الفصل الثاني عشر: مطلع القسم الثالث

الفصل الثاني عشر

مطلع القسم الثالث
5: 11 - 6: 20

توجّه الكاتب إلى القرّاء. بدأ فوبّخهم. ثمَّ هدّدهم: الويل لهم إن أنبتوا الشوك والحسك. وأخيرًِا شجّعهم: أنتم في حالة أفضل وأقرب إلى الخلاص.
ما زال القرّاء متعلّقين بالشريعة والعبادة الموسويّة، أو امتحنهم الضيق والاضطهاد، فما استطاعوا أن يفهموا التعليم الجديد بما فيه من عمق. فهم ما زالوا يحتاجون إلى بداية التعليم المسيحيّ، لا الطعام القوي الذي يليق بالكاملين. هذا ما نكتشفه في مقطعين: تحذير وتحريض (5: 11 - 6: 12). عرض لاهوتيّ ينطلق من وعد ابراهيم (6: 13 - 20).

1 - المقطع الاول (5: 11 - 6: 12): استعدادات السامعين
5: 11 ولنا في هذا الموضوع، كلام كثير وصعب الشرح،
لما أنتم عليه من بطء الفهم.
5: 12 فأنتم الذين كان عليهم أن يكونوا، مع الوقت، معلّمين،
تحتاجون من جديد إلى من يعلّمكم
الركان الأولى لأقوال الله،
وبتّم في حاجة إلى اللبن
لا إلى الطعام القويّ.
5: 13 ومن لا يزال على اللبن
لا يكون خبيرًا بتعليم البرّ
لأنه طفل صغير.
5: 14 أما الطعام القويّ فهو للكاملين
الذين تروّضت حواسهم بالممارسة على التمييز بين الخير والشرّ.
6: 1 لذلك، فلندع التعليم الأوليّ عن المسيح،
ولنرتفع إلى الكامل،
من غير ما عودة إلى ما هو أساسيّ.
إلى التوبة عن الأعمال الميتة، والايمان بالله،
6: 2 والتعليم بشأن المعموديّات، ووضع الايدي،
وقيامة الأموات، والدينونة الابدية.
6: 3 وهذا ما سنصنعه إن وفّق الله.
الهدف الذي عبّر عنه 6: 3 (هذا ما سنصنعه) يستعيد ما قيل في 5: 11 (لنا كلام كثير). غير أن الكاتب لا يجد من المناسب أن يشير إلى هذه العلاقة بلفظة تضمينية. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، سوف نرى أن 6: 4 - 12 يؤلّف وحدة كاملة.
أما القسمة التي نقرأها (5: 11 - 6: 12) فهي مبنية كلها على النقائض. فـ((الاقوال الكثيرة والشرح الصعب)) (5: 21) يعارض ((الاركان الأولى لأقوال الله)) (5: 12ب). وبين هذين النوعين من التعليم، نجد نقيضتين أخريين تدلاّن على استعدادات السامعين: صاروا بطيئي الفهم (كسالى) في التعليم (5: 11)، مع أنه كان عليهم أن يكونوا معلّمين مع الوقت (5: 12أ). ونلاحظ في هذه البداية، توازيًا متداورًا (تعليم: استعدادات - استعدادات: تعليم): بعد أن ذكر الكاتب نوعيّة التعليم، ذكر الاستعدادات التي تقابل التعليم، والعكس بالعكس. هذه الطريقة تعكس الوضع وما فيه من شواذ: ماذا سيفعل الكاتب بالعرض اللاهوتيّ العميق الذي يريد أن يقدّمه إن وجد أمامه سامعين لم ((يهضموا)) بعدُ عناصرَ التعليم الأوليّ؟
وتكتمل اللوحة بفضل استعارة: اللبن (الحليب) يدلّ على أول التعليم. والطعام القويّ على التعليم السامي الذي يتوجّه إلى الكاملين (5: 12). بعد ذلك، يتوسّع الكاتب في هذه المقابلة، فيضيف إليها الألفاظ التي توافق استعدادات السامعين: ميّز بين الأطفال والبالغين، تمييزًا يشكّل وصلة بين 5: 13 و5: 14.
تتحدّث جملة المقدمة (5: 11) عن اثنين: كلام كثير، بطء الفهم. ويأخذ 5: 12 في البداية ذات الترتيب: معلّمين، الاركان الأولى. ثم يتواصل في ترتيب معاكس: اللبن، الطعام القوي. وهكذا نكون في تواز متداور. وتستعيد آ 13 - 14 ألفاظ الاستعارة كما جاءت في البدء، من أجل بنية متداورة: لبن، طفل، بالغون، طعام قويّ. نلاحظ في آ 13: لبن، تعليم البرّ، طفل. وفي آ 14: الطعام القوي، البالغون. وبُنيت الخاتمة (6: 1 - 3) بحسب هذا النموذج: تُركت الاركانُ الأولى وبقي البالغون. ذُكرت الاسس. وفي النهاية جاء القرار: هذا ما سنصنع.
ونتابع قراءة النصّ حتى نصل إلى عبارة ((بطيئي الفهم)) التي تشكل تضمينًا مع 5: 11:
6: 4 فإنه من المحال
على الذين أنيروا مرة واحدة وذاقوا الموهبة السماويّة
وأشركوا في الروح القدس
6: 5 وتذوّقوا كلمة الله الطيّبة، وقوّات الدهر الآتي
6: 6 ثم سقطوا،
إن (من المحال) يجدَّدوا ثانية بالتوبة
إذ إنهم يعيدون بأنفسهم صلب إبن الله ويُشهرونه.
6: 7 فإن الأرض إذا ما ارتوت من الأمطار المتوافرة عليها
وأخرجت نباتًا يصلح للذين يحرثونها،
تنال البركات من الله.
6: 8 وأما إن أنبتت شوكًا وحسكًا،
فتُرذل، وتدانيها اللعنة،
وعاقبتها الحريق.
6: 9 إننا وإن كنا نتكلّم هكذا عنكم، أيها الأحبّاء،
لا ننفكّ نعتقد
أنكم في حالة أفضل وأقرب إلى الخلاص.
6: 10 لأن الله ليس بظالم
حتّى ينسى عملكم، والمحبّة التي أبديتموها لأجل اسمه، حين خدمتم القديسين وتخدمونهم
6: 12 وإنما نروم فقط أن يبدي كل واحد منكم هذا الاجتهاد بعينه، كي يحفظ، حتى المنتهى، كمال رجائه.
6: 13 لئلاّ تصيروا متثاقلين (بطيئي الفهم)
بل تقتدوا بالذين، بإيمانهم وطول أناتهم،
يرثون المواعد.
لا نجد هنا، كما في المقطع السابق، رواحًا ومجيئًا بين قطب وآخر، بل توسّعات رحبة. فنميّز ثلاثة مقاطع. أولاً: استحالة توبة ثانية (6: 4 - 6). ثانيًا: تشبيه أخذ من عالم الزراعة (6: 7 - 8). ثالثًا: كلمات تشجيع (6: 9 - 12). هل ترتبط هذه المقاطع بعضها ببعض؟ نجد الجواب في المقطع الثاني: الأرض التي تنال المطر (آ 7) تذكّرنا بنفس تغذّت بالموهبة السماويّة (آ 4). والشوك والحسك (آ 8) يشيران إلى السقوط (آ 6). والتهديد بالنار (آ 8) يعلن العقاب. ونضيف: لا نجد في آ 7 - 8 فقط نظرة معتمة. فهناك لوحة تصوّر الخصب وبركة الله. وهذا ما يساعد على تفسير آ 9 - 12. فنحن نقرأ في آ 9 ما يلي: نعتقد أنكم في حالة أفضل وأقرب إلى الخلاص. ((حالة أفضل)) هي التي تدلّ على بركة آتية من الله (لا الشوك والحسك). فصورة الأرض المباركة تشير إلى الخلاص. وهذا ما يُثبته ولي النص: ففي نهاية المقطع، يعبَّر عن النظرة إلى الخلاص بعبارة ((ورث المواعد)) (6: 12)، ويحدَّد موضوع هذه المواعد بكلمات البركة: نعم أباركك (6: 14).
كيف نحلّل التفاصيل؟ نلاحظ في آ 4 - 6 عبارات واسعة تقدّم مواهب الله كما في تطواف احتفاليّ، ثم السقوط المفاجئ (باراباسونتاس) الذي يدلّ على سقوط الجاحدين اللامتوقّع والذي يقود إلى الشك. ومن جهة الاسلوب، بعد الصور (أناكاسينيزاين، تجدّد) نجد اسمي فاعل. وبعد إعلان الفرضيّة (الأرض التي ارتوت)، نجد مرحلتين في مقابلة متوازية.

2 - المقطع الثاني (6: 13 - 20): قسَم الله
6: 13 فإن الله وعد ابراهيم
ولم يكن بالامكان أن يُقسم بما هو أعظم منه،
أقسم بنفسه، قائلاً:
6: 14 مباركة أباركك
وتكثيرًا أكثّرك.
6: 15 وهكذا بطول الأناة نال الموعد.
6: 16 إن الناس يقسمون بمن هم أعظم منهم،
وينقضي كل خصام بينهم
بالقسم كضمانة
6: 17 لذلك، لما شاء الله أن يزيد ورثة الموعد بيانًا لعدم تحوّل عزمه،
توسّط بالقسم
6: 18 حتّى نحصل بميثاقين لا يتحوّلان لا يمكن الله أن يُخلف فيهما،
على واقع قويّ،
نحن الذين وجدوا ملجأ،
إلى التمسّك الوثيق بالرجاء الموضوع أمامنا
6: 19 إن لنا فيه شبه مرساة للنفس، أمينة وراسخة، تنفذ إلى ما وراء الحجاب
6: 20 إلى حيث دخل يسوع لأجلنا كسابق
وصار حبرًا إلى الأبد، على رتبة ملكيصادق.
هناك كلمة عاكفة تؤمّن الرباط مع المقطع السابق: وعد (6: 13). رج 6: 12: المواعد. وسيظهر ((الوعد)) أيضًا مرتين: في 6: 15 مع فعل أطال باله الذي يذكّرنا بما في 6: 12 (طول أناة)، وفي 6: 17 مع لفظ ((وارث)) الذي يذكّرنا بفعل ورث في صيغة اسم الفاعل في 6: 12. أشار 6: 11 إلى الرجاء، فأكّدت نهاية المقطع (6: 18 - 19) متانة هذا الرجاء. وهكذا نلاحظ تماسك هذا المقطع في قلب المطلع كله.
أما هذه الآيات الثماني (آ 13 - 20) فتتوزّع في ثلاث قسمات (13 - 15؛ 16؛ 17 - 20). تتعلّق الأولى بالقسَم الالهي، وتأخذ الثانية قسَم البشر من أجل المقابلة مع قسم الله. قدّمت آ 13 - 15 الواقع الذي يجب أن يفسَّر: ضمّ الله إلى الوعد قسَمًا فكان أساس طول أناة إبراهيم ونجاحه. ذكر الموعد في البداية (كما تلفّظ به الله) وفي النهاية (كما حصل عليه ابراهيم). وحلّ فعل ((أقسم)) في قلب هذه الآيات حيث تكرّر مرتين. وأرادت القسمة الأخيرة (17 - 20) أن تستخلص التعليم، في مشابهة كل المشابهة للقسمة الأولى. في آ 13: نعم ابراهيم، الموعد، الله. في آ 17: الله، نعم الوارثون، الموعد. نقرأ فعل أقسم في آ 14 وآ 17. وتنعكس فكرة طول الأناة (6: 15) في رسوخ المرساة في 6: 18 - 19. فالرجاء ارتبط بطول الأناة في 6: 11 - 21. وأخيرًا، إن كان ابراهيم نال الموعد (6: 15)، فرجاؤنا نفذ إلى ما وراء الحجاب (6: 199) بفضل يسوع الذي دخل لأجلنا (6: 20).
بين هاتين القسمتين المتوازيتين، تلعب آ 16 دور اللحمة، لا دور الفصل. صوّرت القسَم لدى البشر، فلاحظت سمتين اثنتين: الأولى، هي أن البشر يقسمون بمن هو أعظم منهم (آ 16أ). الثانية، هي أن القسم يحدّد المواقف بشكل نهائيّ (آ 16ب). فالسمة الأولى تجد ما يقابلها في القسمة الأولى (6: 13 - 15، أن يقسم بمن هو أعظم منه). والثانية تجد ما يقابلها في القسمة الأخيرة (6: 17 - 20، لا يتحوّلان). ويلاحظ الكاتب، على مستوى القسم (آ 16: أقسم بمن هو أعظم)، في القسمة الأولى، فرقًا بين الله والبشر (آ 13). استعمل ذات الفعل كما في آ 16أ. وعلى مستوى نتيجة القسم (لا تحوّل، آ 16ب)، أكّد الكاتب في القسمة الأخيرة تشابهًا بين الله والبشر فاستعمل الموصوف ((القسم)) كما في آ 16ب. فما يهمّه هو التشابه بين نتيجة ونتيجة. لهذا، جاءت القسمة الأخيرة أكثر الحاحًا من الأولى: شدّد فيها الكاتب على الطابع النهائي للالتزام الالهي. والفكرة القائلة بأن لا مكان للخلاف (آ 16ب)، نجدها في صفة تستعمل مرتين في آ 17 - 18(لا تحوّل). وتؤكّد نتيجة الثبات(آ 16ب) في لفظتين متماثلتين (آ 19: أمينة، راسخة).
وهكذا بدا هذا العرض اللاهوتيّ وقد توخّى أن يؤسّس أركان الرجاء المسيحيّ. وبفضل هذا الاتجاه، ربط نفسه بالتحريض الذي سبق، ووضع السامعين في أفضل الاستعدادات الروحيّة. ونلاحظ أيضًا رباطات وثيقة بين هذا المقطع عينه والفصل التالي. فإن 6: 20 أعلن بوضوح، الموضوع الذي يستعدّ الكاتب لمعالجته: الكهنوت بحسب رتبة ملكيصادق. وما لم نكن ننتظره، هو أن الانتقالة تهيّأت منذ بداية المقطوعة: فشخص ابراهيم (6: 13) سيملأ الساحة في ف 7 (7: 1 - 2 ،4، 6). وسيكون حديثٌ عن بركة نالها (7: 1 ،6 ،7: رج 6: 14) وعن قسَم إلهي (أقسم الرب، 7: 20 - 22) عرفنا بُعده في اختبارات قرأناها في 6: 16 - 18.
في هذا المقطع الطويل، ما اكتفى الكاتب بأن يكلّم قارئيه بعبارات عامة: بل أدخلهم دخولاً مباشرًا في عرضه اللاهوتي، وإن جاء 5: 11 - 6: 20 مركّبًا من عناصر مختلفة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM