الفصل الثامن عشر: خطبة الامثال

 

الفصل الثامن عشر
خطبة الامثال
ف 13

1- موقع خطبة الامثال
بعد أن سرنا مسافة طويلة على خطى يسوع، ها نحن نصل إلى ف 13 وخطبة الامثال. فمنذ بداية تجلّي يسوع لمعاصريه (3: 13)، ما زال حضوره يطرح سؤالاً على جميع الذين يلتقي بهم. هناك ردّات فعل، هناك مواقف تجاهه، وهو يميّز بين سامعين ولاسامعين. وارتسمت معارضة وسط الرؤساء الدينيّين في اسرائيل، وسط الكتبة والفريسيين، بطريقة خفيّة في البداية، وبطريقة واضحة مع ف 12. أمّا في قلب الجموع التي تسمع يسوع وتدهش لأعماله، فقد برزت مجموعة التلاميذ التي لم تتوضّح بعد معالمها، ولكنها تواصل السير وراءه.
بالاضافة الى ذلك، سمّى يسوع اثني عشر تلميذًا (10: 2-4)، وسلّم إليهم سلطاته، أرسلهم ينادون بالملكوت، وأعطاهم توصيات ذات متطلّبات قاسية (10: 5-39)، وفي النهاية تماهى مع كل واحد منهم (10: 40-42). وعندما بدأت المجادلات، وصار يسوع موضوع شكّ وعثار للفريسيين، عرف قرابته الحقيقية المؤلفة من الذين يحيطون به، يسمعونه، يعملون إرادة الآب السماويّ (12: 46- 50).
كل هذا يتيح لنا أن نتصوّر فئتين من السامعين تتوجّه إليهم خطبة الامثال: التلاميذ (ذُكروا في آ 10، 36) الذين أعطي لهم أن يعرفوا أسرار الملكوت (آ 11)، والذين يستطيعون أن يفهموا (آ 51). والجموع (ذُكروا في آ 2، 4، 3، 36) الذين ظلّوا خارج هذا الفهم العميق (آ 11، 34-36). وبعد الخطبة، تُطرح مرّة ثانية مسألة قرابة يسوع الحقيقية (آ 53-58) دون أن تُفهم أو تنال جوابًا.

2- البنية الاجمالية للامثال
يتفّق الشراح على القول بأن متّى جمع عمدًا في هذا الفصل سبعة أمثال: منها ثلاثة مشتركة داخل التقليد الإزائي.
- مثل الزارع (مر 4: 3-9؛ لو 8: 5-8) وتفسيره (مر 4: 13- 20؛ لو 8: 11- 15).
- مثل حبّة الخردل (مر 4: 30-32؛ لو 13: 18- 19).
- مثل الخميرة في العجين (لو 13: 20- 21).
وهناك أربعة أمثال خاصة بالانجيل الأول:
- مثل الزرع الجيّد والزؤان وتفسيره.
- مثل الكنز المخفى في حقل.
- مثل اللؤلؤة الثمينة.
- مثل الشبكة وتفسيره.
الرقم 3 هو رقم الالوهة. وهو أيضًا رقم الانسان المؤلّف من الروح والنفس والجسد. الانسان هو عالم صغير، تجاه العالم الكبير الذي هو الكون بطبقاته الثلاث: السماء، الأرض، ما تحت الأرض. أما الرقم 4 فيدلّ على الكون بأقطاره الأربعة. والعدد 7 (هو جمع 4 و 3) يذكّر المؤمن بسبعة أيام الأسبوع والخليقة، بتاريخ العالم. وهكذا يشدّد التقليد الساميّ على البعد المكاني والزماني للحياة البشريّة. والامثال السبعة تدلّ على واقع ملكوت الله كما أوحى به يسوع. ويُزاد على هذه السباعيّة مثل ثامن في خاتمة خطبة الامثال (يشبه، هومويوس، آ 24، 31، 33، 44، 45، 47، 52). فالرقم 8 في العالم اليهوديّ يدل على الملء، لان اليوم الثامن في عيد من الأعياد يجعل الاحتفال كاملاً ناجزًا (لا 29:23). أما في الكنيسة فدلّ اليوم الثامن على القيامة التي تكمّل شعب الله وتدلّ على مجيء الملكوت السماويّ.
هل نستطيع أن نُبرز البنية التي أشرفت على تجميع هذه الامثال؟ هنا يختلف الشرّاح. بعضهم يرى قسمة مثلّثة: مثل الزارع وتفسيره يحيطان بالسبب الذي لأجله قيلت الامثال (آ 1-23). مثل الزؤان والحب الجيّد الذي يحيط بمثلَيْ حبة الخردل والخميرة (آ 24-43). أمثاله الكنز واللؤلؤة والشبكة والخاتمة الأخيرة (آ 44-52). نحن أمام ثلاث مراحل في تنشئة التلاميذ لكي يفهموا الامثال. أو نحن أمام ثلاثة أوقات لنموّ الملكوت الذي يتجاوز المقاومات شيئًا فشيئًا، ويمتدّ في قلب الانسان حتى تمامه.
لا نستطيع أن ننكر التدرّج في هذه الخطبة، ولكنه لا يُبرز جميع العناصر المدوّنة في النصّ. لهذا، فتحليل دقيق يساعدنا على قسمة الخطبة قسمين كبيرين متوازيين، ويجعلنا نوّزع كل قسم على ثلاث مراحل تتقابل بطريقة لها مدلولها. وهكذا نحصل على الرسمة التالية:
أ- 1- مثل الزارع (آ 1-9) يتوّجه إلى الشعب.
2- ملاحظة حول معنى التعليم بالامثال (آ 10- 15).
3- تفسير المثل (آ 26-23) للتلاميذ.
ب- 1- مثل الزؤان (يتبعه مثلان) (آ 24-33) يتوجّه إلى الشعب.
2- ملاحظات حوله معنى التعليم بالامثال (آ 34- 35).
3- شرح مثل الزؤان (تتبعه ثلاثة أمثال) (آ 36- 52) للتلاميذ.
إن هذه البنية تساعدنا على إبراز فئتي السامعين اللتين يتوجّه إليهما يسوع. ومتّى نفسه يجعلنا على الخطّ من خلال عدد من السمات الأدبية. يتحدّث النصّ مرتين عن "البيت" في علاقته مع الجموع. في آ 1: "في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت، وجلس عند البحر. فاحتشدت لديه جموع كثيرة". وفي آ 36: "حينئذ ترك الجموع وجاء إلى البيت. فتقدّم إليه تلاميذه". وفي الخاتمة (آ 52) يتحدّث النصّ عن "ربّ البيت" الذي هو الكاتب، الذي صار تلميذ يسوع.
ومحاولة التلاميذ الذين اقتربوا من يسوع، بمعزل عن الشعب، تظهر في آ 10 وآ 36. ينتج عن ذلك أن تفسير المثلين (الزارع والزؤان) أعطي لهم كما تقول أيضاً آ 18 (فاسمعوا أنتم مثل الزارع). وأخيرًا إن عبارة "كل هذا" تدلّ في آ 34 على واقع يقول إن يسوع يكلّم الجموع بشكل مستتر بأمثال. وفي آ 51 تدلّ على ما فهمه التلاميذ في العمق. وتعود العبارة في آ 56 لتصف ما يدهش معاصري يسوع.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار اسلوب متّى في التأليف، نكتشف ترتيبًا مختلفًا مع موازاة تسير في خطّ النظريّة الثانية. إن المدوّن الأخير قد أدرج آ 33-34 كخاتمة أولى تبدأ انطلاقة جديدة. نقرأ فيها ملاحظة من الانجيليّ (آ 34) تورد مز 78: 2 (آ 35) قبل أن تشير إلى دخول المسيح إلى "البيت" وسؤال التلاميذ (آ 36). إذن، يجب أن تكون علامة الوقف في آ 36 لا في آ 24.
في هذا الاطار نستطيع أن نقدّم التصميم التالي:
- مقدمة (آ 1- 3).
1- سماع وفهم الكَلَمة، يتوجّه يسوع إلى الجموع وإلى التلاميذ (آ 4- 35).
أ- سماع الكلمة وفهمَها (آ 4-23).
- الزارع (آ 9).
- اقترب التلاميذ (آ 10).
- شرح مثل الزارع (آ 18).
ب- نموّ الملكوت (آ 24-33).
- الزؤان (آ 24).
- حبة الخردل (آ 30).
- الخميرة (آ 33).
ج- خاتمة الامثال للجموع (آ 34- 35).
2- كشف الملكوت للعالم. يتوجّه إلى التلاميذ ومن خلالهم إلى جميع الناس (آ 36-50).
أ- أبناء الملكوت وأبناء الشرير (آ 36-43).
- اقترب التلاميذ (آ 36).
- منتهى الدهر (آ 40). اتون النار (آ 42).
- من له اذنان (آ 43).
ب- نبيع كل شيء (آ 44-48).
- الكنز المخفى (آ 44).
- اللؤلؤة الثمينة (آ 45).
- الشبكة (آ 47).
ج- خاتمة: فصل الأشرار عن الأبرار (آ 49- 50).
- منتهى الدهر (آ 49).
- أتون النار.
- هناك يكون البكاء (آ 50).
- خاتمة الخطبة: مثل الكاتب الذي صار تلميذاً (آ 51-52).
- فهم التلاميذ كل شيء (آ 51).
- صار التلميذ مثل رب البيت (آ 52).
ونجد في آ 53 الخاتمة المقولبة التي نجدها في نهاية الخطبات الخمس. في 28:7 نقرأ: "ولما فرغ يسوع من خطابه بُهتت الجموع من تعليمه". وفي 11: 1: "ولما فرغ يسوع من توصياته لتلاميذه الاثني عشر". وهنا: "ولما فرغ يسوع من ضرب هذه الأمثال". هذه الخاتمة (آ 53) تفتح قسماً يبدأ برفض الناصرة ليسوع (13: 53-58) في خطّ 12: 46-50 وقرابة يسوع الحقيقيّة.

3- تحليل الخطبة بالتفصيل
إن مقدّمة الخطبة تصوّر لنا يسوع حين خرج من البيت، وجلس على شاطئ البحر. لا يقول لنا متّى شيئًا عن هذا البيت، لا في هذا الموضع (آ 1) ولا في 9: 10. البيت هو الموضع الذي فيه تلتئم الجماعة المسيحيّة (12: 46- 50) وتفهم معنى الامثال (آ 36). في أي حالة، ظهر يسوع فجاءت الجموع الفقيرة، وظلّت واقفة على الشاطئ لتسمع يسوع (وقف يسوع على الشاطىء ليكون سدًا في وجه البحر الذي يدل على الشرّ وهكذا يحمي مؤمنيه وكنيسته). ثم صعد يسوع إلى القارب وجلس فيه. القارب يدلّ على الكنيسة. والجلوس يدلّ على ما يفعله يسوع حين يعلّم (5: 1؛ 3:24)، حين يدين (19: 28؛ 25: 31)، حين يعطي أمرًا (20: 21-23؛ 26: 24).
نندهش حين نرى الجموع واقفة، بينما يسوع جالس. هنا نتذكّر التمثّلات الجليانية كما في دا 16:7، رؤ 9:7-12؛ 20: 11-12. ثم إن متّى استعمل فعل "تكلّم" (لالاين) بالامثال، لا "علّم" (ديدسكاين) كما فعل مرقس في 4: 1-2. وسيعود الفعل ست مرات في هذا الفصل (آ 3، 10، 13، 33، 34 مرّتين). لسنا أمام تعليم ولا إعلان، بل أمام وحي كما تقول آ 35 في خط مز 78: 2.
في نهاية الخطبة، يأتي مثَل فيستعيد سمات عديدة من المقدّمة. يتكلّم يسوع عن شبكة ألقيت في البحر. ولما امتلأت أصعدوها إلى الشاطئ حيث جلس (كما في دينونة) الصيّادون، وأخذوا يفصلون الصالحين عن الأردياء. نحن هنا أمام مثل جليانيّ يحملنا إلى "منتهى الدهر" (آ 49). هذه العناصر التضمينيّة هي مهمّة لفهم الخطبة، لأنها تحدّد موقعها في إطار الوحّي النهائيّ في آخر الأزمنة. وهكذا تبدو الخطبة الامثاليّة كوحي عن الدينونة الأخيرة. إذن، بُعدها اسكاتولوجي قبل أن يكون بُعدًا أخلاقيًا. وتقوم وظيفتها بتمييز الناس تجاه ملكوت السماوات.
أ- سماع الكلمة وفهمها (13: 4- 35)
أولاً: نسمع ونفهم (آ 4-23)
* مثل الزارع
بدأ يسوع فعرض مثل الزارع. تحدّث فيه عن زرع يدخل أو لا يدخل في الأرض. وحسب الموضع الذي سقط فيه، مُنع نموّه أو أوقف، بحيث لم يحمل ثمرًا في النهاية. تلك هي حالة الفئات الثلاث الأولى من الأراضي: الأرض المرصوصة. داس الناس الزرع، وكذلك الحيوان الذي جعلها طريقًا له. والأرض المحجرة والأرض المليئة بالاشواك. ولما دخل الزرع "الأرض الجيّدة" "أعطى ثمرًا" في نسب جيّدة هـان متفاوتة.
لا نتوقّف عند تقانة ذلك الزمان، ولا عند موقف الزارع الغريب الذي يرى حبّه في كل مكان بدون تمييز، لأن كل هذا يبعدنا عن هدف المثل. فالمثل يريد أن يلفت انتباهنا فقط إلى الثمر الذي أعطاه الزرع حسب الأرض التي زُرع فيها، لا إلى العمل الذي يقوم به الزارع ولا إلى نموّ الحنطة. أوجز متّى نصّه إيجازًا فركّز على الأرض الجيّدة وعلى الثمر الذي تعطيه بالضرورة. ثم على الأهمّية بأن نكون أرضاً جيدة وبأن نتقبّل الزرع.
فما هو هذا الزرع؟ هناك تنبيه ينهي عرض المثل: "من له اذنان سامعتان فليسمع" (آ 9). لقد سمعناه من يسوع حين كلّم تلاميذ يوحنا المعمدان عن إيليا المنتظر ليعلن الأزمنة المسيحانيّة (11: 5). وسوف يتكرّر في آ 43، عند متّى. هو جزء من المثل كما في مر 9:4. إنه يذكرنا بنداء الأنبياء (إر 21:5) والصلاة اليوميّة التي يتلوها اليهوديّ والتي تعود إلى تث 6: 4: "إسمع يا اسرائيل، الرب الهنا هو الربّ الواحد". إنه نداء لكي نحفظ في الذاكرة متطلبّة العهد الاساسيّة. وكنيسة متّى تتلقّى هذا التنبيه إلى السماع كنداء، فتتقبّل كلمة الله "بكل قلبها وكل نفسها وكل قدرتها". وتحفظها محفورة في قلبها (تث 6: 5-6) فتدعها تثمر وتتمّ مهمتّها (أش 55: 10- 11). إن لقاء الزرع بالأرض تمّ ساعة اقترب ملكوت السماوات وخرج يسوع ليعلن مجيء الأزمنة المسيحانيّة. منذ الآن كل واحد منا سيُدان بهذه الكلمة.
* لماذا الامثال
إن النتيجتين اللتين حصل عليهما الزرع يطرحان مسألة "ثنائية" السامعين، أي امكانية رفض الكلمة أو قبولها. تأتي آ 9 فتدعو حريّة السامع على مثال ما تفعل الكرازة النبويّة. ذاك هو معنى سؤال التلاميذ. لماذا تكلّمهم بأمثال (آ 10)؟ ما يهمّهم ليس مضمون المثل ولا مدلوله، بل اللغة الامثاليّة للتحدث إلى سامعين غير محدّدين مثل هذه الجموع الجليليّة.
أجاب يسوع فحدّد فئتين من السامعين: التلاميذ (أنتم، هيمين، آ 16، 18). "لكم أعطيت معرفة أسرار الملكوت" (آ 11). أما "هؤلاء الناس فلم يُعطَ لهم". إن موضوع الذي له فيُعطى لكي يمتلك أكثر، هو موضوع المعرفة التي تنمو بنسبب متنامية. ونحن نجده في الادب الحكمي (أم 9: 9؛ 12: 7)، لأن الحكمة الالهيّة هي مبدأ فهم يتعمّق يومًا فيومًا. وبعد أن أورد يسوع أش 9:6-10 المرتبط بعمى الشعب، أعلن: طوبى لعيون التلاميذ لانها ترى وآذانهم لأنها تسمع (آ 16) فتتم رغبة الانبياء والأبرار في العهد القديم (آ 17). تذكّرنا هذه "التطويبة" بفعل شكر يسوع من أحل الوحي والذي وصل إلى الصغار (11: 25). حينئذ أعطاهم الشرح الذي ما تجرّأوا أن يطلبوه: يملكون ويعطى لهم فيزادون (آ 12). و"أسرار ملكوت السماوات" ليست زيادة معلومات أو يقينًا عقليا أكبر. نحن أمام إدراك باطنيّ لحضور ملكوت الله الناشط في العالم. وهذا الادراك هو ثمرة قبول الكلمة وما تطلبه منّا هذه الكلمة.
ونال سؤال التلاميذ جوابه: "لهذا أكلّمهم بالامثال، لأنهم يبصرون من غير أن يبصروا، ويسمعون من غير أن يسمعوا و لا يفهموا" (آ 13). نجد في مر 12:4 ولو 8: 10 "لكي" (هينا) التي تجنبّها متّى. ففي نظر مرقس قدّمت الامثال كوسيلة "تقود إلى العمى" (وإن بشكل غير مباشر). أما متّى فجعل يسوع يتوجّه إلى الجموع التي هي عمياء من قبل، وتكلّم إلى التلاميذ الذين سبق لهم وتقبَّلوا الكلمة. في الواقع كلّم يسوع الجموع بأمثال، لانه لم يستطع أن يفعل شيئًا آخر. فهو لا يستطيع إلاّ أن يلقي كلمته، غير أن هذه الكلمة تكشف أسرارًا تتجاوز الانسان، فلا يستطيع فم بشري أن يكشفها دون أن يترك عليها "حجابًا" فيبقى فيها بعض السرّ. هنا يواجَه السامعُ في حريته.
في الحقيقة، الكلمة عينها تبقى "مثلاً" لمن لم تحرّكه، وتصير معرفة أسرار الملكوت "للذي يتركها تهزّه. إذن، تقبّلُ الكلمة هو الذي يميّز الجموع من التلاميذ، وإيمان البعض يكشف عمى الآخرين، ويدعوهم إلى السير إلى الأمام. هذا ما نقوله عن النبوءة. فالنبيّ يعرف أنه يسلّم كلمة يستحيل إدراكها لأنها تسمو على الانسان حين تطرح عليه سؤالاً جذريًا. وفي الوقت عينه هذه الكلمة تحرّر، لأنها تكشف للانسان خطيئته مع عمق حرّيته (إر 1: 9-10؛ 20: 7-11؛ حز 3: 7، 27؛ 12: 2). وهكذا يأتي استشهاد أش 6: 9- 10 في محلّه.
في العهد القديم، دلّت كلمة "م ش ل" (مثل) على رمز يكشف (تث 28: 27؛ مز 18:69)، يطرح سؤالاً، يرفع الحجاب عن معنى خفيّ للاشياء. المثل هو قول تقليديّ مأثور (أم 1: 1، 6؛ 25: 1؛ سي 3: 29؛ 6: 35). هو فكرة نصوغها منطلقين من مسألة حياتيّة (أي 27: 1؛ 29: 1). هو تأمّل حول معنى التاريخ (مز 78: 2 وقد استعاده مت 13: 35).
في أسفار الرؤى يتمّ الكشف عن الأسرار الخفيّة بواسطة الامثال (دانيال، أخنوخ). والأدب الرابيني يستعمل أيضاً مقابلات تتوخّى افهام السامع تعليمًا في معنى إرشادي. هذا النوع هو قريب من أمثال العهد الجديد التي استقت الكثير من المحيط الذي وُلدت فيه. هي أكثر من تعليم حول حكمة بشريّة. فتحمل وظيفة وحي ينقل "الاسرار" فيلفت الانتباه ويدعو الناس إلى اتّخاذ موقف عمليّ. لهذا يجب دوماً أن نبحث عن مرمى المثل أي النقطة التي ترسل إلينا نداء. إن المثل يدعونا مضمونه ومرماه إلى اكتشاف أمر جديد وإلى التساؤل حول مدلول هذا الجديد.
* تفسير مثل الزارع
إن التفسير الذي يعطيه يسوع نفسه لتلاميذه وبالتالي للكنيسة، يجعلنا "على الخطّ". هنا يطرح الشرّاح سؤالاً: هل شرحُ هذا المثل (وشرح مثل الزؤان) يصدر عن يسوع أم عن الكنيسة الأولى؟ لن ندخل في هذا الجدال، بل نقول بأن الجماعة الأولى كانت أمينة لجوهر تعليم يسوع دون أن تردّده حرفياً. انطلقت من هذا التعليم وأعادت صياغته. وهذا ما جعل الانجليّين يحوّلون نصّ مراجعهم ليُفهموا قرّاءهم أقوال المعلّم ويدلّوا على آنيّة التعليم الانجيليّ.
يستعيد تفسير المثل تنبيه آ 9: "أما أنتم فاسمعوا". هذا صدى لما في تث 6: 4: "إسمع يا اسرائيل". من له اذنان سامعتان فليفتحهما على وسعهما لكي يجعل الكلمة تصبح طاعة وخضوعاً في قلبه. لأن فعل سمع يعني: أصغى وأطاع. هذا في العبرية (ش م ع). أما في اليونانية، ففعل "اكواين" يعني سمع وأصغى. وفعل "هيباكواين" يعني أطاع (8: 27). ونلاحظ أيضًا أن الشرقي يفهم بقلبه (سنياناي)، والفهم قريب من الطاعة.
نجد فعل "سنياناي" 9 مرات في مت، وستًا منها في هذا الفصل (آ 13، 14، 15، 19، 23، 51). ونجد استعمالين منها في استشهاد أش 6: 9- 10. وهذان الفعلان (سمع، فهم) اللذان ارتبطا في النصّ وطبّقا على الكلمة، سيعودان في تضمين في آ 19-23. إذن "الفهم" هو الذي يجعل الفرق بين الجموع والتلاميذ. ونلاحظ أيضًا أن في الجمع الذي يدلّ على "الزروع" المختلفة في آ 4، 5، 7، 8، قد حلّ محلّه الفرد آ 19، 20، 22، 23. نحن هنا أمام مواقف فرديّة تبدو بشكل أنماط من البشر. ترك متّى العدد الكبير من الناس، وتوقّف على كل فرد منهم ليجعله وجهًا لوجه أمام الكلمة التي تتوجّه إليه.
كلهم سمعوا الكلمة، ولكن دون ذلك حواجز للفهم. فهناك العدوّ، الشرير (37:5-39؛ 13:6؛ 38:13) الذي يستطيع أن يسلب الكلمة من قلب الانسان. إن النداء إلى الحريّة الذي يتوسّع فيه موضوع الطريقين في تث 30: 11- 20، يجد في يسوع آنيّة حاسمة. اليوم نختار الطريق، والويل لمن لا يعرف أن يختار (إر 7:24- 10؛ 33:31-34؛ 32: 39- 41). لقد اقترب ملكوت الله (في التاريخ) في يسوع، وما زال يطلب جواباً من الانسان الذي يقول للرب "نجّنا من الشرير" (13:6). وهناك قلب البشر وقلب الحجر (حز 26:36-27). يرمز الحجر هنا إلى القساوة التي تجعل الانسان انتهازيًا، متقلقلاً، ابن دقيقة، لأنه لم يتأسس على "الابدي". والضيق (تلبسيس، 24: 9، 21، 29) والاضطهاد (ديوغموس، 5: 10- 12، 44؛ 10: 23؛ 23: 24) هما واقعان اسكاتولوجيان يدلاّن على حقيقة القرار الذي نتّخذه. لا نبقى في الغيوم والنوايا "الطيّبة". لقد عرفت كنيسة متّى الاضطهاد "من أجل الكلمة" (آ 21)، كما عرفت خطر "الشكّ" الذي يلغي الامانة (29:5-30؛ 11: 6). وهناك أخيرًا "همّ العالم" و "غرور الغنى" التي تخنق الكلمة وتتركها بدون ثمر. هي تجعل الانسان (وحاجاته وملذاته) محور العالم، فيعبد نفسه. ولكن يستحيل علينا أن نعبد سيّدين (6: 24).
والذي يسمع الكلمة ويفهمها "يثمر"، يصنع ثمرًا. ويشدّد متّى على غلّة هذه الأرض، وهو واعٍ أنه يجب أن ننتقل من القول إلى العمل (7: 16- 20). فعبارة "صنع ثمرًا" (بوياين كربون) ترد أكثر من مرة عن الشجر (3: 15؛ 17:7- 19، 12: 33)، عن الزرع (13: 26)، عن البشر (8:3؛ 13: 23؛ 43:21). والثمر الذي ينتج هو عمل كلمة الله في أرض متقبّلة. إنه علامة بركة الله على مثال ما حصل لاسحاق في تك 12:26. فما يميّز التلاميذ عن الجموع هو فهم يدفعهم إلى العمل بمعنى أنهم يستسلمون إلى عمل الله الحاضر في كلمة يسوع. هذه الكلمة هي خصبة في ذاتها، فيكفي أن لا نضع في وجهها عائقًا. ونحن لا نعرف معنى كلمة "فهم" إن لم يكن لنا لقاء بالربّ به تدخل كلمته في قلوبنا.
ثانيًا: الملكوت سينمو (آ 24-33)
* مثل الزؤان
تابع يسوع أمثاله، ولم يقل لنا النصّ إن السامعين تبدّلوا. ولكن في آ 34، نشعر أنه يتوجّه بشكل حصري إلى التلاميذ.
المثل الأول، مثل الزؤان في الحقل، يستعيد صورة الزرع الجيّد الذي يعارض نموّه قوّةٌ معادية. يبدو المثل بشكل دراما بشريّة: ربّ بيت زرع زرعًا جيّدًا في حقله. وتعجّب عبيده لأنهم رأوا الحقل مليئًا بالزؤان. وجاء جواب ربّ البيت غير عادي، ونظرته إلى الزؤان في يوم الحصاد مدهشة. ما يبدو مشكّكًا هو أن الرب يحتمل نموّ الخطأة وسط الأبرار. ولا يمكن استباق الدينونة كما أراد يوحنا المعمدان (31: 12). لهذا يجب علينا أن نتحلّى بالصبر، ولا نستطيع أن نقرّر من هو زرع جيّد ومن هو زؤان. وهناك ثقة لدى ربّ البيت بعظمة زرعه. فهو يعرف أن الزؤان لا ينتصر. ثم إن المثل يشدّد على وجهة النموّ حتى النهاية، "حتى الحصاد" الذي يوجّهنا الى نهاية الأزمنة، أي الوقت الذي فيه يميّز الله حقًا بين الأشرار والأخيار. وهكذا ما بدا غريبًا في مقولات مثل الزارع، قد أوضحه يقين مطمئن لدى "إنسان زرع في حقله زرعًا جيّدًا" (آ 24).
* حبة الخردل والخميرة
يبدو هذين المثَلين بشكل خبر. رجل مع حبّة خردل. إمرأة مع خميرة. هذا هو عملهما العادي، وهو يتّخذ طابع الحدث.
يقدّم مثل حبّة الخردل تعارضاً بين صغر الزرع والمرحلة الأخيرة في نموّه. ما يلفت النظر هو المدى الذي تأخذه نبتة الخردل في المثل: شجرة يلجأ طير السماء إلى أغصانها. نحن نعرف في التوراة صورة الملك القويّ الذي يؤمّن الحماية لعبيده (قض 9: 15؛ مرا 4: 20؛ با 1: 12؛ حز 31: 6). ونعرف مثل الارزة (حز 17: 22-23) التي ترمز إلى مجد اسرائيل الذي عاد إلى ما كان عليه، ورؤية نبوخذ نصر (دا 4: 9-18) وصورة الملك الآتي. قد يكون يسوع انطلق من هذه الصور ليتحدّث عن تحقيق الملكوت تحقيقًا نهائيًا.
إن صغر الحبّة يدلّ على الطابع الحقير (يكاد أن يكون بلا قيمة ولا وزن) والمخيّب لبداية مجيء الملكوت. سبق ورأينا أن رسالة يسوع لم تكن توافق ما تصوّره الناس عن المسيح (3: 13-14؛ 11: 2-13، ما تصوّره أهل الناصرة عن يسوع (53:13-58). فالمثل يستنير بمثل الزؤان وتفسيره: زرع ابنُ الانسان في حقل العالم ملكوتًا ظهر متواضعًا. ولكنه في النهاية يكشف مشروع خلاص يعمّ الكون. قد نظنّ أن متّى يفكّر بالكنيسة كما امتدّت في نهاية القرن الأول، وهو متيقّن بما تؤول إليه في المستقبل لأنها عمل الله. نحن هنا أمام فهم عميق لمخطّط الله: فالظواهر لا تجعل المؤمن ييأس، لأن نشاط يسوع التاريخي قد دشّن حقًا المرحلة الحاسمة في تاريخ الخلاص، ولا شيء بعد اليوم يوقفه.
ومثَل الخمير الذي مُزج بالعجين يعبرّ عن التعارض نفسه. اذا كان الخردل سيصير شجرة كبيرة فيرمز إلى ملكوت الله، فقليل من الخمير، إن كان خمير الله، يستطيع أن يخمّر كميّة كبيرة من الدقيق. إن رقم ثلاثة أكيال قد أخذ من تك 6:18 (رج قض 19:6؛ 1 صم 1: 24)، وهو كبير جدًا، لأن مثل هذا العجين يكفي 150 شخصًا (هنا نتذكّر عرس قانا الجليل وكمية الخمر). إن النظرة الخارقة إلى هذه الوجبة من الطعام تعيدنا إلى الوليمة الاسكاتولوجيّة. نلاحظ لفظة "حتى" (آ 33) التي وجدناها في مثل الزؤان (آ 30). إن الملكوت حاضر في العالم كخمير ليحوّله، ونموّه في النهاية سيصل إلى ملء النموّ.
هذا النموّ الذي يتعدّى امكانيَّاتنا، يفهمنا أن يسوع هو مبدأه. ما اهتمّ هذان المثلان (حبة الخردل، الخميرة) بالنموّ البشري الذي لا يمكن أن نحدّده. فيسوع قد فجّر هذه الكلمة لأن النموّ الالهي هو الملء والتمام.
وتساءل آباء الكنيسة: من هي المرأة؟ قالوا: هي حكمة الله، هي الكنيسة، هي المرأة المرأة، أي العذراء مريم التي حملت في أحشائها الكلمة، خمير الخبز البشري. أما الخمير فيمثّل يسوع، الرسل، الايمان، قيامة يسوع بعد ثلاثة أيام.
أما مثل حبّة الخردل فيحيلنا إلى الكنيسة، إلى المسيح المتألم والقائم من الموت، إلى الانجيل، إلى الحياة الباطنية.
ثالثًا: خاتمة: أمثلة للجموع (آ 34- 35)
هنا تنتهي المتتالية بأمثالها الثلاثة. تقدّمُ آ 34 عبارة ستعود في الخاتمة الاخيرة (آ 51): "كل هذا". وتستعيد في تضمين عبارة آ 30 (كان يكلّمهم بأمثال)، فدلّت مرة أخرى على الجموع. وزاد متّى على هذه الفكرة الشخصية في آ 35 ايرادًا يدلّ على أن الكتاب قد تمّ (مز 78: 2).
أبرز الانجيلي هنا البُعد المسيحاني في اللغة النبويّة المستعملة بفم يسوع كتمام للانبياء. ودلك في الوقت عينه على أن هذه اللغة تبقى خفية، مكنونة (كاكريمينا، 11: 25: 13؛ 33، 44 مرتين). نحن هنا أمام نصّ خاص بمتّى. فعبارة "منذ البدء" العبرية واليونانية صارت عنده "منذ إنشاء العالم" (25: 34): فمنذ بداية الخليقة والملكوت يسير مسيرته.
ب- كشف الملكوت للعالم 13: 36- 50)
أولاً: بنو اللملكوت وبنو الشرير (آ 36-43)
يبدأ القسم الثاني من الخطبة بعبارة تقطع السياق قطعًا واضحًا. "حينئذ ترك الجموع وجاء إلى البيت" (آ 36). فسامعو البداية الكثر صاروا التلاميذ الذين جاؤوا إلى يسوع (آ 10) وطلبوا منه أن يفسّر لهم مثل الزؤان. ومع ذلك، فيسوع ما زال يتكلّم "بأمثال". غير أن هذه اللفظة لن تظهر قبل عبارة الخاتمة (آ 53). أما ما تبقّى من الخطبة فتوجّه إلى كل انسان من خلال التلاميذ.
ردّ يسوع على سؤال الرسل، ففسّر مثل الزؤان وسط الزرع الجيّد. وتساءل الشرّاح حول أصل هذا التفسير، واعتبروا أنه لا يعود إلى يسوع بسبب الاسلوب الاستعاريّ. ولكننا نلاحظ أن العبيد أغفلوا ولم يُذكروا من بعد، كما أغفل حوارُهم مع ربّ البيت. لا شكّ في أن العبيد يمثّلون التلاميذ الذين يتوجّه إليهم المثل. وبعد أن قدّم يسوع لائحة، شرحَ فيها ألفاظ المثل (آ 37-39)، أعطى الشرح، فقابل الحصاد بالدينونة الأخيرة في أسلوب جلياني يستعيد صف 1: 3؛ دا 3: 6؛ 12: 3. المسألة التي لفتت نظر العبيد هي وجود الزؤان في الحقل (آ 27): يجب أن يُقتلع (آ 28) دون انتظار. فشدّد الشرح على أن الشرّ لن ينتصر، وعلى أن بني الشرير لن يتغلّبوا على بني الملكوت. سيُحكم في النهاية على فاعلي الاثم. فلا يبقى لنا إلا الصبر في انتظار تلك الساعة.
هل نماهي بين ملكوت ابن الانسان والكنيسة؟ كلا. وإلا حصرنا حمْل عمل ابن الانسان في نطاق ضيّق. هل هذا الحقل هو العالم؟ إن الانجيل الذي أعلن في العالم كله (24: 14؛ 26: 12) يجعل ابن الانسان يدين جميع الأمم (25: 32؛ 28: 19). ولكن لا نفصل بين العالم والأمم. فملكوت الابن هو حاضر منذ الآن في العالم بواسطة الكنيسة. وفي نهاية الأزمنة يظهر ملكوت السماوات للابرار كملكوت الآب. وهكذا يتوجّه النداء إلى المسيحيين لكي يعوا دعوتهم. كل ما لا "يهضمه" الملكوت سوف يُرذل. وبعد الدينونة الأخيرة يُكشف القناع عن الشكوك والاثم (انوميا، عدم الايمان. ثم الاثم، 7: 23؛ 28:23؛ 12:24). لهذا نطرح السؤال على نفوسنا: هل نحق حقاً بنو الملكوت؟ هل نحن بنو الشرير؟
ثانيًا: نبيع كل شيء (آ 44-48)
لا يكفي أن نسمع الشرح. بل يجب أن نتقبّل النداء الذي يتوجّه إلينا. تلك هي العبرة من الامثلة الثلاثة التالية التي هي خاصة بمتّى. لا يشرحها يسوع لأنها واضحة في ذاتها لمن يريد أن يفهم.
يُبرز المثلان الأولان (الكنز، اللؤلؤة) الالتزام الذي يتطلّبه الملكوت. فالنموّ الذي هو ثمرة عمل الله، يفرض علينا تجاوز نفوسنا. فالكنز الثمين لا يقسّم، ولا يشارك فيه أحد. أما الحقل الذي أخفي فيه واشتري، فلا أهمية له. المهمّ هو الكنز، وهو ثمين جدًا بحيث يستحقّ أن نبيع كل شيء ونقتنيه. وهكذا يبرز المثل موقف الانسان الذي حصل على الفرصة الفريدة التي أعطيت له ليكتشف في يسوع الملكوت الذي صار قريبًا منه.
ونقول الشيء عينه عن اللؤلؤة الثمينة. اكتشفها التاجر فباع كل شيء ليقتنيها. تخلّى عن مهنته كتاجر، واكتفى بأن يمتلك هذه اللؤلؤة الفريدة. يُروى المثلُ هنا أيضًا وكأنه حدثٌ حصل الآن. إن مهمّة يسوع تتطلّب جوابًا لا مساومة فيه. كما حدث للرجل الغني (19: 16-30). ففي الكنيسة اليوم، كما في كنيسة متّى، تعاملُنا الامثالُ بعنف، تطرح علينا السؤال الحاسم: بالنسبة إلينا ما قيمة الملكوت الذي يأتي اليوم إلى لقائنا كما ظهر في الماضي على شاطىء بحر الجليل؟ فمن فهم الامثال أدرك أن الملكوت يطلب منه كل شيء.
ومثَلُ الشبكة المرميّة في البحر، يدلّ على الجدّ الذي يصل بنا الالتزام. هذه الشبكة تضم "أشياء كثيرة"، وقد امتلأت. وفي ملء الزمن، أو في "منتهى الدهر" كما يقول متّى، يتمّ فرز الأخيار من الأشرار.
ثالثًا: الخاتمة فصل الأشرار عن الأبرار (آ 49- 50)
إن تفسير مثل الشبكة جزء من المثل. ولكننا فصلناه لأنه خاتمة القسم الثاني من الخطبة واستعادة لمعطيات مثل الزؤان. في آ 41-43، نتذكّر صف 1:3؛ دا 6:3؛ 3:12 على ضوء ملا 13:3- 21. كل هذا يتوسّع في شكّ المؤمنين حين يرون الاشرار في قلب شعب الله. أما آ 50 فتستعيد دا 3: 6 وتصوّر يوم الربّ. عاد متّى الى التأويل المدراشيّ وحرّض الجماعة على الأمانة للالتزام بالنظر الى الدينونة الآتية. فمجيء يسوع بدأ يميّز. يبقى علينا أن نأخذ على محمل الجدّ هذا الملكوت هـالاّ استُبعدنا منه. لهذا تتكرّر عبارة ظهرت في 12:8 وستعود في 13:22؛ 24: 15؛ 30:25: "هناك يكون البكاء وصريف الاسنان" (13: 42- 50)
ج- خاتمة الخطبة (13: 51-52)
وأنهى يسوع خطبته بسؤال قاطع: "أفهمتم هذا كله" (آ 51)؟ أي كل ما قاله يسوع للجموع بأمثال (آ 34). أي هل تعرّفتم الى يسوع وهو يكلّمكم بأمثال؟ أجابوا: نعم. ولكن، من أجاب؟ هذا ما لا يقوله متّى. فمثل هذا الجواب ينقلنا من حالة "الجموع" الى وضع "التلاميذ". فأهل الناصرة سوف يتساءلون: من أين ليسوع كل هذا؟ هم أيضاً لم يفهموا (آ 56).
وبعد أن استعاد يسوع موضوع القسم الأول من الخطبة (آ 1-35)، ألقى الضوء على معنى الالتزام الذي يتضمّنه "فهم" الامثال، بمثَل أخير هو مثَل الكاتب الذي صار تلميذًا في ملكوت السماوات. فمن صار تلميذًا أخذ على نفسه نير المسيح (11: 29). تسلّم مهمة تعليم الآخرين واشراكهم في خبرات نالها (28: 19) كـ "سيّد بيت" (10: 25؛ 27:13؛ 20: 1، 11؛ 21: 33؛ 24: 42) قابل يسوع نفسه به. الكاتب هو العارف بالشريعة والاخصّائي في الكتب المقدّسة. فإن اكتشف في يسوع الكنز المخفيّ في حقل (آ 44) جدّد يسوع نظرته كلها وأعطى القديم الذي فيه جدّة الانجيل.

4- لاهوت الامثال
حدّثتنا جميعُ الامثال عن ملكوت السماوات. فكشف كل واحد وجهة منه، ودلّت كلها أول ما دلّت على واقع يسوع الذي هو محور التاريخ ونقطة الاتصال بين السماء والأرض. ففي يسوع، صار ملكوت الله قريبًا من الانسان بشكل نهائي. وحين يكتب الانجيليّ أن ملكوت السماوات يشبه إنسانًا عمل عملاً، أو فعل شيئًا مثل الخميرة أو الشبكة، فالتشبيه ينطلق من اللوحة كلها، لا من بعض عناصرها فقط. ولكن هل نستطيع أن نحدّد مفهوم الملكوت انطلاقًا من كل مثَل من هذه الامثال؟
يشدّد مثل الزارع ومثل الزؤان على فاعليّة الزرع الذي يثمر لا محالة. ما إن تتّصل الكلمة (التي هي يسوع) بأرض العالم، حتى تنمو. قوى الشرّ تعمل، ولكنها لا تستطيع أن تتغلّب على ديناميّة الحياة التي وضعها في الانسان مجيء المسيح (8:16). ونهاية الأزمنة ستكشف كل ذلك بشكل ساطع.
ومثَل الخميرة الخفيّة في البشريّة منذ إنشاء العالم، ومثل حبّة الخردل التي تصبح شجرة كبيرة، يدلاّن على أن نموّ الملكوت يتجاوز كل ما يتوقّعه الانسان.
ويدلّ مثلا الكنز المخفى واللؤلؤة الثمينة على انقلاب الأوضاع لدى الذين يطلبون الملكوت: إنه يفرض عليهم التزاماً تاماً وتضحيات عديدة. ومثل الشبكة يُبرز الفصل الاخير بين ما هو صالح وما هو رديء، بين ما يتحّول إلى ملكوت وما يُرمى في الظلمة البرانية. وهذا الفصل يبدأ منذ اليوم بكلمة يسوع.
سأل التلاميذ يسوع لماذا يتكلَّم بأمثال (آ 10). فأجابهم يسوع أن لهم أعطي فهم أسرار الملكوت (آ 11). وفي النهاية قالوا إنهم فهموا (آ 51). ما الذي أعطي لهم، وماذا فهموا؟ في الواقع أدركوا أن الملكوت مسيرة لا رجوع عنها. ويسوع يدعو سامعيه دومًا لتجاوز أنفسهم. هو يطلب موقفًا عميقًا من السماع، لأن ملكوت السماوات ليس تعليمًا نكتنزه مرّة واحدة، بل هو نداء متواصل نتقبّله كل يوم وكأنه جديد. وحين نصل يبقى علينا أن نتابع الطريق.

خاتمة
كشف لنا ف 11-12 الجدال الحاضر في قلوبنا والحكم الذي بدأ يعمل عمله في حياتنا. دُعينا لنجتمع قرب "البحر" فسمعنا يسوع ورأيناه يزرع الكلمة. فليتورجيا الكلمة تجمعنا دومًا وتدعونا لكي نتقبّل فينا الزرع الذي هو يسوع. قد نودّ أن لا نتحرك. ولكننا نحسّ بدفع الحياة يحطّم القشرة التي فينا، ويخرجنا من ذواتنا. قد تكون قلوبنا قاسية. فيسوع ينزع القناع، فيتفجّر على شفاهنا طلب ملّح: "فسِّر لنا هذا المثل". وبنو الملكوت وبنو الشرير يتواجهون في وجداننا إلى أن نقبل في التزام كامل الجديد النهائي من ذاك الذي يقودنا إلى ملكوت الآب.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM