الفصل الخامس: مبادئ اليهودية، وحدانية الله

 

الفصل الخامس
مبادئ اليهودية، وحدانية الله

حين نتحدّث عن المبادئ نشير إلى أمور عديدة. إلى الأصل، إلى الينبوع، إلى السبب الأول. عند ذاك نتوقّف عند التوراة أو أسفار العهد القديم، ولا ننسى التقليد الشفهي الذي نجده في خطّ يبدأ في المشناة وينتهي في تلمود بابل الذي دوّن في القرن الخامس ب م. هذا دون أن ننسى الترجوم وسائر التوسّعات اليهوديّة. وقد نشير حين نتحدّث عن المبادئ إلى العناصر التي تؤسّس جماعة أو شعبًا أو ديانة. في هذا المعنى نتّخذ لفظة مبادئ في موضوعنا: "مدخل إلى مبادئ اليهوديّة". فنتوقّف عند ثلاثة أمور: وحدانية الله، شعائر العبادة، نظرة بني إسرائيل إلى أنفسهم على أنّهم الشعب المختار، وإلى علاقتهم بسائر الشعوب.
ونبدأ بالحديث عن وحدانية الله، عن المونوتاويّة أو التوحيد.
المونوتاويّة أو عبادة الله الواحد، تدلّ على شكل من الديانة، لا يوجد بحسبه سوى إله واحد. فبقدر ما نفهم المونوتاويّة في المعنى الحصري، أي الاعتقاد بإله واحد، ونفي واضح لجميع الآلهة الأخرى، نستطيع أن نتحدّث عن أصل مهمّ من أصول الديانة اليهوديّة التي تتلو كل يوم صلاة شماع: "إسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد" (تث 6: 4).
كيف وصل بنو إسرائيل إلى المونوتاويّة، بعد أن بدأوا بعبادة الآلهة المتعدّدة؟ كيف توصّلوا إلى الاعتقاد بإله واحد دون سائر الآلهة؟ وكيف تركوا جميع شعائر العبادة التي لا تتوجّه إلى يهوه، الإله الذي أخرجهم من مصر بيد ممدودة وذراع قادرة؟ نتوقّف هنا عند ثلاث محطات: عبادة الآلهة المتعددة التي يشير إليها يشوع في عهد شكيم. الهينوتاويّة التي هي خطوة إلى المونوتاويّة لم تكتمل بعد: تعترف بإله واحد تعبده، ولكنها لا تستبعد وجود سائر الآلهة. قد نقرّب هذه اللفظة من "مونولاتريا" التي تعني عبادة إله هو فوق سائر الآلهة.
جمع يشوع أسباط إسرائيل في شكيم وقال لهم: "في عبر النهر سكن آباؤكم منذ القديم، تارح أبو ابراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى" (يش 24: 1-3). هذا ما أعلنه يشوع عن جذور الشعب العبراني. ولا ننسى أن اسم تارح يرتبط بالإله القمر (ي ر ح). نشير هنا بالنسبة إلى ابراهيم أنه عرف العبادة الوثنيّة في بيت أبيه، ولكنه حطّم الأصنام، كما تقول التقاليد اليهوديّة. ولا ننسى أن راحيل أم يوسف وبنيامين، لم تتخلّ عن الآلهة التي عرفتها في حاران، بل حملتها معها إلى أرض كنعان (تك 31: 30-34).
عرف الآباء في ترحالهم آلهة "المناطق" التي كانوا يحاذونها. عرفوا إيل بيت إيل، وتعاهدوا مع أهل شكيم. أما يعقوب فكانت له معاهدة مع لابان الآراميّ ومع آلهته، فدخل في عهد معه وحلف باسم غير يهوه: "إله إبراهيم وإله ناحور"، أي إله الشعب العبراني وإله الشعب الآرامي. ونتذكّر سليمان الحكيم نفسه. لاشكّ في أنه بنى هيكلاً للرب لم يكن مثله. ولكنه بنى أيضًا هياكل لآلهة نسائه. يقول 1 مل 11: 4-8: وكان في زمن شيخوخة سليمان أن أزواجه ملن بقلبه إلى اتّباع آلهة غريبة... وتبع سليمان عشتاروت إلاهة الصيدونيّين، وملكوم رجس (هكذا سمّاه الكاتب الاشتراعي، لا سليمان) بني عمون... حينئذ بنى سليمان على الجبل الذي تجاه أورشليم (أي جبل الزيتون. سوف يسمّى في 2 مل 13:23 جبل الخراب) مذبحًا عاليًا لكاموش رجس موآب، ولمولك رجس بني عمّون. وكذلك صنع لجميع نسائه الغريبات اللواتي كنّ يقدّمن البخور ويذبحن الذبائح لآلهتهن.
وهكذا نكون قد انتقلنا من عبادة الآلهة المتعدّدة "التي عبدها آباؤكم (أي آباء الشعب العبراني) في عبر النهر، أو آلهة الأموريين الذين أنمَم مقيمون بأرضهم" (يش 24: 15)، إلى عبادة إله واحد لا ينفي وجود آلهة أخرى. هذا ما سميناه "الهينوتاويّة". لا شك في أن المقام الأول هو ليهوه في نظر سليمان. وقد بنى له هيكلاً على التلّة. ولكنه بنى أيضًا على التلال المجاورة مذابح وهياكل لآلهة نسائه. هنا نتذكّر أيضًا ما فعله أخاب من أجل زوجته إيزابيل، بنت اتبعل ملك الصيدونيّين: "عبد البعل وسجد له. وأقام مذبحًا للبعل في بيت بناه له في السامرة" (1 مل 16: 31-32). فكأنه قد صار في السامرة هيكل للبعل، كما في أورشليم هيكل ليهوه. ويتابع النص فيقول إن أخاب "أقام أشيره" أي نصبًا مقدّسًا يدل على إله كنعاني قديم عُرف في أوغاريت، وتماهى فيما بعد مع عشتاروت.
وهكذا اعتبر الشعب العبراني أن إلهه هو يهوه. وأن لكل شعب إلهه. فبابل يحميها الإله مردوك. وبنو عمون يحميهم مولك. وبنو موآب يحميهم كاموش. وهكذا دواليك. أما ما نجده من صفات تحقّر هذه الآلهة (رجس...)، فقد زيدت فيما بعد على ضوء الاصلاح الاشتراعي الذي تمّ في أيام يوشيّا في الربع الأخير من القرن السابع. بل كانوا يعتبرون أن الله قدير في أرضه، لا في سائر ممالك الأرض. إنه حاضر في الأرض المقدّسة وحسب، كأني به حارس يقف على حدود البلاد كي يحمي شعبه. هنا نتذكّر خبر داود الذي أجبر على الهرب من أرض الربّ إلى أرض الفلسطيّين. اعتبر أنه لم يعد في حماية الله، أنه مدفوع لأن يعبد آلهة أخرى لأنه ذهب إلى بلد آخر. قال لشاول: "نفوني (الأعداء) اليوم... ومنعوني (أو قطعوني) من الانضمام إلى ميراث الرب قائلين: اذهب وأعبد آلهة أخرى. والآن أرجو أن لا يسقط دمي على الأرض بعيدًا عن وجه الرب" (1 صم 26: 19-20).
أرض إسرائيل هي أرض الرب. وسائر الآراضي تخصّ سائر الآلهة. لهذا، يتعبّد الناس لإله المكان. في هذا المجال نفهم معنى سفر طوبيا: فمع أن طوبيت والد طوبيا يعيش في المنفى، إلاّ أنه يحفظ الشريعة حتى في ما يخصّ العشور. بل هو يمارس أعمال الرحمة مثل إطعام الجياع ودفن الموتى. فالله حاضر في أرضه، كما هو حاضر في المنفى حيث يقيم شعبه. ويخبرنا حزقيال النبيّ أن "مجد الرب ارتفع من وسط المدينة (أورشمليم) ووقف على الجبل الذي في الشرق" (أي جبل الزيتون) (23:11). أجل، ترك الله المدينة، ووقف ينتظر الذاهبين إلى المنفى لكي يذهب معهم. وحين يعودون سوف يعود معهم. قال حز 43: 2: "فإذا بمجد إله إسرائيل قد أتى من طريق الشرق، وصوته كصوت مياه غزيرة، والأرض قد تلألأت من مجده".
في هذا الإطار أيضًا نفهم الحكم القاسي على اليمالك زوج نعمي وابنيه محلون (زوج عرفة) وكليون (زوج راعوت) لأنهم تركوا أرض الآباء وذهبوا إلى أرض غريبة ونجسة، إلى أرض موآب. كما نفهم النظرة المعجبة إلى راعوت الغريبة التي قالت لحماتها نعمي: "حيثما ذهبت أذهب، وحيثما أقمت أقيم. شعبك يكون شعبي وإلهك إلهي. وحيثما تموتين أموت، وهناك أدفن" (را 1: 16-17). كما نفهم ما فعله يونان حين توجّه إلى الغرب، حاسبًا أن يد الرب لا تصل إلى هناك، كما أنها لا تستطيع أن تصل إلى الشرق. ولو وصلت إلى هناك لمنعت الأشوريين بعاصمتهم نينوى من التنكيل بسكان الأرض. ولكنه سيفهم فيما بعد أن يد الرب تصل إلى البحر وتحرّكه من أجل مشاريع الخلاص، تصل إلى ترشيش آخر حدود العالم. تصل إلى نينوى وتدعوها إلى التوبة فتتوب. الله هو إله أورشليم وهو إله نينوى. بل إن ما فعلته نينوى لم تفعله أورشليم. هي تابت ولبست المسح. "لكن إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم". (أش 1: 3).
ماذا نستخلص من كل هذه المعطيات؟ قبل موسى، عبدَ الآباءُ الله تحت أسماء مختلفة: إيل، الوهيم، يهوه، عولام أو إله الآباد (تك 2: 33). روئي أو الإله الذي يُرى أو يتراءى ويظهر (تك 13:16). هو الإله العليّ، عليون (تك 18:14-20)، هو شداي أي الإله الشديد أو إله الجبال لأنه هناك يُعبد في الحالات العاديّة (تك 17: 1؛ 35: 11). عُبد على جبل الرب في شمالي لبنان. عُبد على جبل حرمون، كما عُبد على جبل الأقرع، جبل صافون، شمالي أوغاريت. ويقول خر 6: 3 إن شداي هو الاسم الذي به كشف الله عن نفسه للآباء. ونلاحظ بشكل خاص علاقة هذا الاله بالأشخاص: إله ابراهيم (تك 24: 12-27). إله اسحاق (تك 46: 1-3). إله ابيك (تك 49: 25). إله آبائك (خر 3: 13). قويّ يعقوب (تك 49: 24) لأنه يعطي القوة ليعقوب. ورعب (أو قريب) يعقوب (تك 31: 42-53).
لا نفسّر هذه الأسماء المتعدّدة وكأننا أمام آلهة متعدّدة. فالعهد القديم يعارض "إله الآباء" مع "سائر الآلهة" (تث 29: 24؛ قض 2: 12). هي بالأحرى طريقة نعبّر فيها عن تواصل الأجيال التي خضعت لربّ الشعب. وقوّة هذا الإله وسلطانه لا ينحصران في موضع واحد (تك 18: 25)، ولا في مجموعة واحدة (تك 12: 3)، مع أن غير اليهود يعتبرونه إلهًا خاصًا بإسرائيل (تك 28:26؛ 27:30). ومع أن العبرانيّين لا ينكرون وجود آلهة أخرى تعبدها شعوب أخرى (تك 31: 35).
ولعبت شخصيّة موسى دورًا هامًا في تطوّر المونوتاويّة. فإله الآباء (خر 3:13، 15) كشف عن نفسه لموسى باسم يهوه، اسم الله الذي هو بالحقيقة، باسم الإله الذي يُعلن عن نفسه عاملاً من أجل شعبه المضطهد (خر 27:7). فحين خلّص الله بني إسرائيل من عبودية مصر، جعل من هذا الشعب ملكه الخاص (خر 19: 3)، عروسه (هو 2: 16؛ إر 2: 2؛ حز 16: 8، 14)، وعقد معه عهدًا (خر 3:24-8؛ 34: 1-35). وهكذا صار إسرائيل شعبه موحّدًا، يجتمع حول يهوه كما حول راية بها يرتبط بالرب وهي تحوي الوصايا العشر.
حين حرّر الرب شعبه، دلّ على أنه الإله الحيّ. هو يفعل كشخص حرّ، كالإله السامي وسيّد الكون (خر 15: 18: 19: 9؛ عد 23: 51). هو سيّد شعبه وسيّد البشر جميعًا. ففرعون نفسه يهاب هذا الإله. فبالأحداث المؤثرة التي رافقت بنود عهد سيناء (خر 9:19، 12-16)، دلّ الله على أنه الإله القدّوس والرهيب. مثل هذه الديانة تُعتبر ديانة توحيدية، مونوتاويّة، وإن لم تنكر أخبارُ الخروج وجودَ آلهة أخرى (خر 15: 11).
وأقام الشعب على أرض فلسطين. وأخذ بعادات الكنعانيّين، كما أخذ بالنظم الدينيّة والعباديّة في البلاد. عُبد الرب كالإله الوطني، الذي هو الرباط الرئيسي بين القبائل المشتّتة. وعُبد معه البعل وعشتاروت الكنعانيين ثم آلهة الفينيقيّين والأشوريّين والبابليّين (قض 2: 11-13؛ 3: 7-8؛ 1 مل 14: 22- 24؛ 31:16-34؛ 2 مل 2:21-7). وهكذا وُلدت ديانة شعبيّة تلفيقيّة لم يستطع إصلاح حزقيا أن يقتلعها، ولا إصلاح يوشيّا.
وندّد الأنبياء بقوّة بهذه الانحرافات. فوضع إيليا النبيُّ الشعبَ أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا يهوه، وإمّا البعل (1 مل 18: 21). وشدّد عا 3: 2؛ 5: 8؛ 7: 4؛ 9:8 على العدالة التي تدلّ على أن الشعب يعبد الرب حقًا. وحدّثنا هوشع عن علاقة الحب بين الرب وشعبه (3: 1؛ 11: 1). بعد ذلك من عبد آلهة أخرى، كان كأنه زنى، أي خان الرب كما تخون المرأة زوجها. وفي نظر أشعيا الثاني، يهوه هو وحده الإله الحقيقي. وهكذا ما اكتفى هذا النبيّ بأن ينكر سلطة سائر الآلهة. بل اعتبرها غير موجودة: نفى وجود آلهة غير الإله الواحد (أش 40: 19- 20؛ 7:41؛ 9:44-20). أما الأصنام فهي ضعيفة لا قوة لها. هي عمل إنسان صنعها (أش 8:2-20). فماذا يكون مثل هذا الإله؟ وحارب إرميا عبادة الأصنام، وشدّد حربه. وهكذا استلهمت كرازة الأنبياء التوحيد النقيّ الصافي الذي لا التباس فيه ولا مساومة.
وعى الأنبياء أنهم لا يقدّمون تعليمًا جديدًا، بل اعتبروا أنهم يستندون إلى وحي يعود إلى زمن موسى. وهذا الزمن كان زمن العلاقة المثاليّة الكاملة مع الربّ، زمن الحبّ الأول بين يهوه وشعبه (إر 2: 2؛ حز 16: 3-14؛ هو 2: 14-24). ويصل صراع الأنبياء مع واقع الشعب، إلى البعد الشامل لإيمان إسرائيل، كجواب جديد لمسألة عبادة الأوثان والتلفيق الدينيّ: إن سلطان يهوه يمتدّ إلى جميع الشعوب وهو يحمل إليهم الخلاص (أش 18:7-20؛ 8: 7- 10؛ إر 47:46)، كما فعل حين أرسل يونان إلى نينوى المدينة الوثنيّة الخاطئة.
وخلاصة القول، بدأ الآباء في عبادات آلهة عديدة، ومرّوا في ما سمّيناه الهينوتاويّة التي تعبد إلهًا ولا تنكر الآلهة الأخرى لدى الشعوب الغريبة. وسيكون تطوّر بطيء نابع من قلب شعب إسرائيل، يصل بنا إلى المونوتاويّة في أجلى نقائها في زمن المنفى. فيُعلن أشعيا الثاني بلسان الرب: "لا إله غيري" (45: 21). "لم يكن إله قبلي، ولا يكون بعدي، أنا الرب ولا مخلّص غيري" (43: 10- 11). "أنا الأول والآخر، ولا إله غيري" (44: 16). وهكذا نكون قد وصلنا إلى مونوتاويّة مطلقة تنفىِ نفيًا واضحًا وجود آلهة غير الإله الواحد. ذاك هو الخطّ الذي سار فيه الاسلام. عُبد الله بجانب آلهة القبائل ولكن الاسلام استبعد كل هذه الآلهة وقال: لا إله إلاّ الله. هذه المونوتاويّة قد أخذت بها المسيحيّة، ولكنها رفعتها حين وصلت بها إلى التعليم الثالوثيّ، الله واحد في ثلاثة أقانيم، الآب والابن والروح القدس.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM