الفصل العاشر: كلام الله والمسيح الكاهن

الفصل العاشر
كلام الله والمسيح الكاهن
4: 12 - 16
إن هذا النداء العملي للطاعة لله والثقة به، الذي ينهي موضوع المسيح الحبر الأمين، يتضمّن قسمين. الأول، يتعلّق بكلمة الله (آ 12 - 13) فيرتبط بالموعظة الارشاديّة (3: 7 - 4: 11) التي تعطيها أساسَها الأخير. كما يرتبط بتفوّق المسيح على موسى (3: 1 - 6) وبوحي الله الذي وصل بواسطة الملائكة والانبياء (2: 2) والابن (1: 1 - 2). قد نحصر بُعد هاتين الآيتين في إطار ضيّق إن رأينا فيهما فقط تنبيهًا جديدًا بأن لا نسقط في عدم الايمان. في الواقع، هما تعبِّران (وتختمان) أحد مواضيع الرسالة الذي بدأ بالمقابلة بين العهدين بالنظر إلى كرامة حاملي هذين الوحيين. فإن كان خدّام العهد القديم أدنى من المسيح، فيبقى أن الله هو الذي يتكلّم في العهد القديم، وأن جوهر كلامه لا يتبدّل. هذه الكلمة التي هي دومًا حاضرًا، سواء تُليت أو دُوِّنت، نسمعها ونطيعها.
حدّد الكاتب لاهوت كلمة الله (أش 55: 11؛ إر 23: 29؛ حك 18: 15 ي): فالله (1: 1) أو الروح القدس (3: 7) يتكلّم إلى البشر، يُسمع صوته (فوني، 3: 7، 15). ينقل تعليمه بواسطة موسى (مرتيريون، الشاهد، 3: 5) أو المسيح (2: 3). إذن، نال المسيحيون الوعد، صاروا سامعين للبشرى (اوبنغاليسمانوي، 4: 2، 6). إذن، يتحدّد التدبيرُ الخلاصيّ بكلمة إلهيّة نقلها أشخاص كلِّفوا بذلك. والناس يقرّرون مصيرهم حسب تقبّل (أكويس) هذه الكلمة (لوغوس، 4: 2)، فينالون (أو لا) تتمّة المواعيد.
يبقى أن نحدّد صفات هذه الكلمة الالهيّة التي لا تنفكّ تُسمع في أقوال العهد القديم والعهد الجديد، فتحضّ المؤمنين (3: 7 - 19)، وتحرّك فيهم الرجاء (4: 1 - 11). ولكنها أيضًا تحمل قوّة مريعة لا تخطئ، على مستوى التمييز والدينونة. لهذا، جاءت هذه الدعوة الملحّة بأن نكون أمناء لكلمة الله التي تلج أعماق النفوس وتميّز العواطف الحقيقيّة. فالانسان، مهما كان فيه من تشعّب وحميميّة، يكون شفّافًا تجاه هذه الكلمة التي تدين النوايا.
هناك أمانة داخليّة نعبّر عنها في الخارج بأمانة لاعتراف إيماننا، وبشهادة نؤدّيها في العالم. والمسيحيون هم الذين يتقبّلون خاضعين للوحي الذي حمله المسيح، بحيث يدلّون بشكل علنيّ على تعلّقهم به، ويعيشون عيش الرجاء. ولكن من أين لهم هذه الشجاعة وهذا الصدق تجاه مراءاة تهدّد الانسان في كل ساعة؟ بفضل المسيح الحبر الأمين الذي يأتي ليعين ضعفنا.
ونصل إلى القسم الثاني (آ 14 - 16). إن كاهننا يستطيع أن يقودنا إلى راحة الله حيث وصل هو. ما استطاع موسى وبنو اسرائيل أن يدخلوا أرض الموعد. أما المسيحيون فنالوا الوعد براحة الله. والمسيح الذي أرسل إليهم من السماء (3: 1)، يجلس الآن ملكًا عن يمين الآب. ويظلّ بأمانته متّحدًا بالمحبّة، بإخوته المدعوين لأن يقاسموه حالته السماويّة (3: 1 ،14). هذا يعني أن المسافة التي تفصلنا عنه، والتي ألغاها التجسّد، لم تتوسّع بفعل الصعود. فبفضل الايمان بهذا الوسيط نستطيع أن نقترب من إله الحب، ونتنقى من خطايانا، وننال العون المطلوب. وهذا النداء إلى الثقة، الذي هو أساس كل أمانة، ينقلنا إلى الاتجاه الثاني في القسم: يسوع الحبر الرحيم (5: 1 - 10). فالثبات في الايمان، والاجتهاد للاقتراب من الله، يسندهما تأمّل في حبر أمين، وفي حبر رحيم: عرف محننا ومحاولاتنا للإفلات من مشيئة الله. ولكنه ظفر بكل الآلام والاضطهادات بحيث صار ضعفُه واتضاعه أكبر مشجّع لنا.

1 - تفسير الآيات
بعد أن يمتدح الكاتب كلمة الله (آ 12 - 13)، يحثّ المؤمنين على الاقتراب من الابن لينالوا الرحمة والنعمة والغوث.

أ - مديح كلمة الله (4: 12 - 13)
أولاً: كلمة الله سيف (آ 12)
ترتبط هذه الآية بما سبقها، فتفسّر لماذا نسمع خاضعين لكلمة الله، لماذا نطيعها (سبوداسومان، آ 11 ،نجتهد). فهم التفسيرُ اليوناني (اكلمنضوس الاسكندراني، اوريجانس) واللاتيني (امبروسيوس) ((كلمة الله)) على أنها الابن الكلمة (آ 14 - 1: 2). ولكننا بالأحرى أمام تشخيص شعري في خطّ سفر الحكمة. كلمة الله هي في النهاية الله الذي يتكلّم. فالاداة (الكلمة) أخذت صفات العلة (الله). هذا ما نكتشفه في عدد من نصوص العهد القديم. بما أن الله خلق بكلمته (تك 1: 3 ي؛ مز 33: 9)، فهذه الكلمة تعتبر حاملة قوّة لا تقاوم (حك 18: 15). أرسلها الله فعملت بأمره، وبدت مستقلّة عنه (مز 112: 20؛ 148: 15). في هذا الخطّ، أراد الترجوم أن يحافظ على تسامي الله، فنسب هذا العمل أو ذاك إلى ((كلمة يهوه)) (م ي م ر ا. د. ي هـ و ه). وهكذا أبعد الصور التشبيهيّة والانترومورفيّة. وهنا، في عب، يتطلّع الكاتب إلى كلمات الله كما نقرأها في الكتب المقدّسة، وكما يستعملها الله من أجل شعبه (تث 18: 19).
هذه الكلمة هي مدوّنة في الكتب، وتتلفّظ بها الشفاه. هي حيّة (زون) كما أن الله حي (3: 12؛ 1بط 1: 13). هي حاضرة اليوم، فتحرّك الحياة في النفس (أع 7: 38)، بل تمنح الحياة الأبديّة (يو 6: 63، 68؛ فل 2: 16). وهذه الكلمة تفعل. هي ديناميكيّة (إنارغيس). حياتها فيها. ولا شيء يوقف عملها (2تم 2: 9). وهي قديرة، أين منها قدرة السيف، فتلج أعماق الانسان (رؤ 1: 16؛ 2: 12؛ 19: 15، 21). وأخيرًا، هي تميّز الصالح من الطالح، وبالتالي تدين (كريتيكوس، لا يردّ إلاّ هنا في العهد الجديد) حتى أفكار الانسان الخفيّة.
ثانيًا: كل شيء مكشوف (آ 13)
لماذا تلج كلمة الله القلوب؟ لأن الخالق يرى حميميّة كل خليقة، فتصبح شفّافة أمام عينيه. أجل، انتقل الكاتب من كلمة الله إلى الله ذاته. وهكذا تماهت كلمة الله مع الله: هي تعرف كل شيء. حاضرة في كل شيء. وتتسلّم كل شيء من الله. تجاه الكلمة الالهيّة، كل خليقة (كتيسيس، روم 8: 39)، حتى الملائكة (كو 1: 15)، لا يمكنها أن تُخفى عن الله (أفانيس، لا تردّ إلاّ هنا في العهد الجديد). هي عارية (غمنوس)، أي لا تستطيع أن تخفي طبيعتَها الحقيقيّة. وأخيرًا هي مكشوفة، معرّضة لعمل الله (تراخيليزو، تصرّف بالشيء، أمسك بعنقه).
القلب اللامختون هو القلب القاسي والمنغلق على كلمة الله. هذه الكلمة هي سكين الختان التي تنفذ إلى الجسم. وحين لا نقسّي الرقبة والعنق، ندلّ على أننا نقبل إرادة الله، نخضع لها. يشير الختان إلى العري والعنق. ومن أزال التصلّب دلّ على سماع كلمة الله.

ب - نقترب من المسيح الكاهن (4: 14 - 16)
أولاً: لنا حبر عظيم (آ 14)
تشكّل آ 14 - 16 خاتمة واضحة (أون، إذن) للموضوع التعليمي حول كهنوت المسيح (2: 17 - 3: 1) والنداء إلى الأمانة الذي يتواصل حتى 4: 11. أما موضوع الاعتراف الايمانيّ (بما فيه من ثقة وحبّ) فهو يسوع حبر الشعب المسيحي. ((إخونتس)) تدلّ على هذه العلاقة. فالمؤمنون في العهد الجديد ليسوا بدون وسيط ((ماغاس)) (عظيم، رج 10: 21؛ 13: 20). ولكن ((ارخيارايس)) هو عظيم الكهنة. ولكننا نجد هذه العبارة في 1مك 13: 42 في حديث عن سمعان. هذا ما يدلّ على سموّ هذا الكهنوت تجاه الكهنوت اللاوي: هو تدبير لكي يخلّص. اجتاز (ديارخوماي، صيغة الكامل، تمَّ العبورُ والنتيجة ما زالت حاضرة) السماوات (ش م ي م، رج أف 4: 10 - 12). وهو الآن عن يمين الله (1: 3 ،8، 13)، مكلّل بالمجد والكرامة (2: 7، 9)، وجدير بأن يمارس عمل الشفاعة الناجعة (7: 25).
وما يُثبت هذه الشفاعة، هو أن هذا الحبر واحد منا في بشريّته: فيسوع هو ابن (هيون) إبن الله. تجتمع التسميات فتدلاّن على طبيعتيه، وتبرزان ما يؤسّس كمال كهنوته، وتجعلانه فوق الذي لم يستطع أن يدخل أرض الموعد (= موسى)، بل فوق رؤساء الكهنة كلهم في العالم اليهوديّ. كان عدد رؤساء الكهنة كبيرًا (26 من عهد هيرودس حتّى دمار الهيكل). كانوا يُعزلون، ولكنهم كانوا يحتفظون باللقب: ((أرخياروس)) (ك هـ ن. هـ. ج دول). أما يسوع فيمتلك كهنوتًا لا يؤخذ منه. وهو يمارسه إلى الأبد.
هذا هو موضوع الايمان الذي نعترف به بثبات، نتمسّك به (كراتيو، في صيغة الحاضر. رج 6: 18؛ 2تس 2: 15؛ رؤ 2: 13 ،25؛ 3: 11). نتمسّك بالمسيح عظيم كهنتنا. فلا أحد يخلّصنا مثله. بل لا اسم سوى اسمه به نخلص (أع 4: 12).
ثانيًا: يرثي لاسقامنا (آ 15)
يشير هذا الإرشاد الأخير إلى أن القرّاء تعبوا وامتُحنوا، فكادوا يرتدّون عن المسيح (3: 12). لهذا، أضاف الكاتب: المسيح يعرف صعوباتكم. بل يرثي لها، يتألمها. كان اعتراض خفيّ: هل الحبر الجالس على عرش الله، يهتمّ بمحن المؤمنين وشقاواتهم؟ الجواب: نعم. صار شبيهًا بالبشر (2: 17 - 18). عرف صعوباتهم وخبرها (سمباتيو، 10: 34. هنا فقط في العهد الجديد. رج سمباتيس في 1بط 3: 18): هو يتألّم معنا (سين). يشاركنا في آلامنا. يشعر بما نشعر به. في هذا المناخ، خبر يسوعُ في بشريّته كل ضعفنا (مت 8: 17؛ أش 53: 4). ونقرأ في أوسابيوس حول مت 13: 20: ((صرت ضعيفًا من أجل الضعفاء. جعتُ من أجل الجائعين. عطشتُ من أجل العطاش)). هذا الضعف (استانايا، رج أستانيس، بدون قوّة) هو ضعف الطبيعة البشريّة الخاضعة للتعب والمرض والموت (11: 34؛ 1كور 2: 3؛ 2كور 13: 4؛ غل 4: 13؛ 1بط 3: 7). ويدلّ هذا الضعف على محدوديّة الكائن المخلوق. وهكذا صار الابن من دم ولحم (2: 14) فعرف كل شقاء البشر، ووعى عجزنا حين جُرّب تجاه إرادة الله (مت 26: 41 ،الجسد ضعيف). أتُرى لأنه صار في السماء، لا يعود يحسّ مع إخوته في صعوباتهم المأساويّة؟!
في الواقع، جرّب المسيحُ. فالاداة ((دي)) (أما) تبدأ مقابلة بين أحبار من السماء لا يحسّون بألم الناس، وبين يسوع الحبر الرحيم. ((بإيرازو)) (ن س ا، في العبرية): حاول (1صم 17: 39)، امتحن (حك 2: 24؛ دا 1: 12). ويُستعمل الفعل خاصة للكلام عن المحن التي تصيب الانسان: بها يتفحّص الله الكلى والقلب (مز 26: 2)، ويتأكّد من أمانة المؤمن. ولكن قد تكون المحنة خطرًا علينا، فنسقط في التجربة. إن ((بايرسموس)) هي محنة الايمان، وواقع أساسيّ في حياة الانسان. هنا يعود الكاتب إلى خبرة بني اسرائيل خلال عبور البريّة (3: 7 - 4: 11)، وبالتالي إلى خبرة الجماعة المسيحيّة.
ويسوع نفسه امتُحن (2: 18 ،صيغة الاحتمال. نحن أمام واقع). في البريّة (لو 4: 13). في الجسمانية (لو 22: 44 ،أغونيا)، بل خلال حياته كلها (بابايرسمانون، صيغة الكامل، اسم الفاعل. هذا ما يدلّ على طول المحنة): عرف الجوع والعطش والتعب والبرد وعداء الفريسيين، بل هو سيصوّر حياته كلها بشكل محنة سيضمّ إليها تلاميذه: ((أنتم ثبتّم معي في محنتي)) (لو 22: 28). بما أن المقدِّس والمقدّسين ينتمون إلى بشريّة واحدة، وينعمون بنعمة واحدة (2: 11)، فهم يشاركون أيضًا في المحن الواحدة. أجل، إن قائدنا (ارخيغوس) عرف صعوباتنا. شابهنا (هومويوتيتا) في كل شيء ما عدا الخطيئة (هامرتيا)، فمع أنه عرف الضعف، إلاّ أنه لم يسقط كما نسقط نحن في التجربة.
ثالثًا: ندنو إلى عرش النعمة (آ 16)
لهذا (اون)، يتأكّد المسيحيون من قدرة حبرهم ورحمته التي لا تزعزع (رغم خطايانا)، فيقفون أمام الله (4: 11) بقوّة إيمانهم. ((بروسارخوماي))، ق ر ب في العبرية (اقترب). هو اقتراب من الله من أجل العبادة وتقريب الذبيحة (لا 9: 7؛ 21: 17 ،21؛ 22: 3؛ عد 18: 3). فالمسيحيون يسيرون في خطى قائدهم الذي اجتاز السماوات (آ 14)، فيقفون أمام عرش الله (7: 25)، بثقة ودالة وجرأة (باريسيا، رج 3: 6؛ 10: 19 - 22). في العهد القديم، كان يحقّ للكهنة وحدهم أن يقتربوا من الله (بعد أن يتطهّروا). أما شركاء المسيح فيقدرون كلهم أن يقتربوا. زال الحجاب الذي كان يستر الله عن المؤمنين. تمزّق في موت يسوع (مر 15: 38).
العرش (ترونوس) هو كرسيّ الملك ورمز سلطانه (2صم 7: 16؛ رؤ 2: 13). الله يجلس على عرش عال ورفيع (أش 6: 1؛ 66: 1) سيجعله المعلّمون في المعبد السماويّ. والمسيح يجلس أيضًا على هذا العرش (عب 3: 21) كالمسيح الملك (لو 1: 32؛ أع 2: 30). هو عرش المجد (دوكسيس، مت 19: 28؛ 25: 31)، عرش العظمة (ماغالوسينيس، 8: 1). أما عرش النعمة الذي يُذكر هنا، فيدلّ على تسامي الله، على حبّه ورحمته.
كيف نستطيع أن نقترب من العرش؟ من جهة، إن الله ينظر إلينا برضاه. هو يُنعم علينا (خاريس، النعمة: نجد نعمة، تك 6: 8؛ لو 1: 3؛ أع 7: 46). هو يستعد لأن يمنحنا رحمته (إلايوس، رج تك 19: 19؛ دا 3: 38؛ 2تم 1: 8) مهما كانت خطايانا السابقة. نجد فعلين في صيغة الاحتمال (يدلاّن على واقع ملموس): لابومن: نتقبّل الغفران المقدّم لنا بشكل منفعل، بشكل مجانيّ. هاوروسن: نأخذ ما طلبناه بإرادتنا. من جهة ثانية، يمنح الله غوثه (بوئيتايا، ع ز ر، 2: 18) للمؤمنين خلال حياتهم ((اليوم)) (3: 13؛ 4: 7؛ 2كور 6: 2)، ولا سيّما في وقت التجربة (اوكاريوس، المناسب، مز 104: 27). فحين يصرخ المؤمن طالبًا النجاة، يأتيه عون الله ولا يبطئ (1كور 10: 13). هذا يفهمنا أن نشاط المسيح الكهنوتي واقع حاليّ يمارسه المخلّص في السماء من أجل البشر. يتعاطف معنا، يعمل معنا ككلمة الله، بل كمن هو الكلمة الذي يقرب الله، الذي هو الله.

2 - قراءة إجماليّة
((فإن كلمة الله حيّة فعّالة، وأمضى من كل سيف ذي حدّين، تنفذ حتى مفرق النفس والروح، والأوصال والمخاخ، وتميّز خواطر القلب ونيّاته)) (4: 12)
هناك ارتباط منطقي (الفاء، غار) بين هذه الآية وما سبقها، على مستوى العصيان الذي ذُكر في آ 11. فالكلمة تدل على إرادة المتكلّم الذي هو الله. والعصيان هو عصيان هذه الكلمة، ورفض الاستماع إليها. فلا يمكن أن نرفض الطاعة لكلمة الله دون عقاب، لأنها كلمة الله. وهذه الكلمة لا يمكن أن تكون باطلة، بل هي تفعل.
كلمة الله حيّة وفاعلة. ليست حرفًا ميتًا. بما أن الله هو الاله الذي يفعل بقدرته، فكلمته لا يمكن إلاّ أن تكون قديرة، وهي تصل إلى مبتغاها الذي هو إرادة الله. وهذه الكلمة لا تُلغى ولا تَفشل. قد تطيل أناتها، قد تصبر. ولكنها في النهاية تحيي أو تدين.
كلمة الله أمضى من كل سيف (أف 6: 17، سيف الروح). يقطع عن اليمين وعن اليسار. لا يفلت أحد منه. سواء من أجل الخلاص أو من أجل الدينونة. قال يسوع: ((الكلمة التي قلتها روح وحياة)) (يو 6: 63). وقال: ((الكلمة التي قلتها تدينه في اليوم الأخير)) (يو 12: 48). تحدّث بولس في 2كور 2: 15 عن الذين يخلصون وعن الذين يهلكون، وبطرس في أع 2: 37 عن قلوب أصابتها الكلمة كسيف. ((فقالوا لبطرس: ماذا يجب أن نصنع))؟
ذكر النفس والروح... فدلّ على قدرة كلمة الله التي تلج أعمق أعماق الانسان، منذ طبيعته الجسديّة حتى طبيعته الروحيّة. أجل، لا شيء يخفى على الله.
((فلذلك، ما من خليقة مستترة عنها، بل كل شيء عار، مكشوف لعيني من سنؤدّي له حسابًا)) (4: 13)
بما أن كلمة الله تلج كسيف ذي حدّين أعمال الانسان، فهذا يعني أن كل تفاصيل حياتنا، وكل وجهة في شخصيتنا، مفتوحة أمام الله. وهكذا انتقل الكاتب من الكلمة إلى الله علّة الكلمة.
بما أن الله هو الخالق بكلمته، ويحفظ نظام الكون، بما فيه الملائكة والبشر، فلا شيء إلا وهو معروف لديه ومفهوم عنده. فهو ينبوع كل معرفة وكل فهم. هذا ما يقوله مز 139: ((يا رب اختبرتني فعرفتني. عرفت قعودي وقيامي، وتبيّنت أفكاري من بعيد. أنت ترافق سفري وإقامتي، وتعرف جميع طرقي)) (آ 1 - 3). حتى الظلمة تصبح نورًا أمام الله الذي ينير خفايا الظلام ويوضح أفكار القلوب (1كور 4: 5).
هذه الحقيقة العميقة، تجعل الانسان أمام ذاته فلا يعود يعتبر نفسه أكثر مما هو. هي تُدمّر اعتداده بأنه حكيم فهيم، وأنه يستطيع أن يجعل نفسه إلهًا (2كور 20: 4 - 5). غير أن الله يرى كل شيء. ويلج قلب الانسان في جذوره. أما معرفة الانسان فناقصة. وحكمته تبدأ حين يُقرّ بهذا الواقع. لهذا، فهو يطلب من الله أن يعرفه لكي يعرف نفسه، كما قال أوغسطينس.
وإذ لنا حبر عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع إبن الله، فلنثبت على الاعتراف)) (4: 14)
بعد أن أخافنا الكاتب، ها هو يشجّعنا. بعد أن صبّ الخمر على جرحنا، ها هو يصبّ الزيت. فالمؤمن الذي يعي أنه لا يستطيع أن يقف مرفوع الرأس أمام عرش الله، يمتلئ مع ذلك ثقة، لا بنفسه، بل بالمسيح. فله حبر عظيم يقف محلّه، ويردّ عنه. لهذا، نحن لا ننظر إلى نفوسنا، بل إلى عظيم كهنتنا (3: 9؛ 12: 2) وذلك لأسباب ثلاثة: كفّر عن خطايانا (2: 17). عرف بالخبرة كيف يجتاز المحنة، فقدّم لنا العون في وقت التجربة. مرّ عبر السماوات وهو يعدّ لنا الراحة الأبديّة التي وعد بها شعب الله. وإن معرفة هذه الحقائق الثلاث هي ينبوع تشجيع للمسيحيين في حجّهم الأرضي، بحيث يواصلون السعي حتى النهاية. وتتقوّى ثقتُنا حين نعرف أن عظيم كهنتنا هو فريد في قدرته وسموّه، فلا يجاريه عظـيم كهنة.
أما عظمة هذا الحبر الذي يفوق كل حبر، فيشار إليها بـ ((اجتاز السماوات، تجاه رئيس الكهنة اللاوي الذي يعبر أمام شعبه وهو يحمل دم التكفير في المعبد الأرضي. يسوع، حبرنا العظيم، في صعوده، عبر على مرأى من تلاميذه حين دخل مرة واحدة إلى المعبد السماوي (أع 1: 9؛ عب 8: 1ي، 9: 11 ي). لسنا هنا أمام سفَر في الفضاء. فاللغة لغة التسامي. لم يصعد يسوع فقط، بل حين صعد تجاوز كل حدود الزمان والمكان. تساميه يكفل فرادته، يكفل عظمته.
وجدارة حبرنا بأن يكون كالفادي والوسيط. نتأكّد بأنه يسوع إبن مريم، وبأنه أيضًا ابن الله: فابن الله المتجسّد صار انسانًا حقيقيًا وإلهًا حقيقيًا. لهذا، يقدر أن يكون حبرًا بين الانسان الخاطئ والاله القدوس. لقبان يُوضعان الواحد تجاه الآخر. بحسب الطبيعة الالهيّة، هو واحد مع الله. وفي تجسّده، هو واحد مع الانسان. وهو كإله وانسان جدير بأن يقوم بعمل المصالحة، لكي يعود التناغم بين الله والانسان. فابن الله جاء إلى عوننا في التجسّد، بحيث نأخذ مكاننا على الصليب فتنفتح أمامنا طريقُ حضور الله بالقيامة والصعود والتمجيد.
فإن الحبر الذي لنا ليس عاجزًا عن الرثاء لأسقامنا، بل هو مجرَّب في كل شيء، على مثالنا، ما خلا الخطيئة)) (4: 15)
تسامى عظيمُ كهنتنا وتمجّد، ولكنه لم يبتعد عن واقع خيرتنا البشريّة. فالرب الممجّد هو يسوع، الابن المتجسّد. وتماهيه معنا لم ينته عندما اجتاز إلي المعبد السماوي. لن نطرح سؤالاً حول تعاطفه مع ضعفنا، لأنه أخذ ضعفنا وجعله له حين لبس طبيعتنا. فهدف مجيئه كان (تتميمًا لنبوءة عبد الرب) أن يجعل من ضعفنا ضعفه. فبشريّته لم تكن قناعًا ولا خدعة. وواقع التجارب التي واجهها، دلّ على حقيقة الطبيعة البشريّة التي اتّخذها.
فالتجربة أمر حيادي، وهي لا تدل على فضيلة ولا على خطيئة. التجربة هي محنة وخبرة. والفضيلة تقوم بمقاومة التجربة أو التغلّب عليها. والخطيئة بأن نستسلم. وجابه يسوع التجربة أكثر من مرّة وانتصر عليها. ولكن من خلال هذه التجارب، عرف ضعفنا. فلو سقط يسوع في الخطيئة، لاحتاج أن يكفّر عن خطيئته، شأنه شأن عظيم الكهنة في الهيكل (7: 27). وبالتالي لن يستطيع أن يحمل إلى البشر الخلاص الأبديّ.
((فلنقترب اذن في ثقة إلى عرش النعمة، لننال الرحمة ونجد نعمة تساعدنا في وقت الحاجة)) (4: 16)
في نظام الكهنوت اللاوي، حتى مجيء المسيح، كان يحقّ لرئيس الكهنة وحده أن يقترب من حضور الله في معبده. وذلك مرّة واحدة في السنة، في يوم التكفير (يوم كيبور)، فيمرّ أمام قدس الأقداس. أما الشعب فاستُبعد من الحضور الالهي، وما سُمح له الاقتراب بسبب خطيئته. أما التكفير الذي تمّ بذبيحة يسوع على الصليب، ففتح الطريق الذي كان مغلقًا حتى ذلك الوقت. مُزّق حجاب الهيكل حين صُلب يسوع، فما طلب بعدُ من الخطأة أن يظلّوا بعيدين في الخوف والرعدة، بل أن يقتربوا وكلهم ثقة. فعبور حبرنا في السماوات (ا 14) فتح أمامهم الطريق إلى حضور الله نفسه. وذبيحة المسيح لأجلهم قد قُبلت. وخطاياهم غُفرت. فتوحّدوا معه بالايمان، واقتربوا من عرش النعمة، وصاروا ملوكًا معه بنعمة منه.
ولكن هؤلاء القرّاء الذين تكلّمهم عب، لا يقتربون، بل هم يتراجعون. فقدوا ثقتهم (10: 35)، فارتدّوا عن الايمان وصاروا إلى الجحود. فيجب أن يدلّوا على صدق إيمانهم الذي اعترفوا به، باقتراب وثيق في المسيح. وقساوة الجهاد تقدر أن تقود المسيحي إلى عرش نعمة الله، كما تجعله يتراجع ويتراخى. فخيمة العهد القديم تقودنا إلى عرش الرحمة، وكذلك عرش نعمة الله الذي نجد عنده العون في وقت نحتاج إليه.
وقابل الشرّاح بين الوضع السابق مع العهد القديم، ساعة كان عظيم الكهنة وحده يقترب من حضور الله، وبين الوضع الحاضر مع العهد الجديد، الذي فيه يُدعى شركاءُ المسيح للاقتراب من الحضور الالهي بثقة ودالة كبيرتين. فنحن هنا أمام ثورة في نظرتنا إلى الدين: وحدها المسيحية تمنح الخليقة الخاطئة الجرأة بأن تقف بثقة في حضرة الله.

خاتمة
منذ مطلع الرسالة، بدا يسوع حاملُ الوحي، كحبر وعظيم كهنة. وكانت مهمته نقل كلمة الله والتكفير عن الخطايا. وبعد أن يتمّ هذه المهمّة بأمانة، يدخل إلى مجد السماء. وفي هذه المقطوعة، بدا الكاتب وكأنه يختم موضوع العهد والوحي والشريعة (4: 12 - 13) ويستعيد موضوع كهنوت المسيح (آ 14 - 16). فالرباط بين الاثنين يتمّ باعتراف الايمان. في الواقع، لم تتوسّع عب في الموضوع الأول، واكتفت بلمحة سريعة إلى الموضوع الثاني (رحمة هذا الحبر) في إطار الارشاد الاخلاقيّ في ف 3 - 4. هذه الوجهة الثانوية في كهنوت المسيح الأمين والرحيم، هي خطوة جديدة في الموضوع الذي سيتوسّع فيه ف 7. وبعد الملائكة والانبياء وموسى، نحن نصل إلى هارون الذي دعاه الله فكان صورة بعيدة عن المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM