الفصل الثالث: الابن المتأنّس أعظم من الملائكة

 

الفصل الثالث
الابن المتأنّس أعظم من الملائكة
1: 5 – 2: 18

هذا الموضوع الأول في عب، الذي هيّأنا له 1: 4 (أعظم من الملائكة)، يوضحه الكاتب في آ 5 بحسب قاعدة التسلسل التي سنكتشفها في الرسالة كلها. هذا القسم لا يضيف شيئًا إلى كرامة الابن الشخصيّة، بل يوضح تفوّق دوره في الخلق وتدبير الخلاص. فبعد البرهان الكتابي (1: 5- 14)، يأتي تحريض يحثّ المؤمنين على الطاعة لكلام المسيح (2: 1- 4). إن الذين عصوا الشريعة التي حملها الملائكة عوقبوا عقابًا قاسيًا، فما يكون مصيرنا إن نحن كنا خائنين للانجيل الذي لم يحمله الملائكة، بل ابن الله. ويرد اعتراضٌ حول تفوّق الابن على الملائكة: أما يتعارض اتضاع المسيح مع ارتفاعه؟ وجاء الجواب: إن السلطان الشامل الذي وُعد به المسيح لم يتحقّق خلال حياته على الأرض. فوجب عليه أن يمّر في الاتضاع قبل أن يصل إلى المجد. ووجب عليه أن يصير شبيهًا بالبشر ليكون الحبر الامين والرحيم الذي يكفّر عن الخطايا فيحمل إلينا الخلاص (2: 5- 18)

1- الابن يتفوّق على الملائكة (1: 5- 14)
نجد في هذا المقطع الأول عددًا من الاستشهادات الكتابيّة التي يقدّمها صاحب الرسالة ليتوسّع في طرحه ويبرهن عنه. وعلى كل هذه النصوص أن توضح مضمون الاسم الذي ورثه المسيح، وتُبرز تفوّقه على اسم الملائكة (1: 4). فما هو الترتيب الذي نجده في هذه الايرادات؟ في الواقع عاد الكاتب إلى نهج بسيط جدًا ليدلّ على مراحل ثلاث في عرضه: استعاد ثلاث مرات عبارة بها يقدّم استشهاده مع اختلافات طفيفة.
نقرأ في البداية: ((فلمن من الملائكة قال (صيغة الاحتمال) قطّ)) (1: 5)
وقبل المرحلة المركزيّة: ((وأما عن الملائكة فقال... (صيغة الحاضر) (1: 7)
وقبل النهاية: ((فلمن من الملائكة قال (صيغة الكامل) قط)) (آ 13).
وكل عبارة من هذه العبارات تبدأ بمقابلة بين المسيح والملائكة. تبدأ المقابلة الأولى بإيرادين يشيران إلى المسيح، وتنتهي بايراد ثالث يشير إلى الملائكة. نقرأ في 1: 5:
((فلمن من الملائكة قال قط:
أنت ابني،
أنا اليوم ولدتك.
وأيضًا:
أنا أكون له أبًا
وهو يكون لي أبنًا)).
وفي 1: 6:
((ولكن عندما يدخل البكر من جديد إلى العالم يقول:
لتسجد له جميع ملائكة الله)).
نلاحظ العناية التي بها رتّب الكاتب نصّه. يتضمّن قسمين متقابلين مع الاداة ((دي)) (لكن). الأول (آ 5) يعظّم ذلك الذي نال اسم الابن. والثاني (آ 6) يحطّ أمامه الملائكة. ترتّب الايرادان في آ 5 فشكّلا توازيًا متداورًا ( أ.ب. ب ب. أ أ). تتكلّم الجملة الأولى والجملة الاخيرة عن البنوّة، والثانية والثالثة عن الأبوّة. كما نلاحظ أن عناصر الجملتين الثانية والثالثة تتقابل في سلسلة متوازية: أنا ولدتك... أنا أكون أبًا. أما الجملتان الأولى والأخيرة فتردان في سلسلة متداورة: ابني (أنا) تكون أنت... ابنا لي يكون هو. فينتج عن ذلك أن الابن يحيط بشكل إطار، بهذه المجموعة الأولى من الاستشهادات. هو الكلمة الأولى والاخيرة.
والتضمين الجزئي حول اسم الابن يدخل في تضمين إجماليّ يستعمل اسم الملائكة. وإذ أراد الكاتب أن يحصل على هذا التضمين الأخير لجأ إلى حيلة: أدخل استشهاداته الاولى بواسطة استفهام بلاغيّ يتطلّلب جوابًا سلبيًا. وهكذا أسبق النصوص التي تدلّ على الابن بعبارة تتكلّم عن الملائكة (1: 5). ظلّ مهتمًا بالتوازي، وعامل الجزء الثاني من النصّ معاملة مشابهة: وهكذا جاء النصّ الذي يعني الملائكة بعبارة تتحدّث عن الابن (البكر 10: 6)
في آ 7 عادت لفظة الملائكة بشكل لفظ عاكف. وجاء التعارض الثاني بارزًا بفضل اداتين: مان، دي:
1:7 وفيما يخصّ (كاي بروس مان) الملائكة يقول:
صنع ملائكته أرواحًا (أو: رياحًا).
وخدّامه لهيب نار.
1: 8 وأما فيما يخصّ (بروس دي) الابن:
عرشك يا الله، إلى أبد الأبد
و
صولجان الاستقامة صولجان ملكك.
1: 9 أحببتَ البرّ وابغضت الاثم،
لذلك مسحك الهك يا الله
بزيت بهجة دون رفقاتك
1: 10 و
أنت يا رب، في البدء، أسّست الأرض
والسماوات هي صنع يديك
1: 11 هي تزول وأنت تبقى
وكلّها تعتق كالثوب
1: 12 تطويها كالرداء
وكالثوب تتبدّل
أما أنت فعلى الدوام أنت، وسنوّك لن تنقضي.
جاء الترتيب هنا معاكسًا كما في 1: 5- 6: أولاً الاستشهاد الذي يشير إلى الملائكة. ثم الاستشهادات التي تنطبق على الابن. ويأتي الاستشهاد عن الملائكة في عبارتين متوازيتين يجد فيهما الكاتب تأكيدًا لوضع الملائكة الخاضعين: ملائكته (أ) أرواح (ب)
خدّامه (أأ) لهيب نار (ب ب).
انطبق الايراد الأول على الابن (مز 45: 7- 8)، فأعطاه لقب الله في البداية وفي النهاية: عرشك، يا الله (1: 8)... مسحك، يا الله (1: 8)... مسحك يا الله (1: 9). هيّأت هذه التسمية عباراتٌ احتفاليّة في مطلع الرسالة (بهاء مجده وصورة جوهره). كما هيّأها اللفظ الأخير في التعارض السابق. إذا وجب على ملائكة الله (1: 6) أن يسجدوا أمام البكر، فلأنه يقاسم الله ذاته كرامته. وانضمّ إلى لقب الله كلام عن الملك (عرشك... صولجان ملكك)، وكلام عن مسحة عجيبة نالها بعد أن عمل ضد الاثم. فالشطران اللذان يتحدّثان عن بغض الاثم هذا، يقعان في قلب هذه القسمة الثانية التي هي بدورها في قلب المقطع كله (1: 5- 14). فإن بحثنا عمّا يقابله في المطلع، وجدناه في ((الجملة المركزيّة)) الثانية: ((بعد أن طهّرنا من خطايانا، جلس عن يمين الجلال)) (1: 3). هذا التقابل لا يلفت النظر، كما لا يلفت النظر موقعُ الجملة في المقطع. ولكن أما نلاحظ أن الكاتب أقحم ((كاي)) (حرف العطف الواو) في نصّ الاستشهاد قبل ((صولجان استقامة)) لكي يُبرز الجملة إبرازًا.
والايراد الثاني الذي ينطبق على الابن (مز 102: 26- 28) يمنحه لقبًا إلهيًا، لقب الرب. وينسب إليه الخلق. ((أنت يا رب، في البدء، أسّست الأرض)). نجد هنا أيضًا ما قيل في 1: 2، 3: الذي به أنشأ العالم (الدهور). الذي يحمل كل شيء بكلمة قدرته (كلمته القديرة). وتواصلُ الآيتان التاليتان (آ 11-12) إيراد المزمور، فتقابلان بين الخالق الباقي والخليقة العابرة التي صارت نهايتُها قريبة. وهكذا نعود إلى بداية ما قيل في الايراد السابق: عرشك، يا الله، إلى أبد الابد. وهذه الاشارة تنفصل عمّا تبقى بواو (كاي) العطف. وهكذا يبدأ التوسّع الثاني عن الابن وينتهي بإعلان أزليّته.
في نص مز 102 ،كرّر الكاتب أيضًا في آ 12 ((كالثوب)) (هوس هيماتيون). لماذا فعل ما فعل؟ لكي يكون التوازي تامًا. فالمزمور، في اليونانية، يقابل الشطرين الأولين مع الشطر الأخير:
ولكنها كالثوب تعتق،
وكالرداء تلفّها فتتبدّل.
أما أنت فأنت، وسنوّك لا تنقضي.
تركت عب هذا الترتيب وفضّلت عليها توازيين اثنين:
أ - الخلائق: وكلها كالثوب تعتق
ب - الخالق: وكرداء تلفّها (أنت)
أأ - الخلائق: كالثوب أيضًا تتبدّل
ب ب - الخالق: أما أنت فأنت، وسنوّك لا تنقضي.
بعد ذلك - تأتي المقابلة الثالثة بشكل طرح معاكس، بدون انتقالة:
1: 13 فلمن من الملائكة قال قط:
إجلس عن يميني
حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك؟
1:14 أوليسوا جميعهم أرواحًا خادمة تُرسَل للخدمة من أجل المزمعين أن يرثوا الخلاص؟
ترتبط هاتان الجملتان الاستفهاميتان بالقسمة السابقة (1: 7- 12). وآية مز ،110 إجلس عن يميني (1: 13)، تشير إلى العرش الالهيّ الذي ذُكر في آ 8. والوصف المعطى للملائكة الذين هم ارواح مكلّفون بالخدمة، يستغلّ ايراد آ 7: ((جعل ملائكته ارواحًا وخدّامه لهيب نار)). غير أن هذه النهاية تجعلنا نفكّر بالقسمة الأولى (1: 5- 6): هي موجزة مثلها وتستعيد ترتيبها (المسيح أولاً ثم الملائكة). وتبدأ بالطريقة عينها. ففي الحالين نجد استفهامًا بلاغيًا يبدأ آية مزمور الجلوس على العرش:
فلمن من الملائكة قال قط:
انت ابني (1: 5؛ رج مز 2: 7)
ولكن لمن من الملائكة قال قط:
إجلس عن يميني (1: 13؛ رج مز 110: 1).
بفضل هذا التشابه في البناء، توازى المزموران. قرّب الكاتب بينهما، وكان لهذا التقارب أهميّته. فقد هيّأ له منذ المطلع، فأكّد في العبارة الأولى المركزيّة أن الله كلّمنا في ابن (1: 2؛ رج مز 2: 7)، وفي الثانية أن هذا الابن جلس عن يمين الجلال (1: 3؛ رج مز 110: 1) ما هو هدفه؟ هذا ما لا نفهمه الآن. ولكننا نفهمه فيما بعد حين يرد المزموران، الواحدُ بعد الآخر. حينئذ نلاحظ أن الكاتب يجعل من هذا التقارب أساسًا يبني عليه طرحه الرئيسيّ.
إن التشابه بين 1: 13- 14 و1: 5- 6 يشكّل تضمينًا يدلّ على نهاية المقطع. ولكن دور هاتين الآيتين (آ 13- 14) لا يتوقّف هنا: فهما تهّيئان أيضًا المقطعين التاليين: فعبارة ((أرسلوا من أجل المزمعين أن يرثوا الخلاص)) (1: 14) تُدخلنا في المقطع الثاني (2: 1- 4) الذي هو نداء بأن لا نهمل الخلاص (2: 3). ويُعلن المقطع الثالث هو أيضًا: فالسّطر الأول من الايراد يتحدّث عن وضع تحت القدمين، وهي صورة تعود بإلحاح في 2: 5-8. وهكذا يلعب هذا التعارض الثالث والأخير بين الابن والملائكة، دورين: دور الخاتمة لما سبق والانتقالة لما يلي.

2 - كلام إرشاد (2: 1-4)
بعد المقطع الأول (1: 5- 14)، ها هو المقطع الثاني (2: 1- 4). استخرج الكاتب من تفوّق المسيح على الملائكة، الذي تكلّم عنه، نتيجة عمليّة: طلب طاعة وانتباهًا بالنسبة إلى البلاغ المسيحي. فعبّر عن هذا الاستنتاج في فكرة بسيطة ومباشرة:
2: 1 فلذلك يجب علينا أن نتمسّك (نتنبّه) بما سمعناه أشدّ التمسك لئلاّ نزيغ.
ثمَّ، يشرح في جملة طويلة كيف يرى العلاقة المنطقيّة مع ((لذلك)). بعد قول يشير إلى الملائكة، نقرأ قولاً يشير إلى الربّ كما في المقطع الأول: 1: 5-6 ،المسيح والملائكة؛ في 1: 7-12، الملائكة والمسيح؛ في 1: 13-14 ،المسيح والملائكة؛ في 2: 1-4، الملائكة والمسيح.
يتكوّن القول الأول من عبارتين معطوفتين، ترتّبتا بشكل متواز:
2: 2 فإن كانت الكلمة التي نطق بها بالانبياء (أ)
قد ثبتت، (ب)
وكل تعدّ ومعصية (أأ)
قد نال جزاء عادلاً (ب ب).
تتقابل أ مع أأ،وب مع ب ب، على المستوى الغراماطيقي (في أ وأأ: الفاعل.في ب و ب ب: الفعل) كما على مستوى المعنى (الكلمة - التعدّي؛ الثبوت والجزاء).
ويتكوّن القول الثاني من عبارتين تخضع الواحدة للأخرى بشكل تواز متداور:
2: 3 فكيف نُفلتُ نحن (ب ب)
إن أهملنا خلاصًا مثل هذا (أأ)
قد نطق به الرب أولاً (أ)
ثم ثبّته لنا الذين سمعوه (ب).
تتقابل ب ب مع ب، وأأ مع أ على المستوى الغراماطيقي ( ب ب و ب: فعل يتصرّف؛ أأ وأ: اسم الفاعل) كما على مستوى المعنى (أفلت، ثبت؛ خلاص يُهمَل، خلاص يُعلن).
وتتوسّع الجملة حتى تصل إلى نهايتها: جاءت أ وب أوسع من الشطرين السابقين، وزيد على ب مضاف مطلق:
2: 4 والله يؤيّد شهادتهم بالآيات والعجائب وشتّى المعجزات وبتوزيع مواهب الروح القدس حسب مشيئته
نجد علاقات وثيقة بين القول الأول والقول الثاني. فكل شطر في قول يقابل شطرًا في القول الآخر. فنظرة سريعة تجعلنا نلاحظ أن الشطرين المركزيين برزا في دائرة (أأ، ب ب، ب ب، أأ) والشطرين الخارجيين في تواز (أ ب... ب أ). وإذا نظرنا إلى توالي الالفاظ نلاحظ توازيها المتداور.
ثبّته
لنا لنا
سمعناه الذين سمعوه
بالملائكة بالرب
نطقوا نطق
بالكلمة خلاصًا
ثبتت
تعدّ مهملين
نفلت نفلت (آ 3)
كيف نحن.
الاستثناء الوحيد هو موضع ((ثبت)). جعل الكاتب الفعل ((بابايوتي)) (آ 3) في النهاية بسبب أهمّيته. فدرجة الاهتمام المطلوب تقاس بقوّة الوصيّة. ولكي نبرّر الظرف ((ياريسوتيروس)) (أشدّ التمسّك) في 2: 1 ،يجب أن نهتمّ لفعل ((ثبت)) في القول الثاني أكثر منه في القول الأول (بابايوس). ونلاحظ التوازي في مختلف العناصر. من جهة قول إيجابي: نال جزءًا عدلاً. ومن جهة ثانية، استفهام بلاغي: كيف نفلت. هنا نجد اسمين: تعدّ ومعصية. وهناك اسم فاعل: مهملين. وقد حلّ محل ((لوغوس)) في الشطر الثاني ((سوتيريا)) (الخلاص) الذي استعمل في نهاية 1: 14 ليهيِّيء هذا المقطع الثاني (2: 1- 4). برز لفظ ((الخلاص)) بعد أن أعلن مع صيغة التعجّب ((تيليكاوتيس)) (مثل هذا) وشُرح في جملة موصولية. لسنا فقط أمام تبديل في الألفاظ. بل تبديل في التدبير (اويكونوميا). لم يكتف الربّ بأن يحمل كلمة (لوغوس)، بل جاء بالخلاص (سوتيريا).
ولكن، بما أن هذا المقطع هو نداء إلى الانتباه، فقد ضمّ الكاتب فعل نطق (لالايستاي) إلى ((سوتيريا)) وإلى ((لوغوس)). وهكذا ربط إرشاده بالجملة الأولى في المطلع (لاليساس... إلاليسن 1: 1- 2). ويبرز اختلاف. في المطلع هناك تواز بين الانبياء والابن . وهنا التوازي يشير إلى الملائكة (أنغالون) والرب (كيريو). في 1: 1-2 ،كان تواز بين العبارة الاولى والعبارة الاخيرة. وفي هذا المقطع (2: 1- 4) نجد رباطًا منطقيًا في أساس هذا التوازي: لقد مرّ وحيُ العهد القديم بواسطة الملائكة. وهكذا نفهم لماذا اختار الكاتب الكرامة الملائكيّة في 1: 4 ،ليقابلها بكرامة الابن.

3 - طريق المجد (2: 5-8)
يتمّ الانتقال من المقطع الثاني إلى المقطع الثالث بواسطة الأداة ((غار)) (الفاء). لقد استعمل الكاتب حرف العطف هذا لينتقل من فكرة الثبات (والمتانة، بابايوس)، إلى فكرة ((السيادة)) (كيريوس، الرب). فالكلمة التي جاءت إلى البشر بواسطة الملائكة أضعف من الخلاص الذي يحمله الربّ: فالله لم يُخضع الخليقة الجديدة للملائكة.
إن فعل ((هيباتاكسن)) (أخضع، رتّب تحت) يجعلنا في منظور مز 110 الذي ورد في نهاية المقطع السابق (1: 13). وعبارة ((العالم الآتي الذي كلامنا فيه)) تعيدنا إلى القسمة الأولى في المقطع الأول (1: 6). وهكذا نلاحظ مرّة أخرى اهتمام الكاتب بتأمين التماسك في توسيعه لفكرته. فبفضل إيراد المزمور الذي منه أخذ ((هيباتاكسن))، سيساعدنا هذا الفعلُ على ادخال تأكيد كله مفارقة، في توسّع حول تفوّق المسيح: فالاسم الذي يجعل المسيح فوق الملائكة، يتضمّن اتضاعًا تحت الملائكة. ويتمّ إدخال هذه المفارقة بلباقة كبيرة: لا ينسى الكاتب لحظة واحدة منظاره الخاص وهو تفوّق المسيح. والاشارة إلى الاتضاع والألم لا تسيطر سيطرة تامة، بل تأتي بشكل صورة فوق صورة. من هنا، نجد في بنية المقطع سلاسة لم نعتد عليها.
هناك تضمين يدلّ على حدود المجموعة. وهو لا يترك خارجها إلا الآيات التي تُعلن موضوعَ القسم الثاني. فأولى كلمات المقطع (2: 5: فإنه ليس للملائكة) تجد جوابًا في كلمات آ 16: ((لم يأت لإغاثة الملائكة)). واللفظ الذي يلي ذكر الملائكة يتضمّن هو أيضًا قسمة أولى:
ليس للملائكة أخضع العالم الآتي (2: 5)... لم يترك شيئًا غير خاضع له (أنيبوتكتون، 2: 8).
هذه القسمة الأولى تتضمن إيراد مز 8 الذي يتحدّث عن أتّضاع تجاه (تحت) الملائكة:
2: 5 ليس للملائكة أخضع العالم الآتي الذي كلامنا فيه.
2: 6 فلقد شهد واحد في موضع ما قائلاً
ما الانسان حتى تذكره
أو ابن الانسان حتى تنظر إليه؟
2: 7 خفّضته حينًا (قليلاً) عن الملائكة (أ)
بالمجد والكرامة كلّلته (ب)
2: 8 أخضعت كل شيء تحت قدميه (ج)
فإذ أخضع له كل شيء، لم يترك شيئًا غير خاضع له.
حين قدّم الكاتب الايراد الكتابي، ظلّ في خطّ المقطع الأول: اهتمّ فقط بما يشير إلى كرامة المسيح الذي أخضع له الله كل شيء:
2: 8 في الواقع، لا نرى بعد
كل شيء مخضعًا له (=ج)
2: 9 أما الذي خفِّض حينًا (قليلاً) عن الملائكة (=أ)
يسوع، نراه،
بعد أن قاسى الموت،
بالمجد والكرامة قليلاً (=ب)
بحيث ذاق الموت لفائدة كل انسان، بنعمة الله.
كانت اختلافات على مستوى الاسلوب، حين استعادة العناصر الثلاثة في النصّ الوارد. ثم إن كل عنصر من هذه العناصر قد رافقه شرح قصير. وظلّ المنطور هو هو: منظور المجد. فالجملة تجد ذروتها في العبارة التالية: نراه مكللاً بالمجد والكرامة. ويُذكر ذكرًا واضحًا الألم والموت في ارتباطهما بالمجد: بقربهما ظهر اسمُ يسوع للمرّة الأولى في الرسالة. ولكن الكاتب امتنع من التلفظ بالاسم حتى الآن ليضمَّه ضمًا وثيقًا إلى طريق الاتضاع والألم التي قادته إلى الظفر.
ويسعى الكاتب في ولْي المقطع بأن يتوسّع في حواش زادها على آيات المزمور. ولكنه لا يوزّع الاشارات الأدبيّة الواضحة في بنية نصه. وبدلاً من أن يكرّر لفظ ((تيوس)) (الله) في 2: 9 بجعله لفظًا عاكفًا، نراه يُحلّ محلَّه في 2: 10 عبارة طويلة: ((ذاك الذي كل شيء لأجله، وكل شيء به)). لقد تحوّل ((بنتوس)) (كل) إلى ((ابناء كثيرين)) (بولوس هيوس). وعاد لفظ ((دوكسا)) (مجد). غير أن العلاقة بين الاستعمالين ليست وثيقة: في 2: 9 نقرأ عبارة مزدوجة ((المجد والكرامة)). في 2: 10 ،نقرأ فقط المجد. في 2: 9 ،نحن أمام المسيح مع التمجيد الذي سبق وناله. في 2: 10 ،نحن أمام أبناء كثيرين وتمجيد آت.
ومع ذلك، يتواصل البرهان بترتيب منهجيّ. تستعيد آ 10بشكل آخر ما قيل في الجملة السابقة (2:9) فتقدّم الطرح:
2: 10 أجل، كان لائقًا بالذي كل شيء لأجله، وكل شيء به،
المورد إلى المجد أبناء كثيرين،
أن يجعل قائد خلاصهم كاملاً، بالآلام.
نقرأ ((تالايوساي)) الذي يعني أتمّ. ترجمناه: جعل كاملاً (منح الكمال). ولفظ ((ارخيغوس)) الذي يعني: المبدئ، الرئيس، القائد.
في مرحلة أولى توسّعت آ 11- 13 في فكرة التضامن التي اجتذبتها آ 10 مع عبارة ((قائد خلاصهم)):
2: 11 لأن المقدِّس والمقدَّسين كلهم من أصل واحد.
لهذه العلّة لا يستحي أن يدعوهم إخوة، إذ يقول:
2: 12 سأبشّر باسمك اخوتي
وفي وسط الجماعة أسبّحك.
2: 13 وأيضًا:
أما أنا فأتوكّل عليك.
وأيضًا:
ها أنا والاولاد الذين أعطانيهم الله.
هناك علاقات واضحة بين نهاية 2: 13 وبداية 2: 10: فاللفظ الاخير (الله) في 2: 13 يقابل العبارة الأولى في 2:10 (كل شيء لأجله). ((بايديا)) (الاولاد) تقابل ((هيوس)) (الابناء). وتشير عبارة ((ها أنا والاولاد)) إلى ((قائد)) (ارخيغوس). غير أننا لا نجد علاقات واضحة على مستوى الشكل الأدبي.
في مرحلة ثانية، تشرح آ 14، 15 ضرورة الكمال بالآلام (2: 10)، فتصل بمتطلّبة التضامن حتّى الموت. فلفظ ((تاناتوس)) (الموت) الذي يتكرّر مرتين في آ 9 (ولكنه لا يرد في آ 01-13) يعود ثلاث مرات في آ 14-15، أما اللفظ الذي يربط آ 11-13 مع آ 14-15 فهو ((بايديا)) (أولاد). وهكذا انطبعت الجملة من أولها إلى آخرها بنوعين من التوازي ونوعين من التقارب:
2: 14 إذن فبما أن الأولاد (أ)
يشاركون في الدم واللحم (ب)، تواز
فهو أيضًا كذلك (أأ) اشترك في هذه الاشياء عينها (ب ب)، تشابه.
لكي بالموت (ج)
يبيد (ينتزع قوّة) (د) تواز
من كان له سلطان (د د)
الموت (ج ج).
وترد معترضة تجعلنا نرتاح بعض الشيء:
أعني إبليس.
ويتتابع النصّ كما في الترتيب السابق:
2: 15 ويُعتق أولئك (هـ)
الذين، خوفًا من الموت (و)، تواز
خلال الحياة كلها (وو)
كانوا خاضعين للعبوديّة (هـ هـ)، نقائض.
تعود نهاية هذه الآيات إلى عناصر قرأناها في 2: 10 وما وجدت لها مكانًا في آ 11-13: يستعيد ((أعتق)) فكرة الخلاص. ويشير الموت إلى الآلام. وتعارض العبوديةُ المجد.
وتأتي آ 16 فتختتم مجموعة بدأت في 2: 10:
2: 16 فإنه لم يأت لإغاثة الملائكة
بل لإغاثة نسل ابراهيم.
الاغاثة هي تعبير واضح عن التضامن الذي يفرضه دور القائد (ارخيغوس). ونستطيع أن نقول أيضًا: الاهتمام بنسل ابراهيم. وإذا تذكّرنا تك 13-22 (13: 16؛ 15: 5؛ 17: 4-6؛ 22: 17) نرى أن ((نسل ابراهيم)) يقابل ((الابناء الكثيرين)). ولكننا لا نستطيع أن نتحدّث عن تضمين حقيقيّ بين 2: 16 و2: 10. غير أن هناك تضمينًا بين 2: 16و2: 5: فالإشارة الأخيرة إلى ((الملائكة)) هنا، جاءت بشكل مصطنع، فتوخّت أن تذكّرنا ببداية المقطع (2: 5)، بل ببداية القسم الأول كله (1: 5)، وتنبّه القارئ إلى أن التوسيع حول اسم المسيح الذي يختلف كل الاختلاف عن اسم الملائكة (آ:4)، قد وصل إلى النهاية.
وفي النهاية نقرأ جملتين تعلنان القسم الثاني:
2: 17 ومن ثمّ كان لا بدّ له أن يكون في كل شيء شبيهًا بإخوته.
لكي يكون رحيمًا
وحبرًا أمينًا فيما هو لله
ليكفّر خطايا الشعب.
2: 18 إذ إنه، هو نفسه، تألّم وابتلي (صيغة الاحتمال)،
صار في طاقته أن يُغيث (صيغة الحاضر) المبتلين.
بما أن هاتين الايتين لا تدخلان في التضمين، نظنّ أن لا علاقة بين مضمونهما والطرح السابق. ولكن هذا عين الخطأ: فهما يقعان في امتداد ما قيل من قبل: هناك الألفاظ عينها. وهناك الألفاظ المترادفة. مثلاً، ((اوفيلان)) تعكس ((ابرابان)) في 2: 10 (كان لائقًا). يعود ((الاخوة)) إلى 2: 12. ويقابل ((شبيهًا)) ما في 2: 14 (مشتركون). ((تألّم)) يقابل ((الآلام)) في 2: 10، والألم في 2: 9. ((يغيث)) يشير إلى ((يعتق)) في 2: 15، وإلى ((الخلاص)) في 2: 3 و1: 14.
نجد هنا أيضًا عددًا من الألفاظ التي تقدمّ تفاصيل جديدة ستكون موضوع التوسّعات الآتية. هي ما جاءت عن طريق الصدفة، بل هُيِّئت لها الطريق. هناك لفظ ((أمين)) (بستوس) هيّأه 2: 13: أتوكّل عليه. وأضاء عليه ((الثبات)) المرتبط بتدبير الخلاص الذي أعدّه المسيح (2: 3-4)، وما قيل في المقطع الأول عن علاقة المسيح بأبيه. فالأمين في العهد القديم هو الذي يثبت في اتحاده بالله، ويشارك الله في ثباته (رج لفظ ((أمين)) في العربية). والصفة الثانية (رحيم) ترتبط ارتباطًا واضحًا بما سبق، فتلخّص المقطع الثالث (2: 5ي) وتوضح نوعيّة التضامن الذي يوحّد يسوع بإخوته (2: 12)، وهم الأبناء الذي سلّمهم الله اليه (1: 13-14). ويترافق ((رحيم)) مع ((شبيه)) تألم، أغاث. ثم إن الكاتب شدّد على أن الألم يحتاج إلى إغاثة في وجهته كمحنة أو تجربة، وأشار إلى الخلاص المعطى بفضل عبارة ((كفّر خطايا الشعب)). هذا العبارة الاخيرة تساعدنا على أن نفهم ما أراد الكاتب أن يقوله في 2: 14 (لكي يبيد ... أي إبليس) وفي 1: 9 (أبغضت الاثم)، فتعود بنا إلى ما قرأناه في المطلع: ((طهّرَنا من خطايانا)) (1: 7).
والموصوف الذي يلي الصفتين (أمين، رحيم) يشكّل الجديد الجديد في هذه الخاتمة الانتقالية. نسب الكاتب للمرة الأولى إلى يسوع صفة حبر (عظيم كهنة). من الواضح أن ما قاله حتى الآن، لا يكفي حقًا لكي يؤسِّس هذا الاعلان أو ليوضحه: لهذا سيعود إليه مطوّلأ. ولكن من الواضح أيضًا أن الكاتب فكّر فيه منذ البدء وهيّأه. وجاءت الصفتان (أمين ورحيم) فعبّرتا عن سمتين أساسيتين في الكهنوت (علاقة بالله، علاقة بالبشر). فإن كانتا ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بما سبق، فهذا يعني أن التأكيد على كهنوت المسيح لم يأت فجأة. في 2: 10 جاء فعل ((تالايوماي)) (كمّل) في نهاية جملة مع ((ابرابان)) (كان لائقًا). وكان ((أرخياروس)) (الحبر) نهاية جملة مع ((أوفيلان)) (لا بدَّ). فالكاتب سيجعل في فعل ((تالايوو)) معنى كرّس (رسم كاهنًا) في خط البنتاتوكس (وضع الايدي، تالايوو تاس خايراس).
وهذا ما يقودنا إلى الظنّ بأن الكاتب يعتبر تسمية الحبر تعبيرًا يميّز بشكل خاص كرامة المسيح. لهذا استعملها لكي يتوّج هذا القسم الأول الذي موضوعه: اسم فوق اسم الملائكة (1: 4). ولكن عليه أن يتوسّع في هذا المضمون: هذا سيكون برنامج الأقسام التالية.
وأخيرًا، نقدّم ملاحظة إجمالية: ما انحصر القسم الأول في نقطة من النقاط، بل توسّع فيها كلها. لا شك في أن الكاتب لم يعامل كل نقطة كما عامل غيرها، بل توقّف بشكل خاص عند وجهة واحدة: تأكيد لكرامة المسيح وتفوّقه على الملائكة (1: 4). ولكن حين فعل هذا، لم يهمل ((كلمة الله)) (1: 1-2؛ رج 2: 1- 4)، ولا العلاقات بالخليقة (1: 2-3؛ رج 1: 10-12)، ولا العمل الفدائي (1: 3؛ رج 1: 9؛ 2: 10- 18) ونهايته في المجد (1: 3؛ رج 1: 13؛ 2: 9). وهكذا نكتشف اسلوب الكاتب: هو لا يقسم موضوعه أقسامًا يعود إليها بشكل منطقي. بل يجول في ((الحقل)) كله، ويلفت انتباهنا تارة إلى وجهة وطورًا إلى أخرى. وما رسمه هنا رسمة سريعة، يعمّقه هناك. وما توسّع فيه من قبل، يذكره في كلمة واحدة. نحن بعيدون عن منطق تعوّدنا عليه. ولكنّنا في الواقع مدعوّون لكي نخضع للحياة بما فيها من جديد دائم.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM