الفصل الثاني والثلاثون: انت المسيح ابن الله الحي

 

الفصل الثاني والثلاثون
انت المسيح ابن الله الحيّ
16: 13- 20

من أنا في نظر الناس؟ من أنا في نظركم؟ هكذا سأل يسوع تلاميذه عن رأيهم ورأي الناس فيه. مع هذه المقطوعة نصل إلى قلب الاخبار الانجيلي. إلى مفصل هام في انجيل متّى. سأل يسوع، فأجاب بطرس، واعترف اعترافًا علنيًا بكرامة معلّمه المسيحانية. حينئذ أعلن يسوع تطويبة يعتبرها الشرّاح قد قيلت في بداية آلامه.
أما نحن فندرس أولاً المقطوعة، ثم الإطار التاريخيّ والجغرافيّ. وبعد أن نتساءل عن هويّة يسوع، نتوقّف عند وعد يسوع لبطرس.

1- تأليف المقطوعة
إذا ألقينا نظرة إلى إزائية (النصوص بإزاء بعدها، في مقابلة)، نميّز في هذه المقطوعة الانجيلية قسمين. يروي الأول حواراً بين يسوع وتلاميذه حول شخصه. ونحن نجده أربع مرات. في متّى (16: 13-16) الذي ندرسه الآن. في مر 27:8-30 حيث يعلن بطرس أن يسوع هو المسيح. في لو 18:9- 21، في إطار من الصلاة، اكتشف التلاميذ أن يسوع هو مسيح الله. وفي يو 68:6-69، وفي نهاية الخطبة حول خبز الحياة، ساعة بدأ التلاميذ يتركون يسوع ويمضون، قال بطرس: "إلى من نذهب يا رب؟ فعندك كلام الحياة الابدية. نحن آمنّا وعرفنا أنك قدوس الله". وهكذا نجد خبرًا مشتركًا، ينتهي في الاناجيل الإزائية بأمر من يسوع بأن لا يقولوا لأحد إن هذا هو المسيح.
أما القسم الثاني من هذه المقطوعة (آ 17- 20)، أي الوعد الاحتفالي الذي به وعد يسوع بطرس بمكانة في الكنيسة، فهو خاص بمتّى. غير أننا نجد عند لوقا ويوحنا أقوالاً وجّهها يسوع إلى بطرس، وهي تشبه وعده في متّى. هذه الاقوال جاءت في قرائن مختلفة جدًا. ففي لو 22: 33، وفي إطار الكلام بعد العشاء السريّ، قال الربّ لبطرس: "أما أنا فصلّيت من أجلك لئلا يزول إيمانك. وأنت متى عدت فثبّت إخوتك". وفي يو 21: 15-17، نجد حوارًا بعد القيامة بين يسوع وبطرس. "أتحبّني"؟ "نعم أحبّك". "إرعَ خرافي، إرعَ نعاجي". كن راعي القطيع.
حين نقرأ مرقس ندرك حالاً مسيرة الخبر: في مرحلة أولى، حاول يسوع أن يعرّف بنفسه أنه المسيح. وهذه المعرفة وحدها تعطي الانباء بالآلام (أو: الحاش) والموت مدلولها الحقيقيّ. فقبل أن يكشف هذا السرّ العظيم، عليه أن يتأكّد أولاً أن التلاميذ تقبّلوا العنصر الأول من تعليمه. لهذا سألهم رأيهم. ولما بدا جوابهم كافيًا، بدأ يكشف لهم أن على المسيح أن يتألم ويموت ويقوم (مت 16: 21).
وما عتّم التقليد أن جعل رباطا بين "اعتراف بطرس" (أنت المسيح) والانباء الأول بالحاش (أو: الآلام). فالاناجيل الازائية الثلاثة تشهد بذلك. هذا لا يعني أنه على المستوى التاريخيّ، شكّل الحدثان منذ البداية متتالية واحدة. بل نحن نتصوّر بصعوبة أن تأتي هفوة كبيرة (حاشى لك يا رب) حالاً بعد هذا الاعتراف الرائع الذي نسبه يسوع إلى وحي سماويّ مع العلم أن بطرس عرف تقلّبات أخرى سريعة (26: 31 ي: لو ضعف الجميع ما ضعفت أنا... قبل أن يصيح الديك). كما نظنّ أيضًا أنه من الصعب أن يتلفّظ يسوع بكلمات قاسية (إذهب خلفي يا شيطان، 23:16) بعد كلام المديح لمن سمّاه صخرًا (17:16-19) فدلّ على دوره في تثبيت إخوته (لو 22: 32). وهكذا قد نكون في الأصل أمام حدثين منفصلين، وقد جمعهما التقليد الازائي ليبيّن أن مسيرة الايمان لا تتوقّف، وهي تحتاج دومًا إلى أن تأخذ بأفكار الله لا بأفكار الناس.
ويُطرح سؤال ثان: هل المقطع الخاص بمتّى (17:16-19) يحتلّ مكانه الأصلي، أم أن متّى أدرجه هنا بين اعتراف قيصريّة فيلبس والانباء بالآلام والقيامة؟ نظنّ ان الانجيلي الاول قد أدرجه هنا. فلو وجد مرقس عبارة "ابن الله الحيّ" في هذا المكان كما تلفّظ بها بطرس، لما كان اكتفى فقط بعبارة "ابن الله" التي تعني فقط "المسيح". غير أن متّى أعطى عبارة بطرس المعنى القويّ جداً، لكي يوضح الايمان المسيحيّ الذي عليه تتأسّس الكنيسة: الايمان بألوهيّة المسيح، ابن الله، في المعنى الحقيقيّ. في هذه الظروف، لا يكون من المعقول أن يقول بطرس مثل هذا الكلام قبل القيامة. وإن كان قد قال بعضه، فقد كمّلته الكنيسة على ضوء الايمان بيسوع الربّ القائم من الموت.
ثم إذا ارتبطت آ 17-19 مع آ 13-16 بفضل إضافة تدوينية نقرأها في آ 16 ب (ابن الله الحي)، إلا أننا نلاحظ ضعفاً في التماسك والتواصل بين آ 16- 19 وآ 21-23، فاللغة تتحوّل بين جزء وآخر. فالفكرة التي تعبّر عنها آ 17 في أسلوب ساميّ محض (اللحم والدم)، تُستعاد في آ 23، ولكن في لغة أخرى: "أفكارك هي أفكار البشر". في آ 17، سمّى يسوع الله "أبي الذي في السماوات". أما في آ 23 فهو فقط "الله" (ليست أفكار الله). وأخيرًا من الواضح أن آ 16 ترتبط ربطًا طبيعيًا مع آ 20 لا مع آ 17- 19: انت المسيح... أوصى تلاميذه أن لا يقولوا. في هذه الظروف، نستطيع القول إن متّى قد اختار هذا الموضع ليُدرج وعد يسوع لبطرس. ما كان هدفه؟ يبدو أنه أراد أن يبيِّن كيف أن "ابن يونا" استطاع أن يصير الصخر الذي عليه بنى المسيح كنيسته: كل شيء يرتكز على الايمان.

2- الإطار التاريخيّ والجغرافيّ
تبع متّى مرقس، فجعل موضع اعتراف بطرس بيسوع في قيصريّة فيلبس، أي خارج فلسطين. في تراخونيتس التي هي أرض وثنيّة. لا مجال للشكّ في ما قاله الانجيل حول تحديد المكان. نحن نعرف أن يسوع قد سعى في ظروف عديدة إلى الابتعاد بعض الشيء عن فلسطين، ليمكّن تلاميذه من الراحة، وليعطيهم تعليمه في جوّ هادئ وبعيد عن تشنّجات أهل الجليل الذين كانوا ينتظرون مسيحًا بحسب أفكار الناس (مسيحًا مجيدًا لا يمرّ في الألم، مسيح حرب يطرد الاعداء): فقبل تكثير الأرغفة (مر 6: 30- 31)، نجد يسوع خارج فلسطين. وكذلك حين شفى ابنة السورية الفينيقيّة كما يقول مر 7: 24 أو الكنعانيّة كما يقول مت 15: 22. وقد يكون أطلّ ظرف مشابه، فأعطاه مناسبة ليسأل تلاميذه فيعرف ماذا فهموا من تعليمه.
يجب أن نميّز بين اعتراف بطرس ووعد يسوع. قد يكون الاعتراف قد تمّ في نهاية رسالة يسوع في الجليل: كان يسوع قد أعطى عدداً من العلامات التي تدلّ على مسيحانيّته بحيث إن التلاميذ فهموها. فالزمن الذي فيه سيموت قد صار قريبًا، لأنه بدأ يتحدّث عنه بعد أن رأى الأعداء من كل جهة ولا سيّما الفريسيين والصادوقيين. هذا ما يتّفق عليه الشّراح.
ولكنهم يختلفون حول الزمن التاريخيّ المحدّد الذي فيه وجّه يسوع كلامه إلى بطرس: "على هذه الصخرة أبني كنيستي". بعضهم جعل هذا الكلام بعد القيامة على ما في يو 21: 15-17. عند ذاك نفهم أن يكون بطرس قد قال في ذلك الوقت: "أنت ابن الله الحيّ". أما قال توما بعد القيامة: "ربّي وإلهي" (يو 28:20)، فكان كلامه تردادًا ليتورجيًا في الكنيسة الاولى؟ ومع ذلك، فالبراهين التي تسند هذه الفرضيّة ليست مقنعة كل الاقناع، ويبقى السؤال مطروحًا حول الوقت الذي فيه وعد يسوع بطرس بما وعد.
أما لوقا فلا يذكر قيصريّة فيلبس: بالنسبة إليه لم يخرج يسوع من فلسطين، ولم يبشّر الوثنيين. فقد ترك هذا الدور للكنيسة، بعد العنصرة. قال: "يكرز باسم المسيح في جميع الأمم ابتداء من أورشليم، وأنتم (أيها الرسل) شهود على ذلك" (لو 47:24-48). وفي أع 1: 8 قال لرسله: "تكونون لي شهودًا... إلى أقاصي الأرض". وهذا ما ستفعله الكنيسة، وهذا ما يرويه لوقا في سفر الأعمال، فتصل "الكلمة" إلى رومة حرّة طليقة (أع 28: 30) هـان كان بولس مقيّدًا، وإن وكان بطرس قد مات.
غير أن لوقا لا يكتفي بأن "يُلغي" التحديد الجغرافيّ الذي وجده عند مرقس. بل أحلّ محله إشارة لها معناها: كان يسوع يصلّي على انفراد مع تلاميذه (9: 18). وهكذا انغمست عدد من الأحداث الكبرى من حياة يسوع في جوّ من الصلاة. لما اعتمد يسوع "كان يصلّي فانفتحت السماوات" (3: 21). وقبل اختيار رسله نقرأ في لو 6: 12: "وفي تلك الأيام خرج يسوع إلى الجبل ليصلّي. وأمض الليل في الصلاة إلى الله". وعلى جبل التجلّي، صعد يسوع مع بطرس ويعقوب إلى الجبل ليصلّي (6: 12). ولما رآه التلاميذ يصلّي (11: 1)، طلبوا منه أن يعلّمهم الصلاة كما علّم يوحنا تلاميذه. وكذا نقول عن صلاته في بستان الزيتون (22: 41) وعلى الصليب (32: 46): "يا ابتاه، في يديك استودع روحي". وهكذا نفهم أن اعتراف قيصريّة كان وقتًا حاسمًا في حياة يسوع العلنيّة. لهذا صلّى قبل أن يسأل تلاميذه لكي ينالوا الأنوار الالهية.

3- ماذا يقولون عن يسوع (13:16-16)
لقد أراد يسوع أن يعرف إن كان تعليمه قد بلغ أهدافه. فطرح سؤالين على تلاميذه: ماذا يقول الناس؟ ماذا يقول التلاميذ أنفسهم؟
أ- الناس
إن الجواب على السؤال الأول هو صدى لأقوال أوردها مر 6: 14-16. (قال هيرودس. يوحنا المعمدان. آخرون: إيليا. آخرون: نبيّ من الانبياء). أما مت 14: 1-2 فأورد فقط كلام هيرودس: "هذا يوحنا المعمدان: إنه قام من الأموات"! فحين رأى الناسُ الآيات تُجرى على يد يسوع، تساءلوا عن هويّته. أما الأسماء المختلفة فتدلّ كلها على أنبياء. من يُتمّ مثلَ هذه الاعمال لا بدّ أن يكون نبيًا ونبيًا عظيمًا (رج مت 21: 46؛ يو 4: 19). غير أن تعداد هذه الاسماء، انتهى بخاتمة غير متوقّعة: "أو أحد الانبياء". هذه العبارة تفترض لائحة تامة ومعروفة من الانبياء. وقد أراد لوقا أن يوضح ذلك لقرّائه اليونان البعيدين عن النظرة اليهوديّة، فقال: "إن نبيًا من الانبياء الاقدمين قد قام" (19:9 ب، رج آ 8).
لماذا اعتبر اليهود أنه لا يمكن أن يقوم نبيّ جديد؟ في زمن يسوع، اعتبر العالم اليهوديّ الرسميّ في فلسطين أن لائحة الانبياء الحقيقّيين والملهمين قد أغلقت منذ زمن بعيد. فالنبيّ زكريا كان قد حدّد موقع الانبياء الصادقين في الماضي البعيد حين تحدث عن "الأنبياء الأقدمين" (زك 7:7، 12). كأني به يقول: ليس من أنبياء جدد. وصاحب سفر دانيال تكلّم عن الانبياء بلغة تعود بنا إلى الماضي. "لم نسمع لعبيدك الانبياء الذين كلّموا باسمك ملوكَنا ورؤساءنا" (6:9). "لم نسمع الشرائع التي جعلها الله على ألسنة عبيده الانبياء" (آ 10). فغياب الأنبياء عقاب من الله استحقّه الشعب لأنهم لم يسمعوا الانبياء الذين أرسلهم إليهم (أش 3: 1- 3؛ حز 7: 26: يلتمسون رؤيا من نبيّ؛ مرا 2: 9؛ مز 9:74).
وحين امتدح ابن سيراخ الآباء (ف 44-49) كرّس مقاطع لأشعيا (48: 22-25) وإرميا وحزقيال (49: 4- 9). وذكر "الانبياء الاثني عشر" كمجموعة محدّدة (49: 10). ولم يذكر أحدًا بعدهم. ولهذا السبب، لم يستطع سفر دانيال أن يجد مكانًا له بين كتابات الانبياء مع أنه نبيّ حقيقيّ: جاء متأخّرًا، فحُسب سفره مع سائر الكتب أي في القسم الثالث من التوراة (كتوبيم).
أما في العالم اليهوديّ في الاسكندرية، أو في قمران، فما كانوا يرون الأمور على هذا الشكل، فكانوا يعتبرون الأسفار المتأخّرة (أو: الاسفار القانونيّة الثانية مثل يهوديت، وطوبيا...) أسفارًا ملهمة. وما كانوا يخافون أن يضمّوا دانيال إلى الانبياء، أشعيا وإرميا وحزقيال، فيتكلّمون عن الاربعة الكبار (رج ملا 23:3)، كما هو الأمر في السبعينيّة والشعبيّة. بالاضافة إلى ذلك، كانوا كلهم ينتظرون نبيًا جديدًا، ينتظرون النبيّ (في خط تث 18: 15-18) الذي هو شخص اسكاتولوجيّ يرتبط بالمسيح (يو 1: 21-25؛ 14:6؛ 7: 40؛ رج نظام الجماعة في قمران 9: 10- 11).
إن انتظار عودة نبيّ لم يكن يتعدّى حدود المخيَّلة الشعبية التي تصدّق كل ما يقال لها. ولقد قال 1 صم 7:28-25 إن العرّافة استدعت النبيّ صموئيل بعد موته. وهيرودس كان في ذاك الجوّ. قطع رأس يوحنا، فما زال ذكر هذه الجريمة يقضّ مضجعه. لهذا، فحين سمع بيسوع وأعماله، ظنّ أن هذا النبيّ الجديد إنما هو يوحنا المعمدان الذي قام (مر 16:6) على مثال صموئيل في الماضي.
وكان قد أعلن النبي ملاخي أن النبيّ إيليا سيعود في يوم من الأيام كسابق للمسيح (ملا 3: 24-25). وتساءل الناس: أم يكون يسوع هو إيليا، لأنه يتمّ كل هذه المعجزات؟ ويُطرح سؤال: لماذا يُذكر إرميا مع يوحنا المعمدان وإيليا، حسب التقليد الذي يورده متّى (يورده وحده)؟ لأن اليهود في القرنين الاخيرين ق. م.، أحبّوا نبيّ عناتوت محبّة خاصة حسب 2 مك 2: 1-12؛ 15: 14: "هذا محبّ الاخوة، المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدّسة، إرميا نبيّ الله".
وجاء الجواب على سؤال يسوع كما توقّعه: لم يفهم الناس بعدُ كل تعليمه. هم لا يعرفون بعد من هو يسوع (رج يو 19:8: لا تعرفوني أنا ولا أبي؛ 10: 14-15). غير أن رسالة يسوع قد أثّرت في الشعب تأثيرًا أكيدًا، لأنهم رأوا فيه نبيًا، رأوا فيه رجل الله الذي يتكلّم باسم الله.
ب- التلاميذ واعتراف بطرس
حتى الآن، اكتفى التلاميذ بأن يوردوا أقوال الناس. وإذا كانت الجموع لم تفهم تعليم يسوع، فما ضاع كل شيء بعد. المهمّ أن يكون التلاميذ قد فهموا، وهم الذين تقبّلوا تعليمًا خاصًا لم ينله الناس (مر 4: 10؛ 7:7). وسأل يسوع: "من أنا في رأيكم"؟ هذا السؤال يُلزمهم بشكل مباشر، وهو سؤال خطير. فاتّخذ بطرس المبادرة وتكلّم.
لماذا بطرس؟ بسبب طبعه الشخصيّ. فردَّة الفعل عنده هي عفويّة وسريعة. ولكن وإن كان هذا هو السبب الحقيقيّ، فمتّى لم يتوقّف عنده. فجواب بطرس لم يكن مرتجلاً وبدون تفكير (كما في 16: 22؛ 33:26). إذا كان بطرس قد تكلّم في هذا الظرف الاحتفالي، فلأنّه يعتبر نفسه (ويعتبره متّى ويسوع نفسه) المتكلّم "الرسميّ" باسم الاثني عشر. فهناك أحداث أخرى تدلّ على أنه احتلّ باكرًا مكانة مميّزة في جماعة التلاميذ: هو واحد في مجموعة الثلاثة المميّزين (17: 1؛ 26: 37؛ مر 5: 37). حين وردت لائحة الاثني عشر بدأت باسمه (خصوصًا متّى الذي سمّاه الاول، 10: 2)، مع أنه لم يكن أول المدعوين بحسب يو 1: 40-42. وقد يكون بيته في كفرناحوم قد صار بيت يسوع الذي اعتبر هذه المدينة مدينته (مر 1: 29؛ 2: 1؛ مت 18: 25). وحين جاء الوقت لدفع جزية الهيكل، ضُمّ بطرس الى المعلّم بامتياز خاصّ (17: 24-27). لا شكّ في أن التلاميذ لا يعتبرونه رئيسهم، ولكن كالأول بين الاثني عشر. وهذا ما سيفعلونه في بداية الكنيسة كما يروي لوقا في أعمال الرسل: يتكلّم باسم الجميع، يعمّد أول وثني...
حسب مرقس، أجاب بطرس بكل بساطة: "أنت المسيح". قد تمثّل هذه العبارةُ الشكلَ الدقيق الذي تلفّظ به بطرس. وهي توافق تعليم يسوع والأعمال الخارقة التي اجترحها. أجل، يسوع هو مرسل الله الذي أعلنه الانبياء، والملك القدير، وداود الجديد الذي يخلّص شعبه من الذلّ والاحتلال اللذين تقاسيهما الأمّة منذ أجيال بسبب خطاياها.
إن مرقس لا يشير إلى إيمان بلاهوت المسيح. أما متّى فاستبق إيمان بطرس والمسيحيّين كما ظهر بعد القيامة، فأعلن ما أعلن لكي يؤسّس الكنيسة: إيمان بيسوع الذي هو المسيح. وإيمان بيسوع الذي هو ابن الله ومساو لأبيه.
ما يفلت النظر في جواب التلاميذ، هو تنّوع الآراء حول يسوع. غير أن هذا التنوعّ يرتدي وحدة تميّز العالم البيبليّ واليهوديّ: لم يظنّ أحد أن يسوع هو شخصيّة فريد منفصلة عن تاريخ شعبه. كلّهم يعتقدون أن يسوع هو مرسل من الله ليتمّ التدخلات التاريخيّة التي وعد بها في الماضي. ما كان اليهود ينتظرون، هو تدخّل حاسم من الله لدينونة البشر وخلاصهم. غير أنهم كانوا ينتظرون ذلك متطلّعين إلى الماضي وإلى المستقبل. فالوجوه العظيمة في الماضي هي عربون الخلاص المنتظر. لهذا أعطى متّى هذه الأجوبة، وأنهاها بجواب بطرس باسم التلاميذ. يسوع هو المسيح وابن الله. عبارتان تتساويان في العالم اليهوديّ (لا في الإطار المسيحي بعد القيامة). وتدلاّن على مرسل الله في نهاية الأزمنة من أجل خلاص البشر. وذكر "الله الحي" يدلّ على أن يسوع هو ممثّل الله الذي يتدخّل في التاريخ. الاله الحيّ هو غير الاصنام التي لها عيون ولا ترى، وآذان ولا تسمع... (تث 23:5؛ مز 3:84؛ إر 2:5؛ أش 37: 4...).

4- وعد يسوع لبطرس (16: 17-19)
إن الطابع الساميّ للآيات 17-19 يدلُّ على أصلها الأرامي الفلسطيني. منذ البداية يُعلن بطرس سعيدًا (طوبى لك)، لأنه عرف المسيح واعترف به (من يعترف بي...)، لأنه كان موضوع وحي إلهيّ. ماذا نقول في كلام يسوع لبطرس؟
أ- يسوع يبارك بطرس
قال بطرس أجمل كلام قيل في يسوع. فقال يسوع أولاً مباركة احتفاليّة بشكل تطويبة. فالعقلية البيبليّة وأصل اللفظة (طوبى، طيّب، طاب) اليونانيّة (ماكاريوس) يدفعنا الى إعطاء هذا المدلول لكلام يسوع. بدأ فأعلن اسم بطرس كاملاً. سمعان بن يونا. اسمه واسم أبيه (كما في مصر مثلاً حيث لا يذكر اسم العائلة). ونلاحظ التعارض بين يونا، والد سمعان، الذي هو من الأرض، وأب يسوع الذي هو في السماوات (آ 17).
لقد رأى يسوع في جواب بطرس علامة اختيار من الآب (ق مت 10: 20-23؛ يو10-29). فما كان لبطرس أن يرى المسيح في يسوع، بدون نور إلهيّ خاص. وإلاّ نفكر كما يفكّر الناس. ولقد قال يسوع يومًا موضحًا: "لا يعرف أحد الابن إلا الآب. لا يعرف أحد الآب إلاّ الابن ومن يريد الابن أن يكشف له" (مت 11: 27؛ رج 1 كور 3:12؛ غل 1- 15، 6، 2). لهذا شدّدنا على الطابع الجليانيّ لهذه المقطوعة التي ترفعنا من مستوى البشر إلى مستوى الله. فما كان "للحم والدم"، فما كان لقوى الفعل البشري وحدها أن ترى ابن الله في يسوع. فالآيات لا تكفي وحدها لكي تجعلنا نؤمن بأن يسوع هو المسيح، وبأن هذا المسيح سوف يتألّم ويموت ويقوم لكي يخلّصنا (16: 23).
ب- الرموز
تتضمّن الألفاظ التي وجّهها بطرس ليسوع سلسلة من الرموز لا بدّ من تحديد مدلولها. لهذا نعود إلى التوراة (لا الى مفهومنا الحديث) لكي نفسّرها التفسير الصحيح.
أولاً: الصخر أو الحجر
نسب العهد القديم إلى الله اسم "الصخر" أو "الحجر" (الحجر الذي رذله البناؤون): فالله كالصخر لا تبدّله الأجيال. هو صخرة اسرائيل (تث 32: 15؛ أو هو الخالق الذي صوّر). اذن، نستطيع أن نستند إليه، أي نثق به، نؤمن به. وجذر الفعل "ا م ن" يعني أولا: استند الى. لهذا قال اشعيا: "إن لم تؤمنوا لن تأمنوا" (لن تجدوا ما تستندون إليه) (7: 9 ب).
والصخر (أو الحجر) هو ما نستطيع أن نبني عليه. حجر الاساس، حجر الزاوية (وقد يكون حجر الغلقة، الذي ينهي العقد، فإن سقط، سقط العقد معه). فنجد في أشعيا استعارة حجر الأساس الذي يدلّ على المسيح (28: 16: إني واضع في صهيون حجرًا). في مز 18: 22 يتحدث المرّتل عن رأس الزاوية (أو: حجر الغلقة). وقد لا يكون المعنى مسيحانيًا. غير أن يسوع طبّقه على نفسه (مت 42:21؛ أع 11:4؛ 1 بط 4:2-5). ويقابل يسوع أيضًا كلمته بالصخرة التي عليها يبني المرء بيته أي حياته (مت 7: 24-27). وقد يدلّ الحجر على الشك وما يسبّب العثار والسقوط (أش 8: 11-14؛ مت 16: 23).
في هذه الظروف، يبدو مت 16: 18 واضحًا: أعطى يسوعُ سمعانَ اسمًا جديدًا يدلّ على رسالته في الكنيسة، على مثال ما في الكتاب المقدس (يو 1: 42؛ ق تك 17: 5). ويبدو أنه بسبب إيمان بطرس بالمسيح، استطاع بطرس أن يلعب دور الصخر (والحجر) الذي عليه يرتكز البناء أي الجماعة التي أسّسها المسيح. فالاساس الجوهريّ يبقى المسيح نفسه (1 بط 2: 4- 5، كما أنه هو وحده الراعي الصالح. ومع ذلك، طلب من بطرس أن يكون الراعي). وأراد أن يشرك بطرس في دوره هذا. يجب أن نشدّد هنا تشديدًا خاصًا على العلاقة التي أقامها متّى بين إيمان بطرس (= صخر) ودوره كالصخر (أو: الحجر، حجر العثار، مت 23:16؛ رج لو 34:2). هذه الوجهة هي وجهة لوقا (22: 32).
ثانيًا: المدينتان والأبواب
لا نجد لفظة كنيسة في كل الأناجيل إلا في متّى: هنا وفي 17:18. الكنيسة هي "ق هـ ل" "اكلاسيا". هي في العهد القديم جماعة الشعب المختار. وفي العهد الجديد جماعة يسوع (كنيستي أنا مع ضمير المتكلّم)، التي يجمعها بكرازته وخدمته، وفي النهاية بموته وقيامته. وتبدو الجماعة هنا بشكل مدينة مبنيّة على صخر. وأمامها مدينة تزاحمها هي "الجحيم، الشيول، عالم الموت" (هاديس). لها أبواب تُغلق.
نجد أن استعارة الأبواب لا تدلّ هنا على مكان فيه ندخل ونخرج. فالسياق يشير بالاحرى إلى صراع وحرب. فحسب الصورة التقليديّة التي نجدها في التوراة، كانت الحروب الحاسمة تقع عند أبواب المدينة. فمن أحتلّ أبواب المدينة، احتلّ المدينة كلها وانتصر في الحرب (تك 22: 17؛ 24: 60؛ أش 45: 1-2). وفي النهاية يدلّ "الباب" على قوّة الجحيم التي تتحدّى قوّة أخرى هي قوّة الكنيسة. أجل، إن أبواب الجحيم (هاديس) لا تستطيع أن تحتفظ في الموت بأعضاء الجماعة المسيحانيّة التي التأمت حول يسوع.
ثالثًا: المفاتيح
المفتاح يشبه المزلاج الذي هو قطعة من حديد (أو خشب) بها نغلق الباب. ونعود هنا إلى أش 22: 22، لنفهم استعارة المفتاح: "أجعل مفتاح بيت داود على كتفه (لا يوضع المفتاح في الجيب كما هي الحال اليوم. لأنه قطعة كبيرة ومستطيلة تمسك درفتي الباب أو تمسك الباب مع الجدار)، يفتح فلا يغلق أحد. ويغلق فلا يفتح أحد". من يمسك المفتاح؟ الوزير الاول. وهذا ما يدلّ على قدرته. وحده يستطيع أن يُدخل الناس إلى قصر الملك، وكلهم يخضعون له. أما في سفر الرؤيا، فالنبوءة تنطبق على المسيح (3: 7: بيده مفتاح داود، هو يملك ملء السلطان).
إنّ ابواب الموت مغلقة "إلى الأبد"، فلا يستطيع أن يفتحها أحد ليُخرج الموتى من هناك. لذلك قال يون 2: 7: "نزلتُ إلى أرض مفاتيحها مزاليج الابد". ولكن يسوع قد نال بقيامته هذا المفتاح الذي يسمح له بأن يفتح أبواب الموت (رؤ 1: 18): فذهب يحمل إلى الآباء بشرى الخلاص (ابط 3: 19- 20؛ أف 4: 9- 10؛ روم 10: 6- 10؛ رؤ 20: 13- 14). أما متّى فتحدّث عن هذه "المفاتيح" بشكل مدراش (درس وتأمل) في 27: 51- 54: "الصخور تشقّقت، القبور تفتّحت، وقام القدّيسون الراقدون".
هذه المفاتيح قد سلّمها يسوع إلى بطرس. أعطاه سلطة "الوزير الاول" حتى على مستوى التعليم. فقد لام يسوع الفريسيين لأنهم "أخذوا مفاتيح المعرفة، فلا هم دخلوا ولا تركوا الآخرين يدخلون" (لو 11: 52). تعلّق الفريسيون بتعليمهم الشريعانيّ، فانغلقوا على النور، ومنعوا الشعب الذي يسمعهم من المجيء إلى النور.
رابعًا: ربطَ، حلّ
تعبّر اللغة الساميّة عن فكرة "الكل" بضمّ مدلولين متعارضين: الدخول والخروج (أي كل تحرّك). النهوض والقيام. الليل والنهار. السماء والأرض. الخير والشرّ (أي كل أعمال الانسان). وهذا ما نقوله عن ربط وحلّ.
فعند الرابينّيين، تضمنّت عبارة "ربط وحلّ"، معنيين يرتبط الواحد بالآخر: منع وسمح. أي وضع قواعد وفرائض (مت 23: 4 ,11 ,27-28). والمعنى الثاني: حكم وسامح، أي حرم (أو: أخرج من الجماعة) وأعاد الانسان إلى الجماعة. وهكذا نكون أمام منظار وقواعد تحدّد تصرّفات الأعضاء داخل جماعة روحيّة. وهكذا نعود إلى "سلطان المفاتيح". في 18: 18، سيعد يسوع التلاميذ بما وعد به بطرس: ما تحلّونه على الارض يكون محلولاً في السماء. وما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. وهكذا يشارك الرسل بطرس في سلطان الحلّ والربط، وهو سلطان أعطاه الرب حقاً لكنيسته.

خاتمة
في محطة أولى كان سؤال يسوع. فجاء جواب الناس. إنه نبيّ من الانبياء، وربّما النبيّ المنتظر. وجواب التلاميذ بفم "الاول": أنت المسيح ابن الله الحيّ. بل جواب الكنيسة خصوصًا بعد القيامة. وجوابنا نحن في صلواتنا الليتورجيّة. وكان وعد يسوع للكنيسة التي أعلنت ايمانها برّبها. ومن خلال الكنيسة لبطرس (16: 17) بانتظار سائر الرسل. سلطان المفاتيح. سلطان الحلّ والربط. في الحقيقة، لقد سلّم يسوع سلطته إلى كنيسته من خلال الرسل، وبطرس أولهم، ومن خلال خلفاء هؤلاء الرسل. ولكنها سلطة خاصة. هي سلطة الخدمة. سلطة حمل الانجيل بتجرّد تام ورغم الصعوبات والاضطهادات. لا سلاح لهم إلا الايمان بأن أبواب الجحيم وسلطتها لا تستطيع شيئًا ضد ملكوت السماوات. ولكن بانتظار ذلك، لا بدّ للكنيسة أن تسير في خطى معلّمها فتعرف الألم والموت قبل القيامة. هذا ما استصعبه بطرس فطلب من يسوع أن يبدّل الطريق. وهذا ما نستصعبه اليوم. ولكن كلام يسوع يبقى هو هو: من أراد أن يخلّص نفسه أضاعها. من أراد أن يتبعني يكفر بنفسه ويحمل صليبه. وبعد ذلك يتبعني. تلك هي الطريق الوحيدة التي يقدّمها يسوع لكنيسته ولكل واحد منا. فهل نحن مستعدّون للسير فيها؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM