الفصل الثالث والثلاثون :آلام المسيح وآلام التلميذ

الفصل الثالث والثلاثون
آلام المسيح وآلام التلميذ
16: 21- 28

يعتبر الشرّاح عادة أن حدث قيصريّة فيلبس الذي يمتدّ في الآيات التي ندرس الآن، هو نقطة وصل هامّة في الخبر الانجيليّ. والبراهين عديدة في هذا المجال. فللمرّة الأولى طرح يسوع على تلاميذه السؤال الحاسم. وللمرّة الأولى اعترف بطرس بشكل علنّي وواضح بكرامة معلّمه المسيحانيّة. وللمرّة الأولى أعلن يسوع حاشه وآلامه. "ومنذ ذلك اليوم" ما عاد الخبر يهتمّ إلا بمجموعة التلاميذ الصغيرة، ما عاد يركّز إلا على موضوع الآلام. هذا التبدّل في النظرة واضح في الأناجيل الإزائية كما هو واضح في انجيل يوحنا.
غير أننا نلاحظ أن متّى لا يركّز مثل مرقس على الطابع المركزيّ للحدث. فحسب مرقس، تحدّث التلاميذ وللمرّة الأولى مع يسوع عن رأيهم فيه. أما عند متّى فقد سبق لهم وأدّوا ليسوع اعترافًا مماثلاً في مناسبة أخرى حين قالوا له: "أنت حقًا ابن الله" (33:14).

1- سياق المقطوعة الأنجيلية
تتألّف هذه المقطوعة التي ندرس من ثلاثة عناصر: إعلان الآلام، ردّة فعل بطرس وحزن يسوع. وأخيرًا كلمات المعلّم إلى التلاميذ. إن هذه العناصر تتّضح إذا دُرست على ضوء ما سبق وما لحق.
أ- السياق العام
نجد في انجيل متّى ثلاثة انباءات بالآلام (16: 21؛ 22:17-23 أ؛ 20: 17-19) تشكلّ ذروة جزء كبير يصل إلى خبر الحاش والآلام. ويتبع كلّ أنباء ملاحظةٌ تبرز اللافهم عند التلاميذ (16: 22-23؛ 23:17 ب؛ 20: 20- 23). هي ملاحظة عابرة تبدو في إطار الخبر، ولكنها تتّخذ في التدوين الانجيليّ مدلولاً لاهوتيًا واضحًا. وأخيرًا، نرى يسوع في كل مرّة يدلّ تلاميذه على بُعد رسالته الخاصّة (16: 24-28؛ 18: 1-4؛ 20: 24-28). إذن، نحن أمام خبر يتوسَّع في ثلاثة انطلاقات.
ونلاحظ أيضًا تدرّجًا في كشف المسيح عن سرّه، وردّة الفعل لدى التلاميذ. كما نلاحظ أن يسوع يشير دومًا إلى القيامة. هو لا يتكلّم فقط عن الصليب، بل عن الصليب والقيامة، عن الموت والحياة، سواء تحدّث عن نفسه أو تحدّث الى تلاميذه.
كل هذا يبدو لنا مليئًا بالمعاني. فالانباءات الثلاثة تتوخّى أن تدخلنا في الحاش، فتهيِّئه وتفسّره تفسيراً لاهوتيًا. فالحاش ليس فقط حدثًا يسجّل من الخارج في مصير يسوع وكأنه حادث طرأ عليه فأجبر على القبول به: الحاش هو جزء من مصيره، بل يمثّل الذروة فيه. إنه عبور إلى القيامة وهو سرّ في وجهين. والوجه الأخير هو وجه الفرح والحياة. بالاضافة إلى ذلك، لا ينفصل التلميذ عن المعلّم. فمصير الواحد يرتبط بمصير الآخر.
ب- السياق المباشر
اعتبر عدد من الشرّاح أن مت 16: 21 ي يشكلّ مقطوعة مستقلّة، وأنه ليس خاتمة المقطع السابق كما يظهر لدى مرقس (هناك من يقسم مت ثلاثة أقسام: 1: 1-4: 6: يسوع ابن داود وابن ابراهيم؛ 4: 17-16: 20: كرازة ملكوت السماوات؛ 16: 21-28: 20: وحي ابن الانسان. إن 16: 21 تستعيد 4: 17). قد يكون هذا الأمر صحيحًا. فالعبارة "منذ ذلك اليوم" تدلّ على فصل واضح، وتعطي الانباء بالآلام كيانًا خاصًا. ولكنها لا تمنع من ارتباط الانباء بالآلام بالمقطوعة السابقة. بل إن هذا الرباط ثابت بوضوح في الموازاة بين مديح يسوع لبطرس، ولوم يسوع لمن اعتبره معثرة في طريقه إلى الآلام والموت.
في خبر مرقس، يجد حدث قصريّة فيلبس ذروته في اللوم الذي وجّهه يسوع إلى بطرس، لأن فكرته عن المسيح فكرة خاطئة (مسيح سياسيّ كما تصوّرته الاوساط اليهوديّة). ومعنى الحدث يوازي معنى التجربة في البريّة والتي تنتهي بذات التوبيخ القاسي الذي به يوّبخ يسوع بطرس (رج مت 4: 10). ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن متّى. ولكن يبقى أن خبر متّى في مضمونه الحاليّ يشكِّل وحدة أدبية لا تنقسم، وقد بُنيت بناءً محكمًا وفنيًا.
وفيها ثلاثة توازيات:
* اعتراف بطرس (آ 16) وإعلان يسوع (آ 18)
* اعتراف بطرس (آ 16) ومعارضته ليسوع (آ 22)
* كلمات مديح (آ 17) ثم كلمات لوم (آ 23) يوجّهها يسوع إلى بطرس.
إن المقابلة بين الأناجيل الازائية تسمح لنا بأن نشير إلى بعض النقاط. تأثّر لوقا بعدم الفهم عند بطرس وبتوبيخ يسوع، فألغى الحدث. ومتّى الذي أعتاد أن يخفّف من قوّة المقاطع التي تحمل الخجل إلى التلاميذ، لم يفعل شيئاً من ذلك هنا. بل ألغى (في آ 22) التفصيل المرقسي الذي بحسبه أعطي هذا التوبيخ القاسي، بحضور سائر التلاميذ الذين كانوا يفكرون مثل بطرس: عند متّى، جرى الحدث بين يسوع وبطرس وحدهما.
كل هذه الملاحظات وهذه المقابلات مفيدة، لأنها تسمح لنا أن نعرف إن كنا نفسّر هذه المقطوعة آخذين بعين الاعتبار الحدث الذي سبق. ومقابلة النصوص تساعدنا على أن نفهم فهماً أفضل هدف متّى الدقيق.

2- تحليل المقطوعة
أ- الانباء بالآلام (آ 21)
أولاً: إن الحاشية الكرونولوجيّة (منذئذ، منذ ذلك اليوم) التي أوردها متّى، تتوخّى إفهامنا أن الساعة قد أتت من أجل معالجة أمور "جديدة". وهكذا ننتقل من وحي يسوع المسيح، إلى وحي ابن الله المتألم. وبشكل مواز، نجد نفوسنا أمام نمط جديد من اللافهم واللاايمان. لا عند الجموع وحسب، بل عند التلاميذ: لقد تعرّفوا إلى المسيح، ولكنهّم رفضوا قوله بأن عليه أن يتألّم. فالتعمّق في المنظار المسيحانيّ يقابل توسّعًا جديدًا على مستوى الايمان.
حسب مرقس ومتى (لا لوقا)، "بدأ" يسوع يتكلّم عن آلامه. وهكذا شدّد الانجيليّان على تدرجّ في الوحي المسيحاني. لا شكّ في أننا لسنا أمام تطوّر سيكولوجيّ منطقيّ في وجدان يسوع (نظرة لا تدخل في خطّ الاناجيل)، بل أمام نموّ في تجلي مخطّط الله الخلاصيّ. وهكذا يؤكّد النصّ في الوقت عينه أن "منذ ذلك اليوم" صار موضوع الحاش والآلام مركز الاهتمام العاديّ.
ثانيًا: ونوّد الآن أن نفهم بما يقوم حقاً هذا "الجديد" في الوحي المسيحانيّ. هو لا ينحصر في مجرّد نظرة إلى الاضطهاد كان يسوع قد أشار إليها في مت 10: 24 ي، بل ينظر بالحري إلى "ينبغي"، أي إلى واقع يقول إن الألم هو جزء من مخطّط الخلاص.
فهذه اللفظة "داي" (ينبغي) التي نقلتها إلينا كل مراجعنا، لا تعبّر فقط عن يقين على المستوى التاريخيّ أو السيكولوجيّ يتأسّس على ملاحظات استخرجها يسوع من محيطه ومن وضعه. بل هي تمثّل الوعي الواضح لضرورة تفرض نفسها على المستوى اللاهوتيّ.
ففي الكتاب المقدس، ولا سيّما في العهد الجديد، لا يدلّ فعل "داي" على ضرورة حتميّة، بل على إرادة الله. بل إن هذه اللفظة تأخذ في العهد الجديد قيمة اسكاتولوجيّة. فهي تعبّر عن ضرورة متجذّرة في طبيعة الله نفسه، وهي تؤدّي إلى تتمّة مقاصده في الاحداث الاسكاتولوجيّة. وهكذا يؤكّد هذا النصّ الذي ندرس، أن يسوع لا يعلن فقط الاسكاتولوجيا، بل بشكل أعمق أن مصير المسيح (أي آلامه) ينتمي إلى العالم الآخر، إلى الاسكاتولوجيا.
وقصارى القول، ليس الحاش (أو: الآلام) واقعاً "خارقًا"، أو حدثًا عاديًا يحصل خلال رسالة يسوع، بل هو يشكّل نواة هذه الرسالة. ذاك هو الجديد.
ثالثًا: ونخطو خطوة ثالثة. لا يؤكّد النصّ فقط أن الآلام تدخل في مخطّط الله الخلاصيّ، بل أن يسوع قد وعاها. فلا يكفي أن نقول إن القرار الذي اتّخذه يسوع بالصعود إلى أورشليم (وهو يشكّل منعطفًا حاسمًا في حياته) كان هدفه الوحيد أن يضع الشعب أمام تعليم ملكوت الله الذي يأتي في المدينة المقدسة لكي يدعوها لأن تأخذ قرارها في تلك الساعة الاخيرة. لا شكّ في ذلك. ولكن هناك أكثر من ذلك. فيسوع ذهب "بملء إرادته" إلى الموت. لم يرَه مسبقًا بشكل بشري محض كما يراه كل انسان رآه صاعداً إلى اورشليم (مز 10: 32؛ يو 16:11). بل نظر إلى هذا الموت على ضوء مخطّط الله واعتبره خدمة وعبادة.
رابعًا: استعمل مرقس فعل "علّم" (8: 31). أما متّى ففضَّل فعل "بيّن" (دايكنواين). ونقولها مرّة أخرى. لسنا هنا فقط أمام إنباء بالآلام (نراها مسبقاً) لكي يستعدّ لها الرسل، بل أمام تبيان تماسك الآلام مع مخطّط الله، وضرورتها في مشروع الله. وهذه الضرورة ليست يقينا (ليست الآلام حدثًا يفرض ذاته)، يجب أن نبرهن عنها. كيف ذلك؟ يقول لوقا: انطلاقًا من الكتب المقدسة (26:24-27، 46؛ رج مر 12:9)
أما متّى فلا يقول شيئًا واضحًا في هذا الموضوع. غير أن فعل "داي" يتضمّن عودة إلى الكتب المقدّسة تعبّر على أنها تمّت في يسوع (مت 26: 54). ففي الكتب نقرأ مخطّط الله. والاساس الكتابيّ لهذا الفعل هو أش 53. فنبوءات الآلام لا تبدو بشكل نصوص منعزلة في النسيج الانجيلي، بل هي تتدرجّ في النصّ كتعابير واضحة عن فكرة تتوزعّ في الأناجيل التي تعود دومًا إلى نبوءة عبد الله المتألّم.
خامسًا: تعدّد آ 21 أهم أحداث الآلام والاشخاص الرئيسيين الذين لعبوا دورًا فيها (وهذا ما نراه أيضاً في الانباءين السابقين). لقد ظنّ بعض الشرّاح أننا أمام أقوال لم يقلها يسوع، أمام انباءات وُضعت بعد الاحداث، أي بعد آلام يسوع. في شكل عام، نستطيع أن نعتبر كل لاهوت الفداء وقد عبّرت عنه الكنيسة الأولى فيما بعد، وعلى ضوء القيامة. نعتبر أن هذا اللاهوت ينطبق على الواقع دون أن ينبثق من الواقع نفسه. وبعبارة أخرى، إن الكلمات الانجيليّة الموجّهة في هذا المعنى قد أدخلتها الجماعة لكي تبرّر واقع الآلام. هذا ما يقولون!
ولكننا نستطيع أن نقدّم بعض الملاحظات لنردّ على مثل هذا الموقف القاطع. من جهة، نقول إن الجماعة الأولى لم تصل إلى ملء الفهم اللاهوتيّ لضرورة الآلام إلاّ بعد أحداث الآلام. ونقول أيضًا إن هذا الفهم اللاحق (لا السابق. أي بعد الآلام وعلى ضوء القيامة)، قد ترك آثاره في تدوين الكرازة
الانجيليّة كما نجدها في الاناجيل الإزائية. غير أن وعي هذه الضرورة كان غريبًا كل الغربة، بل معارضًا للعقليّة المعاصرة (مثلاً، بطرس نفسه لم يفهم)، بحيث يجب أن يعود إلى يسوع نفسه. ونستطيع أن نبيّن في الأصل وقبل تدوين الأناجيل، أن التقليد الذي نقل هذه الاقوال سبق الأناجيل الازائية، بل سبق التعليم البولسيّ (1 كور 3:15- 5).
ب- ردّة الفعل عند بطرس وتوبيخ يسوع له (آ 22-23)
أولاً: نلاحظ بادئ ذي بدء الترافق الواضح بين اعتراف بطرس بالمسيح والانباء بالآلام وردّة فعل بطرس وتوبيخ يسوع له (حصر لوقا كلامه في الواقعين الأولين). تلك هي المعطية الرئيسية التي يجب أن يفسّر الشارحُ مدلولَها. إن يسوع قد ردّ على بطرس بذات الكلمات التي ردّ بها على الشيطان في التجربة. ففي الحالتين يعرض عليه خيار مسيحانيّ يُبعده عن طرق الله ويدخله في طرق البشر. إذن عزلة يسوع تامّة. فالجموع لم تفهمه. بل التلاميذ أنفسهم لا "يفهمون".
فتجربة يسوع التي صارت الآن تجربة التلاميذ، هي ذاتها تجربة الشعب المختار، كما يمكن أن تكون في كل وقت تجربة الكنيسة: أن نرفض عبد الله المتألم باسم المسيح الممجَّد. كل ما نعرفه عن انتظار اليهود للمسيح يؤكّد هذه النظرة.
ثانيًا: وهناك معطية ثانية خاصّة بمتّى يجب أن نشرحها: فبين اعتراف بطرس بيسوع على أنه المسيح والانباء بالآلام، أدرج الانجيلي الأول كلمات مديح وجّهها يسوع إلى بطرس (آ 17-19). لا يهمّنا أن نعرف إن كان هذا الادراج من تدوين متّى، عند ذاك يكون القول قد قيل في سياق آخر. فهذه الآيات الموجودة هنا تؤثّر في معنى المقطوعة التي ندرس: يستحيل علينا أن نقرأ توبيخ يسوع لبطرس دون أن نأخذ بعين الاعتبار كلمات المديح هذه.
ظنّ بعض الشراح أن متّى أدرج هذا القول هنا ليخفّف من قوّة التوبيخ الذي جاء بعده. وانصدم لوقا بلافهم بطرس وبجواب يسوع، ففضّل أن لا يذكر الحدث. وتأثّر متّى أيضًا بكل هذا، فأدرج قول مديح تلفّظ به يسوع في مناسبة أخرى. وهكذا حاول الانجيليّ الأول أن يخفّف من قساوة التوبيخ، فأفهمنا أن بطرس لم يقل كلمته الأخيرة في قيصريّة فيلبّس.
هذا رأي وجيه بلا شك، ولكنه يبقى غير مقنع. فإن لو 22، ويو 21، قد ربطا رسالة بطرس بسقوطه (حين أنكر يسوع). وقد قابل الانجيليّون الاربعة ضعف بطرس مع اسمه الذي يعني الصخرة (المعروفة بصلابتها). فإن كان الانجيل قد شدّد عمداً على هذا التعارض بين الضعف والصلابة، فلكي يدلّ على أن بطرس هو صخرة أسّس المسيح عليها كنيسته، لا بالنظر إلى صفاته الطبيعية ولا إلى مزاياه البشريّة، بل بنعمة من لدنه وباختيار إلهي. ونقول بشكل عام متخطّين وضع بطرس، إننا أمام موضوع التعارض بين نظام الطبيعة ونظام النعمة. وموضوع الضعف والنعمة (مثلاً، موسى، إرميا) الذي نجده مرارًا في الكتاب المقدس، يبرز في آ 17 (ليس اللحم والدم) ويُذكر ضمنيًا في آ 18 (على هذه الصخرة ابني كنيستي). نقرأه بالعودة إلى أش 28، ويستعاد أخيرًا في آ 22-23.
ج- أقوال يسوع لتلاميذه (آ 24-27)
قبل أن نتفحّص أقوال يسوع هذه (جُمعت هنا، ولكنها قيلت في مناسبات مختلفة)، يجدر بنا أن نذكر المحور الذي يؤمّن وحدتها: هي كلها تعود إلى شخص يسوع. وبعبارة أخرى، لا يُفرض التجرّد من أجل ذاته، بل من أجل يسوع. لهذا، تبدو آ 24 أساسيّة في هذا المقطع. ومن جهة أخرى نستطيع القول إنه من الاهميّة بمكان أن تكون هذه الأقوال قد ارتبطت بآلام المسيح. فهذه الآلام تبرّر ألم التلميذ وتنكّره لذاته، وتجعلهما أمرًا عاديًا. ثم إن هذا الرباط يفهمنا أن ألم التلميذ هو الموضع الذي فيه يتأوّن مصير المعلّم من جديد. الآن يسوع يتألم في كل من يشهد له.
أولاً: لا تعلن الافعال الثلاثة (كفر بنفسه، حمل صليبه، تبعني، في آ 24) الشروط الضروريّة لنكون تلاميذ المسيح، بقدر ما تعلن العناصر التي تكوّن حياة التلميذ.
فالعبارة "كفر بنفسه" (أنكر نفسه) تدلّ على موقف جذريّ، أساسيّ. فالكفر بالذات يفرض على تلميذ يسوع أن لا يهتمّ بعدُ لمصلحته الخاصّة، أن لا يفكّر بذاته بعد. على مثال المسيح الذي نسي نفسه وجعل مهمّته نصب عينيه، وظلّ بكلّيته حرًا من أجل خدمة الآخرين. لسنا أمام تبدّل أخلاقيّ بسيط، بل أمام ارتداد شخصيّ ولاهوتيّ. ارتداد شخصيّ لأنه جذريّ ومطلق: هو يُلزم الشخصَ كله الذي يتّخذ موقفًا جديدًا، ويجعل اهتمامه كلّه في المسيح. وارتداد "لاهوتيّ" لا يجعل الله فقط في قلب كل شيء، لأنه القيمة السامية وقطب الحياة الوحيد، بل يقبل أيضًا مخطّط الله كما هو: لهذا يجب عليه أن يبدِّل طريقة تصوّره لله وحبّه. يجب أن يتخلّى عن إله بناه "على طريقته" وكما يراه، ليقبل الاله "الآخر" الذي يقدّم حبًا لا نتوقّعه، حبًا يمرّ بالصليب.
وعبارة "حمل صليبه" تطرح علينا سؤالاً: هل هي تحديد بعد فصحي أدخلتها الجماعة الأولى؟ أم هل كان لها معنى في المحيط اليهوديّ قبل ذلك اليوم، يوم الجمعة العظيمة؟
حين دُوّنت الأناجيل، بدت هذه العبارة تلميحاً واضحاً إلى صليب يسوع. ولكن لا ننسى أن الحكم بالصلب الذي أدخله الرومان أرض فلسطين، كان معروفاً لدى اليهود. فالمحكوم عليه يحمل على كتفيه إلى موضع العذاب عارضة الصليب، (عليها تمتدّ اليدان). وهكذا قد تكون عبارة "حمل صليبه" عبارة معروفة في ذلك الوقت.
ولكنّ المهمّ ليس هنا. فعبارة "حمل صليبه" تعني في هذا السياق أن على التلميذ أن لا يهرب من أمام هذا الحكم المشين، ولا أن يتهرّب ويتفلّت. عليه أن يترك الطمأنينة ليتبع معلّمًا يقود تلاميذه إلى لاطمأنينة جذرية، إلى الموت.
وعبارة "تبع يسوع" تعني السير على خطى يسوع التاريخيّ. لا شكّ في أننا لسنا أمام مسيرة خارجيّة، بل أمام تعلّق داخليّ يفترض قبل كل شيء نداء من الله وجواباً من الانسان. وهكذا ينبغي علينا بشكل جوهريّ أن نشارك في الخلاص الذي يحمله يسوع، أن نشارك يسوع في مصيره بما فيه حمل الصليب والذهاب إلى الموت. وهكذا نتّحد اتحاد الحياة والألم مع المعلّم، فيكون اتحادُنا به حقيقيًا. وليس من قبل الصدف أن لا يرد فعل "اكولوتاين" (تبع) إلاّ في الأناجيل ليدلّ على علاقة التلاميذ بيسوع كما عرفوه في التاريخ.
ولكن من هم التلاميذ الذين إليهم يتوّجه يسوع؟ هناك التلاميذ بالمعنى الحصريّ، الذين تبعوا يسوع بطريق ملموسة ومعروفة على ما في الوثائق الانجيليّة. ولكن النص يتوجَّه أيضًا إلى الكنيسة كلها ولا ينحصر في بضعة تلاميذ. هي الحياة المسيحيّة تصوّر هنا. وهكذا نلاحظ في كل العهد الجديد (وفي الاناجيل أيضًا) تطورًا يوسِّع معنى "تلميذ" و"تبع" ليدلاّ على الحياة المسيحيّة. وهذا التوّسع ينطلق في اتجاهين:
- يعرّفنا معرفة يقينيّة (عبر العلاقات الملموسة التي ربطت المسيح التاريخيّ بتلاميذه الاولين) بالمواقف العميقة والداخليّة التي تتكرّر في حياة الكنيسة. ولقد حدّد لوقا مثلاً أن على المؤمن أن يحمل صليبه "كل يوم". وهكذا يصبح الصليب ممارسة من ممارسات الحياة اليوميّة.
- يوسِّع حلقة التلاميذ فيُدخل فيها جميع المؤمنين. لهذا استغنى لوقا عن ذكر التلاميذ، وقال إن أقوال يسوع تتوجّه "إلى الجميع" (9: 23). أما مرقس فتحدّث عن "الجموع" وعن "التلاميذ" (8: 34). وعند متّى، كان السامعون التلاميذ. غير أنه يرى أن التلاميذ يشكّلون نواة اسرائيل الجديد الذي يجمع الأسباط الاثني عشر. إنهم اسرائيل الجديد الحاضر منذ الآن. أما الجموع فتدلّ على اسرائيل الرجاء والمستقبل. إذن، نجد أيضًا عند متّى البُعد الجماعي.
ثم يجب أن نلاحظ أن مفهوم "التلميذ" أو "تبع" يعود دومًا إلى يسوع التاريخيّ وطريقة حياته. هذا لا يعني أنه يجب الآن أن نقتدي بشكل حرفيّ وملموس بمواقف التلاميذ الأولين. بل يجب أن لا ننسى بعض الوجهات الهامة لهذه المواقف: نقرّر أن نعيش للربّ. نستعّد أن نموت معه. نبدّل طريقة حياتنا حتى من الوجهة الخارجيّة. وقصارى القول: نقاسم المسيح مصيره الأرضيّ.
ثانيًا: تدعونا آ 25 إلى أن نخاطر بحياتنا من أجل المسيح. تلك هي الطريقة الوحيدة لكي نخلّصها. فبهذا يقوم فعل الايمان الملموس. نؤمن أننا نحيا ساعة يبدو أننا خسرنا كل شيء. نؤمن بالمحبّة. هذا لا يعني أنه يجب أن نحتقر الحياة أو لا نبالي بها، بل نحن نجنّد حياتنا ونجعلها في طرق المحبّة.
لا تلمّح آ 26 إلى التعارض الثنائي بين النفس والجسد (الانسان هو نفس وجسد معًا، ولا تنفصل النفس عن الجسد. النفس هي الانسان كله وتربط العالم بالجسد)، بين الروح والمادة، بل تدلّ بالاحرى على التعارض بين طريقة خلاص يبحث عنها الانسان ومشروع الله. ولا نجد في هذه الآية أيضًا احتقارًا للغنى في حدّ ذاته أو للربح. فالعالم والغنى يكونان لنا شرًا إن منعانا من اتّباع المسيح، إن قادانا إلى اعتبار رفض المسيح كأنه "ربح".
وبعد هذه الأقوال الثلاثة عن الكفر بالذات، نقرأ في آ 27 اعلان يسوع حول مجد ابن الانسان. وهو يتوخَّى أن يسهّل للتلميذ فهم مصيره بما فيه من ألم بفضل التذكير بـ "الدينونة" و"مجد" ابن الانسان (وشعبه): إنه مجد قريب جدًا. وهكذا نكون من جديد في موضوع الصليب والقيامة، بعد أن عُرض بشكل مختلف. ذاك هو معنى التجلّي الذي يأتي خبره حالاً بعد هذه المقطوعة التي ندرسها الآن.


3- الخلاصة
أولاً: ابرز تحليلنا للنصّ وجهتين متكاملتين: وجهة مسيحاويّة ووجهة كنسيّة. إن يسوع ليس المسيح الذي انتظرته الجموع والتلاميذ أنفسهم، بل ابن الانسان المتألم. فالآلام جزء لا يتجزَّأ من مخطّط الخلاص. إنها "ضرورية" (داي).
ذاك هو الجزء الحميم والسريّ والحقيقيّ والجديد في نفس يسوع وفي رسالته. ولكن نجد هنا أيضاً موضوع الشكّ الدائم. فهذا السرّ كان شكاً للعالم اليهوديّ، وموضوع تساؤل في الكنيسة الأولى وفي كنيسة كل الازمان. تلك كانت مسألة سفر أيوب: تساءل اسرائيل بعد المنفى عن معنى "برّ" الله (وعدالته). وبكلمة أخرى، ما معنى أن يكون الشعب المختار، شعب الله، وموضوع حبّه. في وحي يسوع، ما بدا الشواذ في سفر أيوب (ألم البار) صار القاعدة: فمحبّة الله تمرّ بالصلب.
و"ضرورة" آلام المسيح وشعبه المتّحد به، ليست واضحة في حدّ ذاتها. غير أننا نستطيع أن نستشفّها عبر الكتب المقدّسة التي تجعلنا نلج فكر الله. ففكرُ الربّ له منطقه وإن لم نستطع أن ندرك هذا المنطق إلاّ في الايمان. وهذا الوحي المسيحاوي يلزم الايمان في أعماقه ويجعله يمرّ في المحنة. ويبيّن لنا مثلُ بطرس أننا نستطيع أن نعترف بمسحانيّة المسيح، وبعد ذلك حالاً ننكر بتصرّفنا المدلول العميق لهذا الاعتراف. نستطيع أن نؤمن بلاهوت المسيح، ونرفض في الوقت عينه أن نتعرّف إلى وجهه المتألّم. تلك هي العبرة للكنيسة ولكل مؤمن من المؤمنين.
ثانيًا: ألمحنا مرارًا أن كلمات يسوع تتوجَّه إلى الكنيسة. غير أن هذا المنظار الكنسيّ يذهب أبعد من ذلك. فهناك من يرى في مت 16: 18 بداية مرحلة هي إعلان الكنيسة. وفي الصعود إلى أورشليم (16: 21) بداية حقبة جديدة هي تكوين الكنيسة التي أعلنت. فيسوع بدأ هذا التكوين حين علّم تلاميذه وحدهم سرّ الآلام والقيامة.
من هذا القبيل، نستعيد نظرة تاريخيّة توضح أموراً عديدة، ونحن نجدها في كل الأناجيل. فالمقطوعة التي ندرس تقف في موقع هام من حياة المسيح: فيسوع تباعد عن الجموع حين رآها لا تفهم وحين شاهد معارضة الفريسيين المتصاعدة، فركّز جهده على تكوين التلاميذ (القطيع الصغير). وتابع مسيرته وحده نحو الصليب. تلك سمة أكيدة في حياة يسوع (سُمّيت الأزمة الجليليّة) وقد أكّدتها الأناجيل الاربعة.
غير أننا لسنا فقط أمام سمة من سيرة يسوع، أمام واقع خارجيّ، بل أمام واقع ينتمي إلى أعمق ما في رسالة يسوع، ويرتبط بنفسه في أعماقها. في النهاية، هي سمة من حياة يسوع الحميمة. ولكن كيف عاش يسوع هذه الظروف الخارجيّة وكيف فسّرها؟
لقد فهم يسوع أن حياته نحو اسرائيل ونحو العالم تمرّ عبر "البريّة" (أو: الصحراء)، وتطلب منه حوارًا مع القطيع الصغير الذي سُمّي في العهد القديم "البقيّة الباقية". كان أشعيا قد وعى هذا البعد المسيحانيّ مع الاختيار والعهد وشعب الله وعبد يهوه. ولكن بعد قرار المعلّم، حين نكون مع يسوع (التلاميذ، الكنيسة)، لا يعني أن نكون مع مسيح في نظر الجموع، بل نصير رفاق مسيح يموت، "لأجل الآخرين". لا خيار إلاّ ذاك الخيار للتلميذ والكنيسة.
ثالثًا: وتبقى آ 28 التي هي صلة وصل بين الشروط لاتّباع يسوع، ومشهد التجلّي الالهي. ونحن نقدّمها مع آ 27: "إن ابن البشر سوف يأتي...".
بما أن ابن الانسان يأتي في يوم من الأيام في المجد، لذلك يجب أن لا نتراجع يومًا أمام أيّة تضحية مهما كانت، لا نتراجع أمام الموت من أجل اتّباع يسوع. في مر 38:8 الذي لا نجده في النصّ المتاويّ، بل نجد ما يوازيه في مت 33:10 (من ينكرني قدام الناس...)، نقرأ جوابًا هامًا: نتبع يسوع، أي لا نستحي منه ومن كلامه أمام البشر، أي نقبل عار التلميذ الامين. والسلوك (بركسيس) في هذا السياق لا يدلّ فقط على أعمال أدبيّة، بل على أقوال نقولها مع المسيح او ضدّ المسيح المتألم. وعمل التلميذ الأهمّ هو أولاً شهادة أمام عالم معاد.
وتأتي آ 28 فتقوّي النداء لاتّباع المسيح المتألم، كما تشدّد على الطابع القريب لمجيئه في المجد. اذن، يجب أن تُفهم هذه الآية كتوضيح لما في آ 28 (خصوصاً فعل "مالاي"). فالتعبير الموازي في مر 9: 1 يبدو لنا تعبيرًا قديمًا لان تفسيره لا يقبل أيّ تردّد. ففيه أعلن يسوع التفجّر النهائي لملكوت الله بحيث يراه معاصروه. أما مت فخفّف بعض الشيء من حدّة العبارة متحدّثًا لا عن مجيء ملكوت الله، بل عن مجيء ابن الانسان في ملكوته. وجاء لوقا وفتح الباب على تفسير روحي مؤكّدًا أن المعاصرين يرون منذ الآن ملكوت الله.
وهكذا ندرك في هذه الاختلافات اهتمام المعلّمين الأولين في الكلام عن اقتراب المجيء بعد سنة 70 ب م. أما التفسير الحديث فيحاول أن يزيل الصعوبة، فيقرأ في العبارة المتّاويّة اعلانًا لا عن المجيء الثاني بل عن التجلّي الذي يرد بعد هذه الآية حالاً، أو عن قيامة المسيح، أو عن انتشار الكنيسة انتشارًا سريعًا وخارقًا (كعمل قدرة الله) أو عن العنصرة، أو عن دمار أورشليم. محاولات عديدة. يبقى علينا أن نرى كيف توصّل التقليدُ القديم إلى حفظ كلمة من كلمات يسوع لم تتحقّق في الواقع المنظور ساعة دوّنت في الانجيل.

خاتمة
منذ ذلك الوقت. هكذا بدت المقطوعة التي درسناها. فكما بعد التجربة في البرية بدأنا طريقًا مع يسوع. كذلك بعد إعلان مسيحانيّة يسوع بفم بطرس ننطلق في طريق جديدة. لقد بدأ يسوع يكشف بشكل احتفاليّ سرّ ابن الانسان المتألّم والممجّد. كنا هنا أمام إنباء أول بالآلام. وسيتبعه إنباءان آخران يذهبان بعيدًا في تحديد المراحل التي يمرّ فيها يسوع حين يعيش آلامه. ولكننا نفهم أن الكنيسة أعادت قراءة ما قاله يسوع لها على ضوء ما حدث للربّ في تلك الجمعة العظيمة. هي لم تفهم في ذلك الوقت. ولكنها ستفهم كل شيء على ضوء القيامة. وهكذا يتّخذ هذا الانباء بعد الانباءين التاليين معناه، فيوجّه أنظار الرسل إلى أبعد من الموت الذي هو نهاية. إلى القيامة المجيدة التي سنجد عنها صورة مسبقة في خبر التجلّي الذي يأتي حالاً بعد هذه المقطوعة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM