الفصل التاسع عشر: خرج الزارع ليزرع

الفصل التاسع عشر
خرج الزارع ليزرع
13: 1: 17

يبدو هذا المثل مؤلفًا من ثلاثة أقسام: مثل الزارع (آ 1-9). اعتبارات حول التعليم بالامثال (آ 10-17). تفسير مثل الزارع (آ 18-23). حين نتوقّف عند المثل وحده، نتساءل عمّا أراد يسوع، خلال رسالته العلنيّة، أن يُفهم أولئك الذين سمعوا "الخبر" للمرّة الأولى. واذا قرأنا المثل مع تفسيره، نتوقّف عند التعليم الذي أراد الانجيلي أن ينقله إلى قرّائه المسيحيّين في نهاية القرن الأولى. وهكذا يستطيع "الواعظ" أن يختار بالنظر إلى سامعيه: ما أعطاه يسوع لسامعيه. ما أعطاه متّى لقرّائه.
نبدأ أولاً فنتفحّص المثل في حدّ ذاته متسائلين عن مدلوله في إطار رسالة يسوع. وبعد إشارة سريعة إلى تفسير المثل (سنعود إليه)، نتوقّف عند وجهة متّى الشخصيّة بالنسبة إلى الأمثال وإلى ما دفع يسوع إلى أن يكلّم الناس بالامثال.

1- المثل في رسالة يسوع
أ- ما هو الموضوع
يتحدّث الخبر عن زرع، عن بذار يرميها زارع، عن أراض مختلفة سقطت فيها هذه البذار، وعن النتائج التي حصل عليها الزارع هنا وهناك. فكيف انتظمت هذه المعطيات بعضها مع بعض في علاقة تؤمّن الوحدة لمجمل هذه المعطيات؟
ويدخل الزارع أولاً "على المسرح". لماذا وضعت "أل" التعريف؟ هل يرى يسوع زارعًا معينًا؟ كلا. بل هو يتوقف عند ممثّل فئة من الفئات. زارع من المزارعين. ذُكر الزارع في المقدمة. ثم ترك المسرح بشكل نهائي فما عاد يُذكر. فلو كان له أهمّية خاصة، لظهر وهو يراقب نتيجة عمله (نموّ الزرع) أو عاد من أجل الحصاد. انحصر دوره في رمي البذار. وبعد ذلك اختفى.
بعد ذلك الوقت يلفت كلَّ انتباهنا البذار. حتى النهاية، يتحدّث عن حبّ سقط على قارعة الطريق (أو بشكل أصحّ: "على الطريق"، حيث يمرّ الناس). وعن الذي سقط على أرض صخرية (مكان فيه تراب قليل يغطّي الصخر. فالحبّ لا ينبت على الصخر). وعن الذي سقط بين الشوك، والذي سقط أخيراً في الأرض الطيبة. وفي كل حالة، يتحدّث النص عن النتيجة التي حصل عليها الزارع. لهذا تكلّم بعض الشرّاح عن مثل الحقل مع أربعة أنواع من"الأراضي".
لا شكّ في أن هناك أربعة انواع، ولكنها تُذكر بالنظر إلى النتيجة التي حصلت عليها البذار التي سقطت فيها. والأمر واضح في الحالة الأخيرة. فالأرض الجيّدة، أعطت مئة وستين وثلاثين. أما الاختلاف في الغلّة فلا ينسب إلى نوعية الأرض، بل إلى نوعيّة البذار. فإن آ 8 لا تقدّر الغلّة بالنظر إلى كمّية الحبوب التي بذرت (كانت الحبة تعطي تسع حبات تقريباً في فلسطين). بل تقول إن بعض الحبّات أعطت مئة، وأخرى ثلاثين.
إذن، أراد "الراوي" أن يركّز انتباهنا على البذار وعلى النتيجة المختلفة التي حصلت عليها هذه البذار بحسب الأرض التي سقطت فيها.
ب- بنية المثل
تبدو الامور بسيطة للوهلة الأولى: تألّف المثل من أربع لوحات صغيرة تصوّر مصير الحبّ الذي سقط في أربع أراض مختلفة. هي بنية شبيهة بما في قض 9 مع مثل يوتام. نحن هنا أمام أشجار تريد أن تختار لها ملكًا. توجّهت على التوالي إلى الزيتونة والتينة والكرمة. فرفضت كل واحدة أن تكون ملكة. وتوجّهت الأشجار أخيرًا إلى العوسجة فقبلت أن تكون ملكة على الأشجار (آ 8-15). حينئذ كلّم يوتام أهل شكيم، وشجب الشرّ الذي يعمله الملك أبيمالك الذي يشبِّهه المثلُ بالعوسجة. فالاشجار الثلاث الأولى التي ذُكرت في البداية، لا تجد شيئًا يقابلها في خبر أهل شكيم. فمن الواضح أنها ذُكرت لتبرز بشكل تعارضي طبيعة العوسجة وما تحمله من ضرر لسائر الاشجار: "لتخرج مني نار وتحرق" (آ 15).
ومثلُ الزارع، شأنه شأن مثل يوتام، يريد أن يقدّم تعارضًا بين الفئات الثلاث الأولى من البذار التي لم تعط ثمرًا، وبين الفئة الاخيرة، التي أعطت مئة وستين وثلاثين. وفيها يعود التوازن مع ما سبق. هناك عقم مثلّث في الفئات الثلاث الاولى، وهنا غلّة مثلّثة بحسب البذار (100، 60، 30). ويبرز مرقسُ بشكل خاص التعارض بين الأمثلة الثلاثة الأولى والمثل الاخير. نلاحظ أولاً اختلافًا بسيطًا في طريقة تسميته للزرع. في المفرد، في الحالات الثلاث الاولى. في الجمع، في الحالة الاخيرة (جعل مت الحالات الاربع في الجمع، ولو في المفرد). ونلاحظ أخيرًا نهاية المثل الثالث حيث يقول مرقس "إن الحب الذي سقط في الشوك لم يعط ثمرًا" (7:4) هذا التحديد يقطع مسيرة الخبر في نهاية الامثلة الثلاثة، ويخلق تعارضًا مع الحبّة التي سقطت في الأرض الجيّدة "فأعطت ثمرًا" (آ 8). لم يظهر التعارض بهذا الشكل عند مت ولو، ولكنه ظهر في مثل يوتام. وهكذا توخّى التصوير مقابلة بين ثلاث حالات من الفشل وثلاث حالات من النجاح. وهكذا ينتهي المثل في جوّ من التفاؤل والأمل.
قدّم الانجيل أمثالاً أخرى تكثر فيها التعارضات. فمثل الوزنات (مت 25: 14-30) يضع أمامنا ثلاثة خَدم: موقف الاثنين الأولين يعارض موقف الخادم الثالث. ويضع مثلُ العمّال في الكرم (20: 1- 5) أمامنا خمس مجموعات من العمّال. ولكنه يكتفي في النهاية بأن يعارض بين عمّال الساعة الأولى وعمّال الساعة الأخيرة.
فالمراحل الأربع في هذا المثل الذي يبدو بشكل خبر، تبدو بشكل توّسع أدبي يُعارض بين حبّ يعطي ثمرًا وحبّ لا يعطي ثمراً. وفي رسمة من هذا النوع نقول إن الكاتب يشدّد على الفئة الأخيرة، فيؤكّد هنا على الغلّة الوافرة للحبّة التي سقطت في الأرض الجيّدة. غير أن هذا التأكيد لا يتّخذ كامل معناه إلاّ في العلاقة التي تقابله مع الفشل الذي مُنيت به الحبات في الأراضي الرديئة. غير أن هذا الفشل في ثلاث حالات سيعوّض عنه نجاحُ الحبّات التي حملت ثمرًا.
ج- وضع المثل في رسالة يسوع
ونتساءل: هل كنا اكتشفنا معنى مثل يوتام لو لم نكن نعرف أنه يشير إلى أبيمالك، وهل كنا اكتشفنا معنى مثل ناتان حول الغني الذي سرق نعجة الفقير (2 صم 12: 1-4) خارج الاطار الذي قيل فيه، ولم لو نعرف الخطيئة التي اقترفها داود حين زنى مع بتشابع وقتل زوجها أوريا لكي يتزوّجها؟ هكذا يجب أن نفعل حيال أمثال يسوع مع أن الظروف التي قيلت فيها لم تُذكر في الاناجيل. نبحث عن الاطار الحياتي، الذي يلقي الضوء على الهدف الذي توخّاه يسوع من أمثاله.
هناك حالات يسجّل فيها الوضع الذي يحاول المثل أن يقدّم له جوابًا. يسجَّل في الخبر الامثالي نفسه بشكل متخفٍّ ولكنه يكفينا لكي نكتشفه. فتذمّرات عمّال الساعة الأولى (مت 20: 11-12)، وتذمّرات العبد البطال (25: 24-25) والابن الاكبر (لو 29:15-30)، هي صدى لاحتجاجات السامعين الذين إليهم يوجّه يسوع أمثاله، فيرون نفوسهم كما في مرآة. وهناك أمثال أخرى لا تذكر في الخبر "الشخص" الذي يتكلّم باسم السامعين. إلاّ أنها تشير إلى صعوبة تتطلّب تفسيرًا. ماذا نقول مثلاً في سلوك الراعي الذي يترك 99 خروفاً ويذهب في طلب الخروف الضائع (لو 15: 4-7)؟
أما مثل الزارع فيرتبط بهذه المجموعة الاخيرة. فإذا وضعنا جانبًا المقدّمة القصيرة (3:13 ب) والآية الاخيرة (آ 8)، فهو لا يتكلّم إلاّ عن الحبّات الضائعة. هذه الصورة المفصّلة عن فشل بعد فشل، تسترعي طويلاً انتباه السامعين فيشعرون وكأن كل شيء قد ضاع. وبعد ذلك نعرف فجأة أن الزرع أعطى رغم كل شيء غلّة كبيرة جدًا. وهكذا نفهم بسهولة حتى آ 7 أن الخبر هو صدى لعواطف السامعين. وتأتي آ 8 فتعطي جواب يسوع. توجّه الرب الى أناس لا يرون أمامهم إلا الفشل، أناس أحسّوا أن آمالهم تتبخّر، فقال: كل هذا الفشل الذي لا شكّ فيه، لا يمنع نجاحًا أخيراً يعوّض تعويضًا كبيرًا من كل الخسارات السابقة. توجّه المثل إلى أناس دبّ فيهم اليأس، فأنعش في قلوبهم الرجاء أمام هذا الزارع الذي هو الله بالذات.
هناك الفشل الذي يؤثّر على المحيطين بيسوع حين يرون الناس يتركونه، يتراجعون، يعارضونه. كيف يستطيعون بعد أن يؤمنوا حين يرون ما آل إليه أول تدخّل أراد به الله أن يقيم ملكه على الأرض؟ لقد أراد مثل الزارع أن يردّ على هذه الاعتراضات، سواء عبّر التلاميذ عنها أو لم يعبّروا. فمن توقّف عند الفشل ولم ينظر الى أبعد، يكون قد نظر الى ضياع قسم من البذار واستنتج أن جميع البذار لن تعطي شيئًا.
والفشل؟ ألا نجده اليوم في عملنا ورسالتنا؟ لهذا يحتار المسيحيون ويتبلبلون. لهذا فمثل الزارع يتوجّه إلينا نحن اليوم.

2- تفسير المثل
أ- ما هو الموضوع
رأى عدد من الشراح أن تفسير المثل يبقينا في جوعنا. والسبب: ترجمة خاطئة للنصّ اليونانيّ. فالفعل "سبايرو" اليونانيّ قد يكون مفعوله البذار التي نبذرها والأرض التي نبذر فيها. الخبر يبدو متماسكًا. يبقى علينا أن نهتمّ بترجمة النصّ. في آ 21 نقرأ: "ليس له أصل في ذاته". فماذا ينفع الاصل والجذور التي تأتي الى الزرع من الخارج؟
إن الشّرح يشدّ اهتمامنا من البداية الى النهاية إلى مختلف فئات البشر التي تسمع "الكلمة". ويتماهى السامعون على التوالي مع الطريق، حيث تُخطف الكلمة حالاً. ومع الأرض الصخرية التي لا تتيح للزرع أن يتجذّر. ومع الأرض المملوءة شوكًا. فالشوك يخنق الزرع. وأخيرًا مع الأرض الجيّدة التي تعطي ثمرًا. ما يلفت الانتباه في هذه الخاتمة هو أن الثمر يُنسب لا إلى الزرع كما في المثل، بل إلى الأرض الخصبة.
تبدّلت النظرة. هناك تشديد على مختلف الأراضي، وعلى الزرع الذي يسقط في هذه الأراضي. غير أننا نلاحظ في الوقت عينه أن الانتباه يتحوّل من الواقع إلى السبب الذي يجعل كل فئة تعطي أو لا تعطي ثمرة. أو بالاحرى يتركّز انتباهُنا على الاسباب التي تفسّر الفشل: تدخّلُ الشيطان (يأتي الشرير يخطف ما زُرع). نقص في الثبات خصوصًا عندما يحلّ ضيق أو اضطهاد. هجومُ العالم وغرور الغنى. كل هذا يخنق الكلمة فتصير بلا ثمرة. لا نجد شيئًا آخر في نصّ مرقس الذي لا يقدّم أية اشارة حول الاستعدادات التي تتيح للأرض الطيّبة أن تحمل ثمرًا. أما متّى فقد عوّض عن صمت مرقس فحذّر المؤمنين من قبول غير كاف لكلمة الله.
وهكذا ابتعدنا عن الدرس الذي يدعونا إلى الثقة بالله كما في المثل. فالتفسير يهتمّ بتنبيه المسيحيين من أخطار يتعرّضون لها في استعداداتهم النفسيّة فتمنعهم من حمل الثمار الذي تطلبه كلمة الله من الذين سمعوها.
ب- خصوصيّة متّى
نجد في مت إشارات بسيطة تبقى على المستوى الأدبي ولا تؤثّر على المعنى. غير أن هناك تفصيلاً هامًا له بعده الحقيقي يلفت انتباهنا: أدرج متّى مرتين فعل "فهم" في آ 19 وآ 23.
في آ 19، اعتبر متّى أنه لا يكفي الحديث عن "الشرير" للقول بأن ما وقع على الطريق لم يعط ثمرًا. فالفشل له سبب آخر عميق هو خطأ شخصي لدى السامع: سمع الكلمة ولكنه "لم يفهمها". وعدم الفهم هذا هو سبب شقائه.
وفي آ 23، فسّر متّى كيف أن الأرض الجيّدة أعطت ثمرًا: إنها تمثّل "ذاك الذي سمع الكلمة وفهمها". فالتعارض مع الحقل العقيم كل العقم تامّ: غياب كل ثمر مرجعه اللافهم. أما الإثمار العظيم فمرجعه الفهم. وزاد النص في آ 23: "ذلك يثمر ويعطي تارة مئة وأخرى ستين وأخرى ثلاثين". هناك أداة يونانية "دي" التي تعني بالحقيقة. ففي نظر الانجيلي "فهم" و"أثمر" لا ينفصلان. من فهم أثمر، ومن لم يفهم لا يثمر. فلا نستطيع أن نتصوّر الواحد دون الآخر.
إن هذا التشديد على ضرورة "الفهم" يعلمنا أن معنى الفعل ليس معنًى عقليًا (على مستوى العقل والتجريد)، ولا منفعلاً (بما أن الانسان لا يفعل شيئًا، هو يترك الكلمة تفعل فيه). فإذا أردنا أن ندرك بُعد هذا الفعل، نتذكّر أن متّى يستعيد هذا الفعل من نبوءة أشعيا المذكورة في مقطع أدرجه متّى بين المثل وتفسيره، فدلّ على السبب الذي لأجله تكلّم يسوع بالامثال.

3- لماذا كلّم يسوع الجموع بالامثال
إذا كان متّى قد ربط ربطًا وثيقًا شرح المثل بالاعتبارات التي أوردها في آ 10-17، فلأنه قام بعمل تدوينيّ في هذه الآيات التي يعود بعضها الى أشعيا. فهنا نستطيع أن نجد الفكرة التي قادته في المجموعة المؤلفة من آ 1-23.
إن السؤال الذي طرحه التلاميذ على يسوع في آ 10، يدلّ على الاتجاه الجديد. ففي مر 4: 10، جاء الذين يحيطون بيسوع وسألوه "عن الامثال". لسنا فقط أمام معنى مثل الزارع (لو 9:8)، بل أمام السبب الذي لأجله استعمل يسوع اللغة الأمثاليّة. وحدّد متّى فقال: لماذا تكلّمهم (هم) بأمثال؟ ما استصعبه التلاميذ ليس لغة الامثال في حدّ ذاتها، بل استعمال يسوع للامثال حين يتوجّه إلى الجموع. ففي نظر التلاميذ، لا تطرح الامثال مشكلة: لقد ولدت المشكلة من استعمالها أمام أناس لا يستطيعون أن يدركوا مدلولها.
إن الطريقة الخاصّة. التي بها عالج متّى مشكلة الامثال قد ظهرت في تدوين الايات الأولى من ف 13. قدّم مر 4: 1-2 الخطبة بأمثال كمثال نموذجيّ عن "تعليم" أعطاه يسوع للجموع. ففعل "علّم" واسم "تعليم" يعودان ثلاث مرات في هاتين الآيتين. أما متّى فتجنّب هاتين اللفظتين باهتمام كبير. فاكتفى بأن يكتب: "كلّمهم (أي الجموع) كثيرًا بأمثال". فالأمثال لا تشكّل تعليماً لأناس لا يقدرون أن يفهموها. فهي لا تنير إلاّ التلاميذ الذين يستطيعون أن يفهموها. وعلى هذه النقطة تشدّد نهاية الفصل: إن التلاميذ فهموا كل شيء (آ 51). إنهم كالكتبة الذين أنهوا "سنوات" تكوينهم. (آ 52).
إذن، أنارت المقدّمة والخاتمة المسألة المطروحة في آ 10. لقد رأى متّى في الامثال وسيلة بها يدرجّ يسوع تلاميذه في اسرار ملكوت السماوات. هذه الامثال هي جزء من تكوينهم. ولكن لماذا وجّهها يسوع الى الجمع الذي لا يفهم؟
قدّم مرقس جوابًا واحدًا (4: 11-12). وكذا فعل لوقا (8: 10). أما متّى فأعَطى جوابين (آ 11-12، 13-15) وكمّلهما بإعلان إضافيّ (آ 16-17) قال فيه: "وأما أنتم فطوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع".
أ- الجواب الأول
يتكوّن الجواب الأول من عنصرين متميّزين. في آ 11، اكتفى متّى بأن يستعيد مجمل ما قاله المرجع الذي أخذ منه (رج مر 4: 11؛ لو 8: 10): "لأنه قد أعطي لكم (من قبل الله) أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات. وأما أولئك فلم يعط لهم (من قبل الله)". حين تكلّم يسوع بأمثال، خضع لتدبير إلهي بموجبه حُفظ كشفُ أسرار الملكوت للتلاميذ، ورُفض للجموع.
من الواضح ان هذا الجواب التقليديّ لم يرض متّى. غير أنه ما ألغاه. بل زاد عليه شرحًا يتوافق مع نظرته الى الأمور. استعادَ هذا الشرح من قول ليسوع وجده في سياق آخر (رج مر 25:4؛ لو 18:8): "فمن له يعطى (من قبل الله) ويزداد (تكون له الوفرة). ومن ليس له، فحتّى ما هو له يُؤخذ (ينزع) منه" (بواسطة الله) (آ 12).
إن المبادرة الالهية لا تفسّر كل شيء. فإن كان الله حفظ لفئة ورفض لفئة ثانية معرفة أسرار الملكوت، فلأن الأولين "يملكون" (لهم) شيئًا لا يملكه الآخرون (ليس لهم). وهكذا يجد الخيار الالهي تبريرًا له في وضع السامعين. هو لا يستبعد أبدًا المسؤوليّة الشخصيّة، بل يشكّل دينونة وحكمًا: دينونة خير للذين "لهم"، وحكم للذين "لا يملكون" (ليس لهم) ما يحقّ لله أن يجده عندهم. فالقرار الإلهي التي تتحدّث عنه آ 11 يتأسسّ إذن على استعداد وشرط مسبق. وسيظهر معنى التوضيح بشكل أفضل في الجواب الثاني.
ب- الجواب الثاني
ونجد نفوسنا هنا أيضًا أمام عنصرين متمايزين. فالجواب بحصر المعنى تقدّمه آ 13: "إليكم لماذا أكلّمهم بأمثال: لأنهم لا يبصرون مع أنهم يبصرون، وإذ يسمعون لا يسمعون ولا يفهمون". في هذه الآية، ما اكتفى متّى بأن يستعيد النصّ الذي وصله على يد التقليد والذي وجده في مر 4: 12. فقد أحلّ محلّ "لكي" أداة سببيّة "لأن"، وهكذا تبدّل معنى الآية تبدّلاً جذريًا: كلّم يسوع الناس بأمثال، لا ليمنعهم من أن يروا ويفهموا،، بل لأنهم لا يستطيعون أن يروا ويفهموا. فهم مخطئون لانهم عميان وصمّ، وهذا ما يبرّر استعمال الخطبة الامثاليّة التي تبقى غير مفهومة فتحكم على قساوة قلوبهم وتعاقبهم.
وإذ أراد متّى أن يشرح موقف يسوع، أدخل في آ 14-15 إيرادًا من أش 9:6- 10، فأوضح بذلك عودة ضمنيّة الى الآية السابقة. وهكذا نكون هنا أمام إحدى الاستشهادات العديدة (تدلّ على تتمّة العهد القديم في يسوع) التي وزّعها متّى في إنجيله. غير أننا نلاحظ في الوقت عينه أن هذا الاستشهاد يختلف عن سائر الاستشهادات بالعبارة التي تدخله. اعتاد متّى أن يبدأ هذه الاستشهادات بأداة غائية: "لكي يتم". ولكنه تحاشاها في 8: 17 (حينئذ تمّ ما قيل) وفي 27: 9 (فتمّ عندئذ قول إرميا النبيّ): كيف يستطيع أن يقول إن الله قد أراد جريمة هيرودس وخيانة يهوذا؟ وتحاشى متّى هذه الأداة هنا أيضًا، لئلاّ يعود إلى غائية ألغاها في الآية السابقة. لهذا كتب فقط: "ففيهم تتمّ نبوءة أشعيا". فأمثال يسوع تشبه أقوال أشعيا في الماضي: إنها الشكل الملموس لدينونة الله تجاه أناس ما استطاعوا أن يفهموا، فحُكم عليهم بسبب عماهم الخاطىء (هم مسؤولون عن هذا العمى).
ج- امتياز التلاميذ
قدّم يسوع جوابًا على السؤال الذي طرح في آ 10: لقد توجّهت الامثال إلى أناس لا يستطيعون أن يفهموها، فصارت علامة الحكم الذي استحقوه. غير أن متّى ما أراد أن يبقى في هذا الجوّ المظلم. وإذ أراد أن ينهي هذه الحاشيّة حول السبب الذي لأجله قيلت الامثال، عاد الى امتياز التلاميذ الذي لمّحت إليه بدايةُ الجواب الأول. فاستعمل لذلك قولاً من أقوال يسوع وجده في سياق آخر (لو 10: 23-24). ولكنه كيّفه مع الاهتمام الذي يوجّهه في كل هذا المقطع.
فحسب لو 10: 23 قال يسوع لتلاميذه: "طوبى للأعين التي ترى ما ترون". فالتلاميذ سعداء (هنيئًا لهم) لأنهم يشهدون تحقيق المواعيد التي كانت موضوع انتظار طويل (آ 24). ونجد سبب سعادتهم في الحدث الذي أعطي لهم أن يشهدوه، بدون أي استحقاق من قبلهم. فصار هذا القول عند متّى: "أما أنتم، فطوبى لأعينكم لأنها ترى، ولآذانكم لأنها تسمع" (13: 16). زاد الآذان على العيون ليتوافق قوله يسوع مع نبوءة أشعيا التي سبق وأوردها. ولكنه بحثَ بشكل خاص عن سبب سعادة التلاميذ لا في حدث شهدوه بل في استعداداتهم الشخصيّة. اختلفوا عن الجموع التي لا تفهم شيئًا، فكانت لهم عيون تستطيع أن ترى وآذان تقدر أن تسمع.
ظلّت الكلمات هي هي، أمّا معناها فتبدّل. كنّا مع لوقا على مستوى أعين الجسد، وما استطاع التلاميذ أن يروا بأعينهم (يمرّ أمامهم كما في شاشة السينما). فحوّل متّى كل هذا إلى المعنى الروحيّ. التلاميذ سعداء بسبب استعداداتهم النفسيّة التي تجعلهم جديرين بأن "يروا" و"يسمعوا"، أي يفهموا. وهكذا يختلفون كل الاختلاف عن الجموع التي رأت هي أيضًا ما حصل، ولكنها مُنعت من التعرّف إلى وحي أسرار الملكوت بسب عماها الروحيّ الذي هي مسؤولة عنه.
خاتمة
قدّم مثلُ الزارع لمتّى مناسبةً يدعو فيها المؤمن لكي يفكّر في مسؤولية الذين يسمعون "كلمة الملكوت" (19:13). بما أن البعض لم يفهموا هذه الكلمة (آ 19) والبعض فهموها (آ 23)، فهذا نتيجة الاستعدادات الحميمة لدى كل انسان. فلا يمكن أن "نفهم" حقًا التعليم الانجيلي إلا في موقف من القبول الذي يكون بالضرورة إيجابيًا وفاعلاً. فالذي "يفهم" هو ذاك الذي يعمل بالحقيقة (دي، آ 23) ثمرًا. ولا نستطيع أن "نفهم" هذا التعليم دون أن نعيشه. فحين يحوّلنا من الداخل نفهمه. وفهمُ الامثال الذي إليه يدعو الانجيليّ المسيحيين، ليس فقط توافق العقل مع موضوع يبقى خارجًا عنا. إنه لا يتحقّق إلاّ في توافق حرّ ومسؤول من كياننا مع متطلّبات الحياة.
وهكذا أعطانا متّى في هذا المثل درسًا في الثقة والرجاء أمام الفشل الذي يتربّص بنا. وفي الوقت ذاته دعانا إلى الاستماع لكلمة الله استماعًا يحمل ثمرًا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM