الفصل السابع: يسوع المسيح عظيم كهنتنا

الفصل السابع
يسوع المسيح عظيم كهنتنا
1:3 – 10:5

حين بيّن صاحب عب تفوّق المسيح على الملائكة، أراد أن يعظّم ذاك الذي هو وسيط العهد الجديد، وينعش إيمان القرّاء وثقتهم بيسوع. ذاك كان هدفَ القسم الأول. وهو أيضًا هدف القسم الثاني الذي يبرز طابعُه الارشاديّ بشكل خاص (3: 7ي). لن نبحث عن مواجهة بين وسطاء العهد القديم ووسيط العهد الجديد، بين موسى ويشوع وهارون من جهة، وبين يسوع من جهة ثانية، لندلّ على تفوّق المسيح. في الواقع، يستفيد الكاتب من كل الظروف لكي يُبرز عظمة الشريعة الجديدة على الشريعة القديمة، مستفيدًا من جميع المقابلات لكي يُسند برهانه.
أما موضوع القسم الثاني فهو: تألم (بابونتن، 2: 18) الابن المتأنّس، فصار الكاهن (ارخياروس) الرحيم (الايمون) والأمين (بستوس 2: 17) الذي يستطيع أن يغيث (بوئيتيساي، 2: 18) المبتلَين (المجرَّبين). استعاد القسم الثاني هذه الكلمات المفاتيح (3: 1، 2)، فكان اتجاهان: اتجاه أول يتحدّث عن يسوع ككاهن أمين لله (3: 1 - 6). واتجاه ثان يتحدّث عن الحبر الرحيم (5: 1 - 10). وبين الاثنين نجد ارشادًا طويلاً حول مز 95 (3: 7 - 4: 16)، يبدأ مهدّدًا وينتهي مشجعًا (4: 1 - 11).
أفكار ثلاث تتوزّع هذا القسم: الأولى، انطلق الكاتب من ناموس التعارض، فأكّد تفوّق المسيح على أشخاص العهد القديم، من ملائكة وبشر. الثانية، ما زال يتطلّع إلى المسيحيّين، فيدعوهم إلى الايمان بالله وإلى الأمانة لوصاياه، ويشجّعهم في مسيرتهم نحو السماء، ويدعوهم إلى الاجتهاد. الثالثة، وسّع في هذا السياق الأدبيّ والنفسيّ موضوعه التعليميّ الأساسيّ الذي هو كهنوت المسيح. بعد أن حدّد مخطّط الله الخلاصي، بين ضرورة تجسّد الابن وموته. فاستنتج أن الابن المتجسّد هو كاهن رحيم وأمين يقود كنيسته إلى الراحة. ذاك هو موضوع إيماننا.

1 - الاتجاه الأول: يسوع كاهن أمين (3: 1 - 4: 16)
يبدأ الاتجاه الأول في القسم الثاني بجملة احتفاليّة (3: 1 - 2): فالكاتب يتوجّه للمرّة الأولى إلى سامعيه بشكل احتفاليّ، ويلحّ عليهم بطريقة لا نعود نجدها فيما بعد.
((إذن، أيها الأخوة القديسون، الذين لهم نصيب في الدعوة السماوية، تأمّلوا...)).
تبدو الجملة بشكل تحريض يتميّز عن سياق 2: 5 - 18 وما فيه عن عرض تعليميّ. هذا ما يدلّ حقًا على بداية القسم الثاني. ويدعو الكاتبُ المؤمنين لكي يتأمّلوا بموضوع جديد هو موضوع الكهنوت الذي أشار إليه في القسم الأول. وهكذا دلَّ على أن 2: 17 شكّل إعلان التوسّعات الآتية. غير أن الكاتب لا يستعيد كل ما في 2: 17، بل يكتفي بوجهة واحدة: حبر أمين، عظيم كهنة نستطيع أن نثق به. أما الوجهة الثانية (الكاهن رحيم) فستكون موضوع الاتجاه الثاني. هذه البداية (3: 1 - 2) تبدأ مقطعًا ارشاديًا (3: 7 - 4: 16). ولكن يسبق هذا الارشاد عرضٌ كبير يبدأ بفعل: ((تأمّلوا)). وهكذا نكون أمام مقطع أول (3: 1 - 6) ومقطع ثان (3: 7 - 4: 16) سنقسمه إلى فصلين.

أ - أمانة موسى وأمانة يسوع (3: 1 - 6)
إن ارتباط هذه العبارة البادئة (3: 1 - 2) مع ما سبق، يتأمّن بتكرار لفظ ((حبر)) ثم ((أمين)). وهناك أيضًا تسمية ((الاخوة)) التي انتشرت بين المسيحيين فعكست تشبّه المسيح بإخوته (2: 17؛ رج 2: 11). أما الصفة ((القديسون)) فتعود إلى 2: 11 الذي يتحدّث عن تضامن وثيق بين ((المقدِّس والقديسين)). و((الدعوة السماوية)) تقابل 2: 10 الذي يرينا الله وهو ((يقود إلى المجد أبناء كثيرين)). أما ((ماتوخوس)) (مشارك، له نصيب) فهو صدى لفعل ((ماتاسخن)) (2: 14): بما أنه كان للمسيح نصيب (شركة) في واقع البشر (في الدم واللحم)، يُدعى المسيحيون لكي تكون لهم شركة (نصيب) في واقع الله (3: 1: الدعوة السماوية؛ رج 1: 9). وأخيرًا، يرد اسم ((يسوع))، فيعود الكاتب بنا إلى 2: 9.
وها نحن نورد نصّ هذا المقطع كله:
3: 1 وإذن، أيها الاخوة القديسيون الذين لهم نصيب في الدعوة السماويّة
تأمّلوا الرب والحبر الذي نعترف به، يسوع
3: 2 الذي هو أمين لمن أقام،
كما كان موسى في جميع بيته.
3: 3 فإنه قد حُسب في المجد
أفضل من موسى
بمقدار ما الباني
يفضل البيتَ في الكرامة
3: 4 إن لكل بيت بانيًا،
وباني كل شيء هو الله.
3: 5 فموسى كان أمينًا، بصفة خادم، في جميع بيته (= بيت الله)
لكي يشهد لما سيُقال.
3: 6 أما (دي) المسيح فكالابن
على بيته الخاص
وبيته هو نحن،
إن أقمنا على الثقة وفخر الرجاء.
نلاحظ أولاً تفاصيل تدلّ على اهتمام الكاتب بأسلوبه الادبي. في آ ،1 ترتيب متداور. من جهة، (أ) الموصوف (الاخوة)، (ب) مفعول به (دعوة) يرتبط (ج) بصفة، مشارك. ومن جهة ثانية، (ج ج) صفتان (رسول، حبر) يحدّدهما (ب ب) مفعول به، ثم (أأ) موصوف هو يسوع. ونكتشف أيضًا في آ 3 توازيًا متداورًا:
- هو - يفضل
- تجاه موسى - البيت
- حسب - في الكرامة
كما نكتشف توازيًا بسيطًا:
- بلايونوس (أفضل) - بلايونا
- دوكسيس (مجد) - تيمين (كرامة).
وأخيرًا، نجد التوازي في آ 5 - 6: من جهة، موسى كخادم. ومن جهة ثانية، المسيح كالابن. أما التعبير الذي ينطلق من ((البيت)) فهو في تواز متداور: في كل بيته خادم... كابن على بيته.
كيف تبدو بنية آ 3 - 6؟ هناك خطان:
* خطّ أوّل يميّز في النصّ ثلاث وحدات مستقلّة.
آ 3: مقابلة بين موسى والمسيح.
آ 4: معترضة.
آ 5 - 6: مقابلة ثانية بين موسى والمسيح.
ما يحدّد تقطيع النصّ بهذا الشكل ليس إشارات أدبيّة، بل شرح آ 3. ففي نهاية الآية، يدل ((الباني)) (بشكل مباشر) على المسيح. لهذا، اعتُبرت آ 4 معترضة (نستطيع أن نضعها بين قوسين). لها صفة البناء. أو لها بُعد لاهوتيّ. ولكنها لا تدخل دخولاً عاديًا في التوسيع، لأن عمل البناء يعود إلى الله، لا إلى المسيح.
إذن، يكون تحليل النصّ كما يلي:
3: 3: المسيح يتفوّق على موسى، لأنه يبني البيت.
(3: 4: الذي يبني هو الله).
3: 5: المسيح يتفوّق على موسى لأنه الابن لا الخادم.
ماذا نقول في هذا التقسيم الذي ينسى الدور الأساسيّ الذي تلعبه آ 4؟ هنا نعود إلى آ 3 (يرتبط بها المقطع كله) التي تحمل شرحًا آخر: هي لا تؤكّد بأن المسيح هو الذي يبني البيت. حينئذ يجب أن نقول: موسى هو البيت، وهذا ما لا يفكّر فيه أحد. ولكن الكاتب يقول إن علاقة موسى بالمسيح تشبه علاقة البيت ببانيه. والأمران يختلفان.
* خطّ ثان يفهمنا أن آ 3 هي شرح لما سبق.
نجد أولاً (آ 4) الاداة ((غار)) (الفاء)، ثم واو العطف (آ 5). هذا يعني أننا أمام شرح لما سبق. كما يعني أن الآيتين تشكّلان مجموعة واحدة. لهذا، تكون بنية المقطع كما يلي:
- آ 1 - 2: تذكير بالقسم الأول وإدخال المقابلة بين يسوع وموسى.
- آ 3: علاقة التفوّق.
آ 4 - 6أ: تفسير هذه العلاقة.
آ 6ب: انتقال إلى التحريض الذي يلي.
هكذا، لا تعود آ 4 معترضة، بل مفصل البرهان. على مستوى ((الأمانة))، ما هو حاسم، العلاقة مع الله. فالمسيح أمين في شكل يتفوّق فيه على موسى، لأن علاقته بالله الذي يبني في علاقة مختلفة. موسى هو خادم. هو جزء من البيت. هو أمين لله في البيت، فتستطيع سائر الحجارة أن تستند إليه. ويسوع هو الابن. إذن البيت المبنيّ هو بيته أيضًا. وعلاقته به كعلاقته بالله نفسه. قال الكاتب فيما سبق إن الله خلق العالم بابنه (1: 2). وطبّق على الابن مزمورًا ينشد عظمة الخالق (1: 1). إذن، يحقّ للمسيح ايمان (وثقة) يختلف كل الاختلاف عن ذاك الذي يستحقّه موسى: لقد أقيم على بيته. هذا هو منطق هذا المقطع (3: 1 - 6): بما أن الأول خادم والثاني ابن، صارت العلاقة بين موسى والمسيح كعلاقة البيت ببانيه.
وإذا توقّفنا عند آ 5 - 6 ،نكتشف أن الكاتب أدخل تفاصيل إضافيّة فيما يخصّ البيت. أولاً، نجد عبارتين تختلفان اختلافًا طفيفًا: كل بيت هذا. بيت هذا. ويوضح الكاتب معنى ((البيت)): البيت هو نحن. هل نفهم كذلك العبارة الأولى (كل البيت) التي تعني موسى؟ كلا، على ما يبدو. فإذا أردنا أن نلقي الضوء على عد 12: 7 (موسى أمين في كل بيته)، لا نعود إلى آ 6 (البيت هو نحن)، بل إلى آ 4 (إن لكل بيت بانيًا، وباني كل شيء هو الله). اذن، نفهم بعبارة ((كل بيت)) مجمل الخليقة. لقد قام دور موسى بأن يهيّئ شهادة للمسيح (على مثال يوحنا المعمدان).
والخلاصة: المسيح أهل للثقة في كل البيت، وفي درجة يتفوّق فيها على موسى (ظنَّ اليهود أن الأمانة توقّفت عند موسى!). قدّم الكاتبُ التوازي، وترك القارئ يستخلص النتيجة العامّة. فاكتفى بأن يشدّد على وجهة خاصة مهمّة. انتقل من ((كل بيت)) إلى ((البيت)): إذا أردنا أن نفيد كل الإفادة من أمانة المسيح، لا يكفي أن نكون في عالم بناه الله، بل يجب أن نصبح من بيته ونبقى في هذا البيت بايمان ثابت. تلك هي النتيجة التي تهمّ الكاتب والتي سيتوسّع فيها في المقطع التالي (3: 7 ي). وما يلفت الانتباه في هذا المقطع الصغير، هو أن لقب المسيح يرد هنا للمرة الأولى في الرسالة. اختلف الوضع بين اسم يسوع (ظهَر في 2: 9) وبين اسم المسيح. فاسم يسوع ارتبط بذكر الاتضاع والموت. أما اسم المسيح فأحيط بالمجد: مجد في علاقته بالآب. مجد في سلطانه على البشر: ((المسيح كالابن على بيته)) (3: 6).
وهيّأ الكاتب الطريق للقب المسيح (مُسح بالزيت وأرسل). فهناك إيراد كتابيّ يتحدّث عن مسحة، في المقطع الأول من القسم الأول. استعمل فعل ((إخريسان)) (مسحك) في 1: 9 ،فوصل بنا إلى 3: 6 (خرستوس، المسيح). ثم إن إيراد 1: 8 - 9 ينطبق على الابن (1: 8). ويتحدّث 3: 6 عن المسيح كالابن. منح الايرادُ لمسيح الله تفوّقًا على الذين يشاركونه (ماتوخوس). وهذه الآية (3: 6) جعلت المسيح ((على رأس بيته)). وهكذا استضاء مقطع بما قيل في مقطع آخر، مع تطبيق ((ماتوخوس)) على المسيحيين في خطّ اوغسطينس وشرحه للمزمور 44.
أخيرًا، نجد توازيًا في استعمال ((مجد)) و ((كرامة)) في 3: 3: مجد أفضل، كرامة أفضل. هنا نتذكّر الموضوع الأخير في القسم الأول حيث قيل عن المسيح: ((كان مكلّلآً بالمجد والكرامة)) (2: 8). فإن ((أمانة)) يسوع هي أمانة كهنوتيّة: فعلى أثر ذبيحته، كلّل يسوعُ بالمجد والكرامة (2: 9). وتوِّج كالابن ومسيح الله (1: 9). وكفالة الله له، التي تجعله أهلاً للثقة، هي كفالة لكهنوته. هذا ما يشير إليه الكاتب، وسوف يوضحه فيما بعد.

ب - أمانة المسيح وأمانة المسيحيين (3: 7 - 4: 16)
ونصل إلى المقطع الثاني الذي هو إرشاد يستند إلى مز 95 فيطلب من المسيحيين أمانة تتجاوب مع أمانة المسيح. وإذ أراد أن يشدّد بقوّة على ما يُطلب، استند كعادته إلى العهد القديم، فاتّخذ تحريضه شكل تفسير للمزمور 95:
3: 7 كذلك، كما يقول الروح القدس:
إن أنتم اليوم سمعتم صوته،
3: 8 فلا تقسّوا قلوبكم في المرارة.
كما في يوم الامتحان، في البرّية
3: 9 حيث امتحنني أباؤكم وخبروني
وشاهدوا أعمالي أربعين سنة.
3: 10 لذلك استشطت على ذلك الجيل
وقلت: إن قلوبكم زائغة على الدوام
ولم يعرفوا قط سبلي.
3: 11 كما أقسمتُ في غضبي:
لن يدخلوا في راحتي!
سار الكاتب في خط السبعينيّة، ولم يبتعد عنها إلاّ في بعض التفاصيل. فبدل ((إدوكيماسان)) (خبروني) قال ((إن دوكيماسيا)) (3: 9)، في المحنة. وهكذا حوّل ترتيب الأشطار (في السبعينيّة: خبروني ورأوني). جعل ((ايدون)) محل ((ايدوسان)) (رأوا)، و((ايبون)) محل ((ايبا)) (قالوا) (3: 10). وأحلّ ((تاوتي)) محل ((اكايني)) (هذا)، وأقحم ((ديو)) (لذلك) بعد ((أربعين سنة)). غير أن هذا الاقحام يطرح سؤالاً: أين نضع علامة القطع في 3: 9 - 10؟ في النصّ العبراني، هي بعد ((أعمالي)). عارض المرنّم بين موقف بني اسرائيل الحذر وخبرتهم السابقة لتدخّلات الله. ((والاعمال)) التي يشير إليها هي معجزات الخروج من مصر. أما فعل ((رأى))، في الماضي (الكامل العبري) الذي تسبقه ((ج م)) (أمّا)، فيجب أن نفهمه كالماضي الماضي الذي يدلّ على زمن يسبق المحنة: ((إختبروني (امتحنوني) مع أنهم رأوا أعمالي)). أما ((أربعون سنة)) فتدلّ على الزمن الذي جاء بعد ذلك. فحدثُ مسّة، في سفر الخروج، يقع في بداية الإقامة في البريّة (خر 17: 7). وهكذا، ما يدوم أربعين سنة هو غضب الله.
في آ 17 ،استعاد الكاتب بوضوح هذا القول الأخير: ((غضب أربعين سنة)). إذن، نستطيع أن نوزّع 3: 9 - 10 كما يلي:
حيث امتحنني آباؤكم في اختبار ورأوا أعمالي
أربعين سنة، لذلك استشطتُ.
بهذه الطريقة تمّ التوزيع التقليديّ لهذه الآيات: وانتهت آ 9 مع لفظ ((أعمال)). غير أن هذه القسمة تصطدم باعتراض غراماطيقي: إن ديو (لذلك) تُجعل عادة في بداية الجملة. فإذا بقينا على مستوى الغراماطيقي، نقسم نصّ الرسالة غير ما في العبري.وهكذا تصبح علامة القطع بعد ((أربعين سنة)) لا قبلها.
رأوا أعمالي أربعين سنة.
لهذا استشطت...
تلك هي الطريقة التي يأخذ بها الشرّاح اليوم. ولكن، لماذا بدّل الكاتب نصّه بهذا الشكل؟ كانت فرضيّات عديدة. ولكن يبدو أن الكاتب اهتمَّ بالاسلوب فحاول أن يحسّن التوازن في الجملة. حين ضمَّ ((أربعين سنة)) إلى ما سبق، حصل على شطرين متوازنين، مع ثلاثة عناصر في كل شطر.
امتحنني /آباؤكم/ في اختبار
ورأوا /أعمالي/ أربعين سنة.
لم يفهم الكاتب ((ايدون)) على أنه الماضي الماضي. فعبارة ((رأوا أعمالي)) تنطبق على الحقبة التاريخيّة التي فيها ((استشاط)). والاعمال التي يشير إليها، ليست معجزات الخروج من مصر، بل سلسلة الضربات الالهيّة التي ردّت على تذمّرات بني اسرائيل، خلال العبور في البرّية (عد 14: 29 - 30؛ رج عب 3: 17). ولكن صاحب عب اكتفى هنا بأن يتبع السبعينيّة، التي نقلت المضمون العبريّ نقلاً أمينًا. يستحيل في نصّه أن يُفهم أن ((ايدوسان)) تشير إلى عمل يسبق ((إدوكيماسان)) و((إبايراسان)). أما الجملة اليونانيّة ففرضت فهمَ ((ايدوسان)) على أنه يتمّ في وقت تمّ فيه هذان العملان، أو بعد ذاك الوقت. لذلك، لا ندهش إن فهمت عب الفعل بهذه الطريقة.
بعد هذا، كيف نرى ترتيب الآيات (آ 12 - 19) التي جعلت عددًا من الشرّاح في حيرة؟
3: 12 فاحذروا (فانظروا) اذن، أيها الإخوة، من أن يكون لأحد منكم قلب خبيث وغير مؤمن فيرتدّ عن الله الحي.
3: 13 بل عظوا بعضكم بعضًا كل يوم
ما دام يقال ((اليوم))
لئلا يقسو أحد منكم بغرور الخطيئة.
3: 14 فقد صرنا شركاء في المسيح
إن نحن أقمنا على الايمان، ثابتًا في النهاية كما في البداءة.
3: 15 في هذا القول:
إن أنتم اليوم سمعتم صوته،
فلا تقسّوا قلوبكم بمرارة.
3: 16 من هم الذين سمعوا فأسخطوه؟
أفليسوا جميع الذين خرجوا من مصر على يد موسى؟
3: 17 وعلى من استشاط أربعين سنة؟
أفليس على الذين خطئوا
فسقطت جثثهم في البريّة؟
3: 18 ولمن أقسم أنهم لن يدخلوا في راحته
سوى الذين عصوا؟
3: 19 ونحن نرى أنهم لم يستطيعوا الدخول لعدم إيمانهم.
هناك تضمين بين آ 12 وآ 19 يجعلنا نرى في هذه الآيات الثماني وحدة أدبيّة أولى. نقرأ في آ 19 فعل ((بلاباين)) (رأى، نظر) والاسم ((أبستيا)) (لا إيمان) اللذين قرأناهما في آ 12. نشير هنا إلى أن ((أبستيا)) لن تظهر بعد ذلك في عب.
نلاحظ تلميحات عديدة إلى المزمور، ولكننا لا نجد سوى جملة واحدة (3: 15) تقع في قلب المقطع. قرأنا قبلها ثلاث جمل (في ثلاث آيات)، وبعد ثلاثة استفهامات تقابل الجمل الثلاث ولكن في ترتيب معاكس. فإذا أردنا أن نعرف، في الجملة الاولى، معنى ((ارتدّ عن الله الحيّ)) (آ 12)، نعود إلى الاستفهام الأخير (آ 18 - 19) الذي يكشف وجهتين من هذا الموقف. الأول: عصوا. الثاني: مُنعوا من الدخول إلى راحة الله. وإذا طلبنا شرحًا لعبارة ((غرور الخطيئة)) (آ 13) كما في الجملة الثانية، نجده في الاستفهام الثاني (آ 17) الذي يشير إلى غضب الله ضدّ الذين خطئوا ويصف حالتهم التعيسة: سقطت جثثهم في البريّة. وأخيرًا، إذا أردنا أن نقتنع بأن الثبات ضروريّ، وبأن على شركاء المسيح أن يظلّوا ثابتين في النهاية، كما كانوا في البداءة (آ 14)، نقرأ الاستفهام الأول (آ 16) ونتطلّع إلى الذين تبعوا موسى في بداية الخروج في مصر، ولكنهم، بعد أن سمعوا (اكوسنتس) التعليم، أسخطوا الله.
حين نقابل جزئي هذا النصّ، نلاحظ أن هذا الشرح ليس مرتجلاً، بل ألّف بعناية في إطار توازن متداور. أما بنية المجموعة فتتوافق مع المقابلة التي رأيناها في المقطع الأول (3: 1 - 6) بين موسى والمسيح. أما الجملة الأخيرة (آ 15) من هذه الجمل، فتذكّرنا بنهاية المقطع السابق: ثبت (آ 6 ،آ 14). المسيح (آ 6، آ 14). شركاء (آ 1 ،شركاء، آ 6 ، بيت، آ 14). في موازاة هذا، يهيّئ الاستفهام الأخير (آ 18) في الاستفهامات الثلاثة، ما يلي: دخول في راحة الله (آ 18؛ رج 4: 1 ،3، 5). نخسر هذه الراحة بالعصيان (آ 18؛ رج 4: 6 - 11).
وكيف رتّب الكاتب ما تبقّى من تفسيره للمزمور 95: هنا نقرأ 3: 12 - 19 فنلاحظ استعادة حرفيّة للمزمور تبدأ بعبارة ((إن تو لاغستاي)) (آ 15). ونجد مرتين عبارة مشابهة تلعب دورًا مماثلاً. في 4: 3: ((كاتوس ايريكن)) (كما قال) تسبق إيراد آية أخرى من المزمور. وفي 4: 7 ((كاتوس بروايريتاي)) (كما قيل في السابق) تعلن تكرار المقطع الذي قرأناه في 3: 15. هذه الملاحظة تقودنا إلى القول بأن 4: 3 و4: 7 يحتلاّن مركزًا رئيسيًا على مثال 3: 15. وفي الواقع، هناك تضمين يبدأ في 4: 1 (آيتان قبل 4: 3) وينتهي في 4: 15 (آيتان بعد 4: 3). يتحدّث 4: 1 عن وعد بالدخول في راحته. ويستعيد 4: 5 عبارة المزمور: لن يدخلوا في راحتي. وبجانب كل ايراد، نجد تضمينًا بين آ 6 وآ 11.
4: 6 وإذ كان لا بدّ أن يدخل فيها قوم، لأن الذين بُشِّروا أولاً لم يدخلوا بسبب عصيانهم.
4: 11 فلنجتهد إذن أن ندخل في تلك الراحة، لئلا يسقط أحد في مثل هذا العصيان.
لا نقرأ لفظ ((ابايتايا)) (عصيان، عدم خضوع) في عب إلاّ في هاتين الآيتين. هكذا اعتاد صاحب عب أن يفعل فيحتفظ من أجل تضمين يبنيه، لفظة لن يعود يستعملها فيما بعد. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى ((أبستيا)) (لا إيمان) في 3: 12، 19. رج ((نوتروي)) (بطء الفهم) في 5: 11 و6: 12؛ ((تراخومن)) و((تروخياس)) في 12: 1، 13 (السعي): ((هومولوغيا)) (الاعتراف) في 3: 1 و4: 14. ولكن رج 10: 23.
إذن، يتوزّع شرح المزمور على ثلاث قسمات (3: 19012؛ 4: 1 - 5؛ 4: 6 - 11). وتُبنى كل قسمة حول استعادة جزئيّة للنصّ المشروح. في القسمة الأولى والقسمة الثالثة، الايراد الكتابيّ هو هو، وإن اختُصر بعض الشيء في 4: 7.
وإليك القسمة الثانية:
4: 1 فلنخشَ إذن
ما دام موعد الدخول في راحته باقيًا
أن يُرى أحد منكم متخلّفًا عنه.
4: 2 لأن البشارة كانت لنا
أيضًا كما كانت لهم.
غير أن الكلمة التي سمعوها لم تنفعهم شيئًا
لأنهم لما سمعوها لم يؤمنوا بها.
4: 2 أما نحن الذين آمنوا، فندخل في الراحة،
حسب ما قيل:
أقسمتُ في غضبي:
لن يدخلوا في راحتي.
فإن الأعمال قد أنجزت منذ إنشاء العالم
4: 4 إذ إنه قال في موضع ما عن اليوم السابع:
واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله.
4: 5 وأيضًا في هذا الموضع:
لن يدخلوا في راحتي!
توسّعٌ متشعّب. ومع ذلك نكتشف فيه جزئين متعاقبين: قبل الايراد الكتابي (آ ،3 أقسمتُ في غضبي)، يشدّد الكاتب على فكرة الدخول (دخل، تخلّف، ندخل) وعلى علاقته بالايمان. بعد الايراد، يحدّد نوعيّة هذه الراحة التي يتحدّث عنها. هذا في ما يخصّ المضمون. وفي ما يخصّ الشكل نكتشف توازيًا متداورًا:
1 - دخل في راحته (أ)
تخلّف (ب)
بُشّر (ج)
ما انتفع
سُمعت الكلمة (ج ج)
اتحدوا بالايمان (ب ب )
ندخل في الراحة (أأ). رج آ 1 - 2
2 - لن يدخلوا في راحتي (أ)
الأعمال (ب)
السابع (ج)
استراح
اليوم السابع (ج ج)
أْعماله (ب ب)
لن يدخلوا في راحتي (أأ). رج آ 4 - 5.
ونصل إلى القسمة الثالثة التي تنهي شرح المزمور 95:
4: 6 وإذ كان لا بدّ أن يدخل فيها قوم
لأن الذين بُشّروا أولاً لم يدخلوا بسبب عصيانهم
4: 7 حدّد من جديد يومًا ((اليوم))
إذ قال في داود بعد ذلك بعهد طويل،
القول الآنف الذكر:
إن أنتم اليوم سمعتم صوته
فلا تقسّوا قلوبكم
4: 8 فلو كان يشوع أنالهم هذه الراحة
لما تكلّم من بعد عن يوم آخر.
4: 9 فهناك راحة سبتيّة محفوظة لشعب الله.
4: 10 فمن دخل في راحته (= راحة الله)
استراح هو أيضًَا من أعماله
كما استراح الله من أعماله الخاصة.
4: 11 فلنجتهد اذن أن ندخل في تلك الراحة
لئلاّ يسقط أحد في مثل هذا العصيان.
هذه القسمة الأخيرة تشرح ((اليوم)) في المزمور، فترى فيه شهادة عن إمكانيّة الدخول في راحة الله. قد نتردّد في صيغة الاحتمال التي نقرأها في 4: 10: هل نعتبر أننا أمام تكرار يعود، فنترجم الفعلين في صيغة الحاضر (يدخل، يستريح)؟ أم نعتبر أننا أمام حدث من الماضي مع شخص محدّد؟ اعتاد الشّراح أن يروا في هذين الفعلين تأكيدًا مبدأيًا (الحاضر). أما نحن فنعود إلى العلاقات البنيويّة:
قبل الايراد الكتابي وبعده (4: 7 ب: إن أنتم) تبدو الآية صدى لأختها. إن 4: 8 (تكلّم، من بعد، يوم)، يقابل 4: 3 أ (يوم، قائلاً، بعد ذلك الوقت). والآيات الثلاث الأخيرة (آ 9 - 11) تستعيد الآية الأولى (آ 6) وتكمّلها: البعض يدخل (آ 6أ). راحة سبتية لشعب الله (آ 9). ثم: الذين بُشِّروا أولاً لم يدخلوا (آ 6ب). يقابلها بشكل تعارض: ذاك الذي دخل في راحته استراح هو أيضًا من أعماله، كما استراح الله من أعماله الخاصّة (آ 10). وأخيرًا: بسبب عصيانهم (آ 6ج). يقابله: لئلا يسقط أحد في مثل هذا العصيان (آ11 ، نهاية القسمة).
نلاحظ هنا مزيجًا من توازيين
متداور: 6 ... 9 - 11 بسيط: 6أ ... 9
7 أ ... 8 6 ب ... 10
7 ب 7 ب ... 11
ترتبط هذه القسمات الثلاث (3: 12 - 19؛ 4: 1 - 5؛ 4: 6 - 11) بسلسلة من التقابلات. فالثانية مركزيّة وتلعب دور الوصل بين الأولى والثالثة: فالشق الأول منها يستغلّ موضوع اللا إيمان (4: 2: لم يؤمنوا؛ 4: 3: الذين آمنوا) كما في القسمة الأولى (أبستيا، 3: 12 ، 19). والشقّ الثاني من القسمة الثانية يحدّد راحة الله (4: 4) ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقسمة الثالثة (4: 10). غير أن الثالثة قد هيّأها الشقّ الأول من الأولى. فعبارة ((يوم بعد يوم ما دام يقال اليوم)) (3: 13) هي استباق لشرح ((سيمارون)) (اليوم) في 4: 6 - 9. والايراد المركزي هو هو في الأولى (3: 15) وفي الثالثة (4: 7). وهكذا نقرّب بين 4: 9 - 10 و3: 14: فأعضاء شعب الله (4: 9) الذين حُفظت لهم راحة السبت هم شركاء المسيح (3: 14). والراحة التي تُمنح لهم، إن ظلّوا ثابتين في النهاية كما كانوا في البداية (3: 14)، تُفهم مشاركة في راحة المسيح نفسه، الجالس عن يمين الله. في هذا المنظور، يصبح التفسير الكرستولوجيّ واضحًا: فالذي دخل في راحته هو المسيح (نلاحظ أن ((دخل)) في صيغة الاحتمال ترد ثلاث مرات وكلها تتعلّق بدخول المسيح إلى السماء. رج 6: 20؛ 9: 12، 24: تصوّر راحة المسيح في 10: 11 - 17): هو رسولنا (ابوستولوس، 3: 1). هو قائد (ارخيغوس) خلاصنا (2: 10). وسيعلن 4: 14 أنه اجتاز السماوات. إذا كانت هذه الخاتمة (التي تقابل ما قيل في البداية حول دعوة المسيحيين السماوية) قد هيّئت في القسمة الثالثة، فقد هُيّئت في 4: 10 ،وهي آية لا نفهمها عن دخول كل فرد من شعب الله وحده، بل عن طريق مفتوح للشعب كله بواسطة يسوع (يشوع الجديد) سابقنا (6: 20؛ رج 10: 20).
ونصل إلى التقابلات، فنتوقّف عند بداية كل قسمة ونهايتها.
- الجملة الأولى في القسمة الثانية (4: 1) تذكّرنا أيضًا ببداية القسمة الثانية
فلنخشَ ما دام أحد منكم متخلّفًا (4: 1)
احذروا ما دام لأحد منكم يرتدّ(3: 12)
- إن الجملة الأولى في القسمة الثالثة (4: 6) ترتبط ربطًا مباشرًا بنهاية القسمة الثانية (4: 5): لم يدخلوا في (4: 6) تعود إلى ((لن يدخلوا في راحتي)) (4: 5). وهذه الجملة عينها (4: 6) تتضمّن تلميحًا إلى بداية القسمة الثانية (4: 1 - 2). بل هي توجزها: بقي أن بعضًا دخلوا (4: 6) هي صدى: بقي وعد الدخول (4: 1). ((الذين بُشِّروا أولاً)) (4: 6) تذكرنا بما في 4: 2: ((البشارة بالموعد كانت لنا أيضًا)). وأخيرًا، لفظ ((ابايتايا)) (عصيان) الذي يجعل القسمة الثالثة في تضمين (4: 6 ،11)، قد هيّئت في نهاية القسمة الثالثة (3: 18) مع فعل ((ابايتيساسين)) (عصوا).
بسبب هذه الرباطات المتعدّدة عكست الجملة الأخيرة في القسمة الثالثة مجمل التفسير
- مع عصيان ودخل هي تشكّل تضمينًا مع بداية القسمة الثالثة (4: 6).
- مع دخل في الراحة، هي تعود إلى نهاية القسمة الثانية (4: 5).
- مع هذه العبارة عينها وببنيتها، شكّلت أيضًا تضمينًا مع بداية القسمة الثانية (4: 1). هنا، نستطيع أن نقابل 4: 1 و 4: 11.
- تشكّل عبارة ((دخل في الراحة)) ولفظة ((عصيان)) رباطًا مع نهاية القسمة الثانية (3: 18 - 19).
- ونكتشف أخيرًا علاقة بنية ومضمون مع الجملة الأولى في القسمة الأولى، أي في بداية تفسير المزمور 95: لئلاّ (هينا مي) قريبة من ((بلاباتي)) (احذروا) في 3: 12. والعصيان (ابايتايا) قريب من اللا إيمان (أبستيا)، والسقوط (باسي) من التخلّف (ابوستيناي).
وترد قطعة قصيرة بعد تفسير المزمور: هي امتداح لكلمة الله (رج حك 7: 22 - 8: 1).
4: 12 كلمة الله حيّة
وفعّالة
وأمضى من كل سيف ذي حدّين
تنفذ حتّى مفرق النفس والروح
والاوصال والمخاخ
وتميّز خواطر القلب ونيّاته،
4: 12 وما من خليقة مستترة عنها.
بل كل شيء عار ومكشوف لعينها
ولها نؤدّي حسابًا (لوغوس).
إن ((غار)) يربط آ 22 بما سبق: فالعصيان لا يمكن إلاّ أن يُعاقب، لأن كلمة الله تحمل قوّة هائلة. أن اللفظة ((حيّ)) التي قرأناها في بداية القسمة الأولى في عبارة ((الله الحيّ)) قد هيّأت الطريق لهذه القطعة. وهناك تضمين يبدأ هذه الجملة الطويلة ويبنيها: في البداية: لوغوس تو تيو. وفي النهاية: ((هامين لوغوس)). نشير إلى أن معنى لوغوس يختلف. في البداية: كلمة الله. وفي النهاية: الحساب الذي نؤديه. ونجد غرابة حين نلاحظ أن ((بروس هون)) (له) يدلّ في البداية على الكلمة: توجّه الكلمة إلى الكلمة. في الواقع، تحوّلت كلمة الله وغاصت في نهاية الجملة مع الله. عندئذ يفهم القارئ أنه مسؤول أمام الله. تقبّلنا كلمة الله، يجب أن نجيب عنها، بل يُطلب منا حساب بسببها.
تقسم الجملة قسمين. في الأول، لوغوس هو الفاعل مع خمس صفات (حيّ، فعّال، ماض، ينفذ، يميّز). في الثاني، لم يعد لوغوس الفاعل، بل نحن أمام عبارتين: واحدة سلبيّة (ما من خليقة) والثانية إيجابيّة (بل كل شيء). وفي النهاية يأتي الحكم: له نؤدّي الحساب.
إذن، يشكّل مديح كلمة الله هذا قطعة مدروسة تمثّل في بنية الاتجاه (3: 1 - 4: 14) مكانة محدّدة: إنه يقابل ايراد المزمور. يتوازى الاستشهاد بكلمة الله مع مديح كلمة الله من هذه الجهة من التحريض ومن تلك.
3: 7 - 11: إيراد كلمة الله
3: 12 - 19: قسمة أولى
4: 1 - 5: قسمة ثانية
4: 6 - 11: قسمة ثالثة
4: 12 - 13: مديح كلمة الله.
ليس المديح تحريضًا، ولكن قد يبدو التحريض بشكل عرض تعليميّ (4: 8 - 10). ثم إن المديح توخّى النتيجة التي توخّاها التحريض: ألهم الاحترام والخضوع لنداء الله. وهكذا يشكّل مديحُ الكلمة خاتمة المقطع التحريضي (3: 7 - 4: 13).
ونقرأ
4: 14: وإذ لنا حبر عظيم قد اجتاز السماوات،
يسوع ابن الله،
فلنبث على الاعتراف.
وهكذا نعود إلى 3: 1 (حبر، سماوات، يسوع، اعتراف). أما ((سماوات)) فتقابل ((سماوي)). حين أعلن الكاتب أن يسوع اجتاز (دخل) السماوات، كشف أساس دعوة المسيحيي السماويّة (3: 1)، فدلّ بهذه الطريقة على العلة التي تحرّك فينا الثقة (4: 10 - 11). أما فعل ((كراتاين)) (ثبت) فهو امتداد لتحريض قرأناه في 3: 7 - 4: 11 وامتداد له.
وينتهي هذا الاتجاه مع 4: 15 - 16 الذي يشكّل خاتمة الاتجاه الأوّل، ومقدّمة الاتجاه الثاني:
4: 15 فإن الحبر الذي لنا ليس عاجزًا عن الرثاء لأسقامنا، بل هو مجرّب في كل شيء، على مثالنا، ما خلا الخطيئة.
4: 16 فلنقترب إذن في ثقة إلى عرش النعمة
لننال رحمة
ونجد نعمة تعيننا في الحاجة.
ماذا نجد في هاتين الآيتين.
أولاً، هما تؤمّنان الرباط مع ما سبق. فالبنية تستعيد بنية آ 14. ما قرأنا فيها (لنا حبر عظيم) يتلاقى مع آ 15 (ليس لنا حبر عاجز). ونهاية آ 14 (نثبت على الاعتراف) تتلاقى مع آ 16 (لنقترب).ثانيًا، هما تذكّران بالموضوع الذي أعلن في 2: 17 - 18:
4: 15 حبر 2: 17 حبر
يستطيع 2: 18 يستطيع أن يرثي 2: 18 ابتلي
جرّب (الكامل) 18:2 جرّب (صيغة الاحتمال)
شبيه في كل شيء 2: 17 شبيهًا بإخوته
4: 16 لكي ننال الرحمة 2: 17 ليكون رحيمًا
لعون مناسب 2: 18 يستطيع أن يعين.
ثالثًا: ذكّرت آ 14 - 15 إعلان الموضوع. وأخيرًا، لعبت دور المقدّمة. تُذكر الكلمات: ((الحبر)) يعود في 5: 1 ،5 ،10. ويعود ((الرثاء)) في 5: 2، والألم في 5: 8 ،والضعف في 5: 2، 7. ويعبَّر عن هدف المحنة: تعلّم الطاعة (5: 8). ويحدّد نوعُ العون: الخلاص الأبديّ (5: 9). وأخيرًا، يلتقي 4: 15 - 16، مع 5: 8 - 10 في ذكر آلام المسيح، وكهنوته، والخلاص الذي يحمله.

2 - الاتجاه الثاني: يسوع حبر رحيم (5: 1 - 10)

أ - نقرأ النص:
5: 1 فإن كل حبر يؤخذ من الناس
ويُقام لأجل الناس في ما هو لله
لكي يقرّب تقادم وذبائح عن الخطايا
5: 2 وهو قادر أن يترفّق بالجهّال والضالين
لكونه هو أيضًا متلبِّسًا بالضعف
5: 3 ولذلك يلزمه، كما من أجل الشعب،
كذلك من أجله، أن يقرّب عن الخطايا
5: 4 ولا يأخذ أحد لنفسه هذه الكرامة
إلاّ من دعاه الله
كما دعا هارون.
5: 5 كذلك المسيح أيضًا
لم يمجّد نفسه ليصير حبرًا
بل ذاك الذي قال له:
أنت ابني وأنا اليوم ولدتك.
5: 6 كما يقول في موضع آخر:
أنت كاهن إلى الأبد، على رتبة ملكيصادق.
5: 7 إنه هو الذي، في أيام بشريّته، قرّب تضرّعات وابتهالات، في صراخ شديد ودموع، إلى القادر أن يخلّصه من الموت
وإذ استجيب له بسبب ورعه
5: 8 ومع كونه ابنًا تعلّم الطاعة، ممّا تتألمه.
5: 9 ولما بلغ الكمال،
صار لجميع الذين يطيعونه علّة خلاص أبديّ
5: 10 بما أن الله أعلنه حبرًا على رتبة ملكيصادق.

ب - القسمة الأولى (5: 1 - 4): تحديد الحبر
- في 5: 1أ، نقرأ أن الحبر أقيم لما هو الله. ويحدّد 5: 4 كيف أقيم: لا يعطي نفسه هذه الكرامة، بل يدعوه الله.
- في 5: 1ب كلام عن التقدمة: يقرّب تقادم وذبائح. وفي 5: 3 ،يحدّد الهدف: يقدم ذبائح عن الخطايا من أجله ومن أجل الشعب.
- يستعيد 5: 2 المقدمة (4: 17) ويعبّر عن الشرط الأساسيّ للكهنوت: تضامن ناشط مع الناس الذين يعينهم: يترفّق بالجهّال والضّالين لكونه متلبسًا الضعف. رج 2: 10 - 18.
ج - القسمة الثانية (5: 5 - 10): تطبيق الكلام على المسيح
تشكّل آ 9 - 10 إعلان موضوع القسم الثالث. وتُقسم آ 5 - 8 في تواز متداور. إن 5: 5أ (لم يمجّد نفسه ليصير حبرًا) يتقابل مع 15: 8 ب (تعلّم الطاعة، بالآلام). يتقابل 5: 5 ب (أنت ابني) مع 5: 8 أ (كونه ابنًا). 5: 7ج (استجيب لورعه) يفسّر 5: 6 (أنت كاهن إلى الأبد). وتبقى العبارات التي تتحدّث عن ضعف المسيح.
كيف ينضمّ كل هذا إلى إعلان الموضوع؟ حين نقرأ المقطع كلَّه نحسّ أن اسم الفاعل (بالغًا الكمال، 5: 9 أ) يستعيد بشكل آخر فكرة عبّرت عنها الجملة السابقة: تعلّم بما تألّم (5: 8). وهذا الشعور يتأكّد حين نتذكّر أن الكاتب ربط التكملة بالألم. قال في 2: 10: بآلامه قاد إلى الكمال. وعبارة ((الذين يطيعونه)) (5: 9 ب) هي صدى واضح للطاعة التي بها نال المسيح الحقّ بأن يُطاع. وتعود بنا ((علّة خلاص أبديّ)) (5: 9 ج) إلى ((التضرّعات التي وجّهت إلى القادر أن يخلّصه من الموت)) (5: 7). فكما نال الطائع طاعة، كذلك صار المخلِّص مخلِّصًا. ونرى في صفة ((أبديّ)) تلميحًا إلى الايراد في 5: 6: إلى الأبد. أما ما تبقّى من الايراد، فقد استعيد في 5: 10: أعلنه الله حبرًا على رتبة ملكيصادق. وهكذا يرتبط اعلان الموضوع بشكل وثيق بالقسمة الثانية من المقطع، ويستعيد عناصره بشكل معاكس.

و - العلاقة بين قسمة (5: 1 - 4) وقسمة (5: 5 - 10)
إذا قابلنا القسمتين نجد عناصر متوازية. استعيدت نهاية القسمة الأولى (5: 4) لا بدايتها، في بداية القسمة الثانية (5: 5)، بحيث تكلّم قلب المقطع (5: 4 - 6) عن الدعوة الكهنوتية. ثم إن 5: 1 ينعكس في 5: 9 - 10. نجد هنا وهناك لفظ ((حبر)) مع فكرة حول دور يتمّ (غامضة في 5: 1: لأجل. ووواضحة في 5: 1: علّة خلاص من أجل). وتقابلَ قلبُ 5: 5 - 8 مع قلب 5: 1 - 4: هنا كلام عن الضعف. وهناك تصوير للضعف. وفي الحالين، يُربط هذا الضعف بتقدمة الحبر وتشفّعه.
غير أن التوازي لا يمتدّ إلى كل التفاصيل. لا كلام عن الخطيئة إلاّ في القسمة الأولى، ولا كلام عن الخلاص إلاّ في القسمة الثانية. أشار 5: 1 إلى التقادم والذبائح. و5: 7 إلى الصلوات والتضرع. حدّد 5: 3 الهدف: من أجل الشعب ومن أجل نفسه. وترك 5: 7 - 9 القارئ يستنتج. في 5: 7 ،يبدو أن المسيح يقدِّم لكي يخلّص نفسه. وفي 5: 9 نفهم أنه نال خلاص جميع المؤمنين. لسنا هنا أمام تماثل وتماه، بل أمام تكامل.
ونعود إلى قلب البنية. ((تيمين)) (الكرامة)، تقابل ((إدوكساسن)) (مجّد). وهكذا يعود ((المجدوالكرامة)) كما في 2: 7 - 8 و3: 3. حين كرّر الكاتب هذا، شدّد مرّة أخرى على وحدة عرْضه، وأعطاه طابعه النهائيّ: المجد والكرامة اللذان يكلّلان المسيح هم مجد كهنوته وكرامته.
في 5: 4 نقرأ ((الله)). في 5: 5 نجد عبارة: الذي قال له. وفي كل مرة يرد استشهاد كتابي مع ((كاتوس كاي)) (كما). يرى عدد من الشرّاح أن الايراد الأوّل يدلّ على أساس كهنوت المسيح: المسيح هو حبر لأنه الابن. والايراد الثاني يحدّد طبيعة هذا الكهنوت: لسنا أمام كهنوت شبيه بكهنوت هارون، بل كهنوت صوِّر مسبقًا في كهنوت ملكيصادق.
أورد الكاتب الآية الأولى من مز 110. ولكنه لم يورد الآية الرابعة (أنت كاهن) التي تؤمّن أساس براهينه. ولكن قرّاءه لم يعتادوا أن يطبّقوا على المسيح نصًا يتحدّث عن الكهنوت. فقد اعتادوا الكلام عن تتويج ملكي لمسيح هو ابن الله،. إذن، انطلق من هذا المنظور. واستند إلى نصوص تقليديّة (مز 2 - 7؛ رج أع 13: 33؛ مز 110: 1؛ رج أع 2: 34). ولكنه أدخل في الوقت عينه عناصر تقليديّة ولكن غريبة عن منظور الكرامة الملكية: التطهير من الخطايا (1: 3؛ 2: 17)، المرور في الألم (2: 9 - 10). هذه العناصر هيّأت 2: 17: وجب أن يكون المسيح حبرًا. وما إن وضع الكاتب هذا الاعلان، حتى بدأ برهانَه متوسّعًا في متضمّنات الكهنوت: الأمانة والرحمة. وفي قلب هذا الاتجاه، في 5: 5، وصل إلى البرهان الكتابيّ الذي يستند إليه طرحُه استنادًا واضحًا. ويكفيه لذلك أن ينتقل في المزمور 110 من الآية الأولى إلى الآية الرابعة: عندئذ يفهم سامعوه أن تتويج المسيح الملكي كابن الله يترافق مع تولية كهنوتيّة. فابن الله هو أيضًا حبرنا الكامل. ذاك هو الوحي العظيم في عب، الذي هيّأ له صاحب الرسالة. لقد وصل الكاتب إلى قلب موضوعه، فنبّه قرّاءه (5: 11 - 6: 12)، ولكنه سوف يتابع عرضه حتى نهاية الفصل العاشر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM