الفصل الثاني : من البدايات حتى المنفى إلى بابل

الفصل الثاني
من البدايات حتى المنمى إلى بابل

نبدأ هنا تاريخ الشعب العبراني منذ ابراهيم الذي يعتبر أبا الشعب العبراني الروحي، بل أبا المسيحيين والمسلمين أيضًا، ونصل إلى سنة 587 ق. م، ساعة ذهب المنفيّون إلى بابل، فكان لهم هذا الذهاب نهاية حقبة وبداية حقبة. انتهت الملكيّة، وما عادت "أرض الموعد" مستقلّة وصارت أورشليم "مدينة الله" في أيدي الممالك الغريبة. وبدأ الشعب يتطلّع إلى انطلاقة جديدة ينعشها روح الله لا الأحلام الذهبيّة بملك يعيد المجد الغابر. بل سيكون الصراع دائمًا بين الوجهة الروحيّة التي فيها يكون الشعب العبراني خادم سائر الشعوب، فيحمل إليها خبرته عن الله، وبين الوجهة السياسية المنغلقة التي تعتبر الانفتاح على الآخرين موتًا.
تقول التقاليد العبريّة إن أصل ابراهيم العبري هو أور في بلاد الرافدين. هجر آباؤه تلك الحاضرة السومريّة المزدهرة (تقع أور بين المقير والعُبيد في جنوبي العراق) التي أصابها الانحطاط على أثر أزمة اقتصاديّة طويلة. ترك تارح والد ابرام (أو ابراهيم) أور إلى حاران على الفرات الأعلى (تك 11: 30).
ومن هناك ارتحل ابراهيم إلى أرض كنعان أو ما يسمّى اليوم فلسطين. هكذا اعتاد البدو أن يفعلوا كما تقول نصوص ماري الواقعة على الفرات.
أقامت عشيرة ابراهيم في شكيم (نابلس) وحبرون وبئر سبع وجرار. مناطق واسعة وسكان قليلون. وأول ما اقتناه ابراهيم كان مغارة يدفن فيها امرأته بانتظار أن يُدفن هو فيها، مغارة المكفيلة القريبة من حبرون (تك 27: 13- 20).
كانت العشيرة تتألّف من بضع عشرات من الرجال، بمن فيهم العبيد. وعلى خطى ابراهيم سار إسحادتى ويعقوب ثم سائر الآباء. كانوا ينتقلون مع قطعانهم من موضع إلى آخر طلبًا للماء والكلأ. وكانت علاقاتهم ثلاثًا: مع البدو الرعاة الذين يسالمونهم تارة ويناوئونهم تارة أخرى ولاسيّما على المياه. وكان خلاف أول بين رعاة ابراهيم ورعاة لوط ابن أخيه بسبب ضيق المكان (تك 205:26)، وكان كل واحد يقوله: "هذا الماء لنا". منذ ذلك الوقت بدأوا يحفرون الآبار من أجل حياة نصف بدويّة. وارتبط الآباء بأهل المكان. وبدأوا يتزوّجون ببناتهم ويزوّجونهم بناتهم. فيهوذا بن يعقوب تزوّج من الكنعانيات على خطى عيسو، أخي اسحاق. وأعطى بنو بعقوب اختهم دينة لشكيم بن حمور (تك 34). لكنهم اختلفوا عنهم في عباداتهم. فالآباء لا يرتبطون بمكان. أما أهل فلسطين فإلههم هو إيل بيت إيل مثلاً. أو عليون إله شليم التي ستسمّى فيما بعد أورشليم. والعلاقة الثالثة كانت مع أهل حاران من حيث جاء الآباء. من هناك جاءت رفقة امرأة اسحاق (تك 24). وإلى هناك ذهب يعقوب فتزوّج، وجمع ثروة كبيرة من العبيد والاماء والمواشي. كما حملوا معهم آلهة تلك الناس على مثال ما فعلت راحيل حين "سرقت" آلهة أبيها (تك 31:31-35).
نودّ أن نقول إن ما سمّي الأسباط الاثنا عشر الذين هم أخوة من أب واحد وأربع أمهات، إنما هو نظرة أدبية انطلقت من واقع ديني وسياسيّ قبل أن تصل إلى مستوى القرابة. في الأصل، أقامت عدد من القبائل حول معبد من المعابد. وكانت اثنتي عشرة قبيلة بحيث تؤمّن كلُّ قبيلة خدمة هذا المعبد، شهرًا في السنة. هذا في الجزيرة العربية، ولدى العبرانيّين ولدى الأدوميّين، بني عيسو، ولدى اليونان في معهد دلفس. وانتقلت القرابة الدينيّة إلى قرابة سياسيّة ولاسيّما في أيام داود وسليمان. وبعد ذلك، تحدّث الكاتب عن قرابة الدم، فجمع عددًا من القبائل وربطها بأجدادها. بل نودّ القول إن بلهة وزلفة وليئة وراحيل اللواتي يسمّين نساء يعقوب، إنما هنّ في الأصل قبائل ابتلعها يعقوب قبل أن يبتلعه إسرائيل. ففي مرحلة أولى تكوّن ما سمّي "بني يعقوب". ويحدّثنا تك 32 في لغة سريّة عن تحوّل آخر: "لا يُدعى اسمك يعقوب بعد الآن، بل إسرائيل" (تك 31: 39).
أما عدد القبائل التي ألّفت هذا الحلف والتي لم تذهب كلها إلى مصر، بل ذهب يهوذا ويوسف (بابنيه افرائيم ومنسّى) ولاوي، فنجده في نشيد دبّورة حوالي سنة 1100 ق. م. هي تذكر: افرائيم، بنيامين، ماكير، زبولون، يساكر، نفتالي، رأوبين، جلعاد، دان، أشير، ميروز (قض: 14-18، 23). غاب يهوذا وشمعون ولاوي. وزيدت أسماء مثل ماكير وميروز. وسيأتي يوم فيه يبتلع يهوذا شمعون. كل هذا يفهمنا أن التوراة التي هي المرجع الأهمّ في تاريخ الشعب اليهوديّ، يجب أن تقرأ أولاً على المستوى الروحي، وبعد ذلك على المستوى السياسيّ والتاريخي. ونحن لا نصل إلى عمق الموضوع إلاّ إذا عدنا إلى الوثائق المجاورة في مصر وبلاد الرافدين مع الشعوب الذين أقاموا بينهم فأخذوا بحضارتهم وغناهم. يكفي أن نذكر هنا أن الفلسطيين الآتين من عالم اليونان هم الذي علّموا العبرانيّين صنع الحديد. ففي القرن الحادي عشر، في أيام شاول، أوّل ملك رسمي في إسرائيل، نقرأ: "لم يكن في كل أرض إسرائيل حدّاد... فكان على كلّ واحد من بني إسرائيل أن ينزل إلى الفلسطيّين ليحدّد سكينه أو منجله أو فأسه أو معوله" (1 صم 13: 19-20). كان الفلسطيِّين هم الأقوياء، فما أرادوا أن يصنع العبرانيون سيفًا أو رمحًا. وهكذا، لما بدأت الحرب بين العبرانيّين والفلسطيّين، "لم يكن سيف ولا رمح في أيدي جميع الذين يحاربون مع شاول ويوناتان، ما عدا شاول ويوناتان" (1 صم 13: 19-22). سيفان ورمحان: كيف يتوافق هذا مع النصوص التي تتحدّث عن الحرب المفاجئة وعن قتل المئات والألوف؟
هنا يجب أن نستعيد قراءة التاريخ العبراني من جديد. فإذا قرأنا سفر يشوع بشكل حرفيّ، نتخيّل العبرانيّين وكأنهم الجيش الأشموريّ الذي يضع الرعب في الأماكن التي يمرّ فيها فلا يقف في وجهه حاجز. يقول النص: دخل يشوع وجيشه في وسط البلاد، فقطع "العدو" قسمين. ثمّ احتلّ الجنوب واحتلّ الشمال. وأجمل ما في هذا الخبر هو أن أريحا سقطت دون أن يرفع أحد سلاحًا ولا مترسة. تطواف أول وثان... تطوافات سبعة، فسقطت المدينة بضربة ساحر (يش 6). ولكننا نعلم كل العلم أن الشعب العبراني الآتي من مصر، لم يستول على أريحا ولم يهدمها. فقد هُدمت قبل مجيئه بثلاث مئة سنة، أي سنة 1550 على يد تحوتمس الثالث. أما أريحا التي يعود اسمها إلى الإله القمر "ي ر ح" فقد أقام فيها "بنو يمينا" الذين يذكرهم أرشيف ماري سنة 1800، الذين كانوا نصف رعاة أقاموا في وادي الاردن قبل أن يبتلعهم إسرائيل.
حين نقرأ النصوص، يجب أن نفهم مغزاها وزمن تدوينها. دوّنت في شكل نهائي بعد العودة من المنفى، وفي ظل الحكم الأجنبي. وبما أن العبرانيّين يقيمون فيها الآن بأمان، فلأن الله أعطاهم إياها بدون أن يرفعوا يدًا. بل منذ بداية المسيرة وعبور مستنقعات البحيرات المرّة، ما كان على العبرانيّين أن يفعلوا شيئًا سوى أن ينظروا عمل الرب وخلاصه (خر 13:14). بل لما احتاجوا إلى بعض الوقت، طال النهار، توقّفت الشمس والقمر... مع أن المعركة دامت بضع ساعات وانتهت قبل طلوع الفجر (يش 9:10-10. هنا انتهت المعركة). ولكن الكاتب أراد أن يبيّن أن الفضل كلّ الفضل يعود إلى الله الذي رمى العدو "بالحجارة" (يش 10: 11)، أي بالبرد، فهلكوا. هكذا يجب أن يهلك العالم الوثني فلا يبقى سوى الذين يعبدون الله الواحد.
بالاضافة إلى بنيامين الذي أقام في أريحا منذ سنة 1800 على الأقل، فقبائل أشير وزبولون ويساكر ونفتالي لم تنزل يومًا إلى مصر رغم ما يقوله التقليد الكهنوتي مشدّدًا على المسيرة الروحيّة الواحدة لدى جميع القبائل. فأبناء أشير مثلا (عد: 1: 3، 40- 41؛ 2: 27؛ 7: 72-77)، لم يكونوا مع القبائل العبرانيّة حين "فتحت" الأرض المقدسة، ولم يعطهم يشوع حصّة بين القبائل (يش 24:19- 31). فهم يقيمون منذ زمن بعيد وسط الكنعانيّين والفينيقيّين شمالي الكرمل في منطقة من الخصب. ولم يشاركوا في أحداث سفر القضاة. تحالفوا مع داود وسليمان (1 مل 4: 16)، ولكنهم ظلّوا على استقلالهم عن أورشليم في أيام ملوك يهوذا.
نقول هذا لنبيّن أن العبرانيّين، أنّ بني إسرائيل، لم يكونوا يومًا وحدهم في أرض فلسطين. كانوا تارة أقوياء ولاسيّما في أيام داود وسليمان. وكانوا طورًا ضعفاء ولاسيّما في أيام صموئيل وشاول حين سيطر عليهم الفلسطيون. وسيصبحون أجزاء في مقاطعات مختلفة مع الأشوريّين والبابليّين والفرس والاسكندر الكبير والرومان. لقد تمازجوا مع السكان تمازجًا كاملاً فأخذوا منهم أعيادهم (عيد الفطر، عيد الحصاد، عيد القطاف) وشعائر عبادتهم ولاسيّما عبادة البعل بل تفاعلوا مع أبعد من "فلسطين" فمدّوا يدهم إلى فينيقية في الغرب وأرام في الشرق ومصر في الجنوب وبلاد الرافدين في الشمال. أخذوا الكثير من الأدب المجاور، فصارت التوراة عصارة ما في الشرق من فكر أخذوا الكثير من الأدب المجاور، فصارت التوراة عصارة ما في الشرق من فكر دينيّ. أخذوا المزمور 29 من فينيقية والمزمور 104 من مصر. كما أخذوا حكمة امينوفي من مصر وجعلوها في سفر الأمثال. وحكمة احيقار "العالميّة" جعلوها في سفر طوبيا. هذا عدا عن نظرة "متشائمة" إلى الانسان حملوها معهم من بلاد الرافدين التي اعتبرت أن الانسان خُلق للشغل والتعب والألم والموت.
أما علاقة العبرانيّين بمصر، فهي بعيدة الغور جدًا. تعود أقلّه إلى سنة 3000 ق. م. وما يدلّ على ذلك آنية وُجدت في عراد وتل عيراني، وفخاريّات مصريّة. وقد تمّ التغلغل المصري إلى فلسطين عبر طريق سيناء الشماليّة وتل عيراني الواقع على بعد 45 كلم إلى الجنوب الغربي من أورشليم. كان هذا المكان مركز نشاط تجاري وحربي أقامه المصريون في جنوب كنعان.
نتذكّر دخول الهكسوس إلى مصر. هل دخلت معهم بعض القبائل التي ستعود إلى فلسطين فيما بعد؟ ويوسف الذي صار وزير الفرعون، كان في الواقع، إن كان الخبر تاريخيًا، وزير ملك "أسيوي" على أرض مصر. وفي أي حال، اعتاد الفراعنة منذ المملكة الوسطى أن يلجأوا إلى خدمة موظفين من آسية. ولكن عمليّة التضخيم التي تدوّن لمجد الله، جعلت من يوسف الموظّف في منطقة من المناطق (رئيس بيت فوطيفار، أو رئيس أحد السجون أو مسؤول عن التموين) الشخص الثاني بعد فرعون، وكل ذلك لأن الله كان معه.
طُرد الهكسوس من مصر حوالي سنة 1570، وقد يكون عاد معهم بعض القبائل المقيمة في فلسطين. ولكن حين يتحدّث الكاتب الملهم عن خروج العبرانيّين بقيادة موسى، فهو يشير إلى هرب بعض القبائل إما عن طريق الجنوب مثل يهوذا التي ابتلعت بني كالب المقيمين قرب حبرون (يش 15: 13-19؛ 1 أخ 2: 42- 50) والقنزيين (عد 32: 12) والقينيّين، أبناء قايين (قض 1: 16). وإما عن طريق الشرق مثل قبيلة افرائيم التي عبرت سيناء ودخلت عبر أدوم إلى الأرض المقدّسة. وهكذا أخذ الآتون الجدد يتغلغلون في البلاد، حيث المكان فارغ من السكان، وكانوا هناك يقيمون في سلام أو خلاف مع جيرانهم كما يقول سفر القضاة في الفصل الأول. وامتدّت هذه الحقبة حتى زمن الملوك.
ذكر الكتاب المقدّس ثلاثة ملوك بدأ معهم النظام الملكي يسيطر على القبائل العبرانيّة التي اتحدت في أمفيكتيونيّة حول معبد شكيم كما يقول سفر يشوع (ف 24). شاول (1030- 1010 تقريبًا) بن قيش من قبيلة بنيامين المقيمة بين الكنعانيّين والفلسطيّين والعمونيّين. وداود (1010- 970) بن يسَّى من قبيلة يهوذا المقيمة قرب بيت لحم، الذي عاش في بلاط شاول، كما يقول تقليد أول، الذي قتل جليات ممثّل الفلسطيّين في المبارزة، كما يقول تقليد آخر. وسليمان (970- 931) الذي ثبّت دعائم الملك الذي هيّأه له أبوه داود. وانتهت الحقبة التي فيها اتّحد الشمال مع الجنوب، مملكة افرائيم (أو يوسف، أو إسرائيل، أو يعقوب) التي صارت عاصمتها في النهاية السامرة، ومملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم. وستعيش المملكتان حياة متوازية، فتبحث كل واحدة لنفسها عن أحلاف خارج فلسطين، مع فينيقية أو موآب أو عمون أو مصر، أو الأشوريّين الذين لجأ إليهم أحاز ملك يهوذا فأجبر على الخضوع لهم.
وسارت مملكة إسرائيل في خطّها وهي الأقوى في فلسطين، بعد أن انعزلت مملكة يهوذا على جبلها القاحل وفي قلعة يصعب الاستيلاء عليها، أو لا فائدة من الاستيلاء عليها. ولكن بما أن معبد أورشليم كان عمليًا معبد جميع بني يعقوب وبني إسرائيل، حافظت أورشليم على تواصل حتى النهاية، أي حتى سقوطها بيد الأشوريّين سنة 587 ق. م. ولكن مملكة الشمال بعاصمتها السامرة، كانت قد سقطت سنة 722- 721 على يد الأشوريّين وهُدمت على يد سرجون الثاني. انفتحت مملكة إسرائيل على سائر الشعوب القريبة أو البعيدة فذابت أو كادت تذوب. أما مملكة يهوذا فانغلقت على نفسها لتحمي نفسها من حضارة يونانيّة أو فارسيّة أو رافدينيّة. وخافت على نفسها من ديانات تأتي من الخارج فتشوّه دينها وعبادتها لله الواحد. فكانت النتيجة شرائع عديدة تمنع الاتصال بالآخرين على مستوى الطعام والشراب، بل على مستوى الحياة كلّها. ذاك ما سيكون تاريخ الشعب اليهوديّ حتى بعد المسيح. فإن هو انفتح على الآخرين ذاب فيهم وخسر هويّته الأساسيّة. وإن هو انغلق عاش في "غيتو"، في "مجبر" يُجبر اليهود أو هم يجبرون أنفسهم ليعيشوا فيه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM