الفصل الاول: العبرانيون واليهود

الفصل الاول
العبرانيون واليهود

في القرن الثامن عشر ق. م. انطلقت عشيرة صغيرة من سومر بقيادة شخص اسمه ابراهيم. وسارت بمحاذاة الفرات ثم العاصي، وجاءت تقيم في أرض كنعان التي تقابل في المعنى الحصري: فلسطين. فقد سكن بنو ابراهيم بين الأردن وساحل البحر المتوسط، وامتدّوا بعض الامتداد إلى شرقي النهر مع قبيلة منسّى التي أقامت في جلعاد. وكانت لهم علاقات مع جيرانهم من مصريين وأشوريين وبابليين وفينيقيين وفلسطيين...
أما التوراة فتحدّثنا عن العبرانيين الذين جاؤوا من بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين. عاشوا مع الآباء قبل أن يقتلعهم الجوع ويرسلهم إلى مصر فيصبحوا عبيدًا هناك. خرجوا حوالي القرن الرابع عشر ق. م. وخيّموا في سيناء حيث تسلّموا شرائع خاصة بهم، هي التوراة بالمعنى الحصري، أو ما نجده في الأسفار الخمسة من فرائض وأحكام. دخلوا إلى فلسطين في قبائل قبل أن يكون لهم ملك اسمه سليمان (970-930). ولكن مملكته انقسمت بعد موته: مملكة إسرائيل في الشمال بعاصمتها الأخيرة السامرة، ومملكة يهوذا في الجنوب بعاصمتها أورشليم. دمّرت السامرة سنة 722/ 21 ق. م.، فصارت مملكة الشمال مقاطعة أشوريّة بانتظار أن تصبح بابليّة، فارسيّة... ودمّرت أورشليم سنة 587/ 86 وذهب شعبها إلى المنفى. ولكن عاد الشعب العبراني يعيش في ظلّ الامبراطوريات الكبرى من فارسية وهلنستيّة أو رومانيّة. وسيظلّ كذلك حتّى الثورة الأولى على يد رومة، وقد انتهت بدمار أورشليم سنة 70 ب. م.، والثورة الثانية التي قادها ابن الكوكب وانتهت بتشتّت اليهود سنة 135.
وقبل أن نقسم هذا التاريخ إلى ثلاث حقبات، اثنتان تسبقان التشتّت من أورشليم، وثالثة تصل بنا إلى العصور الحديثة، قبل ذلك نتعرّف إلى الأسماء التي تسمّى بها هذا الشعب: عبري، اسرائيل، يهودي.
إن لفظة "ع ب ر ي" هي مشتقّ يُنسب إلى "ع ب ر" الذي يدلي على الجهة المقابلة لنهر (تك 10:50 ي)، أو واد (1 صك 7:31)، أو بحر (إر 25: 22)، أو حدود (1 يش 22: 11). أمّا المعنى الاشتقاقي للفظة "عبري" فهي قريبة من لفظة "ن ك ري" (الغريب، النكرة). وهكذا قد نجد معنى أول في فعل "ع ب ر" الذي نقرأه في تك 6:12؛ قض 26:9؛ أش 21:8، والذي يعني انتقل عبر "حدود"، هاجرَ، صار غريبًا.
هناك محطّة هامة هي زمن المنفى سنة 587/586. ماذا عن العبريين أو العبرانيّين قبل هذه المحطّة وبعدها؟ قبل المنفى، يتكلّم الكتّاب عن العبريّين في حالات محدّدة جذا. فالمصريون أو الفلسطيون (غير الفلسطينيّين. أقام الفلسطيون في خمس مدن على الشاطئ المحاذي لمصر: غزة، جت، عسقلان...) هم الذين سمّوا هذه القبائل بهذا الاسم. هذا ما يجعلنا قريبين من (ع ب ي ر و" المذكورين في النصوص القديمة. أما النصوص الأربعة والثلاثون التي تُذكر فيها لفظة "ع ب ر ي" في التوراة، فهي تدلّ على حال من العبوديّة عاشوها مع المصريّين (خر 3:13، 14؛ 2: 20. تسمّى مصر أرض العبودية) أسيادهم (في تك 39: 7 نقرأ: الخادم العبري)، أو مع الفلسطيّين (1 صم 6:4-9؛ 3:13، 7، 9). نجد في تث 12:15: "أذكر أنك كنت عبدًا في مصر".
إذن، دلّت لفظة "ع ب ر ي" قبل المنفى على اسرائيليّ من وضع دنيء، لا يرتبط بقبيلة من القبائل، ويمكن أن يُستعبَد بشكل نهائي (خر 2:21-6؛ تث 15: 12-18). مثل هذا الوضع الاجتماعي قريب ممّا نجده في وضع "ع ب ي ر و" في الألف الثاني ق. م.
ماذا نعرف عن "عبيرو" هؤلاء؟ هم أناس يعيشون على هامش المجتمع القبليّ، على حدود المدينة. أو هم خلاصة قبائل تفكّكت، فجمعوا أنفسهم في قبيلة. في أيام السلم يمارسون السلب والنهب. وفي أيام الحرب يصبحون جنودًا مرتزقة في خدمة هذا الحاكم أو ذاك. نجدهم في كل الشرق القديم من بلاد الرافدين حتى بلاد الأناضول ومصر. ولكننا نجدهم بشكل خاص في بلاد سورية وفلسطين. قد يعود إسمهم إلى الغبار أو التراب، فيدلّ على وضع اجتماعي أو طريقة حياة. هل نستطيع أن نقابل "عبيرو" هذا مع "ع ب ي ر 1 ي و" الذي نجده في النصوص البابليّة، أو مع "ع ب ر ي" الذي يدلّ على جماعة إثنية ترتبط بمكان محدّد؟ ربما.
وماذا عن لفظة "ع ب ر ي" بعد المنفى؟ لقد اتّخذت معنى آخر في النصوص المتأخرّة: هو اليهوديّ الذي يعيش في مقاطعة عبر الفرات (أو غربي الفرات) التي كانت فلسطين جزءًا منها، فيتميّز عن البابلي وهو الآراميّ الذي يقيم في مقاطعة بابل (المشناة، بابا مصيا 7: 9).
أما لفظة اسرائيل فهي اسم انسان عرفه العالم السامي الغربيّ وقد رأيناه في إبله في الألف الثالث، وهو يعني "بدا الله قويًا" (رج تك 29:32؛ هو 12: 5). فإسرائيل كشعب لا يدخل في التاريخ إلاّ مع نصب الفرعون منفتاح (1212-1202) الذي يعود إلى العام الخامس لعهده (1207 ق. م) فيروي نصره بشكل نهائيّ على إسرائيل: "دُمّر اسرائيل بحيث لم يعد لزرعه من وجود" (صور الشرق القديم 342-343). فحربُ اسرائيل ضدّ مركبات فرعون، قد صُوّرت على جدار في هيكل آمون في الكرنك (الأقصر)، وهي حرب جرت في سهل كنعان الساحلي. ينتج عن هذا أن اسرائيل كيان يعيش في قلب الضفّة الغربيّة ويشكّل وحدة إثنيّة واجهت الجيوش المصرية في أرض مكشوفة لا في الأدغال. هذا لا يعني أن امتصاص إسرائيل لبني يعقوب الذي يشير اليه تك 28:32-29، كان قد تمّ في القرن الثالث عشر ق. م. فإذا كانت اللائحة البيبليّة لقضاة إسرائيل الصغار كاملة، وإذا كان تنظيمهم يقع حالاً بعد زمن يشوع، فتكوين الاتحاد (أو الحلف) بين قبائل إسرائيل بما فيها بني يعقوب، قد تمّ في شكيم (يش 24) في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، ساعة بدأ الانحطاط يعمل عمله في القوّة المصرية، بعد حملات رعمسيس الثالث (1182- 1151).
وهناك أخيرًا لفظة "يهودي" التي تعني في الأصل سكان مملكة يهوذا (2 مل 16: 6؛ 25: 25)، أو مقاطعة يهودا الفارسيّة (نح 1: 2؛ 3: 22). وبما أن يهوذا ويهودا (أو اليهوديّة) احتلّتا موقعًا متقدّمًا في شعب إسرائيل، صار اليهودي كل إنسان ينتمي إلى شعب إسرائيل، وإن أقام خارج يهودا أو اليهوديّة.
بعد هذا المدخل، نبدأ بدراسة التاريخ اليهوديّ. الحقبة الأولى، منذ البداية حتى سنة 587 ق. م وانهيار مملكة يهوذا الداوديّة بصورة نهائيّة. الحقبة الثانية، من المنفى (587 ق. م) حتى الثورة اليهوديّة الثانية. والحقبة الثالثة، من سنة 135 ب. م إلى أيامنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM