ هذا ما قاله بعض الشرّاح. ويبقى في أي حال أن المؤمن يبقى غريبًا وفي حجّ إلى المدينة السماوية. فالرجاء هو أمامنا. في النهاية، سنكون مع المسيح ومثل المسيح (يو 14: 3؛ 1يو 3: 2). فرجاؤنا سيكون فرح الشهادة ومشاركة في المجد الابديّ (يو 17: 24)، وخبرة لا تفنى هي خبرتنا في المسيح (1كور 2: 9؛ 1بط 1: 3ي).
((إن لنا فيه شبه مرساة للنفس، أمينة وراسخة، تنفذ إلى ما وراء الحجاب، إلى حيث دخل يسوع لأجلنا كسابق، وصار حبرًا إلى الأبد، على رتبة ملكيصادق)) (6: 19 - 20)
إن الرجاء المسيحيّ المركّز على المسيح، بعيد كل البعد عن عاطفة عابرة في عالم زائل. هو ثابت راسخ مثل مرساة. تلك هي طمأنينة الانسان الذي يرتاح رجاؤه في المسيح. إن المرساة في حياة الانسان قد لا تعطيه كل طمأنينة، ولا تعفيه من هجمات الرياح. أما مرساة المسيحي فلا تخطئ: هي أمينة، راسخة. هناك تعارض كبير بين الذين هربوا باحثين عن ملجأ (آ 18) والذين جعلوا ثقتهم في المسيح فوجدوا فيه الفرح.
إن ((ما وراء الحجاب)) حيث تدخل مرساة الرجاء المسيحي، تعود بنا إلى قدس الاقداس في الهيكل. هو موضع معبد الله وحضوره الذي لا يدخله إلا عظيم الكهنة، مرّة واحدة في السنة. ولكن الآن، وبعد التكفير الذي أتمّه يسوع، صار الدخول إلى المعبد السماوي، مركز حضور الله الابدي، الذي كان الحجاب الأرضي ظلاً له ورمزًا (8: 5؛ 9: 11 - 20، 23 - 24)، صار مفتوحًا لجميع الذين بالايمان جعلوا رجاءهم فيه. فدخول المسيح الصاعد إلى المعبد السماويّ، يعني دخول رجائنا إلى خدر الله بالذات، لأن المسيح هو رجاؤنا.
يتعلّق الرجاء المسيحيّ بما حقّقه يسوع حين سبقنا إلى المعبد السماوي. فمع أنه مضى قبلنا، إلاّ أنه لم يتركنا. راح أمامنا لكي يهيّئ لنا الطريق نحن السائرين وراءه. في هذا المجال، بدا كهنوت المسيح مختلفًا كل الاختلاف عن الكهنوت القديم. فالكهنوت الهاروني لم يكن السابق: هو لم يفتح الطريق للشعب لكي يتبعه إلى قدس الاقداس، بل دخل فيه وحده. أما يسوع ففتح الطريق للذين استُبعدوا. فصار لهم به دخولٌ إلى حضرة الله، وتشجّعوا لأن يقتربوا بثقة من المعبد السماوي. وأساس هذه الثقة هو أن يسوع صار حبرًا على رتبة ملكيصادق.

خاتمة
كيف بدت الحياة الروحيّة في عب؟ عيش الفضائل الالهيّة الثلاث، وخضوع للضمير الذي ِيجب أن يبلغ إلى الكمال. فالله يدعو إلى الخلاص ويعطي النعمة لكل واحد بوفرة. فعلى كل واحد أن يحمل ثمرًا. أما الخطر فهو انحطاط الحياة المسيحية في عمى متعمّد وتكاسل يمنعنا من فهم واقع الايمان. أما المثال الذي جعله الكاتب أمامنا فهو ابراهيم: وعد الله وأقسم له، فكان جوابه جواب الرجاء. تعلّق بالرب كمرساة رغم الصعوبات والمحن التي انتابته. ولكن ابراهيم يبقى صورة، هو ونسله، بالنسبة إلى المسيح. فأمام رئيس كهنة يدخل وحده إلى ما وراء الحجاب، مرّة واحدة في السنة، كان يسوع رئيس الكهنة الحقيقيّ الذي دخل أمامنا كالسابق، ثم جاء فأخذنا إلى المعبد السماوي. وها نحن نسير وراءه حاملين عارنا، لأن ليس لنا هنا مدينة ثابتة. نسير وراءه، وهو عظيم كهنتنا، عالمين أن ذاك الذي كان لنا وسيطًا على الأرض، وكاهنًا على رتبة ملكيصادق، سيجعل منا جيلاً مختارًا وكهنوتًا ملوكيًا وأمّة مقدسة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM