الفصل السادس والعشرون: شبع المساكين في وليمةالملكوت

 

الفصل السادس والعشرون
شبع المساكين في وليمة الملكوت
14: 13- 21

إن نصّ تكثير الأرغفة يطرح عددًا من الاسئلة. هناك حدث في حياة يسوع تمّ في وقت محدّد من رسالته العلنية. فوُلدت منه أخبار في الأناجيل الاربعة. ونحن قبل أن نستخلص التعليم الخاصّ بمتّى، نعالج بإيجاز ما أعطى الخبر شكله الحالي. فسماعنا لكلام الله يرتبط في قسم منه ببحثنا. لهذا نشارك المسيحيين الأوّلين إيمانهم لكي نترجم لعالم اليوم عُمق ما قالته الكنيسة على ضوء قيامة يسوع وعلى ضوء حياتها.

1- الخبر في الجماعة الأولى
يبيّن هذا الخبر الغني كيف أن الجماعة المسيحيّة الأولى قد أعلنت المسيح واحتفلت به في ليتورجيتها. فبلُغتها (الالفاظ، الصور) المأخوذة من العهد القديم، ظلّ الخبر قريبًا من الكرازة الأولى التي اهتمّت بشكل خاصّ بأن تقول إن الكتب قد تمّت في يسوع المسيح. كما أن هذا الخبر انطبع انطباعاً خاصاً بالافخارستيا التي كانت تحتفل بها الجماعة الأولى.
أ- على ضوء العهد القديم
حين نقرأ أش 55: 1-3، نتذكّر أننا لا نستطيع أبدًا أن ندخل في فهم عميق لمقطع من العهد الجديد، دون العودة إلى "نبوءات" العهد القديم، وإلى الرجاء الذي أشعلته هذه الكلمة في قلب شعب قرأها وأعاد قراءتها وتأمّل فيها وفسّرها. وهكذا نبتت لغة "كوِّنت" قبل "الأناجيل" وصورٌ ترسم أمامنا مواضيع غنيّة. وهذا الامر صحيح بشكل خاص بالنسبة إلى تكثير الأرغفة. فاذا أردنا أن نعرف كيف وُلدت هذه الأخبار، نعود إلى التوراة التي تقدّم نماذج تلقي ضوءًا على المواضيع الواردة.
أولاً: نماذج
المرجع الأوضح في التوراة هو معجزة ترد في 2 مل 4: 42-44: أليشاع الذي كثّر أرغفة الشعير. بعشرين رغيفًا أطعم مئة شخص. لم ينسخ الانجيل العهد القديم. ولم ينطلق من العهد القديم ليخترع خبرًا عجيبًا ينسبه إلى يسوع. ولكن ترتيب الخبر يجعلنا نرى فيه تحقيق وعد من المواعيد، وحضور واقع نهائي وجدنا نمطه (أول تتمّة له) في العهد القديم.
حين نقدّم ما فعله يسوع، تبدو التشابهات كثيرة فتحيلنا إلى العهد القديم. وتبدو الاختلافات واضحة فتدفعنا إلى التشديد على أن عظمة ما تمّ في الانجيل لا يقابله شيء. مثلاً، النسبة بين الأشخاص الذين أكلوا الأرغفة: 1 مقابل 5، لأن مئة شخص أكلوا من عشرين رغيفًا. أما في الانجيل، 1 مقابل ألف، لان 5000 شخص أكلوا من خمس خبزات. إن نبيّ العهد القديم، يمّحى أمام النبيّ المنتظر، وما عمله يسوع يتجاوز إلى أبعد ما يمكن ما فعله أليشاع مع بني الانبياء.
استعاد الانجيل عبارات خاصة بالعهد القديم. إن عبارة "أكل وشبع" تدلّ على الوفرة في أرض الميعاد. نقرأ في تث 6: 11: "فأكلت وشبعت" من بيوت مملوءة خيرات. إحذر أن تنسى الربّ. وفي 11: 15، قال الرب: "وأُنبت عشبًا في صحرائك فتأكل أنت وتشبع" بعد أن آتيك بالمطر مع القمح والخمر والزيت. وفي 31: 20: "حين أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم عليها التي تدرّ لبنًا وعسلاً فيأكلون ويشبعون ويسمنون". وصلّى بنو اسرائيل في 9: 25: "امتلكوا بيوتًا مملوءة كل خير وآبارًا محفورة وكرومًا وزيتونًا وشجرًا ذات ثمر بكثرة، وأكلوا وشبعوا وسمنوا وتلذّذوا بجودك العظيم".
وعبارة "أكل وشبع" تعلن ملء الأزمنة المسيحانيّة. نقرأ في مز 132: 15: "أبارك طعامها بركة. أشبع مساكينها خبزًا". وتحدّث أش 65: 10 عن الوفر الذي يملأ الارض، كما تحدّث عن العائدين من المنفى في صعوبة الطريق وحرّها: "لا يجوعون ولا يعطشون، ولا يقرعهم الحرّ ولا الشمس، لأن راحمهم يهديهم وإلى ينابيع المياه يوردهم" (49: 10؛ رج رؤ 7: 16؛ مت 5: 6: طوبى للجياع فإنهم يشبعون). أما عبارة "أكل، شبع، فضل" فتدلّ على عظمة عطايا الله. نقرأ معجزة اليشاع: "فوضع بين أيديهم، فأكلوا وفضل عنهم كما قال الرب" (2 مل 4: 44). ونقرأ عن راعوت التي "أكلت وشبعت واستبقت ما فضل عنها" (را 2: 14). ونسمع عزريا رئيس الكهنة يقول: "في بيت الرب، كان لنا شبع من الطعام وفضل عنّا شيء كثير، لأن الربّ بارك" (2 أخ 31: 10). وتحدّث سفر الخروج عن المنّ الذي حُفظ إلى اليوم السابع. "من أخذ كثيرًا لم يفضل عنه، ومن أخذ قليلاً لم ينقص منه" (خر 18:16). وهناك أخيرًا مجموعات من 100 و50 (= 5000؛ مر 6: 40). فهي تشير إلى ترتيب الجماعة في البريّة، وهو الترتيب المثالي من أجل الأزمنة المسيحانيّة.
إذا قرأنا خبر أليشاع نجده شبيهًا في بنيته بالخبر الانجيلي. أمرٌ من "رجل الله" (أعط القوم ليأكلوا، 2 مل 4: 42؛ رج مت آ 16). اعتراض من أحد التلاميذ أمام كميّة الطعام التي لا تكفي (ما هذا القليل؟ أأضعه أمام مئة رجل؟ 2 مل 4: 42؛ رج مت آ 17؛ مر 6: 37؛ يو 6: 9). وأخيرًا الطعام العجائبي الذي يجعل الجميع يأكلون، بل يفضل عنهم (2 مل 44:4؛ مت 14: 20 وز). في خبر أليشاع نجد قول الرب الذي يفعل. في الانجيل يسوع هو الربّ، وهو يفعل. ونشير هنا بصورة عابرة إلى أن الخبز الذي قدّم لأليشاع كان من الشعير على مثال ما في خبر يوحنا (9:6). فخبز الشعير هو طعام الفقراء وتقدمتهم إلى الربّ.
ونجد أيضًا في العهد القديم نماذج تحيلنا إلى العهد الجديد. فنصّ خر 16 وعد 11 يشكّلان خلفيّة لتكثير الأرغفة: يقال لنا كيف أن الشعب شبع في البريّة من خبز جاءهم من السماء (خر 4:16) ولحم جاءهم من البحر (عب 11: 22، 31؛ رج حك 19: 11-12). هذان النصان وُلدا في جماعة تحتفل بالفصح. ف "الكلمة" تتجاوز التقرير "الصحافيّ" أو التاريخيّ. فالجماعة تحتفل بالله الذي يحييها اليوم، الذي يخلّصها ويدعوها اليوم لتلتزم خدمته بحريّة تامّة.
وشدّدت أيضا كرازة سفر التثنية على هذه القراءة التي تؤوّن الحدث الماضي وتجعله حاضرًا في الليتورجيا (تث 8: 3). في الخطّ عينه بدأ مز 78: 24-26 تأمّله بهذه العبارة الملحّة: "اسمع يا شعبي". أما مز 105: 40 فينتهي بنداء إلى الأمانة نعيشها اليوم. لم يعد الموضوع قيادة المؤمنين إلى الدهشة الكبيرة أمام معجزة ماديّة (المن هو بالاحرى علامة عن عمل الله من أجل شعبه). بل هو إعلان حضور الله وعمله في تاريخ البشر اليوم. وهكذا يتّخذ هذا التاريخ معناه: إنه يقود المؤمنين إلى لقاء الله اليوم، في احتفال عبادتهم. وفي داخل الاحتفال، يدعونا الاحتفال والتعليم إلى الالتزام.
تلك هي المسيرة التي قام بها كتّاب العهد الجديد حين ألّفوا أخبارهم. وذاك يكون النموذج من أجل قراءتنا للنصوص اليوم.
ثانيا: المواضيع
نستطيع أن نتوسّع بشكل لاهوت بيبلي في جميع الكلمات الاساسية والصور التي يلمّح إليها النصّ: الصحراء (أو: البريّة) التي حصل فيها المشهد. مرسل الله الذي يهب طعامًا سرّيًا ووافرًا لجمهور كبير. إشارة واضحة في مر 6: 24 إلى "الخراف التي لا راعي لها" (1 مل 17:22؛ حز 34: 5). ويقدّم النصّ يسوع على أنه موسى الجديد في خروج جديد، والراعي والنبيّ المنتظر. وهناك بعض الصور المعروفة: الوليمة، الجماعة الجديدة، الناس الذين شبعوا.
لا نتبع توسّع هذه المواضيع حتى المسيح. فنحن نستطيع من خلال النقاط الجوهريّة أن نعبّر بإيجاز عن انتظار معاصري يسوع كما يلي. انتظروا مجيء نبيّ مثل موسى، وتجديد مآثر الخروج. فالنبيّ المسيح في نهاية الأزمنة يقود شعب اسرائيل إلى البريّة. ويجدّد معجزات الماضي ولا سيّما عطيّة المنّ. وهو يتصرّف كالراعي الحقيقيّ المملوء حنانًا ورحمة، فيقود شعبه إلى المراعي الخصبة. يمتلىء من روح الله، فيحقّق معجزات إيليا وأليشاع بشكل لم يكن له مثيل. ويتّكئ الشعب "المرتب" كما في خر 18: 5 إلى المائدة المسيحانيّة. فيشاركون في هذه الوليمة المفرحة، وليمة الخبز النازل من السماء واللحم الطالع من البحر.
تلك هي بعض سمات انتظار اسرائيل في آخر الأزمنة. وقد ساعدت بعض سامعي المسيح على التعرّف إليه، وإلى أقواله وأفعاله. واستعمل الانجيليّون هذه السمات ليقدّموا يسوع كذلك الذي يلبّي انتظارات الناس. ولكن إذا أردنا أن لا نبقى على مستوى قراءة سريعة للنصوص، يجب أن نلاحظ أيضًا أن العهد القديم، حين يعلن هذا الطعام العجيب في ذلك اليوم الذي فيه يجد البشر لهم قائدًا وراعيًا، يستعمل رموزًا توافق أعمق رغبات البشريّة وحاجات الناس في كل عصر وزمان. هنا نقرأ نصّ أش 55: 1-3: "أيها العطاش جميعًا هلّموا إلى المياه...". ما يحتاج إليه الانسان، ما يجوع ويعطش إليه الانسان، هو في النهاية الله نفسه. وكل طعام آخر لا يشبع جوعه، وكل شراب آخر يتركه في عطشه. مثل هذا الانتظار أو هذا الجوع سيلبّيه يسوع المسيح.
يجب أن نلاحظ حركتين من التعمّق في العهد القديم. حين تأمّل المؤمنون في الماضي، توسّعوا في الطابع "الروحيّ" للطعام الذي أعطاه الله (تث 8: 3). وهذا الطعام صار التعبير المثالي لحياة الشعب، وزمن محنة يختبر فيه ارتباطه التامّ بالله، ويكتشف غنى كلمة الله ومتطلّباتها (حك 16: 20- 21 ,26). وحين تطلّعوا إلى المستقبل، أعلنوا الزمن الذي فيه "يشبع" البشر بحضوره ومعرفته وكلمته وروحه (أش 11: 9؛ إر 31: 25، 31- 34)؛ هنا نتذكّر دعوة الحكمة الملحّة إلى وليمة (أم 9: 1-6؛ سي 19:24-22؛ 23:51-26) سيكون لها صدى واسع في العهد الجديد.
ب- صوت الكنيسة الأولى
وبعد هذا الذي أخذه الانجيل على مستوى اللغة والصور، نتوقّف عند استغلاله لهذه المواضيع في أخبار تحيلنا الى رجاء حيّ لدى المؤمنين. فعبر هذه التلميحات، حاولت النصوص الانجيليّة المكتوبة على ضوء الفصح والقيامة أن تصوّر كل غنى الخلاص في يسوع المسيح. ذاك هو الوجه الكرازي والفقاهي والليتورجيّ للأخبار التي وُلدت من الاعلان بأنها تمّت في يسوع. هكذا يجب أن نقرأ أخبار تكثير الأرغفة في الأناجيل الازائية كما في إنجيل يوحنا.
إذا جعلنا معجزة يسوع على خلفيّة توراتيّة، شكّلت إعلانًا هو في الواقع عمل خلاص. ونحن نحسّ بهذا الامر بشكل خاصّ هنا بالنظر إلى غنى المواضيع التي أشرنا اليها. فالاخبار تحافظ على نكهة هذا الاعلان بدهشة وإعجاب: "الجديد" هو هنا. الحدث المنتظر هو حاضر في أبيفانيا (ظهور) المسيح. ونحن نستطيع أن نقرأه في معناه الأخير بعد أن كان إنباء في العهد القديم. لم نعد فقط أمام برهان نبيّن فيه حقيقة من الحقائق. لقد سقط الحجاب مع التعلّق الايمانيّ بالمسيح (2 كور 3: 14-16).
وهذا الاعلان الذي ينير حياة الكنيسة الحاضرة والمؤمنين بنوره، يتوسّع بشكل طبيعيّ في فقاهة وتعليم مسيحيّ للمؤمنين. فقد تنظّم الخبر لكي يدرك فيه المؤمنون المعنى العميق لما يعيشون في الكنيسة. وهكذا يكون خبر تكثير الأرغفة الذي انطلق من معجزة حقيقيّة، تعليمًا فقاهيًا حول الكنيسة: لقد أسّس يسوع جماعة جديدة. وهو يغذّيها ويعلّمها كيف توّزع خبز الكلمة للجموع الجائعة. بالاضافة الى ذلك نستطيع أن نرى في هذا الخبر نظرة إلى الرسالة: كثّر يسوع الأرغفة في أرض الجليل، وخارج أرض الجليل أي عند الوثنيين.
وأخيرًا أثّر المحيط الليتورجيّ تأثيرًا حقيقيًا في هذا النصّ الذي ندرس. فالرباط واضح بين خبر تكثير الأرغفة، والاحتفال الافخارستي. هذا لا يعني بحصر المعنى أن تكثير الأرغفة كان في فكر يسوع صورة مسبقة عن تأسيس الافخارستيا. غير أن هذا الرباط الذي أوضحه المسيحيّون الاوّلون، قد يساعدنا على التعمّق في احتفالاتنا العبادية. فقد أعلن الانجيليون أن العمل الذي قام به يسوع "يعني" رسالته كلها والخلاص الذي يحمله. وما عاشته الكنيسة الأولى هو فرح هذا الخلاص في يسوع المسيح، وحضوره الذي يشفي ويعزّي ويشجّع، وكلمته التي تنير وتغذّي، ولقاؤه الذي يشبع كل جوع فينا. فالرباط بين تكثير الخبز والافخارستيا هو ذاك الحاضر بين علامة عن رسالة يسوع الخلاصيّة، والعلامة الحقيقيّة على أن يسوع ما تركنا في قيامته من الموت وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب.
من هذا القبيل، تبدو الحركة في خطبة يو 6 جديرة بالملاحظة. ففي القسم الأول وضحت "الآية" التي أتمّها يسوع بالنظر إلى سرّ المسيح ورسالته. حين قدّم نفسه على أنه "الخبز الحيّ النازل من السماء" استعمل أحد الرموز الكبرى التي بها كشف عن نفسه أنه المخلّص الذي يُتمّ انتظار العهد القديم ويلبّي رغبات البشر. "فالأكل" يدلّ على تعلّق به بالايمان. ويلمّح القسم الثاني من الخطبة (آ 5 ب-58) بشكل مباشو إلى الافخارستيا، فيذكّرنا بشكل خاص أن هذا السرّ، سرّ المسيح المخلّص، يمتدّ ويدركنا في سرّ القربان المقدس.

2- تعليم متّى
تسلّم متّى من التقليد هذا الخبر الغنيّ بمعانيه. فكيّف هذا التعليم وحاجات الكنيسة التي كتب إليها. وشدّد على ما يعزّ عليه من أفكار.
أ- أهداف متّى في تقديم النصّ
ركّز متّى خبره تركيزًا لم يعرفه مرقس، فأعطاه طابعًا احتفاليًا جعلنا نحسّ وكأننا في إطار من أطر العبادة. بسّط متّى الحوار بين يسوع وتلاميذه. وألغى تفاصيل نجدها في مر 39:6-40 (هي تفاصيل من الحياة لها بُعد لاهوتي في إنجيل مرقس). وهكذا وصل الخبر بسرعة إلى الذروة في آ 19. لقد وجّه متّى انتباهنا إلى يسوع وإلى الرسل الذين هم ضعفاء لا يملكون شيئًا تجاه حاجات الجموع (آ 17) ولكنهم سيطيعون أمر يسوع. وبناء على أمره (آ 16) وعمله سيُعطون الجميع طعامًا يشبعهم. ونجد ذات الحركة أيضًا في الخبر التالي (14: 22- 33): وضعٌ ميؤوس منه على المستوى البشري، ولكنّه يثير عن التلاميذ موقف إيمان ينتظره يسوع من الذين يشاركونه الرسالة، بشكل مباشر.
بالاضافة إلى هذه النقطة التي شدّد عليها متّى بشكل خاص، فقد أراد الخبر أن يبيّن لنا أن المسيح الذي رذله أخصّاؤه يجمع بقوّته شعب الله الجديد. إنه لأمر مهمّ جداً أن يقدّم هذا الطعام إلى جمهور متعدّد المشارب. هكذا نفهم التلميحات إلى الافخارستيا الأولى وإلى الطعام المسيحاني في الملكوت، مهما كانت الرموز خفيّة. لا يشدّد النص على أن هذه الجموع كانت جائعة. ولكنه يقول إن هذه الجموع المبعثرة والمتألمة والتي لا راعي لها (كما يقول مرقس) قد التأمت واجتمعت كما ستكون في الملكوت بعد أن أطعمها يسوع.
وشدّد بعض الشرّاح أخيرًا على ارتباط هذا الخبز بشعائر العبادة: فالتعبير الذي نقرأه في آ 19 قريب ممّا نجد في صيغه في العشاء السريّ (أخذ الأرغفة ونظر إلى السماء وبارك وكسر وأعطى، رج مر 6: 41). ويصوّر متّى بشكل مباشر دور الرسل (أكثر ممّا يفعل مرقس ولوقا) وكأنه وظيفة ليتورجيّة في خدمة الجماعة. ويُبرز الخبرُ بشكل خاصّ الطابع "الكنسي" لإنجيل متّى. فالكنيسة تقدّم اليوم وتوّزع بكلمتها وليتورجيتها وكل حياتها، الخبزَ الذي يشبع. وطعام الجماعة هو علامة مليئة بالرجاء عن التجمّع الأخير في الملكوت.
ب- مساكين جائعون (آ 13- 14)
اعتزل يسوع، ذهب إلى "مكان قفر منفرد". تشدّد هذه المقدّمة المتاويّة علىِ مقصد الانجيليّ اللاهوتيّ، وتُوافق موافقة تامّة (أكثر ممّا في مرقس) الوضع التاريخيّ الذي نعرفه عن يسوع.
إذا كان يسوع قد اعتزل الجموع، فبسبب عداوة هيرودس (آ 12 ثم آ 1- 2). في الواقع إن ردّات الفعل المؤلّفة من اللافهم والرفض والعداوة، سوف تتكاثر تجاهه (13: 54-58، في وطنه). رذله أخصّاؤه، فكرّس نفسه بشكل خاص لتلاميذه، ووضعَ أسس كنيسته المنفتحة على الأمم.
وإذ أراد متّى أن يشدّد على المدلول اللاهوتي لهذا المنعطف في رسالة يسوع، رتّب هذا القسم من انجيله بحسب ثلاثة "اعتزالات" متعاقبة ليسوع (14: 1-36؛ 15: 1-39؛ 16: 1-12). وفي النهاية جاء اعتراف بطرس وإعلان الكنيسة. وفي نهاية هذه "العزلة"، ظهرت الكنيسة كنتيجة اقتلاع من اسرائيل وعبور إلى الأمم. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الترتيب الذي أراده متّى لكي نفسّر خبره تفسيرًا صحيحًا.
"تحنّن عليهم". تدلّ هذه اللفظة على الحبّ العميق الغريزيّ، حبّ الام لأبنائها. ينبوعُ هذا الحبّ هو في قلب الأم، في أحشائها. لسنا هنا فقط أمام مجرّد عاطفة، بل أمام تعاطف يعمل في وقت الشدّة. إن الفعل العبريّ الذي به ارتبط الفعل اليوناني، يدلّ في العهد القديم على وجهة جوهريّة في حبّ الله لشعبه (رج مت 9: 36-10: 1؛ 15: 32؛ 7:18؛ 20: 34).
وزاد متّى على مراجعه: "وشفى مرضاهم". لا تتوقّف رحمته عند شقاء الجسد. فالتقليد الأولاني قدّم تكثير الخبز كفعلة رحمة من قبل يسوع. استعمل مرقس حز 34 لكي يصوّر يسوع في سمات الراعي الحقيقيّ المنتظر. عاد متّى إلى ذات المرجع في 9: 36: فبعثة الرسل تجد أصولها في حبّ يسوع الرحيم. ونقول الشيء عينه هنا. ففعلةُ يسوع يحرّكها وضع الجموع التي تبحث ولا تعرف، التي "تتبع" دون أن تدري أن يسوع هو المخلّص الحقيقيّ. ذاك هو "الجوع" الحقيقيّ لدى هذه الجموع. وعمل يسوع يرمز إلى رسالته كلها، هذه الرسالة التي شارك فيها التلاميذ مشاركة حميمة. فهؤلاء المساكين الجائعون يحتاجون كلّهم إلى الشفاء، وكلّهم مدعوون إلى وليمة يسوع.
ج- مهمّة تتجاوز التلاميذ (آ 15-18)
وبدأ الحوار كما عند مرقس. عرض الرسل حلاً حكيمًا، حلاً "بشريًا" (على مستوى البشر) (آ 15): "إصرف الجموع"، فقد تجد في القرى المجاورة طعامًا ماديًا. ولكن من يشبع جوعها العميق؟
وكشفت الآيات التالية هدف متّى. فقد كلّف يسوع تلاميذه بمهمّة وهو يطلب منهم أن يقوموا بها. "لا حاجة إلى ذهابهم. أعطوهم أنتم ليأكلوا". يبدو يسوع وكأنه يبصر فقط الزاد الذي يحمله الرسل. فكأن معهم طعامًا يكفي لإطعام هذه الجموع. هذا ما فهمه التلاميذ. لهذا أجابوا يسوع: "ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان" (آ 17).
كيف نقرأ هذا الجواب في متّى؟ لقد أدرك التلاميذ الرسالة التي يسلّمهم إياها يسوع. ولكنهم اعتبروا أنهم لا يقدرون أن يحقّقوها بوسائلهم الضعيفة. هم وحدهم (وكأن الرب ليس هنا) معهم فقط بضع خبزات. ترك متّى اعتراض التلاميذ الذي أورده مر 6: 27 ب (هل نمضي ونبتاع خبزًا بمائتي دينار؟)، لأنه اعتبر أن هذه الملاحظة ليست عنده في محلّها. حين قال مرقس هذه الكلمة، أراد أن يشدّد على "اللافهم" عند التلاميذ (رج مر 8: 16- 21). أمّا متّى فشدّد في المقاطع الموازية على "قلّة الايمان" (رج مت 16: 8؛ 14: 31؛ ق مر 6: 52). فالعبارة لا تشير فقط إلى تلاميذ يسوع، بل إلى تعليم يعطى لكنيسة متّى. فجماعة متّى، شأنها شأن جماعتنا، تستطيع أن ترى نفسها في هؤلاء الناس القليليّ الإيمان (مت 16: 8). ومع ذلك فأمر الربّ يدوّي اليوم أيضًا، ورسالته هي هي: كيف نصرف الجموع الجائعة إلى الله ونرسلها إلى آخرين، وكأن الخبز الذي يشترونه هنا أو هناك يستطيع أن يشبعهم.
درسٌ خاصّ لمن يقوم بمهمة خاصّة في خدمة الجماعة. حذّرهم متّى من قلة الايمان، ولكنه لم يقلّل من أهمّيتهم. وستشدّد الآيات اللاحقة على دورهم في هذه الخدمة الجماعيّة.
د- عطيّة عجيبة بين أيديهم (آ 19-20 ب)
ترك متّى تفاصيل وضعها مرقس (رج مر 6: 39- 41)، فركّز الانتباه في هذا الوقت المهيب على يسوع والرسل. فكأننا في ليتورجيا حقيقيّة بدأت منذ حمل التلاميذُ الخبز إلى يسوع (آ 18).
أخذ يسوع الخبز الذي قدّم له. بارك (قال: مبارك أنت يا رب). كسر الخبز وأعطاه. ما نلاحظه عند متى هو أن الفعل "أعطى" الذي يتوجّ سلسلة الألفاظ الجوهريّة، يضع في إضمامة واحدة عمل يسوع وعمل التلاميذ. ليس هناك إلاّ عطيّة واحدة، هي عطية يسوع التي تجد امتدادها في التلاميذ. ونفّذ التلاميذ أمر يسوع الذي قال: "أعطوهم أنتم ليأكلوا". كان الرسل الوسطاء الضروريين، ولكنهم ما عتموا إن امّحوا امّحاءً كليًا وراء عمل يسوع الفريد. لماذا أبرز متّى في الخدمة الكنسيّة عامّة وفي الاحتفال بعشاء الرب خاصة، دور هؤلاء الوسطاء، هؤلاء الرسل؟ حين نعرف معرفة دقيقة وجه كنيسة متّى، نجد الجواب على هذا السؤال. مهما يكن من أمر، فنحن هنا أمام التعليم الاساسيّ حول وظيفة الرسول في خدمة الجماعة.
"أكلوا كلهم وشبعوا". إن فكرة الشبع تدلّ على المرحلة الأخيرة في الملكوت المسيحاني حيث يلبّي الله جميعَ حاجات البشر العميقة. والتطويبات التي تبدأ كرازة يسوع، سبق وأعلنت الطابع الاسكاتولوجيّ والكرستولوجي لهذا الملكوت. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فأنهم سيُشبعون"، (مت 5: 4). لقد أتت الساعة التي فيها "يأكل المساكين، ويشبعون"، التي فيها "جميع الذين يطلبون الرب" من "كل شعوب الأرض" يستطيعون أن يجدوه، أن يكتشفوا فيه الحياة، ويتّحدوا مع المؤمنين في إداء الشكر له (مز 22: 27-32؛ 132: 15).
هـ- طعام يقدّم دومًا (آ 20 ب- 21 ب)
تلمّح السلال الاثنتا عشرة إلى أسباط اسرائيل الاثني عشر. فعملُ يسوع يتجاوز الذين نعموا بخيراته في القريب المباشر. إنه يصل إلى الشعب كلّه. وجمعُ "الكسر" لا يُبرز فقط عظمة المعجزة: فهذا الطعام يبقى للمدعوّين لكي يشاركوا في هذا الطعام اليوم مع الكنيسة. وهكذا تكوّن الشعب الجديد واتجه نحو ملئه (رؤ 7: 4-10). والجموع التي طلبت الرب دون أن تعرفه، هذه الجموع التي لأجلها سُفك دمُ العهد (مت 26: 28)، تستطيع أن تجد فيه الطعام الذي يشبع جوعها.
ولكن قد يكون التلاميذ في قلّة إيمانهم، تركوا الناس يذهبون إلى الخارج، يبحثون لهم عن طعام! وقد لا يفكرون، مثل يسوع، أن يعطوهم أولاً هذا الخبز الماديّ الذي صار في يد الرب علامة عطيّته المجيدة.

الخاتمة
قرأنا خبر تكثير الأرغفة فاكتشفنا إلى أي حدّ جعل متّى خبره ملاصقًا لتأسيس الافخارستيا (26: 26). واكتشفنا أنه يركّز انتباهنا على الخبزات التي وحدها تُكثَّر وتُوزَّع وتُجمَع. فكأني به نسي السمكات. ولكن انطلاقته من ليتورجيّة الكنيسة في أيّامه، حوالي سنة 80 ب. م. جعلته لا يذكر إلاّ الخبز الذي يشبع على مثال المن في البرية. لا يذكر إلاّ خبز السماء الحقيقي الذي سيحدّثنا يوحنا عنه مطوّلاً. وفي النهاية، بقيت 12 سلّة مملوءةً بالخبز الذي باركه يسوع. هكذا يأخذ كل رسول سلّة إلى كنيسته ويكثرها فيشبع الآتين إلى يسوع لا إلى طعام جسديّ فحسب، بل إلى طعام روحي. أكل الذين كانوا حول يسوع وشبعوا. وكل كنيسة وكل جماعة ستجد شبعًا لها، إذا أرادت، في جسد المسيح الذي يوزعّ على مذابحنا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM