الفصل الثالث عشر: استعدادات السامعين

الفصل الثالث عشر

استعدادات السامعين
5: 11 - 6: 3

دخلنا في القسم الثالث الذي يبدأ في 5: 11 وينتهي في 10: 39. وها نحن في المطلع (5: 11 - 6: 20) الذي يتألّف من مقطعين. الأول (5: 11 - 6: 12) هو إرشاد يحث فيه الكاتبُ المؤمنين على التطلّع إلى الاطعمة القوية، لا إلى اللبن، ويدعوهم إلى الرجاء لا إلى الحائط المسدود. والثاني (6: 13 - 20) هو عرض لاهوتي حول الوعد لابراهيم. أما 6: 20 فيستعيد الاعلان الذي سنقرأه في الاتجاه الاول (7: 1 - 28): حبر على رتبة ملكيصادق.
أما المقطع الأول فجاء في قسمتين. الأولى (5: 11 - 6: 3) تعرض الحالة. والثانية (6: 4 - 12) تدعو إلى الرجاء رغم الحالة القاسية التي تتخبّط فيها الجماعة. نتوقّف هنا عند القسمة الاولى التي تشير إلى استعدادات السامعين، على أن نعود في فصل لاحق إلى القسمة الثانية التي تحمل التحذير من الجحود والتحريض على الثبات.

1 - تفسير الآيات
تُطرح المسألة أولاً: عرض عميق وسامعون كسالى (5: 11). ثم يتوسّع الكاتب في المسألة (5: 12 - 14): هل نكون معلِّمين أم نبقى على مستوى طلاّب مبتدئين. هل نبقى على مستوى اللبن أم نطلب الطعام القوي؟ هل نبقى أطفالاً صغارًا أم نطلب الكمال فنصير أناسًا بالغين؟ وفي النهاية (6: 1 - 3)، يأتي القرار الذي نتّخذه: لا نعود إلى ((التعليم الأولي))، بل نجتهد لكي نرتفع إلى الكامل.

أ - المسألة (5: 11)
((كلام كثير)). تلك كانت طريقة الرواقيين في بداية خطبهم. هكذا يلفتون الانتباه إلى أهميّة الموضوع وإلى صعوبة السؤال الذي سيُطرح. هي صعوبة العرض (ديسارمينوتوس، لا يرد إلاّ هنا في الكتاب المقدس). لا بسبب عمق التعليم، ولا بسبب عدم كفاية عند المفسّر، بل بسبب عدم كفاية عند السامعين.
نقرأ ((نوتروي تايس أكوايس)): ثقال الآذان، وبالتالي: بطيئو الفهم، ((كسالى))، لا يفهمون (رج 6: 12، لا نجد بعدُ هذه العبارة في العهد الجديد). رج سي 4: 29 (مع بارايمانوس)؛ 11: 12: العاجز، الضعيف، المتراخي. إنه يميّز المتهاملين المتراخين تجاه التعليم المسيحيّ.
كان القرّاء في وقت اهتدائهم جائعين لسماع التقاليد الانجيلية (2: 3). فصاروا (غاغوناتي، صيغة الكامل. ما زالوا في هذه الحالة حتى الآن) متكاسلين، متهاملين. ما عادوا يفهمون. وربما لا يريدون أن يفهموا بعد أن تبدّل الموضع بالنسبة إليهم.

ب - توسّع في المسألة (5: 12 - 14)
أولاً: بين اللبن والطعام القويّ (آ 12 - 13)
تعطي آ 12 البرهان على ما وصل إليه هؤلاء المؤمنون (كاي غار)، وتشدّد على كسلهم وما فيه من خطيئة. كان يجب (أوفايلو)، ولكنهم لم يفعلوا. فبعد الاهتمام والتنشئة المسيحية الأولى، كان يجب على المؤمنين أن يواصلوا التعليم بحيث يعلّمون الآخرين بدورهم، يصيرون معلمين (ديدسكالوي). ولكن هؤلاء ((العبرانيين)) لم يتقدّموا في معرفة إيمانهم، بل تراجعوا ونسوا التعليم الأوليّ في المسيحية. هم يحتاجون إلى أن يعودوا (بالين، من جديد) إلى المدرسة، أن يتعلّموا الأمور الأولى. ((ستويخايون)) يدلّ على الحروف الابجديّة التي يتعلّمها الأطفال. ثم يدلّ على الدروس الأولى (غل 4: 3). ((لوغيون)): قول الله بواسطة الانبياء، من أجل الناس (أع 7: 38): فيه الوحي والوعد، والفريضة وقاعدة الحياة. هو يدلّ على مجمل الحياة المسيحيّة على مستوى العقيدة والأخلاق (1بط 4: 1). ترد هذه اللفظة في روم 3: 2 فتدلّ على مجمل الكتب المقدّسة. أترى يدعو الكاتب قرّاءه إلى معرفة الكتب المقدسة، قبل الكلام عن ملكيصادق؟!
بعد التعارض تلميذ - معلّم، هناك تعارض طفل (نيبيوس، لا يتكلم) - بالغ. فمراحل الحياة الروحيّة، شأنها شأن مراحل الحياة الجسديّة، تنقسم بين طفولة ونضوج، مع طعام خاص بكل مرحلة: اللبن، الطعام القوي (1كور 3: 1 - 3). كان المعلّمون يسمّون تلاميذهم: ت ي ن و ق و ت: الذين يرضعون.
فالمعمّدون الجدد تعلّموا الحقائق الأولى (6: 1 - 2)، ولكنهم جهلوا لاهوت كهنوت المسيح، وما اختبروه (آ 13). نقرأ ((ابايروس)) (غير خبير) الذي لا نقرأه إلاّ هنا في العهد الجديد، وينطبق على مستوى الطعام الذي نهضمه والشراب الذي نستسيغه. هذا ما يمكن أن نقوله أيضًا عن المعرفة.
((ديكايوسيني))، البرّ (ص د ق) الذي اوحي بالمسيح (روم 3: 21 - 26؛ 10: 3). هو قوّة في الحياة الجديدة (روم 5: 21 - 21). لا يأتي بأعمال الشريعة (نوموس، روم 9: 30)، بل بوساطة المسيح الكهنوتية كثمرة آلامه وموته.
ثانيًا: طعام الكاملين (آ 14)
((ستاريا تروفي))، يغذّي على المستوى العقليّ وعلى المستوى الأدبيّ. ولا يستفيد منه إلا الكاملون (تالايوي) الذين وصلوا إلى ملء نموّ الحياة المسيحيّة (1 كور 2: 6؛ أف 4: 3) ودلّوا على عمق تمييزهم الروحيّ (1كور 2: 15؛ 14: 20). ونحن لا نصل إلى هذا النضوج الروحيّ بدون إرادة ومجهود. لذلك ننمّي أداة التمييز (دياكريسيس)، ذاك الحسّ (أيستيتيريون، لا ترد إلا هنا في العهد الجديد) الذي به نفهم (رج ايستيسيس، غل 1: 9)، نروّض أداة التمييز، ننشّطها (غمنازو، 12: 11؛ 1تم 4: 7). ((هاكسيس)) هي وضع أو حالة ننالها بالعادة أو بالخبرة (سي 30: 14)، تدلّ على مستوى الكمال لدى البالغين مع صفاتهم الروحيّة.
في هذا المجال يقول الذهبي الفم: ((أية وسائل نمتلك كي نتمرّس؟ ليس لنا سوى أن نسمع كلام الله على الدوام، وأن نتقوّى في معرفة الكتب المقدسة... ولكننا اليوم لا نعرف الكتب المقدسة رغم كل الاحتياطات التي اتّخذها الروح القدس لكي تُحفظ هذه الوديعة)). فحسب المفهوم البيبلي، تمييز (روم 14: 1؛ 1كور 12: 10) الخير والشرّ يلخّص معرفة الحقيقة، ومبادئ الاخلاق، مع ارتباط القلب بما عرفنا ووضعنا قيد العمل (تك 3: 5؛ تث 1: 39؛ 2صم 19: 36؛ 1مل 3: 9؛ اش 7: 15 - 16). نحن هنا أمام تعليم يبدو غذاء نختاره من أجل صحّتنا الروحيّة: نختار ما هو صالح، ما هو حقّ (روم 2: 18؛ فل 1: 9 - 10). وهذا ما لا يصل إليه ((الاطفال)). يبقى أن نخرج من الطفولة.

ج - قرار نتخذه (6: 1 - 3): ندع التعليم الأولي
إن رباط هذه الآيات بما سبق يتمّ مع ((ديو)) (لذلك). نستطيع القول إن الكاتب اعتبر أن قرّاءه هم في الواقع من الكاملين (سيعود إلى ذلك في 6: 9 بعد تهديد قاس في 6: 4ي). لهذا سيعالج معهم قمّة التعليم. يبقى عليهم أن يخرجوا من حالة الطفولة ((ليهضموا)) ما سيعرضه لهم: ((تالايوسيس)) (ما هو كامل) هو هذا التعليم حول كهنوت المسيح. غير أن بعضًا منهم ما زال فاترًا (يرتدّ، يجحد). فليسع إلى الطعام القويّ. اهتدوا منذ زمن بعيد، ولكنهم يستطيعون أن يدركوا هذا اللاهوت الذي هو أفضل دواء لهذا الفتور. وهذا الوضع الروحيّ الذي يضمّ الايمان القديم والاهمال العقليّ يتطلّب تربية على مستوى قرّائه. بمَ تقوم هذه التربية؟
أولاً: عودة إلى الأساس (6: 1)
أن لا يعودوا إلى التعليم الأوليّ (أرخيس) الذي يُعطى ((للمبتدئين))، وأن يقبلوا التنشئة على تعليم متقدّم، ناضج. فليحملوا (فاروماتا) أنفسهم نحو الكمال، ولا ينتظروا أن يُحملوا: ليفتحوا آذانهم، وليهتمّوا بتعليم يقدّم لهم. التعليم الأولي يدور حول حياة المسيح على الأرض مع تحريض على الأمانة للانجيل. ولكن عب لا تقف هنا، وها هي تورد ستة بنود ((أساسيّة)) في التنشئة المسيحية، ويرد كل بندين معًا. أول زوج: التوبة والايمان، نحن هنا على المستوى الاخلاقيّ السابق للدخول إلى الكنيسة، في وجهه السلبيّ ووجهه الايجابي. ثاني زوج: المعمودية ووضع اليد. نحن هنا على المستوى الاسراريّ مع طقوس تمنح النعمة والروح القدس. ثالث زوج: القيامة والدينونة. نحن على المستوى الاسكاتولوجي مع رجاء المستقبل والحياة بعد الموت. بدأنا بالتوبة ووصلنا إلى العواقب الاخيرة مع الموت والدينونة.
((الاعمال الميتة)) (إرغا نكرا، 9: 14، لا نجدها إلا هنا في العهد الجديد) هي التي لا نعملها مع الله الحيّ (3: 31)، فلا تقود بالتالي إلى الحياة الفائقة الطبيعة. هي أعمال ميت (مت 8: 2؛ يو 5: 24؛ 1تم 5: 6). قال التلمود (بركوت 18 ب): الاشرار هم موتى حتّى خلال حياتهم. الاعمال الميتة عقيمة (أكاربا، لا تحمل ثمرًا، يو 2: 17، 26)، باطلة (أون في العبرية، عا 5: 5؛ أي 4: 8...). فكأنها لم توجد (روم 7: 8). هل نضع أعمال الشريعة الموسويّة في هذه الخانة؟ ربما. فهي في أي حال لم تعد نافعة من أجل الخلاص وغفران الخطايا (نذكر هنا كل ما في سفر اللاويين مثلاً من فرائض عمليّة تعدّاها الزمن).
((ماتانويا)) هي التوبة. هي التجرد والتخلّي. هي الاهتداء. دعا المعمدان الناس إلى التوبة (مر 1: 15) ومثله فعل يسوع (مت 11: 20 - 12) والرسل (أع 2: 38؛ 17: 30). يُدعى الناس إلى الايمان الجديد ويُطلب منهم أن يتركوا معتقداتهم القديمة وطريقة حياتهم (أع 8: 22). فان تضمّن اللفظ التحسّر على الضلال السابق والتنكر لخطايا اقترفناها، فهو يتضمّن بشكل خاص تبديلاً تامًا في الاستعدادات الباطنيّة. ذاك هو المعنى هنا (آ 6) مع متطلّبة أولى تُفرض على المعمّدين الجدد: أن يتركوا الحياة الوثنية (أو اليهودية) بنظراتها وعاداتها وممارساتها. وهذا الاهتداء يرتبط بالايمان (بستواين) الذي يقود (حرف الجر إبي مع المنصوب) إلى الله (مت 18: 42؛ أع 9: 42) من أجل الدخول في حياة جديدة. ذاك هو الاساس (تاماليون) في المسيحيّة.
ثانيًا: تعليم يتواصل (آ 2 - 3)
لا شكّ في أن هذا التعليم (ديداخي) الذي سبق تقبّل المعمودية، كان قد أعطي (تي 3: 4 - 7): أصله، مدلوله، فاعليّته، طقوسه. جاءت لفظة المعمودية في صيغة الجمع (ببتسمون)، وهذا ما لم نعتد عليه. هناك من تحدّث عن تغطيسات ثلاثة (ترتليانس)، عن عدد المعمّدين الكبير (تيودوريتس)، عن العماد بالماء والدم والرغبة (أوغسطينس)، عن إعادة منح السرّ عند الهراطقة (اثناسيوس)، عن غسل جسديّ وغسل روحيّ. ولكن يبدو أننا أمام المعمودية الاسراريّة (ببتسما) من جهة، والغسل التطهيري من جهة ثانية كما عند اليهود (ببتسموس): عماد يوحنا، عماد المهتدين الجدد، الغسل عند الاسيانيين.
ذُكر وضع اليد (2 تم 1: 6) مع المعمودية. هذا يعني أنه كان يمارس في ذات الاحتفال. فوضعُ اليد على رأس المعمّدين، ترافقه الصلاة (أع 8: 15). ويمنح الروحُ القدس (آ 4؛ أع 8: 18 - 19)، ينبوع كل المواهب ومبدأ الحياة المسيحيّة. في هذا المجال، يجب أن ينال الموعوظ التعليم لئلا يسقط في ضلال تلاميذ أفسس (أع 19: 1ي). ترتبط النعمة (خاريس) بالعماد، والمواهب (خارسماتا) بوضع الأيدي.
أما قيامة الموتى والدينونة الابدية اللتين نجدهما معًا في التعليم الانجيلي (يو 5: 21 - 30)، فلا يمكن أن تكونا من التعليم الأوليّ حول المسيح. فقيامة يسوع هي نموذج قيامتنا، ولا نستطيع أن نؤمن بهذه دون أن نؤمن بتلك. ذاك هو أول موضوع في الكرازة الرسولية لدى اليهود (أع 5: 2؛ 23: 6؛ 26: 6 - 8) كما لدى الوثنيين (أع 17: 18 - 22؛ 1 كور 15: 12 - 14). أما الدينونة (كريما، رج كريسيس، 9: 27) الثابتة التي تفصل إلى الأبد (أيونيوس، آ 9) التائبين والمؤمنين عن الاشرار، والتي يعلنها الربّ في مجيئه الثاني (أع 24: 15، 25)، فهي موضوع ايماننا وانتظاره، وموضوع الكرازة الرسوليّة (أع 17: 31). فالتنشئة المسيحية كانت اسكاتولوجيّة. هنا نقرأ الذهبي الفم: ((تلك هي البداية. تلك هي الحقائق الأولى التي نتعلّمها مع أن حياتنا ليست بعدُ كاملة. فلكي نتعلّم أن نقرأ، يجب أن نعرف أولاً الاركان (ستويخايا)، ولكي نتعلّم أن نكون مسيحيين، تكون الحقائقُ المعروضة هنا تلك التي يجب أن نعرفها قبل كل شيء فنقتنع بها كل الاقتناع. فان احتجنا بعد إلى أنوار إضافيّة، فهذا يعني أن ديانة المسيح لم تقم في قلبنا. فقبل كل شيء، يجب أن تكون هذه الحقائق الأساسيّة ثابتة فينا)).
وتعود آ 3 إلى آ 1 بواسطة ((نرتفع إلى الكامل)): سأقدّم لكم درسًا، ولن اكتفي بالتعليم الأولي، بل أصلُ معكم إلى الحكمة الرفيعة. وهذا لا نحصل عليه سوى مرّة واحدة (آ 4ي). إن شاء الله. فالله هو الذي يبارك مشروعنا. يبقى علينا أن نتركه يقودنا (فاروماتا).

2 - قراءة إجمالية
((ولنا في هذا الموضوع، كلام كثير وصعب الشرح، لما أنتم عليه من بطء الفهم. فأنتم الذين كان عليهم أن يكونوا معلِّمين، تحتاجون إلى من يعلمكم الاركان الأولى (الرئيسية) لأقوال الله)) (5: 11 - 12أ)
إن الموضوع الذي أشار إليه الكاتب (كهنوت المسيح الذي ينتمي إلى رتبة ملكيصادق ويكوّن كهنوته)، هو مهمّ جدًا. لذلك يجب أن يُفهم، وإن كان السامعون بطيئين، متكاسلين، لا يريدون أن يتقدّموا في التعليم. تراخوا فأثّر تراخيهم على تنبّههم واستعدادهم لتقبّل الطعام القويّ. فإن لم يتخلّصوا من جحودهم وما فيه من خطأ، يجدون نفوسهم مثل آبائهم في أيام حزقيال: ((بيت تمرّد، لهم عيون ليروا ولكنهم لا يرون، لهم آذان لكي تسمع ولكنهم لا يسمعون)) (12: 2؛ رج إر 6: 01؛ زك 7: 11 - 12). لهذا، وعى الكاتب صعوبة المهمّة التي يواجهها، وطلب أن يعلّم سامعيه حول كهنوت المسيح.
منذ وقت نال هؤلاء المؤمنون التعليم. مرّ على اهتدائهم سنوات. هل بردت المحبّة في قلوبهم (مت 24: 12)؟ فماذا ينتظرون لكي يتقدّموا في التعليم بحيث يصيرون بدورهم ((معلّمين)). ولكنهم ظلّوا على مستوى الأطفال، وهذا لخزيهم، فكيف يمكن أن يتسلّموا مسؤوليّات داخل الجماعة؟
((بتّم في حاجة إلى اللبن (= الحليب) لا إلى الطعام القويّ. ومن لا يزال على اللبن لا يكون خبيرًا بتعليم البرّ لأنه طفل صغير. أما الطعام القويّ فهو للكاملين الذين تروّضت حواسهم بالممارسة على التمييز بين الخير والشر)) (5: 12ب - 14)
من لم يتقدّم في التعليم، ليس أفضل من طفل صغير على مستوى الفهم الروحي: لا يليق به إلا اللبن الذي هو طعام أشخاص غير ناضجين. لا يليق به الطعام القويّ الذي هو التعليم الكامل. هذا يعني أن نموّه توقّف (أو هو سقط) فظلّ على مستوى الطفولة. مثل هؤلاء هم ضعاف الايمان، لا أقوياء. عرف بولس في كورنتوس وضعًا مماثلاً، فقال للمسيحيين: ((ولكنني أيها الاخوة، ما تمكّنت أن أكلّمكم مثلما أكلّم أناسًا روحانيين، بل مثلما أكلّم أناسًا جسديّين (ما زالوا على مستوى البشرية، على مستوى اللحم والدم) هم أطفال بعد في المسيح. غذّيتكم بالحليب (اللبن) لا بالطعام القويّ، لأنكم كنتم لا تطيقونه، ولا أنتك تطيقونه بعد)) (1كور 3: 1 - 2). وضع مؤلم. وهو لا ينحصر في جماعة واحدة، ويمكن أن يكون في جماعتنا.
من يكون هكذا، يدلّ على أنه ليس ((خبيرًا بتعليم البرّ))، أي التعليم حول البرّ، وهو تعليم يشدّد على المسيح الذي هو برّنا (1كور 1: 30؛ 2كور 5: 21). هذا التعليم هو أساسيّ في الايمان المسيحيّ. فالتعليم المتين (والطعام القويّ) هو للكاملين، الذين تطوّروا من ضعف الطفولة إلى البالغ الذي يقدر أن يكون مسؤولاً. في النظرة البيبليّة، لا كامل إلاّ الله. والنضج التام الذي يتوافق مع الكمال قد حصل على المستوى البشريّ (2: 10؛ 5: 15؛ 5: 8 - 9) في الابن المتجسد، يسوع المسيح. لهذا، يكون الكمال هدفًا يتوق إليه المسيحيون، فيحاولون أن يسيروا في اتجاهه (6: 1؛ رج 12: 1 - 2؛ مت 5: 48)، ليكونوا متشبّهين بالرب (1يو 3: 2).
إن نضوج المسيحيّ هو نسبيّ، بالنسبة إلى الكمال الذي في المسيح (2 كور 3: 18). لهذا أعلن بولس: ((لا أدّعي أني فزت بذلك أو بلغت الكمال، بل أسعى لكي أفوز بما لأجله فاز بي المسيح يسوع)) (فل 3: 12). إذن، معيار النضوج هو ملء الكمال في المسيح (أف 4: 12). فالذين لم يغتذوا ولم يتقوّوا بالطعام القوي، بالتعليم الصحيح، هم بعدُ أطفال وما نضجوا على المستوى المسيحي: إنهم يحتاجون احتياجًا عظيمًا أن ينموا في المسيح (أف 4: 15). ينمون على المستوى الاخلاقي في تمييز الخير من الشرّ، وخصوصًا ينمون على المستوى التعليميّ، فيميّزون الحقّ من الضلال.
((لذلك، فلندع التعليم الأوليّ عن المسيح، ولنرتفع إلى الكامل، من غير عودة إلى ما هو أساسيّ، إلى التوبة من الأعمال الميتة، والايمان بالله، والتعليم بشأن المعموديات، ووضع الأيدي، وقيامة الاموات، والدينونة الأبدية... وهذا ما سنصنعه إن وفّق الله)) (6: 1 - 3)
مع ((لذلك)) نفهم الرباط الوثيق والمنطقي بين هذه الآيات والتي سبقت. فالكاتب وبّخ القرّاء (سيوبّخهم في آ 4 ،أما هنا فهو يشجّعهم) لأنهم توقّفوا عن النموّ المسيحي: ظلّوا غير ناضجين على المستوى الروحي. تراخوا وما اجتهدوا لكي يفهموا. وها هو الآن يحثّهم على أن يفعلوا شيئًا لكي يخرجوا من تكاسلهم فيصلوا إلى النضوج. هكذا تكون لهم البركة لا اللعنة.
التعليم الأولي الذي منه ينطلق القرّاء لكي يتقدّموا نحو الكامل، يشبه ما قاله بطرس للناس يوم العنصرة (أع 2: 22). هي التلمذة (مت 28: 19، تلمذوهم ثم علّموهم بعد أن عمّدوهم) التي يتبعها التعليم (أع 2: 42). هذا التعليم هو تقديم يسوع كالمسيح والرب الذي فيه تمّت الكتب المقدسة، والذي كان موتُه حسب قصد الله الخلاصيّ، والذي قام وصعد إلى السماء. مثل هذا التعليم يطلب جواب التوبة والايمان والمعموديّة. وبالنسبة إلى الذين تعمّدوا على يد بطرس (3000)، كان ذلك انطلاقة حياتهم المسيحيّة. ولكن هل يكتفون بذلك، أم يتطلّعون إلى النضوج الروحي؟ هذا ما لم يفعله عدد من قرّاء عب. أهملوا التعليم اللاحق الذي يوجَّه إليهم، فهدّدهم التوقُف في الطريق وربّما الارتداد عن الربّ.
ذكرت الرسالة بعض هذا التعليم: التوبة التي تنقلنا من الأعمال الميتة، إلى الأعمال التي تقود إلى الحياة، والايمان الذي هو استسلام لله، وتعلّق بتعليمه. هذا يعني على المستوى السلبيّ أن نتخلّى عن حياتنا السابقة وتفكيرنا السابق، ونتعلّق بالتعليم الذي يقدّمه لنا يسوع، حبر العهد الجديد. أما المعموديّة التي نلناها فتختلف عن كل معمودية أخرى، ولا سيّما تلك التي ينالها المهتدون من العالم الوثني إلى العالم اليهوديّ: عند ذاك نلبث في العهد القديم ولا نصل إلى المسيح. ويرتبط بالمعمودية وضعُ الأيديّ، الذي يشير إلى عطيّة الروح القدس. وفي النهاية، يتطرّق التعليم إلى القيامة والدينونة. أما هكذا ينتهي قانون الايمان: نترجّى قيامة الموتى والحياة الجديدة.

خاتمة
جاء كلام الرسالة توبيخًا قاسيًا بسبب تكاسل على المستوى العقليّ وعلى المستوى الروحيّ. فهذا المستوى ((البسيط)) من المعرفة الروحيّة، هو نتيجة حياة مسيحيّة شبه ميتة. هذا يعني أن الجماعة تمرّ في أزمة. فأرسل الكاتب إليها نداء (6: 1 - 3) ثم تهديدًا (آ 4 - 8) قاسيًا ليحذّرها من خطر إهمال عطايا الله. نحن هنا في الواقع أمام مجموعة صغيرة من المؤمنين، لا أمام عدّة جماعات كبيرة، إذ لا يُعقل أن يكون المسيحيون كلهم في هذه الكنائس توقّفوا على مستوى التعليم الأولي، فاستحقّوا هذا اللوم. ولكن يبقى أن كلام الرسالة يتوجّه إلينا. لنسمع كلام بولس الرسول: من هو واقف فليحذر من السقوط. وكلام عب حول أرضنا التي إن لم تُنبت حبًا طيبًا تنبت زؤانًا، تنبت شوكًا وحسكًا فتُرذل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM