الفصل الرابع عشر: بين الجحود والثبات

 

الفصل الرابع عشر

بين الجحود والثبات
6: 4 - 12

كانت القسمة الأولى (5: 11 - 6: 3) في هذا المقطع الأول (5: 11 - 6: 12) الذي يشكّل القسم الثالث من عب، موضوع كلامنا في الفصل السابق، فوعدتنا بمتابعة الكلام ((إن شاء الله)). ولكن قبل ذلك، يتوالى الإرشاد بين يأس ورجاء، بين سقوط وقيام، بين طريق مفتوحة وباب مسدود، بين أرض خصبة وأرض عقيمة، بين بركة ولعنة. فالتراخي يهدّد الجماعة التي قد تسير إلى اليأس واللعنة. فيا ليتها تنهض من سباتها فتكون الأرضَ الخصبة التي تنال البركة!

1 - تفسير الآيات

أ - سقوط رغم عطايا الله (6: 4 - 6)
إن آ 4 - 6 (غار) تبرّر ما قالته الآيات السابقة، بان لا حاجة للعودة إلى التعليم الاولي، إلى الحقائق الأولى. فالاهتداء إلى الايمان لا ينفصل عن التنشئة المسيحيّة. فكلاهما لا يتكرّران. لا نعيد ما فعلناه بشكل نهائيّ، والتنشئة المسيحيّة لا يمكن أن تتجدّد: برهان واضح. ولكن كلام الكاتب جاء قاسيًا: بما أن المرتدّ عن الايمان لا يمكن أن يعود، فهو لا يستطيع بعد أن يتقبّل التعليم الاوليّ حول المسيحيّة. إذن نمتنع عن العمل (رج مت 18: 17، يصبح كالوثني) بعد أن تنكّر مثل هؤلاء الناس لايمانهم. ولكن آ 9 - 11 تقدّم الوجه الإيجابي في جماعة تحاول أن تتقدّم متطلّعة إلى جماعات تحاول أن تعيش إيمانها وتثبت في هذا الايمان.
أولاً: أولئك الذين استناروا (آ 4 - 5)
يذكر النصّ هنا العطايا التي نالها المعمّدون الجدد: استناروا (فوتيزو). الله هو الذي ينير. الكلمة ينير كل انسان (يو 1: 9؛ أف 5: 14). الربّ ينير أورشليم السماويّة (رؤ 21: 23). ينير بمجده المختارين (رؤ 22: 5). المؤمنون لا يدركون نور الانجيل (فوتسموس، 2كور 4: 4). لا يدركون النور الذي هو المسيح (لو 11: 36). هذا يعني أن النور الذي يفيضه الله في القلب (أف 1: 18؛ 2كور 4: 6) هو نور الايمان (عب 01: 23) الذي يعطي الفهم (مز 119: 130)، يعطي معرفة الاله الحقيقيّ (2 تم 1: 10). لهذا، فالمؤمنون هم أبناء النور (لو 16: 8؛ يو 12: 36؛ أف 5: 5). هذه الاستنارة الروحيّة (التي هي أيضًا تعليم، رج 10: 26) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتقبّل المعمودية (التي تسمّى استنارة، رج يوستينوس، الدفاع 1: 61). هكذا فهمت البسيطة هذا النص فقالت ((نزلوا في المعموديّة)) (نحت بمعموديتا، أي: نزلوا في المعموديّة).
هذه الاستنارة تتمّ مرة واحدة (هاباكس، رج ايفاباكس، 7: 27؛ 9: 21؛ 10: 10). نحن أمام عمل لا يمكن أن يتكرّر (9: 7، 26، 27؛ 10: 2)، فيُعتبر الأخير (10: 26). هو يقابل ((بالين)) (أيضًا، من جديد، آ 6).
بعد استعارة النور تأتي استعارة الطعام. من استنار (تعمّد)، ذاق الموهبة السماوية. هي في نظر الآباء اليونان، مغفرة الخطايا. وغيرهم: الافخارستيا التي هي موهبة الواهب. ففعل ((غاووماي)) يُستعمل بالنسبة إلى طعام الافخارستيا في أع 20: 11 (رج حك 16: 21؛ يو 6: 31ي). ولكن، إذا كانت الافخارستيا أهم عطايا الله، إلاّ أنها تُعطى أكثر من مرّة. لهذا قيل هي: حياة الله التي يمنحها المسيح بنعمة مجانيّة. فالفعل ((ديودومي)) وما يتفرّع منه (دوما، أف 4: 8؛ دوسيس، يع 1: 17؛ دوريما، روم 5: 16؛ دورون، أف 2: 8) يعبّر عن عطايا فائقة الطبيعة ولاسيّما عطيّة الابن (يو 3: 16؛ غل 1: 4). أما ((دوريا)) (المعنى الروحي. تستمعل مرارًا) فتدلّ على النعمة (خاريس، روم 5: 15؛ أف 3: 7؛ 4: 7) وتتضمّن فكرة المجانيّة (أع 8: 20) والرضى. ولكن النصّ يشدّد على عظمة هذه العطيّة (2 كور 9: 15) التي لا نستطيع أن نعبّر عنها (روم 5: 17).
يعرف المؤمن طعم هذه العطيّة ويتذوّقها. غاووماي (م ع س، في العبرية). رج لو 14: 24؛ رو 2: 9؛ أع 10: 10؛ 20: 11؛ 23: 14؛ كو 2: 21. نحن أمام ادراك شخصي، وخبرة شخصيّة. تلك هي حياة النعمة التي نتذوّقها كطعام سماويّ. وتضاف الشركة في الروح القدس مع وضع اليد (آ 2): حضور نمتلئ منه على مثال اسطفانس مثلاً. قد نكون أمام الولادة الجديدة بالمعموديّة (تي 3: 5 - 6) أو مواهب الروح (1كور 12: 14) التي كانت تتجلّى في الجماعة الأولى.
ويتكرّر (آ 5) فعل ((غاووماي)) (ذاق) ليدلّ على الخبرة المسيحيّة تجاه كلمة الله، تجاه الانجيل الذي هو وعد ووحي إلهي (هـ. د ب ر. هـ. ط و ب، يش 21: 43؛ 23: 15)، وطريق خلاص، وحياة مسيحية (أش 53: 7؛ ((ط و ب)) مع ((ي ش و ع ه))) في جوّ من البهجة والتعزية والرجاء.
قوّات الدهر الآتي (رج 2: 5): ما ينتج عن عمل المسيح في المستقبل، بدأ يتحقّق منذ الآن (11: 11). قال يسوع: ملكوت الله في داخلكم. لا تقولوا: هو هنا أو هناك. هذه القوات (أعمال القوة) يصنعها الروح القدس (2: 4؛ غل 3: 5) فتدلّ على مجيء الزمن المسيحاني. أجل، إن الايمان بالانجيل الذي هو الوثوق بالامور اللامنظورة (11: 1) يتثبّت بمعجزات النعمة هذه التي تدلّ على قدرة الروح.
ثانيًا: سقطوا (آ 6)
عدّد الكاتب عمدًا وجهات حلوة في الخبرة الدينيّة الأولى، ليُبرز فظاعةَ السقوط والارتداد عن الايمان. كيف يُعقل أن يرذل المؤمنُ عطيّة الله التي عرفها وذاقها. ((باراببتو)) (لا يرد إلا هنا في العهد الجديد): سقط على جانب (الطريق)، خارج الطريق. حاد وسقط. وعلى المستوى الادبي: خطئ (مك 6: 9؛ 12: 2). رج ((ببتو)) في 4: 11. هنا ابتعاد عن الحقّ، مع رياء الكذب. إذا كانت ((بارابتوما)) تدلّ على خطوة ناقصة، على جهالة يمكن أن تُغفر (كو 2: 13)، فهي تدل أيضًا على خطيئة آدم (روم 5: 15 - 20) وعلى خيانات الشعب اليهوديّ (روم 11: 11). لسنا هنا أمام ضعف من هذا النوع. فالكاتب يشير إلى يهود اهتدوا إلى المسيح، ثم أخذوا يتردّدون بين المجمع والكنيسة، فسقطوا دون أن يكون دواء لسقوطهم (2: 1، باراريومن). هي سقطة على المستوى الفكري، هي خطيئة اراديّة ضد النور (آ 4)، ضدّ الروح القدس، من قبل الذي استنار: نحن أمام تراجع وتمرّد على الله بعد أن أطعناه طاعة الايمان.
من الواضح أن هذه القطاعات التي بها يستبعد المؤمن نفسه من النعمة والخلاص، يتمرّد على الله والمسيح والروح القدس، لا تسمح له أن يتجدّد للتوبة، أي أن يستعيد موقفه السابق من قبول للانجيل. إنه يردّ بجرمين كبيرين على الرحمة التي مُنحت له في أربعة وجوه (استنار...): يصلب ابن الله. ((أناستاورو))، صلب مرّة ثانية. فالجاحد مسؤول عن موت يسوع الذي هو ابن الله. والصلب ليس فقط واقعًا تاريخيًا، بل مأساة معاصرة. فعلى كل انسان أن يأخذ موقفًا من المسيح: أو يصلبه أو يصلب نفسه معه (غل 2: 19؛ 4: 19). فالذي يسقط يقف مع الجلاّدين ويجدّد صلب المسيح.
والجرم الثاني: يشهرونه: بارادايغماتيزو الذي يدلّ على عيَّر، جعل الناس يهزأون بشخص (عد 25: 4؛ حز 28: 17). فمن أنكر إيمانه أمام الناس، جدّف على المسيح. نجد هذين الفعلين في صيغة اسم الفاعل، وهما يدلاّن على استمرار هذا السلوك. قد نفكّر في مثول المسيحيين أمام السلطات الوثنيّة التي تطلب منهم أن يجحدوا إيمانهم. لا توبة ممكنة لهؤلاء. ولكن ما يكون مصير الكنيسة، لولا أمانة المسيحيين وما فيها من بطولة!

ب - أرض خصبة تنال البركة (6: 7)
هنا ترد صورة مأخوذة من عالم الطبيعة، كما في الأمثال الانجيلية، وهي تعود إلى تك 2: 5 - 6 (المطر المخصب)؛ 1: 11 (بوتاني، نبات)؛ 3: 18 (شوك وحسك). كما تعود إلى نشيد الكرمة في أش 5: 1 - 7. فالمؤمن يشبَّه بأرض تُنبت نبتًا صالحًا. واللامؤمن بأرض لا تعطي إلا عشبًا رديئًا. في النهاية، هي البركة (اولوغيا). فحين نعمل في خطّ النعمة نحصل من الله على عطايا جديدة. أما التكاسل والخطيئة لدى ذاك الذي أنعم الله عليه، فيقودانه إلى الشجب واللعنة.
حين ترتوي الأرض بالمطر، تدلّ على أنها أرض طيّبة. فنعمة الله، شأنها شأن المطر، تتكرّر (بولاكيس). فمن تقبّل عطيّة الله، جعلها تثمر فيه. وهكذا يشارك الانسان الله لكي يتقبّل (ماتالبانو) البركة. وبقدر أمانة الانسان تتكاثر بركةُ الله. وبقدر ما ننفتح على عطاياه نُعطى ونُزاد.

ج - أرض عقيمة تنال اللعنة (6: 8)
اللعنة هي ما يعارض البركة. هي نفي للبركة. وأرض اللعنة لا تُنبت سوى الشوك والحسك. لا فائدة منها. لهذا، يُحكم عليها حكمًا قاسيًا. ((أدوكيموس)) تقابل ((اوتاتوس)) (لو 12: 35): اعتبر غير قادر على القيام بالدور الذي طُلب منه. تُرك، رُذل (1كور 9: 27؛ 2 كور 13: 5 - 7؛ تي 1: 16). ((كاتاراس))، اللعنة. نحن هنا في إطار اسكاتولوجيّ. ذاك هو وضع الجاحد: أرض عقيمة لا تُنبت ثمرًا مفيدًا. آخرته الحريق. حسب 1كور 3: 13، نتحدّث عن الاعشاب الرديئة (أي أعمال الخطيئة) التي ستمرّ في النار. ولكن يبدو أن العقاب الأخير (كريماتوس أيونيو، 6: 2) يصيب الخاطئ القاسي القلب الذي يموت رافضًا التوبة، فينال عقاب النار (10: 27؛ مت 13: 30، 42؛ 25: 41). ذاك هو أجر المسيحيّ الذي لم يحمل ثمرًا في حياته، بل رفض المسيح. في هذا المجال قال يوحنا فم الذهب: ((لنصغ إلى كلمات الله بخوف. لسنا امام تهديدات بولس. لسنا أمام أقوال رجل، بل أمام أقوال الروح القدس)).

د - أقوال تشجيع، أقوال رجاء (6: 9 - 12)
بعد كلام قاس فيه الكثير من التهديد، تتبدّل اللهجة في خط 6: 1ي. فالخلاص يقدّم لهذه الجماعة التي دلّت على أعمالها الصالحة. يبقى عليها أن تحافظ على حرارة ايمانها، أن تتجنّب الكسل والتهامل.
أولاً: قريبون من الخلاص (آ 9 - 10)
((إي كاي)) ومع ذلك (لو 18: 4؛ 2كور 4: 16). ما قيل في آ 4 - 6، لم يحمل التملّق ولا التفاؤل. هل يظنّ القرّاء أن الكاتب يئس من مصيرهم بسبب شرّهم؟ في الواقع، هو نداء للمتهاملين ليوقفهم في انحدارهم الخطر. استعاد كلامه المباشر (بابايسماتا، المتكلّم الجمع)، وبدّل لهجته، فأكّد لقرّائه احترامًا يكنّه لهم ومحبّة (أغابيتوي)، ويقينًا ثابتًا بمستواهم الاخلاقي ونوالهم الخلاص.
إن فعل ((إخستاي)) يدلّ على قرب في المكان. الخلاص قريب. تجاه ما في آ 8: اللعنة قريبة. فالحياة المسيحيّة تتضمّن الخلاص، ولا ترتبط فقط به. لسنا فقط أمام شرط، بل أمام استحقاق للخلاص. فكأنه يقول: أتطلّع إلى خلاصكم بثقة. ((كرايسونا))، ما هو أفضل. يبقى عليكم أن تعمّقوا موضوع رجائكم.
وهذا اليقين (آ 10) يستند أولاً إلى برّ الله الذي لا يستطيع أن ينسى ((واجبه)) (إبيلنتانوماي، 13: 2؛ مز 9: 13؛ لو 12: 6: دين)، الذين لا يهمل مجازاة سلوك مسيحيّ (1 يو 1: 9). نقرأ ((إرغون)) (عمل، في صيغة المفرد)، تجاه كثرة الأعمال الميتة (آ 1 ،إرغا نكرا)، فنفهم مستوى العمل وتواصله. نحن أمام بذل يلهمه حبّ ينبع من الايمان، دلّ عليه ((العبرانيون)) في الماضي (إندايكنيمي، صيغة الاحتمال، رج 2 كور 8: 24). وهناك سمتان تميّزانه: لأجل اسمه (ل م ع ن. ش م و). ليس ما يقابل هذا في السبعينيّة. بل نجد إسم الله (2 أخ 33: 18)، أو في اسم الله (الثقة بالله، مز 33: 211؛ 24، آ 8: العمل أو البركة باسم الله، مز 20: 5؛ 129: 8). أما عبارة عب، فنجدها في يو 1: 12؛ 2: 23، وهي تدلّ دومًا على الايمان بالمسيح. هي تدلّ على المسيحيّ. فالمسيحي الذي يرتبط بالمسيح يخصّ المسيح (1كور 1: 13 - 15). والتلاميذ يجتمعون لكي يصلّوا باسمه (مت 18: 20).
نستطيع أن نفهم أن محبّة ((العبرانيين)) هي تجلٍ وامتداد لمحبّة الله في قلوبهم. هم يعملون باسمه. بل نفهم أن بذلهم الاخويّ تلهمه محبتهم لله (13: 5): لقد خدموا إخوتهم حبًا لله واكرامًا له. ((دياكونيو)) يتضمّن كل أنواع الخدمة (10: 33 - 34) بين أعضاء جماعة واحدة (أف 1: 15) بشكل تعاون محبّ على مستوى الصدقة أو الضيافة (1كور 16: 15). رج روم 15: 25 وخدمة القديسين في أورشليم، 2 كور 8: 4 وشركة الخدمة تجاه القديسين.
ثانيًا: اجتهاد، لإ إهمال (آ 11 - 12)
إذن، الجماعة التي يتوجّه إليها الكاتب ليست حقلاً لا نفع منه (آ 8). نبتت فيها الاعمال الصالحة، في الماضي، وهي ما تزال تحمل ثمرًا، في الوقت الحاضر. فالبرهان عن المحبّة والخدمة لم يتوقّف (اسم الفاعل في صيغة الاحتمال، في الماضي، ثم في صيغة الحاضر: خدمتم، تخدمون). وهكذا شجّع الكاتب القرّاء على متابعة الاجتهاد. ((نروم)). هو لا يقول: أريد. فليس هو بسيّد يأمر، بل هو أب حنون يعبّر عن رغبته. هذا ما قاله الذهبيّ الفم. وما توجّه الكاتب إلى الجماعة بشكل عام، بل إلى كل واحد بمفرده (إكستون هيمون، 3: 12، 13)، ولا سيّما المتهاملين والكسالى، وأبدى لهم رغبته الملحّة (ابيتيميو، مت 13: 17؛ لو 22: 15؛ غل 5: 17؛ رؤ 9: 6). فكما دلّوا على محبّة حقيقيّة، ليدلّوا على اجتهاد (على غيرة، سبودي، 4: 11؛ روم 12: 11؛ 2كور 7: 11).
يجب أن يتوقوا إلى ملء الرجاء (بليروفوريا، 10: 22؛ 1تس 1: 5؛ كو 2: 2) أي إلى التحقيق النهائيّ (بفضل سلوك محبّ) وثقة لا تتزعزع. نحن هنا أمام نداء إلى الثبات مهما كان الوضع صعبًا. يجب أن يثبت الرجاء حتّى المنتهى (أخري تالوس).
بفضل هذه الغيرة المستمرة (آ 12) التي تقابل الكسل والتهامل (نوتروي، آ 1 ،12)، يستطيع المسيحيون وقد امتلأوا رجاء (3: 6) أن يجاروا المنتصرين، وهم جميع الذين يمتلكون الخلاص الموعود (4: 1؛ 9: 15). سيتوسّع ف11 في هذا الموضوع. ولكن منذ الآن، بدا الكاتب أبًا يربّي أولاده، فجعل أمامهم هذه النظرة المجيدة والسعيدة ليحرّك فيهم الاجتهاد، ويذكّرهم بالوسائل التي تتيح لهم أن يدركوا الهدف. وهو الايمان (بستيس) الذي يخلّص والذي كاد القرّاء ينكرونه، والذي يضمّ الرجاء والمحبّة (آ 10 - 11)، ثم طول الأناة (مكروتيميا، آ 15؛ 2كور 6: 6؛ كو 1: 11؛ 2 تم 3: 10): نثبت بدون تراخ تجاه محن الحياة، ونتابع مسيرتنا رغم الصعوبات. أجل، الله يمنح الخلاص، ونحن نتجاوب معه بممارسة الفضائل الالهيّة (الايمان والرجاء والمحبة)، مع القوّة والصبر واحتمال الشدائد.

2 - قراءة إجمالية
((فإنه من المحال على الذين استناروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وأشركوا في الروح القدس، وتذوّقوا كلمة الله الطيّبة، وقوّات الدهر الآتي، ثم سقطوا، أن يُجدَّدوا ثانية بالتوبة، إذ إنهم يصلبون أيضًا بأنفسهم ابن الله، ويشهرونه)) (6: 4 - 6)
ويعود الكاتب الآن إلى موضوع خطير هو موضوع الجحود والارتداد عن الايمان (3: 12ي). فما عاد يفكّر فقط في مسيحيين ما زالوا أطفالاً، مسيحيين لم ينضجوا بعد ولم يحملوا ثمارًا في إيمان يعلنونه، بل في اشخاص يعيشون اللا إيمان في وسط الجماعة. فخطرُ الجحود حاضر، وليس هو من عالم الخيال. وإلاّ، فما معنى هذا التشديد (10: 29ي؛ 12: 25ي) الذي قد يبدو مضحكًا إن لم يكن له أساس في واقع الجماعة. لهذا، توجّه إلى قرّاء يئسوا، فدعاهم إلى إصلاح ذاتهم بعدما نالوا ما نالوا. نالوا ستة أمور في خبرة روحيّة لا يستطيعون أن يستعيدوها إن ظلوا يعارضون الايمان الذي نالوه.
(1) أعلنوا التوبة في خط آ 1 (2) وكانوا بين الذين استناروا بنور الايمان والمعموديّة. ولكن إبليس أعماهم ((لئلاّ يشاهدوا النور الذي يضيء لهم، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله)) (2كور 4: 4 - 6). فالاستنارة تعني معرفة الحق (10: 32)، وهي تجعلنا أمام مسؤولياتنا كما قال بولس في أف 5: 8 - 11: ((كنتم ظلمة، أما الآن فانتم نور في الرب. فسيروا كأبناء النور... ولا تشاركوا في أعمال الظلمة)). أعمال الظلمة هي الأعمال الميتة التي ذُكرت في آ ،1 والتي انفصل عنها المسيحي حين قبل العماد.
(3) وذاق المؤمنون الموهبة السماويّة. هو تعليم المسيح (كما قال تيودوريتس) في شرح يو 6: 31ي. وقال آخرون: الافخارستيا. وهكذا نكون في أسرار التنشئة الثلاثة التي عرفتها المسيحيّة الأولى بشكل خاص مع آباء الكنيسة: المعمودية (استنارة)، الافخارستيا (الموهبة)، التثبيت (أشركوا في الروح القدس). (4) أشركوا في الروح القدس. نالوا أنوار الروح، ونالوا مواهبه من أجل بناء الجماعة. فهذه المواهب تدلّ على قوّة الانجيل. (5) ذاقوا كلمة الله الطيّبة. اختبروا اختبارًا شخصيًا ما يقول مز 34: 9: ((ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب)). (6) ذاقوا أيضًا قوّات الدهر الآتي. فمن خلال الآيات المعجزات التي ترافق الكرازة بالانجيل، رأوا ملكوت الله آتيًا. بركات ست هي في الواقع تجلّيات ووجهات بركة واحدة عظيمة ترافقت مع الانجيل الذي تقبّله هؤلاء المؤمنون. مثل هؤلاء إن سقطوا، يستحيل عليهم أن يتجدّدوا، أن يتقبّلوا المعموديَّة مرة ثانية، وإلاّ بدوا وكأنهم يصلبون المسيح مرّة ثانية. هنا نتذكّر أن العماد هو مشاركة في موت المسيح وقيامته.
ما نستطيع أن نقول عن هذه الآيات (6: 1 - 6) هو أن آ 1 - 2 تشيران إلى جواب التوبة والايمان على كرازة الانجيل الذي يتبعه تعليم يسبق المعمودية. وتُصوّر آ 4 - 6 حالةَ الذين اعترفوا بالمسيح في المعمودية، ثم أداروا ظهرهم للانجيل فتنكّروا بالتالي للعماد وما يقتضيه. هم يبدون وكأنهم أنكروا المسيح الذي صُلب لأجلهم وانضمّوا إلى الذين رفضوا هذا الصلب. هم اليهود الذين سيواجههم الروح القدس بعد قيامة المسيح: يوبّخ العالم على الخطيئة، خطيئة الذين لم يؤمنوا به. وعلى البرّ، لأن اليهود حسبوا يسوع خاطئًا بعد أن حكمت عليه الشريعة فمات. ولكن الله أقامه وها هو قد ذهب إلى الآب، فدلّ على أن الشريعة أخطأت وأن يسوع وحده بار. وعلى الدينونة. دان اليهود يسوع، ودانه بيلاطس. في الواقع، أراد العالم أن يدين يسوع ويحكم عليه. فاذا العالم وسيّده يقعان تحت دينونة الربّ (رج يو 16: 8 - 11).
وفي النهاية، حين يجعل الروح دم المسيح الفادي يعمل في قلب الانسان، يصبح عملُه عملَ الله الذي لا يمكن أن يسقط. هذا يعني أن الذين هم حقًا للمسيح لا يسقطون في الجحود، وإن سقطوا لا يكون سقوطهم بلا رجعة. فحيث يكون عملُ الله، سواء في الخلق أو في الخلق الجديد، سواء في الدينونة أو في النعمة، فهذا العمل لا بدّ أن يصل إلى هدفه حسب إرادة الله. وهكذا تأكّد بولس أن الله الذي بدأ عملاً صالحًا لدى المؤمنين في فيلبي، سوف يتمّه في يوم يسوع المسيح (فل 1: 6). وشجّع تيموتاوس حين واجه سقوط هيمايس وفيليتس، لكي يتذكّر أن أساس الله متين وثابت ويحمل ختمه: ((الرب يعرف خاصته)) (2تم 2: 19). فما يكفل سرّ الاختبار الالهي هو أن المسيح لم يمت باطلاً، وأن هدف مجيئه إلى العالم قد تمّ بدون فشل. تلك كانت ثقة الرب المتجسّد حين أعلن: ((كل ما أعطاني الآب يأتي إليّ. ومن جاء إليّ لا يبعده عني)) (يو 6: 37). كما أكّد لتلاميذه أنه يعطي خاصته الحياة الابدية، فلا يهلك أحدٌ ولا يفقد من يده أحد (يو 10: 28). فكيف تستطيع الحياة التي يعطيها أن تكون أبديّة، إن كانت ستزول لسبب أو لآخر.
من الواضح أن الكاتب لا يتطلّع إلى إمكانيّة تقول إن عمل الله في حياة الذين يكتب إليهم يمكن أن تسقط أو أن تفشل، لأنه أعلن ثقته بهم، ولأن هذه الثقة تأسّست على أن كلمة الله لا تفشل وعمله القدير في وسطهم لا يمكن أن يكون بلا ثمر. كل ما يخافه هو أن يكون البعض الذين اعترفوا بايمانهم، ونعموا بالحياة المسيحية، والتزموا بالشهادة، يصيرون من المرائين ومن أعداء المسيح، فيميلون عن النور الذي عرفوه، ويدلّون على أنهم لم ينتموا يومًا إلى شعب الله.
((فإن الأرض إذا ما ارتوت من الأمطار المتوافرة عليها، وأخرجت نباتًا يصلح للذين يحرثونها، تنال البركات من الله. وأما إن أنبتت شوكًا وحسكًا فتُرذل، وتدانيها اللعنة، وعاقبتها الحريق)) (6: 7 - 8)
وجاء مثَل ُيسند تنبيه الكاتب. تنعم الأرض بالامطار، فتدلّ على غناها وخصبها، فتحمل ثمرًا ينعم به الآخرون. فإن أتمّت وظيفتها، باركها الله. و((النتاج)) الروحي هو تجلّ لعمل النعمة الالهيّة. فالله هو الذي يرسل مطر رحمته على الناس، ويهتمّ بكرمته (يو 5: 1)، ويعطي النموّ (1كور 3: 6 - 7). ولكن إن أنتجت الأرض بدل الثمار الخيّرة، الشوك والحسك، تأتي اللعنة عليها، فتكون بلا ثمر، وتنتظر دينونة الدمار بالنار. ذاك هو وضع الانسان الذي جاء إلى عالم بركة الانجيل بنعمة مجانيّة من الله القدير، واعترف علنيًا بايمانه بالمسيح المصلوب، وانضمّ إلى جماعة المفديّين، ومع ذلك أثمر شوكًا وحسكًا، أي عداوة ابن الله وسلوكًا لا يتوافق مع اعترافه، ذاك الانسان لا ينال البركة بل اللعنة، وتكون آخرته في نار الدينونة. في هذا قال اوريجانس (المبادئ 3/1: 10): ((إن كانت إرادة الانسان غير مهذّبة، إن كانت شرسة أو بربرية، تصبح قاسية بالمعجزات وعجائب الله، فتصبح أكثر وحشيّة وأكثر شوكًا من قبل، أو تصبح خاضعة فتسير نحو الطاعة إذا تخلّصت من الاثم وخضعت للتأديب)).
إن تقارب هذا المثَل مع خبر الخلق والسقطة، لم يغرب عن بال قرّاء الرسالة. فقد جاء أمر الله الخالق إلى الأرض: ((لتنبت الأرض نباتًا، عشبًا يبزر بزرًا)) (تك 1: 11). وجاء المطر على الأرض (تك 2: 5، 9). ولكن دخلت الخطيئة، فحلّت اللعنة: ((شوكًا وحسكًا تنبت لك)) (تك 3: 18) بعد أن لُعنت بسببك. وتذكّر القرّاء أيضًا مثل الكرمة في أش 5: 1ي. غُرست بعناية، ولكنها في النهاية صارت بورًا لا يُفلح ولا يزرع، فيطلع فيه الشوك والعوسج، ولن ينزل عليه مطر.
تشجّع الذهبيّ الفم بأنه لا يقال عن الأرض العقيمة أنها لُعنت الآن، بل هي قريبة من اللعنة. يمكن أن تُلعن في القريب. فهذا يتضمّن مهلة للتوبة وإصلاح الذات. ولكن التهديد يبقى معلنًا، والحريق يكون عاقبَة أرض تنبت شوكًا وحسكًا.
((إنّا، وإن كنا نتكلّم عنكم، أيها الأحبّاء، لا ننفكّ نعتقد أنكم في حال أفضل وأقرب إلى الخلاص، لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم الصالح، والمحبّة التي أبديتموها لأجل اسمه، إذ إنكم قد خدمتم القديسين، ولا تزالون تخدمونهم)) (6: 9 - 10)
رغم التنبيه السابق حول خطر الجحود الذي يهدّد المؤمنين، ما زال الكاتب يثق بأن الذين يكتب إليهم مؤسَّسون في الايمان. هذا لا يعني أن التنبيه لم يكن ضروريًا ولاواقعيًا. فكما رأينا في 5: 11ي، هم بعيدون من النضوج الروحي ويحتاجون العودة إلى التعليم الأولي. مثل هذه الحالة تدلّ على علة ومرض يمكن أن يقودا إلى الموت، وهكذا يكون الخطر مهدّدًا الجماعة ككل أو بعضًا من أعضائها، فيسقطون. فنور الكنيسة وإن اشتعل، يمكن أن يخبو، على ما نقرأ في رؤ 2 - 3.
ومع ذلك، فهناك ثقة بأن عمل النعمة حاضر في قلب الجماعة. فمع أن الخطر ظاهر، إلاّ أن الانجيل الذي بُشّر به، قد وصل إلى هدفه. فالحياة التي يعيشها هؤلاء المؤمنون قرّبتهم من الخلاص، لا من الجحود. لهذا، صاروا الاحبّاء، وصارت أعمالهم أعمال محبّة تجاه الاخوة في الايمان: جاهدوا، تحمّلوا التعيير... شاركوا السجناء في آلامهم (10: 23 - 33). هذا ما تعني عبارة ((خدموا القديسين)). وهم لم يفعلوا فقط في الماضي، بل ما زالوا يفعلون.
وهكذا حثّ الكاتب المسيحيين على أن يثمروا أعمالًا صالحة. فالشجرة الصالحة تُعرف من ثمارها. والثمار في حياتنا نحن مسؤولون عنها. غير أن مبدأ (أو جذور) الايمان زُرع فينا بنعمة الله، وهكذا يكون كل ثمر نتاج قدرة الله وصلاحه. هذا ما قاله بولس لاهل أفسس: ((الله الغني بالرحمة وبمحبّته الفائقة لنا، أحيانا مع المسيح بعدما كنّا أمواتًا بزلاتنا. فبنعمة الله نلتم الخلاص... نحن خليقة الله، خُلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدّها الله لنا من قبل لنسلك فيها)) (2: 4 - 10). وقال أيضًا لأهل فيلبي (2: 21 - 31): ((إعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله يعمل فيكم ليجعلكم راغبين وقادرين على إرضائه)). وقال لأهل كورنتوس: ((هو لم يعمل، بل نعمة الله عملت فيه)) (1 كور 15: 10). أما عب فترى في هذا العمل باسم المسيح، علامة تدلّ على أن الله يعمل فيهم. فهذه المحبّة التي ترضي الله هي في الوقت عينه تجلّ لحنانه.
((وإن ما نروم فقط أن يبدي كل واحد منكم هذا الاجتهاد بعينه، لكي يحفظ، حتى المنتهى، كمال رجائه، لئلاّ تصيروا متثاقلين، بل تقتدوا بالذين، بإيمانهم وطول أناتهم، يرثون المواعد)) (6: 11 - 12)
ويعلن الكاتبُ رغبته في أن يرى قرّاءه يتقدّمون في الحياة المسيحية. هو يتوق أن يرى كل واحد، على مثال الراعي تجاه خرافه، على مثال الأب تجاه أولاده. وهذا التقدّم لن يكون لفترة قصيرة، على مثال حبّة القمح التي جُعلت في أرض ترابها قليل: نبتت بسرعة ويبست بسرعة. بل يصل هذا التقدّمُ إلى المنتهى (مت 10: 22؛ مر 13: 13). وما يسند كل هذا هو الرجاء المؤسّس على قدرة الله، والذي هو دفع ديناميكي يقودنا إلى الهدف.
غير أن التكاسل والتهامل ما زالا يهدّدان هذه الجماعة. لهذا كان مثل الآباء، وأبطال الايمان في الماضي: نالوا المواعيد وآمنوا بها مع أنهم لم يروها تتمّ. فعبر إيمانهم بنعمة الله وجدّهم وطول أناتهم الذي جعلهم يشهدون لحيويّة رجائهم، دلّوا على أنهم ينتمون إلى جماعة الذين ورثوا المواعيد فصارت لهم. فرغم الضيق والمحن، آمنوا واحتملوا، وهم متأكدون أن رجاءهم بالبركة الآتية لا يخيب. هناك مثل ابراهيم، وهناك بشكل خاص مثل يسوع المسيح الذي هو بداية إيماننا ونهايته. فماذا ننتظر لنقتدي بالآباء، بل لنقتدي بالمسيح الذي سيأتي الكلام عنه بعد الكلام عن ابراهيم (6: 13ي).

خاتمة
بعد خطر القساوة والتحجّر (3: 7ي)، دلّ الكاتب على خطر التساهل والتكاسل وبطء الفهم، وكلا الخطرين يقودان إلى الموت. ما زال المؤمنون (أو بعضهم) أطفالاً يحتاجون إلى طعام الاطفال، ما زالوا في ((المرحلة الابتدائيّة)) ولم يصلوا إلى كمال المعرفة، كما لم ينضجوا بعد فاحتاجوا إلى أن يقول لهم بولس الرسول: ((لا تكونوا أطفالاً في تفكيركم)) (1كور 14: 20). فمن يبقى طفلاً، يدرك كالطفل، يفكر كالطفل، وهكذا تكون معرفته ناقصة (1كور 13: 9 - 11). لهذا، بدأ كاتب عب فهدّدهم تهديدًا سيستفيد منه ايرونيموس ليكلّم الشماس سابينيانس الذي غرّر بفتاة عذراء، ويحثّه على التوبة (رسالة 741). ثم سار في خطّ الانبياء، فأورد كلمة الرجاء: حياتهم أفضل، خلاصهم قريب. يبقى أن يعملوا له بخوف ورعدة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM