الفصل السادس: شعائر العبادة في العالم اليهوديّ

الفصل السادس
شعائر العبادة في العالم اليهوديّ

كانت المونوتاويّة أو عبادة الله الواحد المبدأ الأول الذي درسناه حين أجملنا المبادئ اليهوديّة في ثلاثة مبادئ. أمّا المبدأ الثاني فهو العبادة أو بالأحرى شعائر العبادة التي هي أفعال خارجيّة نعبّر فيها عن إكرامنا لله، عن تعبّدنا وسجودنا له، عن إعلان ارتباطنا به وحاجتنا إلى عونه وبركته.
في كل الديانات، تقيم العبادةُ بشعائرها، علاقات بين الله والانسان. وحسب التوراة، مبادرة هذه العلاقات تعود إلى الله. النداء من الله، والجواب من الانسان، وجوابه جواب سجود في شعائر عبادة تأخذ شكلاً جماعيًا. العبادة هي عمل الجماعة. وهي لا تعبّر فقط عن حاجة الانسان إلى الخالق الذي به يرتبط ارتباطًا تامًا، بل هي تُتمّ فرضًا واجبًا: إن الله اختار له شعبًا ليخدمه وبالتالي يكون شاهدًا له. فعلى الشعب المختار أن يقوم بالمهمّة الملقاة على عاتقه فيقدّم له العبادة. هنا نتذكّر في العبريّة كما في العربية ما يحمل فعل عبد ومشتقاته من غنى. عبد الله أي وحّده، خدمه، خضع وذلّ وطاع له. وتعبّد أي انفرد للعبادة والنسك. واستعبد أي صار عبدًا لله في الطاعة لوصاياه والتعلّق به.
ونودّ أن نذكر التاريخ القديم لكي نفهم أساس فعل "عبد". فالآلهة الصغار تعبوا من خدمة الآلهة الكبار. لهذا قرّروا أن يخلقوا الانسان ليقوم عنهم بأعمال "العبيد". كم نحن بعيدون عن سفر التكوين حيث الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. كم نحن بعيدون عن روح الجنّة حيث يعمل الله مع الانسان، كالصديق مع صديقه، وعند المساء يتمشّى معه ويتحدّث.
إن العبادة في الكتاب المقدّس ولدى الشعب اليهودي، قد تبعت مسيرة العبادة لدى كل الشعوب القديمة في الشرق والغرب. فهناك أماكن العبادة. كانت في البريّة خيمة سمّيت خيمة الاجتماع. فيها يلتقي موسى بالله. ويحمل إلى الشعب نتيجة لقائه بالله. هذه الخيمة كانت في وسط الخيام لتدلّ على أن الله يقيم في وسط شعبه. أو تكون بعيدة عن الخيام للدلالة على أن الله هو الآخر الآخر الذي لا يُدنى منه. هو نار محرقة. ولما تحوّل العبرانيون من البدو إلى الحضر، أخذوا بالمعابد التي وجدوها في أرض كنعان، في بيت إيل وشكيم وحبرون وبئر سبع. وكانت محاولة إصلاح وجدت نقطتها الأخيرة مع يوشيا في نهاية القرن السابع ق م. ألغيت كل المعابد المحليّة، فلم يبقَ سوى هيكل أورشليم الذي فيه تُذبح جميعُ الذبائح. ولما هُدم الهيكل الأول سنة 587، توقّفت الذبائح إلى أن أعيد المذبح بانتظار عودة الهيكل. ولكن لما هُدم الهيكل الثاني سنة 70 ب م. زالت الذبائح وزال الكهنوت من الشعب اليهودي. واليوم يمارس اليهود شعائرهم بدون كهنة ولا ذبائح، ولا هيكل. تشير الرسالة إلى العبرانيّين إلى هذا الوضع، ولكنها تنقل النظرة من شعب إلى شعب، من شعب سار وراء موسى إلى شعب سار وراء المسيح، الذي هو الذبيحة الوحيدة، الذي هو الهيكل وموضع حضور الله على الأرض، الذي هو الكاهن الوحيد الذي لا يحتاج أن يقدّم ذبائح عن نفسه وعن الشعب. فقد قدّم ذاته مرّة واحدة في ذبيحة روحيّة فكان علّة خلاص لجميع البشر.
كان الهيكلُ موضعَ حضور الله واجتماع الجماعة. ولما تشتّت الشعب اليهوديّ أخذ يبني المجامع في كل موضع يُوجد فيه على الأقل عشرةُ رجال. فالمجمع أو الكنيس هو موضع الاجتماع يوم السبت والصلاة. وهو المدرسة الدينيّة. في المجمع يتلون صلاة "شماع"، إسمع يا إسرائيل وغيرها من الصلوات، يقرأون من التوراة بالمعنى الحصري للكلمة، ومن أسفار الأنبياء. وبعد ذلك تأتي العظة. هناك موظّفون في المجمع، لا كهنة.
أما مركز حضور الله، الوسيط بين الله والشعب، فهو الكتاب المقدّس. بواسطة الكلمة التي أوحيت في الماضي إلى موسى والأنبياء، يتّصل الانسان بالله. وأظنّ أن هذا هو الوضع بالنسبة إلى الاسلام حيث القرآن هو الوسيط بين الله والانسان.
وهناك الأزمنة المقدّسة. السبت أولاً الذي تفرعّ منه الفعل "سبت" أي استراح. ففي أساس السبت، تطلب الشريعة من المؤمن أن يستريح كما استراح الله بعد أن عمل "ستة" أيام في خلق العالم (تك 3:2). وتقول الوصية التي تلقّاها موسى على الجبل: "أذكر يوم السبت وكرّسه (قدّسه) لي. في ستة أيّام تعمل وتنجز جميع أعمالك. واليوم السابع سبت للرب إلهك (نهار لا يخصّك فتتصرف به كما تشاء، بل هو لله). لا تقم فيه بعمل ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وجاريتك وبهيمتك ونزيلك الذي في داخل أبوابك، لأن الرب في ستة أيام خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها، وفي اليوم السابع استراح. ولذلك بارك الرب يوم السبت وكرّسه له" (خر 20: 8- 11).
يبدو أن السبت (أو: الراحة) الأسبوعي أمر خاصّ بإسرائيل، ولا يجد ما يوازيه في العالم القديم. لا شك في أننا نجد في العالم السومري والبابلي "ش ف ت و"، وهو عيد شهري يقع في اليوم الخامس عشر من الشهر، في يوم البدر. اعتبروه يومًا يحمل البركة ورضى الله، فصار مناسبة احتفالات عباديّة. وذكرت كتب الطقوس في أوغاريت عيدين يرتبطان بالقمر: بداية القمر، ووسط القمر أو "عيد البدر" الذي كان الأهم بطقوسه وذبائحه.
هذا السبت الذي يختلف الشرّاح على أساسه، هل وُلد قبل المنفى ومع تأسيس اليهويّة، أي عبادة يهوه، الإله الواحد؟ هل وُلد بعد المنفى منطلقًا من عيد البدر كما عرفته الشعوب الشرقيّة؟ تبقى المسألة موضح الجدال. ولكن ما هو أكيد هو أن هذا اليوم جمع عنصرين رئيسيين: هو يوم صلاة وعبادة، هو يوم راحة وانقطاع عن العمل. إنه يوم مقدّس للرب، فلا يحقّ للانسان أن يتصرّف به كما يشاء. لهذا جاءت القوانين صارمة جدًا بحيث إن إنسانًا حمل الحطب يوم السبت فرُجم (عد 15: 32).
وسيتّخذ السبت حيّزًا واسعًا في الحياة اليهوديّة. فهو مع الختان علامة الانتماء إلى الشعب. وستكون له مكانته في المشناة والتلمود. ففي نظام "م و ع د" (الموعد، الزمن المحدّد) الذي هو النظام الثاني من المشناة الذي يعالج الشرائع التي تسود الأعياد، صغيرها وكبيرها، نجد في المقام الأول "ش ب ت" أو السبت، بفصوله الأربعة والعشرين. هو يحدّد الممنوعات في ذلك اليوم المقدّس.
وإذا عدنا إلى الوصايا الـ 613 بما فمِها من إيجابي (ما يجب أن نعمل) وسلبي (ما لا يجب أن نعمل) نجد مثلاً منع كل عمل يوم السبت، منع تعدّي الحدود يوم السبت... ومن اتصل باليهود اليوم، يعرف أنهم لا يشعلون نارًا يوم السبت ولا يهيّئون طعامًا...
السبت هو في جوهره يوم فرح وصلاة وتأمّل. يترك المؤمن جانبًا جميع الاهتمامات التي تحتل أيّام الأسبوع، ويكرّس هذا اليوم للدرس والراحة. يبدأ السبت في مساء الجمعة، عند غروب الشمس. تشعل ربّة البيت شمعتين وتتلو المباركة. وينتهي مساء السبت. في فترة من الفترات عيّدت فئات يهوديّة ليبراليّة يوم الأحد. ولكن جميع اليهود عادوا إلى السبت، لا سيما وأنه يوم عطلة في عدد كبير من بلدان العالم.
ومع السبت الذي هو مهمّ جدًا، لأنه يعود مرّة كل أسبوع، تأتي الأعياد الموزّعة على السنة. من عيد الفصح إلى الأسابيع ورأس السنة وعيد التكفير وعيد القطاف وعيد الفوريم. يحاول اليهود أن يعيّدوا هذه الأعياد دون أن ينظروا إلى ما تفعله الجماعات الأخرى. هم عالم في عالم. وهم يربطون عدّ السنوات بخلق العالم. فالسنة 1998 تقابل سنة 5759 وهي تبدأ في 21-22 أيلول. أما سنة 5760 فتبدأ في 11-12 أيلول.
ذكرنا أماكن العبادة والأشخاص الموكّلين بأعمال العبادة، الذين كانوا في الأصل ربّ البيت، رئيس العشيرة، الملك. ثم صاروا الكهنة واللاويين. واليوم جميع اليهود يستطيعون أن يقوموا بأعمال العبادة شرط أن يعيّنوا في هذا العمل أو ذاك. لم يعد من فئة مخصّصة في العالم اليهوديّ. لم يعد من كهنوت. يبقى أن نذكر في هذا الاطار الأعمال العباديّة.
أول هذه الأعمال هو الختان. وقد عرفته الشعوب الشرقيّة القديمة. فهناك نصوص مصريّة في المملكة القديمة والمملكة الحديثة تتحدّث عنه. وهو طقس قديم جدًا مورس ساعة كانت السكاكين بعد من صوّان، وما زالت يُمارس كذلك في الشعب اليهودي. في الأصل، الختان هو طقس استعداد للزواج وتنشئة على الحياة الزوجيّة. ولكنه صار يدلّ على انتماء الولد إلى شعب الله. لهذا يُمارس في اليوم الثامن، وقد أخذ أهمية كبيرة في زمن المنفى والشتات.
وثاني هذه الأعمال هو التطهير. فالطهارة والنجاسة شغلتا بال الأقدمين، فلجأوا إلى الماء وبالأحرى إلى الذبائح العديدة التي يقدّمونها للاله لكي يتنقوا من نجاستهم فيصبحوا أهلاً للمشاركة في الأعمال الطقسيّة. زالت الذبائح مع زوال الهيكل سنة 70 ب م، فلجأ المؤمنون إلى الماء والصلاة والمشاركة في يوم كيبور، يوم التكفير.
إن التلمود يربط بين مفهوم الطهارة والتطوّر الاخلاقي والروحي. "فالطهارة هي إحدى المراحل في طريق روح القداسة" (عبوده زره أو عبادة الأوثان 20 ب). "التوبة والأعمال الصالحة تقود إلى الطهارة وإلى القداسة" (بركوت 17 أ). ثم إن دراسة التوراة تُعتبر في ذاتها تطهيرًا. وقد قال النبي حزقيال ذاكرًا زمن الفداء: "أرشَّ عليكم ماء طاهرًا فتطهرون. أطهِّركم من كل نجاساتكم وكل أخطائكم" (36: 25).
شرائع كثيرة. بعضها عفّاه الزمن. ولكن الأتقياء (حسيديم) ما زالوا يشدّدون على الاغتسال الطقسي، إما بغسل الجسد كلّه وإما برشّ الماء على اليدين.
لن نتحدّث عن الذبائح التي زالت من حياة اليهود بزوال الهيكل الثاني والكهنة. من ذبائح محرقة (تحرق كلّها) إلى ذبائح سلامة أو اتحاد بين الله من جهة، والمؤمن وأصدقائه وأقاربه من جهة ثانية. ولكن الصلاة تحتلّ حيّزًا كبيرًا في حياة المؤمن. صلوات الصباح، بركوت هاشحر. صلوات المساء والنوم، صلوات تطلب المطر والطلّ، صلاة قبل السفر. ومع الصلاة هناك الصوم في 17 تموز (شهر عبري قمري، يمتدّ من 15 حزيران إلى 15 تموز)، وفي 9 آب، وفي يوم التطهير أو يوم كيبور الذي يقع في 10 تشرين. ولا ننسى المحرّمات العديدة ولاسيّما على مستوى الطعام والشراب، ما لا مجال لذكره في هذه العجالة.
في الأصل، علاقة الانسان مع الله بسيطة، شرط أن لا يتجاوز الانسان حدوده. عندئذ تنقطع العلاقة بين المؤمن والله. فيحتاج المؤمن إلى عمل عباديّ يعيد هذا التواصل. هنا نشير إلى الأمور الكثيرة التي أخذتها التوراة ثم العالم اليهودي عن الفينيقيّين والكنعانيّين والآراميّين، ولكنهم حاولوا أن ينقّوها من كل ما يمتّ إلى تعدّد الآلهة. ففي التوراة، لا نجد صراع الآلهة، بل الانسان الذي يقف أمام الله. من أجل هذا كانت كل شعائر العبادات محاولات تبقي الاتصال بين الله والانسان حاضرًا. أما المسيحيّة التي تجذّرت في العالم اليهوديّ، فقد عرفت هذا الاقتراب من الله بواسطة يسوع الذي هو إله وإنسان معًا. يعرف ما في الانسان من ضعف، كما يعرف ما في قلب الله من حنان وغفران.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM