الفصل العشرون: تفسير مثل الزارع

 

الفصل العشرون
تفسير مثل الزارع
13: 18- 23

لاقى تعليمُ يسوع عدداً من الصعوبات، فما فهمه الناس. غير أنه لم يقطع كل اتصال بهم. فهناك أمل بأن يرتدّ البعض ويسيروا معه. لهذا، دشّن الرب في هذا المثل تعليماً جديداً حول ملكوت السماوات: لقد تجاوز وقت إعلانه (توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات). فيجب أن يجعل التلاميذ يفهمون. فيسوع لا يجد أمامه فقط الجموع وخصومه. بل يجد أيضاً مجموعة التلاميذ الذي يسمعون كلمته ويستعدّون للعمل بمشيئة الآب. إنهم يشكلون عائلته الحقيقيّة وبيته (25:10؛ رج 25:11-30؛ 46:12-50). إنهم الصغار الذين كشف لهم الآب أسراره.
بعد أن درسنا مثل الزارع (مت 13: 1-9)، والسبب الذي لأجله قال يسوع الامثال (آ 10-17)، ها نحن نعود الى التفسير الذي قدّمه يسوع لهذا المثل (آ 18-23). بعد أن ندرس معنى المثل، نتوقّف عند نظرة مرقس وننهي مع متّى.

1- معنى مثل الزارع
لسنا هنا أمام مثل يتحدّث عن النموّ. ولسنا أمام تعارض بين البداية والنهاية. فدور الأراضي بين الحالتين مهمّ جدًا. ولسنا بحصر المعنى أمام مثل عن الملكوت، إذا فهمنا بهذه العبارة تعليماً حول الطريقة التي بها يقيم الله الملكوت. لأننا عند ذاك ننسى علاقة الزرع والأرض بشخص الزارع. ولسنا فقط أمام تشبيه بسيط، بل أمام خبر رمزيّ ينطلق منه يسوع ليقدّم تعليماً (نكون الأرض الجيّدة) فيه يستعيد الأحداث التي تمّت منذ بداية كرازته.
وهذا الخبر ليس فقط خبر الزرع والكلمة. خبر الثمار في القلوب كما يقول لوقا. بل هو خبر اللقاء الاسكاتولوجيّ بين الزرع الإلهيّ وشعب الله. لقد جاء يسوع يعلن الملكوت. انغلق بعضهم على هذا الاعلان: "الحكماء"، "الاقوياء"، الفريسيون الذين نسبوا الى بعل زبول ما أخرجه يسوع من شياطين بتقسيماته (مت 12: 24). وآخرون سمعوا دون أن يعطوا ثمرًا مثل سكّان كفرناحوم وكورزين (11: 20-24)، ومثل هؤلاء الذين أنشدو ساعة لا يجب أن ينشدوا، أو بكوا ساعة لا يجب أن يبكوا (11: 16-19). وهناك أخيرًا قلّة سمعت الكلمة بقلب طيّب وتبعت يسوع. فمن خلال ردّات الفعل هذه المختلفة، نستطيع أن نكتشف الأراضي التي فيها سقط الزرع.
حين نقرأ التفسير الذي قدّمه لوقا، نحسّ أنه حوّل بُعد المثل الأصلي. تعلّق بنتائج زرع الكلمة، لا بمعنى المثل. لقد وجّه تفسيره نحو الشخص الذي يتقبّل الكلمة، ساعة كشف يسوع اجتياح حدث اسكاتولوجيّ في تاريخ مخطّط الله. هل قام الانجيليّ بعمل اعتباطيّ؟ كلا. فأمانةُ الجماعة الفتيّة لتعليم المعلّم، أمر يعرفه الجميع. ثم إن عمل التفسير لم يبدأ مع الانجيليين الاولين ولا مع الكنيسة، بل مع يسوع نفسه.
تحدّث التقليد عن التلاميذ الذين ذهبوا الى يسوع وسألوه. وأعطى يسوع تفسيره. هذا ما فعله مثلاً بالنسبة إلى ما ينجّس الانسان حقًا (15: 10- 11). تلك هي الطريقة المتّبعة لدى المعلّمين. يروون الخبر ثم يؤوِّنونه. بعد أن يعرض المعلّم مثَله، يجمع في بضعة أقوال ما بدا غامضًا وواسعًا.

2- مرقس وتطبيق المثل
يرى مرقس أن تفسيره يتيح له أن يفهم المثل (13:4). ولكنه في الواقع يقدّم "تطبيقًا" يحصر المثل في إطار ضيّق. لقد تسلّم التفسيرَ من التقليد السابق، فقدّمه الى كنيسة رومة في إطار توجيه لاهوتيّ خاصّ به.
يتضمّن نصّ التطبيق في البداية استعارة واحدة: الزرع هو الكلمة، هو الكرازة. تُزرع الكلمة في السامعين (4: 15) بحيث نستطيع أن نعرف غلّة هذا الزرع بحسب أنواع السامعين. هناك أربع فئات من السامعين بحسب الأمكنة التي وقع فيها الحبّ: على جانب الطريق، على أرض حجريّة، بين الشوك، في أرض جيّدة. ماذا حصل للكلمة حين سُمعت، ولماذا حصل لها ما حصل؟
أ- جاء الشيطان وانتزع الكلمة ساعة زُرعت (آ 15).
ب- إن غياب الجذور (الاصل) لم يعوّضه فرح قبول الكلمة. تشكّك هؤلاء الناس حين جاء الاضطهاد أو الضيق بسب الكلمة. فالاضطهاد الذي أعلنه يسوع (مر 10: 30؛ مت 5: 10-12؛ لو 49:11) سبّبه الوضع الذي خلقته الأزمنة الاسكاتولوجيّة.
ج- وهناك سامعون آخرون تركوا الكلمة تختنق فيهم بحيث ظلّت عقيمة فلم تعط ثمرة. إن أشواك المثل تدلّ على "هموم الدهر وغرور الغنى وسائر الشهوات" التي دخلت فيهم: نحن هنا أمام تحليل سيكولوجيّ وأخلاقيّ يستند الى تعليم يسوع الذي نجده في عظة الجبل: لا نهتمّ بالغد. نختار بين هذا العالم والآخر، بين الله والغنى.
د- وفئة السامعين الأخيرة تتّصف بالطريقة التي بها تتقبّل الكلمة: يكفي أن تكون أرضًا طيّبة ومتقبّلة لتحمل الثمار الوافرة.
ترك مرقس شرح المثل وتوقّف عند الوجهة الشخصيّة لإعلان يدوي في فم يسوع، فطبَّقه على السامعين. لقد دلّنا الانجيليّ على أن خبر الزارع يعنينا. إنه يحرِّضنا على الدخول في علاقة جديدة توحِّدنا بالكلمة المعلنة، على مثال العلاقة بين الزرع والحقل. وهكذا وصل التفسير الذي هو اسكاتولوجيّ في الاصل، الى تطبيق ملموس. إن عزلنا الفقاهة عن المثل، نصل الى نظرة اخلاقيّة محضة. ولكن لماذا نفصل هذه الفقاهة عن الأساس اللاهوتيّ الذي يعطيها معناها ويوضح نتائجها العمليّة؟ إن فعلنا ذلك، نسينا السياق المباشر لهذا المثل.
حين نقرأ يوم الأمثال في مرقس، نجد في نهايته ما يدلّ على هدف مرقس: "وبكثير من مثل هذه الامثال كان يلقي عليهم الكلمة على قدر ما كان في وسعهم أن يسمعوا. وما كان يكلّمهم إلا بالامثال. إلاّ أنه في الخلوة كان يفسر كل شيء لتلاميذه" (4: 33- 34). نجد هنا أمرين: طريقة الكشف الامثالي هي تارة وسيلة بها تُسمَع الكلمة، وطورًا حجاب يجب أن ننزعه. وبحسب هذين الاتجاهين، كانت الامثال كشفًا مباشرًا، أو هي احتاجت إلى تفسير. جعل لوقا نفسه في الحالة الأولى: واجب سماع الكلمة. أما متّى فجعل نفسه في الحالة الثانية حين ميّز بين السامعين. ومرقس عرف هو أيضًا هذا الاتجاه الأخير ولا سيّما في الآيات التي تفصل المثل عن تفسيره (4: 10-12). ولكنه يسير في هذا الاتجاه فيقول بأن هدف الامثال هو حجب التعليم، ما عدا عن التلاميذ. كما عرف مرقس الاتجاه الاول خصوصاً في الأقوال التي زادها على آ 21- 25. ركّز لوقا على موقف السامعين. أما مرقس فعلى الكلمة التي تُعلَن وتسمع.
هكذا "كان يلقي عليهم الكلمة" (33:4). في هذه الخلاصة الأخيرة، أجمل مرقس الاستعمالات الثمانية للفظة "لوغوس"، الكلمة التي نجدها في تفسير المثل. فمثَلُ السراج يحدّد بما يقوم إعلان الكلمة. "أيؤتى بالسراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير؟ أو ليس ليوضع على المنارة؟ فما من خفيّ إلاّ ويظهر وما من مكتوم إلاّ ويُعلن" (4: 21-22). نجد هذا المثل في مت 15:5 وقد طبّقه على التلاميذ الذين يجب أن يكونوا نور العالم. وفي لو 11: 33 ليدلّ على النور الداخليّ. أما هنا كما في لو 8: 16- 17، فالمثل يتّخذ مدلوله من السياق: التعارض بين سرّ خفيّ ووحي واضح يشدّد على أن الكلمة يجب أن تُعلن في الكون فتدلّ على قدرتها.
"من له أذنان سامعتان فليسمع". هذا القرار التدوينيّ الذي يختم مثل الزارع في الأناجيل الإزائية، يكرّره مرقس بعد مثل السراج ليهيّئنا للتنبيه حول مسؤوليّة ذاك الذي يسمع: "تنبَّهوا إلى ما تسمعون". ثم يستعيد مرقس موضوع الثمر الذي بدا متنامياً في مثل الزارع (30، 60، 100): "إن الكيل الذي تكيلون به، به يكال لكم وتزادون" (4: 24). إن صورة الكيل ترتبط بشكل طبيعيّ عند متّى (2:7) ولوقا (38:6) بتنبيه يُعطى للذي يدين الآخرين. أما مرقس فيشدّد على مسؤوليّة السامعين: بقدر ما يتقبّل إيمانكم الكلمة، يعطى لكم. وفي النهاية، يرد قول يؤكّد على أهميّة السماع: "من له يعطى، ومن ليس له، فالقليل الذي له يؤخذ منه" (4: 25).
إن فعل "سمع" يرد تسع مرات في هذا الفصل. نستطيع أن نسمع دون أن نفهم. هذا ما قاله يسوع في حواره مع التلاميذ (4: 12) الذين سمعوا المثل ولم يفهموه. نستطيع أن نسمع الكلمة، ولكن الشيطان يأتي وينتزعها. ونستطيع أن نتقبّلها بفرح. ولكن إذا غاب الأصل (أو: الجذور) في قلب من حجر، فهذا ما يقود إلى الشكوك، أو إلى الهجومات التي تخنق الكلمة. لهذا يجب أن نردّد: اسمعوا (23:4)، انتبهوا إلى ما تسمعون (4: 24 أ). أنتم تفهمون بقدر ما تتقبّلون (24:4 ب)، وإلاّ خسرتم حتّى ما ظننتم أنكم فهمتموه (25:4).
وجاءت نهاية الامثال فضمّت موضوعي الكلمة المعلنة والكلمة المسموعة. ثم استعادت صورة الكيل (الذي به نتقبّل الكلمة)، لتشدّد مرة أخرى على مرمى إعلان الكلمة بالنسبة إلى السامعين: "كان يلقي عليهم الكلمة بقدر ما كان في وسعهم أن يسمعوا" (33:4). فكيف لا نخاف بعد ذلك من مصير الذين هم في الخارج (4: 11)؟ هم مثلَ الطريق. مثلَ أرض حجرة. مثل أرض يملأها الشوك. سمعوا ولكنهم لم يفهموا. فكلمة الله سيف ذو حدين: قد نعود الى الربّ وقد نقسّي قلوبنا.
في ضوء السياق المباشر، فسّر مرقس مثل الزارع كإعلان للملكوت: إعلان نسمعه بقلوبنا لنُقبَل في الملكوت. ويوضح مرقس الرباط بين الكلمة المعلنة وتقبّل هذه الكلمة. وهذا يعني أن الخبر (المثل) وتطبيقه على الحاضرين يتوافقان بالضرورة كوجهتي سرّ واحد. ولما استعاد مرقس المثل من التقليد، شدّد على التطبيق الفقاهي الذي قدّمته جماعته للمؤمنين. غير أن هذه الفقاهة ظلّت في عمقها مرتبطة ارتباطًا عميقًا بالوحي الذي حمله يسوع.

3- متّى وتفسير المثل
قدّم مرقس تقليدًا فقاهيًا أولانيًا، فجعله لوقا أكثر تماسكًا. وماذا فعل متّى؟ أخذ كلمات مرقس، ولكنه أعطى النصّ معنى جديدًا. توافق لوقا مع مرقس لا على مستوى الكلمات بل على مستوى المعنى، فقدّما كلاهما التطبيق "الاخلاقيّ". أما متّى فاستعاد بشكل "تفسير" إعلان الحدث الذي أعلنه المثل في لغة رمزيّة. مثل هذا التفسير لا يعود بنا إلى الفقاهة، ليتحدّد موقعه في التقليد الرؤيوي الذي يحاول أن يكتشف الحدث الاسكاتولوجي. وهكذا يكون متّى قد عاد إلى تقليد غير تقليد مرقس وصاغه في خطّه اللاهوتيّ
وما اكتفى متّى بأن يُدرج بين المثل وتفسيره بعضَ الاقوال حول الهدف من التعليم بالأمثال. اختلف عن لوقا الذي جعل التفسير يُعطى للتلاميذ كما للشعب، فشدّد على التمييز بين نوعين من السامعين. حين وصل يسوع إلى البرّ، وقف التلاميذ في جهة، والآخرون في جهة أخرى. هم في الخارج، هم الآخرون. فكأن يسوع لم يتكلّم بالامثال إلا للتلاميذ. ويتواصل هذا التمييز عند متّى في الاقوال التالية:
11، لكم أعطي لهؤلاء لم يُعط
12، من له يعطى من ليس له يُنزع منه
13،16، عيونكم ترى يرون دون أن يروا
آذانكم تسمع يسمعون دون أن يسمعوا
ولا يفهموا
تمنّى الانبياء والابرار
ان يروا ما ترون أن يروا
أن يسمعوا ما تسمعون. ويسمعوا.
بهذا التأليف في دبتيكا، لم يعط يسوع فقط جوابًا على سؤال التلاميذ حول التعليم بأمثال. بل هو يعلن حدثًا يتمّ الآن في تواصل مع ما أعلنه المثل. فهذا الرباط بين الاعلانين للحدث نفسه نقرأه في آ 18: "إذن، إسمعوا أنتم مثل الزارع". فالتفسير لا يحمل فقط معلومات إضافية أو تطبيقًا كما عند مرقس. "أما تفهمون هذا المثل! فكيف إذن تفهمون سائر الامثال" (مر 4: 13)؟ وهذا التطبيق هو ضروري في اللاهوت المرقسيّ الذي يشدّد على اللافهم عند التلاميذ. أما عند متّى فالخبر يتواصل.
فالمثل والحوار والتفسير، كل هذا يعلن أن الحدث الذي انتظره الأنبياء والأبرار يتمّ الآن. وهذا التأليف المتاويّ قريب من تأليف لوقا الذي أورد كرازة يسوع في مجمع الناصرة. فكما توالى الاعلان الخفيّ وتفسيره، كذلك جاء كلام أشعيا وتفسيره بفم يسوع: "اليوم تمّت هذه الكتابة أمامكم" (لو 4: 21). عند لوقا، كان رباط بين إعلان نبوي عن حدث مسيحانيّ وتطبيقه اليوم بفم من قرأ النبوءة. وعند متّى ظهر رباط بين إعلان رمزيّ (خبر الزارع، انتظار الانبياء والابرار) وتفسيره. أعلن المثل اللقاء الاسكاتولوجيّ بين الزرع والأرض ولكن بدأت الحقيقة تظهر الى العلن: تداخلت الاستعارات والحقيقة كما في نصّ رؤيويّ.
وأخيرًا ما أراد التفسير المتاويّ أن يطبّق بشكل مباشر على التلاميذ مضمون المثل. حين قدّم مرقس ولوقا الموازاة (الزرع= الكلمة)، أرادا أن يبيّنا أن مختلف السامعين يتصرّفون تجاه الكلمة على مثال الأراضي المختلفة تجاه الزرع. أما متّى فقدّم قراءة جديدة: أعاد يسوع قراءة المثل بالنظر إلى التلاميذ الذين جاؤوا يسألونه، كما قرأ في مجمع بلدته القول المسيحاني بالنظر إلى سامعيه (لو 4: 17- 21). مع اختلاف جوهريّ: في الناصرة انغلقوا كلهم على الاعلان الواضح الذي دلّ على أن يسوع هو المسيح الذي أنبأ به أشعيا. أما هنا فالتلاميذ سمعوا. إن الزرع الاسكاتولوجيّ قد فعل فعله فيهم. فيبقى لهم أن يعودوا إلى الوراء، "ويفهموا"، وهذا الفهم يجدونه في تفسير المثل.
من اللافت أن إعادة قراءة المثل عند متّى لا تقدم الموازاة بين الزرع والكلمة، وهذا ما يخفّف من القيمة الرمزيّة للزرع. مثل هذه المعادلة المفروضة، سوف تنال لفظة ثالثة: الأرض. وهكذا يتماهى الزرع مع الأرض (زرع= كلمة= أرض). لا يقدّم متّى اعتباراً حول الخبر الذي رواه، بل يواصل الخبر نفسه من الوجهة الذاتيّة للسامع. مثل هذه القراءة الجديدة ليست قراءة أخلاقيّة أو لاهوتيّة مجرّدة بعد أن خرجت من التاريخ. هي قبل كل شيء الخبر كما فُهم وحلّل. وفوق ذلك هي قراءة ذات بعد أخلاقيّ ولاهوتيّ، لأننا أمام حدث يدشّن علاقة جديدة بين الله والانسان.
أجل، شرحُ متّى هو "تفسير" للمثل، لا تطبيق أخلاقيّ أو لاهوتيّ. وهذا ما نجده في بنية النصّ. نلاحظ أولاً أن متّى يتحدّث عن سامعي الكلمة في صيغة المفرد لا في صيغة الجمع كما فعل مرقس ولوقا. ليس الأمر من قبيل الصدفة، لا سيّما وأن الزرع يُذكر في صيغة الجمع. في نظر متّى، السامعون هم سامع واحد، هم كل واحد، كل انسان (بنتوس، 13: 19). كل إنسان يقف وحده أمام الكلمة. لا يستطيع أن يتهرّب ويضع المسؤولية على جاره أو على مجتمعه. هو وجهاً لوجه أمام الكلمة، وعليه أن يأخذ الموقف اللازم.
ثم إن الرباط بين حوار يسوع مع التلاميذ وقسمي المثل (المثل وتفسيره) وثيقٌ جدًا عند متّى (أكثر منه عند مرقس ولوقا). تفرّد متّى فاستعاد في التفسير قول أشعيا "سمع وفهم" (أو لم يفهم) الذي ورد في الحوار. غير أنه استفاد من اللفظتين ليصف وضعين متناقضين ويجعل الخبر في تضمين واحتواء: ذاك الذي يسمع ولا يفهم (آ 19). ذاك الذي يسمع ويفهم (آ 23).
حين وصل مرقس إلى الفئة الاخيرة من السامعين والاراضي (4: 20)، لم يشرح شيئًا. بل لاحظ فقط الأرض الجيدة: ما إن تقبّلت الزرع حتى أثمرت. لقد دلّ هذا الاسلوب على أن وضع السامع للكلمة في العهد القديم قد تمّ الآن. ففي العهد الأول، ارتبطت الكلمة بالسامع من الخارج. فكلمة الله، تأمر، تطلب ثمارًا، تجازي الامانة (أو اللاأمانة) للشريعة: "بيّن لك، أيها الانسان، ما يطلبه الله منك: أن تجري الحكم وتحبّ وترحم وتسير بتواضع مع إلهك" (مي 6: 8). مثال رائع، ولكنه يُقدّم من الخارج. جُعل أمام الانسان، جُعل أرفع من الانسان، فهل يصل إليه الانسان؟ حاول اسرائيل على مدى تاريخه أن يمارسه فلم يستطع. لهذا تاق إلى اليوم (كما تاق حزقيال) الذي فيه يتمّ التحريض الاشتراعي في كل مؤمن: "الكلمة قريبة منك، في فمك، في قلبك". وقد دوّنت باصبع الله لا على ألواح من حجر (مثل الشريعة)، بل في قلوب من لحم (تث 30: 14؛ إر 31: 31-33).
أما مثل الزارع فيعلن أن هذا الرجاء قد تمّ اليوم: يكفي أن نكون أرضاً طيّبة لتأتي الكلمة فيها كزرع يحمل ثمرًا. اكتفى متّى، شأنه شأن مرقس (سمع وقبل) ولوقا (سمع وحفظ)، بأن يصف هذا الموقف الذي فيه يقبل الانسان الزرع: نكون أرضًا طيّبة أي نسمع ونفهم.
حين تكلّم مرقس عن أول فئة من السامعين (زرع على الطريق)، بحثَ عن السبب الذي لأجله لم تثمر الكلمة: "ما إن يسمعوا حتى يأتي الشيطان وينتزع الكلمة المزروعة" (مر 4: 15). إن تدخّل الشيطان سبق رفض الانسان للكلمة، كان السبب في اللاإيمان. أما عند متّى فالشيطان يأتي بعد موقف شخصيّ لدى السامع: "من يسمع كلمة الله ولا يفهم، يأتي الشيطان وينتزع ما زُرع في قلبه. فهذا من تلّقى الزرع على قارعة الطريق".
جاء تصوير مت مفصَّلاً وموضوعيًا. فحدّد موقع عناصر الدراما: المكان هو قلب الانسان. العاملون: البذار والشرير. ووصف الكاتب عمل كل منهما. وعملُ الزرع هادئ وواثق. عمل الشرير عنيف: هو ينتزع. ثم إن الحدث التاريخي للقاء الزرع بالأرض يتكرّر في الحاضر كل مرّة لا تُفهم الكلمة. فخبر هذا اللقاء الذي تمّ في الماضي، يتواصل اليوم في كل واحد منا.
وبين الفئة الاولى (على الطريق) والفئة الأخيرة (الارض الجيّدة) يبدأ كل شيء بالقبول (يقبل الكلمة)، وينتهي بالعقم (لا يثمر). لا نجد في مرقس ولوقا لبساً بين الكلمة والسامعين. أما عند متّى، فالمفرد الذي يدلّ على السامع تجاه الكلمة، يجعلنا نتساءل: هل السامع أو الكلمة ظلّ بلا ثمر؟ في آ 20، يتقبّل الانسان الكلمة بفرح. وفي آ 21 ب هو يتشكّك. ولكن آ 21 قالت إن الزرع لا أصل له، هـان الكلمة الابدية صارت عابرة. لقد أراد الزرع أن يتجذَّر في قلب الانسان. فكيف له ذلك إن سقط على قلب من حجر (يجب أن يتبدّل كما يقول حزقيال). غير أن هذا الحجر باق في أعماق القلب. وهذا ما يدلّ على أن الارتداد لم يكن عميقًا. لهذا، حين يأتي الاضطهاد بسبب مجيء الكلمة إلى الأرض، يتشكّك الانسان ويعثر (11: 6؛ رج 26: 31).
بدأ الشرير وفعل. ها هو "عدوّ" آخر: هو الدهر الحاضر الذي يغوي الانسان بهجومه وسرابه. تجتذبه الهموم فيجعل من نفسه محور العالم. ويغرّه الغنى فيجد فيه أساس الحياة والوجود. فالهموم والغنى تغرّ الانسان فتخنق الزرع. والدواء يجده الانسان في استسلام إلى الآب وحياة الفقر على مثال الابن. وإلا سوف يخنق هذا العالم الزرع الذي وُضع فينا.

خاتمة
إن الكلمة التي خرجت من فم الربّ لتدشّن الملكوت، قد جاءت اليوم زرعًا في قلب الانسان. ويجد هذا الزرعُ فيه استعدادًا لكي يستسلم بكليته إلى الكلمة أو إلى الشرير. أو هو يقع فريسة الاضطهاد وهموم العالم وغروره. هل نحن أمام شرط مفروض على الانسان؟ لماذا يفهم السامع أو لا يفهم؟ لا ننسى أن تفسير متّى ليس تحريضاً أخلاقياً، بل تفسير حدث اسكاتولوجيّ. هو لقاء كلمة الله بالأرض. وهذا الحدث يجد صداه الآن في العالم كله. وهكذا فخبر الزارع والزرع ليس أولاً عند متّى تحريضًا يتوجَّه إلى حريّتي، بل صورة عن ردّة فعل عندي تجاه وضع جديد سبّبه ما فعله الزارع حين خرج ليزرع. فماذا يكون جوابي لنداء الملكوت؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM