الفصل الثاني عشر: نداء وجواب

 

الفصل الثاني عشر
نداء وجواب
11: 12- 14

مع الحديث عن يسوع وسابقه بدأنا المرحلة السادسة في السرد المتّاوي. فإن ف 11-12 ينطبعان بالطابع الاخباري. هما امتداد ف 10 مع الخطبة الكنسيّة، وتهيئة لخطبة الامثال في ف 13. مفتاح هذين الفصلين هو: أعمال (2:11) يسوع خيّبت آمالَ معاصريه. وما كفت لتجعله يفرض نفسه كالمسيح. فالسابق نفسه عبّر عن شكوكه (3:11). والجليل وكفرناحوم والناصرة، رفضت أن تتوب (11: 10-24). عندئذ تحوّل يسوع إلى الصغار، إلى البسطاء، وكشف لهم ما لم يكشفه للحكماء، وأصحاب الدهاء (25:11-30).
كان فصل سابق عنوانه: يسوع وسابقه (11: 1- 11). شكّ يوحنا وارتاب بيسوع: هل هو المسيح؟ فإن كان كذلك فماذا ينتظر؟ أين الفأس على أصل كل شجرة لا تثمر ثمرًا جيدًا؟ أين المذرى لا تفصل التبن عن القمح وتحرقه (3: 10، 12)؟ وأرسل المعمدان وفدًا من تلاميذه. أجابهم يسوع مستندًا إلى أشعيا، داعيًا يوحنا إلى أن يفهم الاقوال النبويّة لئلاّ يعثر. وبدأ يسوع يمتدح يوحنا أمام الجموع. "هو أفضل من نبيّ... لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا". ويتابع يسوع كلامه فيقارب بين يوحنا وإيليا. ثم يتابع حكمَه في أبناء جيله، ويهدّد مدن البحيرة.
هذا ما ندرسه في هذا الفصل، وهو يبدو في ثلاثة مواضيع: كلام عن يوحنا (آ 12-15). حكم يسوع في أبناء جيله (آ 16-19). تهديد مدن البحيرة (آ 20- 24).

1- نظرة عامة
كان يسوع قد طرح على الجموع في اسلوب احتفاليّ، ثلاثة أسئلة. "ماذا خرجتم تنظرون في البريّة؟ أقصبة تهزها الريح؟ (السؤال الاول مع جوابه بشكل سؤال). والا فماذا خرجتم تنظرون؟ أإنساناً عليه ثياب ناعمة (السؤال الثاني وجوابه بشكل سؤال). ويرفض يسوع مثل هذا الجواب فيقول: "إن الذين عليهم الثياب الناعمة هم في قصور الملوك". ويأتي السؤال الثالث في الشكل عينه مع جواب بجوابين. "فلمَ اذن خرجتم إلى البرية؟ ألتروا نبياً؟ أقول لكم: أجل وأفضل من نبيّ" (7:11-9). وجاءت خاتمة أولى مع ملا 3: 1 وموضوع السابق (يهيّئ لك الطريق قدّامك).
وينطلق يسوع من جديد في كلام احتفاليّ أيضًا: "الحق أقول لكم"، فيحدّثنا عن "العظمة" (لم يقُم أعظم من يوحنا المعمدان). بعد ذلك، ترد آية تبدو وكأنها لغز (آ 12) حول ملكوت الله الذي يُغتصب. ويختتم متّى كلام يسوع في مقابلة لا ترد عند غيره بين إيليا يوحنا. وأخيراً: "من له أذنان فليسمع" (آ 15).
في المقطع الثاني (آ 16-19)، نقرأ مثلاً لا يشبه أي مثل آخر: صبيان جالسون في الساحات. وبعد تطبيق المثل على "هذا الجيل"، نقرأ كلامًا عن الحكمة التي تبرّرها أعمالها (آ 19).
وقبل أن نلقي نظرة الى المقطع الثالث (آ 20-24) وما فيه من تقريع للمدن التي عرفت أكثر عجائب يسوع، نودّ أن نشدّد على توسيعين اثنين" الاول، حول الملكوت. لقد تدشّن الملكوت بيسوع. ولكن يوحنا المعمدان ظلّ عند العتبة. لهذا يكون بين يسوع وتلاميذه من جهة، ونجين يوحنا المعمدان من جهة ثانية، انقطاعٌ تام وجديد وجذريّ. ولكن كيف يتمّ الدخول إلى الملكوت؟ يُغتصب، يؤخذ عنوة. بالقوّة. فعلى التلميذ أن يجاهد لكي يدخل في الباب الضيّق (لو 13: 24). عليه أن يجمع قواه الجسديّة والروحيّة ليدخل. هذا ما يسمّى عنف الأبرار. وأول عنف يمارسون، يكون ضد نفوسهم فيخسرون حياتهم لكي يربحوها. وقد يكون عنف الملكوت الذي يفتح طريقه في قلب كل انسان وفي قلب العالم. فهناك خصوم يسوع الذين يمنعون الناس من الدخول إلى الملكوت، وهو سيحارب، بسيف كلمته لا بالسلاح، على مثال الغيورين.
والتوسيع الثاني، حول الحكمة. هناك حكمة هذا الجيل (وأيّة حكمة: نحن هنا أمام كلام ساخر) التي "أبدعت" في أعمالها، فرفضت يوحنا المعمدان، ثمّ رفضت يسوع. هذه النتيجة تكفي لتدلك على حكمة هذا الجيل التي تشبه "حكمة" الصبيان في الساحات. وهناك حكمة يسوع نفسه الذي هو حكمة الله (42:12؛ 1 كور 1 :24). هذه الحكمة هي حكمة مخطّط الله الخلاصيّ الذي دلّت عليه أعمالُ يوحنا المعمدان وأعمال يسوع رغم معارضة "هذا الجيل". أجل، قال بولس الرسول: "ما هو جهالة عند الله أحكم من الناس" (1 كور 1: 25).
ونقرأ في آ 20-24 رثاء يسوع لمدن الجليل (رج لو 13:10-15). انتهى المقطع السابق (آ 19) بأعمال الحكمة، بأعمال يسوع، حكمة الله. وها هو مقطع آخر يحدّثنا عن هذه الاعمال التي هي "عجائب" (آ 20) المسيح. ومع ذلك، رفض الجليليّون أن يتوبوا. "ويل لك يا كورزين، ويل لك يا بيت صيدا"! جعل لوقا هذا النصّ بين التعليمات التي أعطاها يسوع إلى السبعين تلميذاً (لو 10: 1-16). أما متّى فجعله في إطار تعليميّ بعد أن ربطه بالنداء إلى الايمان والتوبة.

2- دراسة تفصيلية
أ- البنية
نتوقّف هنا عند الفصل كله (11: 1- 30). إن 11: 1-19 يُقدّم ثلاث مقطوعات ترتبط كلّها بيوحنا المعمدان (آ 2-6؛ آ 7-15؛ آ 16-19). وكانت ثلاثة أسئلة أجاب عليها يسوع بنفسه، عائدًا مرّتين إلى الكتب المقدسّة (11: 5، 9؛ أش 35: 5-6؛ ملا 3: 1) وذاكرًا قولاً مأثورًا (آ 17): "زمّرنا لكم فلم ترقصوا. ونُحنا فلم تلطموا".
إن الاسئلة في آ 2-6 و7-9 تشير إلى هويّة يسوع، ثمّ إلى هويّة يوحنا المعمدان. أما آ 16-19 فتقدّم جوابًا على السؤال الثالث، وتسجّل جواب "هذا الجيل"، حول يسوع الذي هو المسيح، وحول يوحنا الذي هو إيليا.
وكيف ترتبط آ 2-19 بما تبقّى من ف 11؟ في ف 11، يقدّم لنا الكاتب نظرة سريعة إلى عمل المسيح في ثلاثة أقسام. يُنظر إلى عمل المسيح في علاقته بالمعمدان (آ 2-19). بالنظر إلى الفشل الظاهر الذي عرفه (آ 20-24). بالنظر إلى النجاح الحقيقيّ مع الاطفال والمتعبين والمثقلين (آ 25- 30). وهكذا تكون آ 12-19 مثلّث داخل مثلّث. وسنقول الشيء عينه عن 25:11- 30 التي ترد أيضًا في ثلاثة أقوال ليسوع.
ب- المراجع
أولاً: إن 2:11-19 يشبه لو 7: 18-35 حتى على مستوى الألفاظ المستعملة وترتيب الأقوال. أما الاختلافات الكبرى فهي: لا شيء في مت يقابل لو 20:7- 21، 29-30. ومن جهة ثانية، لا شيء في لو يقابل مت 11: 14-15. ثم إن ما يوازي مت 11: 12-13 يظهر في لو 16:16. كل هذا يجعلنا قريبين من المعين. مت 11: 2- 19= لو 8:7-39 يستعيد كتلة واسعة من مواد المعين. أما أن لا نجد في مت، لو 7: 20- 21، 29- 30، فنفسّره بميل متّى إلى الاختصار (وهذا واضح بشكل خاص في تعامله مع مر). أو بإمكانية تقول إن لوقا قد دوّن هذه الآيات انطلاقًا من تقليد شفهي عرفه. أما إن ترك الانجيلُ الثالث مت 11: 14-15، فقد توخّى أن يعمل حسب ما قاله في مقدِّمته من دقّة وترتيب. أما النص اللوقاوي الموازي لما في مت 11: 12- 13 فنجده لا في لو 7 بل في لو 16. فهدف متّى أن يجعل في موضع واحد كل ما قاله المعين عن يوحنا المعمدان.
ثانياً: لا نجد في مر ما يوازي مت 11: 20-24. أما التوازيات اللوقاويّة فتبدو كما يلي: مت 11: 20= لا شيء؛ مت آ 21= لو 10: 13؛ مت آ 22= لو آ 14؛ مت آ 23 أ= لو آ 15؛ مت آ 23 ب= لاشيء؛ مت آ 24= لو 10: 12. هناك مسائل عديدة تُطرح في المعين. هل يظهر "الويل" بعد خطبة الرسالة (مت 10) أو كجزء من هذه الخطبة (لو 10)؟ أي ترتيب هو الأصيل، ترتيب مت أم ترتيب لو؟ هل قط 11: 20، 23 ب (الذي لا يوجد في لو) هو من تدوين مت، أم أنه وُجد في المعين وأغفله لو؟
من أجل هذه التساؤلات نقدّم الملاحظات التالية: (1) إن لو 10: 13- 15 قد دوّنه لو أو مرجع خاص بلوقا. فإن هذه الآيات تقطع سياق الخطبة الموجّهة إلى السبعين مع كلام يوجّه إلى كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم. وتبدو مُقحمة بين لو 10: 12 و10: 16. ويبدو أن هذه الآيات الثلاث (آ 13-15) قد وُضعت هنا (بيد لو أو سابقه) بعد 10: 12 بسبب توارد الألفاظ (أهون مصيرًا، أنكتوتارون استاي). وهذا يعني أن لو 13:10-15 وز لم ينتم في الأصل إلى خطبة الرسالة في المعين. (2) وهناك اعتبار آخر يُسند هذه النتيجة التي وصلنا إليها. إذا كان ترتيب لو 10: 13- 15 و16 قد تبدّل، وبالتالي عاد بنا إلى ما قلنا إنه نصّ المعين الاصلي، عندئذ تظهر مواد لوقا المأخوذة من المعين في ذات الترتيب الذي نجده في الانجيل الاول: خطبة الرسالة، الويلات، صلاة الشكر إلى الآب. وهذا ليس من قبيل الصدف. (3) ونعود إلى مت 11: 20، آ 23 ب. تبدو آ 23 ب وكأنّ مت دوّنها. فهي تكمل التوازي بين 10: 21- 22 وآ 23-24 وكلّنا يعرف محبّة مت للتوازيات. وقد تكون آ 20 هي أيضًا من تدوين مت. فنحن بحاجة إلى انتقالة بعد 11: 16-19. ثم إن ألفاظ 11: 20 هي ألفاظ مت ونحن نجدها في 11: 21-23 أ. (4) حين ننظر إلى الاختلاف في الترتيب بين مت 11: 20-24 ولو 10: 12- 15 (مت 11: 24= لو 10: 12)، نرى أنه في الواقع بسيط. فنحن نجد في مت لا نصًا واحدًا بل نصين يوازيان لو 10: 12. هما مت 10: 15 و11: 24. والنصّ الأول يرد عند متّى في الخطبة الموازية لخطبة لوقا (لو 10: 2-12 وز). ومت 11: 24 قد استلهم حين دُوّن، 10: 15= لو 10: 12. بدّل مت موقعه من أجل التوازي بين أقوال وُجّهت إلى كورزين وبيت صيدا، وأقوال الويل التي وُجهّت إلى كفرناحوم.
وخلاصة القول: في المعين، بدا موقع لو 13:10-15 بين خطبة الرسالة وصلاة الشكر (لو 10: 21-24). احتفظ بترتيب المعين (خطبة الرسالة، الويل، صلاة الشكر)، غير أنه لم يستعد المعين كما هو. بل أدرج مواد بين خطبة الرسالة والويلات (ومنها ما يتعلّق بيوحنا المعمدان). وجعل قبل الويلات مقدمة (11: 20)، وأضاف كلامًا ضدّ كفرناحوم (هو في الأصل 23:11 أ) بحيث عكس هذا الكلام تقريع كورزين وبيت صيدا.
ج- التأويل
نبدأ هنا مع 11: 7 وشهادة يسوع ليوحنا المعمدان. فهذا المقطع (آ 7- 15) يتضمّن مواد مأخوذة من قسمين في المعين (رج لو 7: 24-28؛ 16:16)، وممّا ألّفه متّى نفسه (آ 14-15). يبدأ بثلاثة أسئلة يطرحها يسوع ويقدّم الاجوبة: يوحنا صورة أشار إليها ملا 3: 1 (آ 10). هو أعظم مواليد النساء (آ 10). هو على مفترق في تاريخ الخلاص (آ 12-13). هو إيليا (آ 14). وتنتهي هذه القطعة بتحريض على السماع (آ 15).
يبدو أن 11: 7- 9 كانت الوحدة الاصليّة، وزيدت عليها آ 10 (إيراد كتابيّ) وآ 11 (قول مستقلّ، لم يقم في مواليد النساء) عن تقليد سابق لمتّى. بعد ذلك أضاف متّى نفسه آ 12-15. نحن لا شكّ في هذه الواقعة التي ذُكرت في حياة يسوع. كما نرفض القول إننا أمام هجوم على يوحنا المعمدان، بل إن النصّ يعظّم يوحنا ولا يقول شيئاً عن يسوع. ونبدأ تفسيرنا مع آ 11.
3- تفسير الآيات
أ- ليس اعظم من يوحنا (آ 11)
يبدو أن آ 11 كانت قولاً منعزلاً وجُعل في هذا السياق. فهو يكفي ذاته بذاته (رج انجيل توما 46). وحين أضيف إلى آ 7-9 (ثم 10)، بدت الاضافة طبيعيّة. "وأنا أقول لكم" تبدو متعثرّة إن جاءت حالاً بعد: أجل، أقول لكم (11: 9 وز). وإن آ 11 ب خلقت انشدادًا مع مديح رفيع جدًا قرأناه في آ 7-9 وز (بيد أن الاصغر في ملكوت السماوات).
هناك أسباب تجعلنا نقول بوحدة آ 11 وصحّة نسبتها إلى يسوع. فإن آ 11 أ لم تتبع في الاصل آ 9 أو آ 10. وبما أن آ 11 ب لم تكن وحدها، وبما أن آ 11 أ وآ 11 ب هما في توازن متعارض، فقد قيلتا في وقت واحد. لا شكّ في أن يسوع قال ما قال في يوحنا. فأي مسيحيّ يجسر في صراع جماعة يوحنا مع جماعة يسوع، أن يرفع يوحنا إلى هذه المرتبة، لو لم يفعل يسوع؟
"الحق أقول لكم: لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (آ 10). ق لو 28:7. ورد في المعين "يوحنا". اما مت فزاد دائماً صفة "المعمدان" (17: 13؛ رج 3: 1 # مر 1: 4؛ 14: 2 # مر 6: 14). "مواليد النساء" هي عبارة ساميّة (نقول إن كنت ابن امرأة، تجاسر). استعمل فعل "اغايرو" عن الأنبياء، رج 24: 11، 24؛ يو 7: 52. هو فعل "ق م" في العبرية (إر 29: 15؛ عا 2: 11).
"الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه"، ق زك 8:12 (يكون بيت داود مثل الله. مثل ملاك الرب أمامهم). نقرأ في لو 7: 28: "ملكوت الله". هناك تواز بين آ 11 أ وآ 11 ب. قالت آ 7- 11 أ إن يوحنا هو أعظم مواليد النساء، وها هي آ 11 ب تقول إنه أقلّ من الاصغر. في هذا المجال صارت عظمة يوحنا لا شيء أمام عظمة الملكوت.
ما معنى آ 11 ب؟ ما معنى "الاخير (او الاصغر) في ملكوت السماوات"؟ هناك خيارات ثلاثة. (1) اعتبر يسوع (في تواضعه) نفسَه أصغر من يوحنا، أنه تلميذ يوحنا، فتكلّم عن نفسه. قال يوحنا الذهبيّ الفم إن البعض يماهون بين "الاصغر" والملائكة أو الرسل مثل امبروسيوس مثلاً في شرحه انجيل لوقا (7: 27). أما هو فتحدّث عن تنازل يسوع (أويكونوميكوس، عظة حول مت 37: 3). (2) الاصغر في ملكوت السماوات يعني كل انسان في الملكوت حين يأتي. في هذا الاطار، لا يُقابل يسوعُ بين مواليد النساء، مع يوحنا على رأسهم، ومجموعة أخرى من الرجال يكون الاصغر بينهم أعظم من يوحنا. هو يقابل بين الحالة الحاضرة حيث هو أعظم الرجال، والحالة المقبلة حيث هو الاصغر في الملكوت الآتي. وبعبارة أخرى: الاصغر في الملكوت هو أعظم من الأكبر الآن. هذا التفسير لا يستبعد يوحنا من الملكوت. (3) الاصغر في الملكوت يعني أي انسان هو الآن في ملكوت السماوات. فكما قاد موسى بني اسرائيل إلى حدود أرض الميعاد دون أن يدخل اليها. كذلك قاد يوحنا تبّاعه إلى عتبة النظام الجديد الذي دشّنه يسوع، ولكنه لم يدخل اليه. هذا التفسير الذي يستبعد يوحنا من الملكوت الحاضر هو الاكثر شعبية بين الشرّاح المعاصرين.
وهناك بعض الآباء يقابلون بين المسيحيّين الذين لم يولدوا من لحم ودم، بل من الله، وبين يوحنا الذي هو "مولود المرأة" كما قال سفر أيوب. ماذا نقول في هذه التفاسير؟ لا يمكن أن يكون يسوع هو "الأصغر" في نظر مت. ثم إن الملكوت هو حاضر الآن وسيأتي. لهذا يبقى التفسير الثاني هو الأقرب إلى المعنى. إن يوحنا الذي نادى بالملكوت قد دخل الملكوت. هو أعظم من نبيّ. وقد جاء بعد "الانبياء والشريعة" (13:11).
ب- ملكوت السماوات يغتصب (آ 12)
إن 7:11- 11 كان مقابلاً لما في لو 7: 31-35 بعد أن ضُمّ إليه 11: 16- 19 (في المعين). وهكذا صارت آ 12-13 في موضع آخر (حتى لو 16:16). جاء متّى بهاتين الآيتين ليجعل كل أقوال يسوع في المعمدان في موضع واحد. في لوقا، ما يوازي مت 13:11 يأتي قبل النصّ الذي يوازي 11: 12. لوقا هو الذي حافظ على ترتيب المعين، لا متّى.
"ومن أيام يوحنا المعمدان حتى الآن ملكوت السماوات يُغتصب، والمغتصبون يأخذونه عنوة". بدا لو 16: 16 ب مختلفًا جدًا: "ومنذئذ يبشَّر بملكوت الله، وكل يجتهد في الولوج إليه". بدا متّى أقرب إلى المعين من لوقا. هناك "يُغتصب" في مت، و"يُبشَّر" في لو. بما أن اهتمام لوقا بالبشارة معروف، فقد رأى الشرّاح أنه أعاد كتابة نص متّى. قال مت: "منذ أيام يوحنا المعمدان". وقال لو: "منذئذ". هذا يعني أن يوحنا ينتمي إلى الملكوت (مت 16:2؛ 24: 21= منذئذ ضمنًا. وعكس ذلك 26: 29).
عاش يوحنا ويسوع في الزمن عينه. وزمن يسوع الذي هو زمن الملكوت، يتضمّن أيام يوحنا. وإذا قرأنا مت، وجدنا توازيًا بين نشاط يوحنا ونشاط يسوع. هذا يعني أن الاثنين انتميا إلى حقبة واحدة من تاريخ الخلاص. وفي 9:11 جعل يسوعُ يوحنا أعظم من نبيّ. جعله في حقبة جديدة تأتي بعد حقبة الشريعة والانبياء (11: 14-15). إذن، يُعتبر المعمدان أول المنادين بالملكوت كما قال يوحنا الدمشقي في كتابه "الايمان الاورثوذكسي" (4: 15).
إن مت 12:11 وز صعب التفسير. فنسخة مت ونسخة لو اختلفتا منذ البدء، بحيث بدا المعنى بين الواحد والآخر متضاربين. وها نحن نقدّم سلسلة من تفاسير هذه الآية. (1) من جهة، يأتي الملكوت فيعمل وينمو في ذاته، فلا يحتاج إلى مساعدة الانسان. ومن جهة ثانية "يستولي" عليه الانسان عنوة إذا قرّر ذلك وأمسك به بكل قوته. الشريعة والانبياء قد أنبأوا به، أما يوحنا فهيّأ الطريق له. أما الآن، فيستطيع الانسان أن يربحه، أن يشارك فيه. هذا تفسير آباء الكنيسة مع تشديد على الروح النسكيّة والتجردّ من أجل الملكوت. (2) لا علاقة لهذا القول مع دخول الانسان إلى الملكوت. بل هو يعني أنه منذ مجيء المعمدان، جاهد الناس للدخول في الملكوت. هم جيش التائبين الذين استولوا عليه من يد الله بحيث يأِتي في كل وقت. (3) هناك عودة إلى موت المعمدان ونظرة إلى آلام يسوع وتلاميذه. والحديث عن الملكوت في هذه الآية يشير إلى الحرب الاسكاتولوجيّة بين الله وقوى الشرّ، ويفسَّر مصيرُ يوحنا المعمدان والمصير المقبل ليسوع وتلاميذه ككشف لهذا الصراع. وبعبارة أخرى، تفسّر آلامُ يوحنا والقديسين بعده في "ويل" مسيحانيّ أو ضيق اسكاتولوجيّ في الأيام الأخيرة. (4) العنيف (أو: المغتصب) هو يسوع وتبّاعه الذين يعملون بوجه معارضيهم. أخذ يسوع هذه التسمية واستعملها بشكل إيجابي: إن الخطأة يغتصبون الملكوت. (5) يتحدّث النصّ عن الفريسيين الذين يهاجمون الملكوت إذ يجعلون الشعب يبقى خارجه (23: 13). (6) المغتصب هو الشيطان وقوى الشرّ التي تهاجم الملكوت. (7) المغتصبون هم الغيورون أو إحدى المجموعات المتعصّبة.
قدّمنا هذه التفاسير المتعدّدة وأعطينا رأينا في النظرة العامة حين تحدّثنا عن الملكوت. هناك صراع بين قوى الشرّ وقوى الخير. وقد بدأ هذا الصراع منذ الآن. بل هو قد بدأ في مقتل يوحنا المعمدان وستكون ذروته في صليب يسوع. ويكون له امتداد في الاضطهادات التي ستلقاها الكنيسة الأولى، بل الكنيسة في كل زمان.
ج- يوحنا وإيليا (آ 13- 15)
"فجميع الانبياء والناموس تنبّأوا إلى يوحنا". ق لو 16: 16 أ الذي يقرأ: "بقي الناموس والانبياء إلى يوحنا". عبارة لوقاويّة. أما عبارة مت "الانبياء والناموس" فليست بعادية (يُذكر الناموس أو الشريعة أولاً) (5: 17). قلب الانجيليُّ الاول الترتيب المعروف، ليشدّد على الناحية النبويّة في الكتب المقدسة (في 17:5 زاد الانبياء. في 9:11 يوحنا هو نبيّ. وفي 18:5 الشريعة هي مجموعة نبويّة). وزاد مت "جميع" مع فعل "تنبّأ" الذي يستبعد تفسيرًا متعارضًا: لم يخسر الأنبياء والشريعة قوّتهم الآمرة. ولكن نبوءتهم عبرت إلى يسوع. حين قرأنا آ 12 اعتبرنا يوحنا داخل الملكوت. في آ 13 نراه خارج زمن الناموس والأنبياء. وبما أن آ 13 هي توضيح آ 12 (مع "غار")، فهذا يعني أنها تجعل يوحنا في الزمن الجديد.
هناك من اعتبر مع آ 13 أن يسوع ألغى سلطة موسى (سلطة الشريعة) حين قال: "كانت الشريعة والأنبياء حتى يوحنا". مثلاً قال ترتليانس: "توقّف ثقلُ الشريعة مع يوحنا". واعتبر أن بعض الناس يستعملون هذه الآيات ليهملوا شريعة العهد القديم (في الصوم، 2). نحن هنا في موضوع ملكوت الله الذي بدأ. أما دور الشريعة فيه، فسؤال لم يُجب عليه مت 11: 12-13 وز.
في آ 14 نفهم رأي مت في يوحنا: إنه إيليا وقد "عاد حيًا". "إن شئتم أدى تفهموا". ما سيقوله يسوع هو أمر جديد. هل أنتم مستعدّون أن تقبلوه؟ "إيليا المزمع أن يأتي". ق 17: 12-13. إن لفظة "الآتي" (3: 11؛ 11: 3) هي لقب عند مت. قد يكون يوحنا ظنّ أنه ايليا (3:3-4). ويسوع قد قابل بين الاثنين (7:17-9). هناك من استعمل هذا النصّ للتحدّث عن "التقمّص" (عاد إيليا في جسد يوحنا المعمدان من أجل حياة جديدة)، وهذا منذ أيام ترتليانس في كتابه "النفس" (35). هنا نقول إن التقليد اليهودي لم يعتبر أن إيليا قد مات بل بقي حيًا. ثم إن التقمّص أمر غريب على التقليد اليهوديّ. يوحنا هو إيليا بمعنى أنه أخذ المشعل وتابع وظيفة إيليا "بروح إيليا وقوّته" (لو 1: 17).
"من له أذنان فليسمع" (آ 15). نجد هذا الامر في تقليد يسوع، وهو ينتقل من سياق إلى آخر. هو تنبيه يدلّ على خاتمة المقطوعة أو على وحدة أدبيّة جديدة. هنا نفهم أن مقطوعة انتهت (7:11-15) ومقطوعة أخرى ستبدأ (آ 16-19). وهذا الأمر يعود بنا إلى نصوص الانبياء التي تتحدّث عن شعب له آذان ولا يسمع (أش 6: 9؛ إر 5: 21؛ حز 12: 2). مرمى الآية: لا يكفي أن تكون لنا أذان لكي نسمع ونفهم. بل هناك انتباه داخلي، تركيز، تمييز.
د- بمن أشبّه هذا الجيل (آ 16-19)
مع هذا المقطع أوقف مت الكلام عن يوحنا المعمدان. وكان منطقيًا في ترتيبه. فهويّة يسوع (آ 2-6) دلّت على كرامة يوحنا وسلطته (آ 7- 15). وهكذا تواجهَ القارئ مع حقيقة يسوع، ثم مع حقيقة يوحنا. فكيف تقبّل معاصرو يسوع هاتين الحقيقتين؟
يبدو أن آ 16-19 تشكّل وحدة، وأنها تعود إلى الرب نفسه (1) وُضع يسوع ويوحنا الواحد بجانب الآخر، فلم يعظَّم واحد على حساب الآخر. (2) كيف يستطيع المسيحيّون أن يقولوا عن يسوع إنه "أكول، شروب للخمر"؟ (3) اعتاد يسوع أن يأخذ كلام خصومه فيحوّله معهم إلى شيء إيجابي (رج 19: 12. يحوّل الشرّ إلى خير). وهكذا وقف في خط الانبياء الذين يوردون كلام الآخرين لكي يردّوا عليه. (4) هناك عبارات ساميّة واضحة.
"ولكن بمن أشبّه هذا الجيل" (آ 16)؟ ق لو 7: 31: "بمن أشبّه رجال هذا الجيلُ"؟ نجد فعل "هومويوو" (شبّه). "هومويوس" (شبيه). قبل الامثال، يتحدّث يسوع عن معاصريه ومعاصري يوحنا. ولفظة "الجيل" تعود إلى الشعب في البرّية (تث 1: 35؛ 32: 5، 20). في التعليم الرابيني، هذا الجيل هو جيل الطوفان. سوف نرى أن لو 17: 22-23 ومت 24: 34-44 يقابلان زمن يسوع بزمن نوح. ق مر 38:8؛ 9: 19؛ 12: 39؛ ثم مت 17: 7= 9: 41 في علاقة مع جيل البريّة. إنّ جيل يسوع صار خاطئاً حين رفض يسوع.
"يشبه صبياناً جالسين في الساحات يصيحون بآخرين". ق لو 7: 32. "ينادون وليس من يسمع. غنّينا لكم فلم ترقصوا...". ذاك هو وضع يوحنا ويسوع. ما أردتم أن ترقصوا. ما أردتم أن تلطموا الوجوه حزنًا. يوحنا المتنسّك والمنادي بالدينونة، دعا إلى الحزن والتوبة. ويسوع أعلن الفرح وحضور الملكوت، ودعا الآخرين لكي يدخلوا معه. غير أن الدعوة وجدت آذانًا صمّاء، فبدل التوبة والبكاء أو الفرح، فضّل الشعب أن يتجاهل مرسلي الله. فبأيّ وجه يستطيع نداءُ الله أن يصل إليهم؟ هناك "اوليو" الذي لا يرد في السبعينية (زمّر). و"ترينيو" (غنّى) اللذان يردان مرّة واحدة في مت.
"اورخيوماي" (رقص) يرد في 14: 6 (= مر 6: 22) مع ابنة هيرودية. "كوبتو" (ناح، لطم الوجه) في 8:21= مر 8:11)؛ 24: 30.
"جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب" (آ 18). ق 4:3؛ لو 33:7 (لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا). رج تث 29: 6 (الخبز يعني الطعام، والخمر الشراب، رج تك 18:14). هناك تعارض بين من يأكل ومن لا يأكل. رج أش 13:22؛ مت 38:24، 49؛ 1 كور 15: 32. "فيه شيطان"، في يوحنا شيطان كما في يسوع (22:12-32). كل شيء فيه يشير إلى ذلك. كما قالوا. "وجاء ابن الانسان" (آ 19). ابن الانسان هو لقب كرستولوجيّ. رج مت 20: 28= مر 10: 45؛ لو 9: 56. "يُحبّ العشّارين والخطأة". ق 9: 11. نجد في إكلمنضوس الاسكندراني عبارة غريبة في "الموشّيات" (3: 6): "محبّ العشّارين وخاطئ". فماذا نستطيع أن نقول بعد ذلك؟ كان يوحنا قاسيًا مع الخطأة فرفضتموه. كان يسوع محبًا للعشارين والخطأة فلم ترضوا به. تلك كانت حكمة الله وأنتم رفضتموها. قدّم المسيحُ الذي هو حكمة الله كلَّ هذه الاعمال، ولكنكم لم تؤمنوا. ليست الحكمة هي التي اخطأت في عملها ولا يسوع. فاللوم على الذين لهم آذان ولا يسمعون. وإذا حوكمت الحكمة لأنها لم تحمل اسرائيل إلى الايمان، فستجد ما يبرّرها. أعمالها التي هي أعمال يسوع، هي التي تشهد.
هـ- ويل لمدن الجليل (آ 20-24)
نجد في هذا المقطع (1) انتقالة تركّز المشهد على "المسرح" وتبدو بشكل مقدّمة (2) لقول نبويّ يحمل الويل إلى كورزين وبيت صيدا (3) وويل يوجَّه إلى كفرناحوم. إن القولين النبويين متشابهان، وهما يبدوان في شكل واحد (أ) النداء (آ 21 أ، 23 أ). (ب) توجيه التهمة (فرضية مع "لو" وجواب، آ 21 ب ج. آ 23 ب ج). (ج) الحكم (مقابلة مع مصير مدن أخرى. آ 22: 24). أما النموذج الذي استقى منه الانجيل فنجده في العهد القديم (أش 5: 11-17؛ 29: 15- 21؛ 33: 1؛ مي 2: 1-5؛ حب 9:2- 11. ق أخنوخ 8:94؛ 95: 7؛ 96: 4، 8؛ 98: 9- 11؛ 100: 7-9). وهناك "الويل" في مت 23 الذي يختلف بعض الشيء. هناك النداء والتهمة. ولكن لا نجد الحكم (رج أش 18:5-23).
في المعين اجتذب "الويلُ" خطبةَ الرسالة. وإن وُضع جزء بالقرب من الآخر، فلكي يهيّئ المرسلين للرفض الذي يلاقيهم. ولكن إن يكن الامر هكذا، فهذا يعني أن متّى لم يتّبع خطّ المعين. فالويل في الانجيل الأول ينتمي إلى مجموعة موضوعُها قرار نتّخذه مع يسوع أو ضدّ يسوع. وهكذا فإن آ 20- 24 تحمل خيبة الامل التي تسجّلت في نهاية آ 16-19، وهي وحدة موضوعُها رذْلُ "هذا الجيل" ليوحنا ويسوع. وهذا ما يدلّ على التعارض مع المقطوعة التالية التي تتحدّث عن الذين قبلوا يسوع (11: 25-30).
"عندئذ طفق يقرعّ المدن التي أجرى فيها أكثر عجائبه" (آ 20). ق يو 12: 37 (مع أنه صنع أمامهم آيات كثيرة، لم يؤمنوا). نحن هنا أمام مكلتا، أي شرح على خر 15: 16 (كان باستطاعة أهل سدوم أن يتوبوا، ولكنهم لم يتوبوا)." اونايديزو": وبّخ، قرعّ. "ديناميس" (غبورا في العبرية): قوّة، أعماله قوّة. ق 11: 21= لو 10: 13. هذه المدن المذكورة هنا هي مدن يهوديّة (10: 5- 6). والموضوع هو رفض اليهود ليسوع. بعد أن دعاهم يسوع إلى التوبة، فالذين رفضوا أن يتوبوا أخطأوا في عصيانهم له.
وما يلي من آيات هو مقدمّة للدينونة الاخيرة. "ويل لك يا كورزين" (آ 21). رج لو 13:10. كورزين هي خربة كرازة التي تبعد 3 كلم عن كفرناحوم "(تل حوم). تُذكر مرة واحدة في العهد الجديد. بيت صيدا هي بيت الصيّاد. مدينة حُدّد موقعُها شمالي بحر الجليل. هي اليوم خرائب "التل". رج مر 6: 45؛ 8: 22؛ لو 9: 10؛ يو 1: 44؛ 12: 21. هي "جوليا" المدينة التي سمّاها فيلبس على اسم ابنة الامبراطور أوغسطس. لم يقل لنا متّى المعجزات التي صنعها يسوع في هاتين المدينتين. كما لم يقل لنا إن بعض تلاميذ يسوع جاؤوا من بيت صيدا (رج يو 1: 44؛ 12: 21). يقول يوحنا الذهبيّ الفم إن يسوع ذكر بيت صيدا لأن بعضاً من تلاميذه كانوا منها (أتراهم تركوها كما ترك لوط سدوم؟ أم كان هناك بعض توبة؟).
صور وصيدا مدينتان مهمّتان جداً على ساحل البحر المتوسط. يهاجم أش 23 الأولى، وحز 28 المدينتين، فيهدّدهما بدينونة الله. مدينتان اشتهرتا بالغنى الكثير، فوبّخهما القول الالهي على تكبّرهما. وهما تُذكران معًا (مثل سدوم وعمورة) في مجال التنبيه من الدينونة. رج إر 25: 22؛ 27: 3؛ 47: 4؛ يوء 3: 4؛ زك 9: 1-4؛ 1 مك 15:5؛ يه 28:2. ونجد المدينتين ايضًا في مت 15: 21؛ مر 8:3؛ 7: 24؛ لو 17:6؛ أع 12: 20، يوسيفوس في العاديّات 8: 320؛ 15: 95. إعلان قويّ لانه يقابل بين مدن يهوديّة ما تابت، ومدن وثنيّة أخذت طريق التوبة. بل إن صور وصيدا كانتا رمزاً إلى كل مدينة وثنيّة.
"إن صور وصيدا ستكونان أهون مصيراً منكما في يوم الدينونة" (آ 22). رج 15:10 حيث يقول يسوع إن مصير "تلك المدينة التي لا تقبل الرسل، سيكون أصعب من مصير سدوم وعمورة في يوم الدين". نجد "بلين"، أجل نعم. وقد تقابل "الحقّ الحقّ". رج 10: 15. "وأنت يا كفرناحوم" (آ 23). ق لو 10: 15؛ أش 13:14 حسب السبعينيّة: "قلتَ يا ملك بابل: سأرتفع إلى السماء" (هـ- ش م ي م. هـ ا ع ل هـ). ق حز 20:26؛ عا 2:9؛ عو 4؛ مزامير سليمان 1: 5. حسب مت، كفرناحوم هي مدينة يسوع (مدينته 9: 1). سيكون العقاب على لاتوبتها كبيراً. وهذا ما يدلّ على صحّة القول: "لا يكرّم نبيّ في وطنه" (13: 57). غير أن هذا الكلام القاسي لم يمنع يسوع من العودة إلى كفرناحوم (17: 24). لم يقل يسوع هذه "الويلات" على المدن اليهوديّة لكي "يغسل يديه"، بل ربّما ليدعوها إلى التوبة، لأنه لم يفقد كل أمل بالنسبة إليها. سيأتي وقت يقول فيه لليهود: "سيُترك لكم بيتكم خرابًا". ولكن يبدو أن هذا الوقت لم يأت بعد.
كيف "ارتفعت" كفرناحوم؟ هل لأن يسوع أقام فيها؟ هل بسبب موقعها الجغرافي، أو ازدهارها، أو تكبّرها؟ ربّما بسبب تكبّرها كما في أش 14: 13. وعلى كل حال، نحن في فرضية: حتّى لو ارتفعت! "سيُهبط بك إلى الجحيم". أي الشيول أو مثوى الاموات. لا جهنّم والهلاك الابدي. وهنا نحن أمام تعارض بين الارتفاع إلى السماء، إلى الأعلى، والهبوط إلى أسفل الأسافل.
"ولذلك فإني أقول لكم" (آ 24). ق لو 10: 10؛ مت 15:10. غير أن آ 24 تشبه هنا شبهاً بعيداً ما قيل عن كورزين وبيت صيدا. قال بولتمان إن هذه "الويلات" قد عبّرت عنها الجماعة، لا يسوع. ولكن الجماعة لم تبشّر في هذه المناطق، بل إن يسوع صنع فيها أكثر عجائبه، ولهذا نفهم تهديداته لها في إطار رسالة يسوع في الجليل. وإذا كانت الكنيسة الأولى قد رددتها، فلكي توبّخ كل مدينة حملت إليها إنجيل المسيح (10: 15).
ماذا تقول لنا آ 21-23 أ عن يسوع؟ حمل يسوع إنجيله وهو يرجو أنه سيُسمع. ولكن كانت النتيجة أن هذا الجيل رفض أن يؤمن به. عند ذاك، واذ رأى يسوع ان أعماله العظيمة لم تولّد التوبة، خاب أمله. هذا النصّ هو شهادة عن هذا الأمل الضائع. فقد حكم على كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم، لأنه انتظر منها شيئًا، انتظر ثمرًا. هذا ما نسمّيه "أزمة الجليل". ترجّى يسوع تجديدًا. فلم يحصل على شيء. هنا نفهم عودته إلى العهد القديم وتشديده على الناحية الاسكاتولوجيّة.

4- قراءة إجمالية
أ- شهادة يسوع عن يوحنا المعمدان (آ 12- 15)
قال يسوع ما قال في خطّ ما اكتشفه الشعب. قال إن يوحنا نبيّ عظيم، لم تلد النساء مثله. بعد هذا كان قول بشكل لغز وضعه المؤلف هنا (لا شكّ في أنه كان قولاً مستقلاً، وكان يمكن أن يُوضع في مكان آخر). واستعاده لو 16: 16 ولكن في سياق آخر وبألفاظ أكثر وضوحًا. ما هي أيام يوحنا؟ هي الحقبة التي فيها كان يعظ ويعمّد. "حتى الآن"، أي حتّى الوقت الذي فيه بدأ يسوع بشارته، وربّما حتى الوقت الذي فيه دوّن متّى إنجيلَه (23: 29؛ 26: 29، 64). وتابع يسوع كلامه في قول آخر لا يرتبط ظاهراً بما سبق ولا بما يلي. فيقول: مع يوحنا المعمدان انتهى زمن النبوءة. فلا تنتظروا بعده من يحدّثكم عن المسيح الذي يأتي.
والبرهان على أن يوحنا المعمدان هو النقطة الاخيرة في زمن الانبياء، نجده في المقابلة مع ايليا حسب ملا 23:3: "ها أنا أرسل إيليا النبيّ قبل أن يأتي يومي العظيم الرهيب". لقد تسلّم المعمدان رسالة هي وظيفة إيليا في الأزمنة الاخيرة. وقال يسوع: "إن شئتم أن تفهموا". ولكن اليهود لا يريدون أن يفهموا (رج آ 16-19). هنا نجد فعل "تالاين" الذي يميّز السرد المتّاوي. فقبول يسوع كالمسيح، ويوحنا كإيليا، يرتبط بالارادة (إن شئتم)، لا بالعاطفة أو البراهين العقليّة (24:16-25؛ 18: 30). هنا يلتقي مت مع يو (يو 5: 40؛ 6: 67؛ 7: 17) حول القرار الحاسم الذي يتّخذه الانسان في وجهة محدّدة، في الطريق التي رسمها يسوع.
ب- حكم يسوع في بني جيله (آ 16- 20)
هذا "الجيل" يقابل الجموع (آ 7). يقابل معاصري يسوع ومعاصري الانجيلي متّى الذين رفضوا أن يؤمنوا بالمسيح. وقد ارتدت هذه اللفظة معنى هجومياً في مت: هو الجيل الذي ما أراد أن يؤمن. هي قضيّة إرادة لا قضيّة جهل (12: 39، 41: 17: 17). وبنية المثل الذي يصوّر هذا الجيل، تبدو غير عادية: فالعنصر الامثالي (آ 16-17) وتطبيقه (آ 18-19) قد وُضعا في شكل متواز. إن هذا المثَل ينطبق بشكل معبّر على ما سبق: ما فهم اليهود يوحنا. إذن لن يفهموا يسوع. هم لم يفهموا يسوع فكيف يفهمون يوحنا؟ طُلب منهم مع يوحنا أن يتوبوا، وهو آخر الانبياء الذين سبقوا يسوع. وطُلب منهم مع يسوع أن "يرقصوا" معه لأنه يدشّن ملكوت الله، ملكوت النعمة والمجد. غير أن هذا الجيل لا يفعل أبداً ما يجب أن يُفعل في الوقت المؤاتي: يندبون في العرس ويرقصون في الجنازة. هذا هو الشكل المأساوي لرفضه وارتيابه.
نلاحظ هنا ظهور يوحنا وظهور يسوع اللذين يشبّهان بالنفخ بالمزمار والغناء الذي يدعو البشر إلى التوبة ثم إلى الفرح. والرفضُ المتكرّر يشبَّه بمقاومة واعية لدى الانسان الذي رفض أن يدخل في اللعبة، الذي رفض ان يترك المسيح يستولي عليه كما قال بولس الرسول. رسالة يسوع هي نداء إلى الفرح (لو 1: 1-32)، وفرح مؤسّس على واقع يقول إن المسيح يشارك الخطأة حتى في طعامهم وشرابهم (لا يتنجّس بهم، بل يطهّرهم). تلك هي رسالة الانجيل، وهي بعيدة كل البعد عن نظرة الاسيانيّين.
وهكذا تبرّرت الحكمة بأعمالها. بما أن الجموع لم تقبل المعمدان ولا المسيح، فهم لا يستطيعون أن يتّهموا الأعمال الاسكاتولوجيّة التي صنعها يسوع. فمعجزاته وكل نشاطه أعظم تبرير لمن هو حكمة الله. إنها تدلّ على أن عمل الله قد تمّ فيه حقاً. وإذا كانت الحكمة تعني مقاصد الله في البشر، فهي قد تجسّدت في يسوع الذي لم يكن فقط أحكم من سليمان، بل كان الحكمة بالذات الذي فيه صارت مواعيد الله نعم، كما يقول بولس الرسول.
ج- الويل لمدن البحيرة (آ 20- 24)
عندئذ بدأ يسوع. وهكذا انتقل يسوع من مقطع الى مقطع مع فعل قاس جديد ترافقه المرارة والحزن، وربّما السخرية (5: 11؛ 27: 44؛ 1 بط 4: 14 اونايديزو). هذا الفعل الذي يرد مرارًا في السبعينيّة ويقابل العبري "ح رف" يدلّ على الكم القاسي الذي يصيب المرتّل وإلهه (مز 89: 51-52) من جرّاء خصومه. أمّا يسوع فقد أراد هنا أن يوبّخ مدن الجليل ويقابلها بالمدن الخاطئة في العالم الوثنيّ. ولكننا نلاحظ أنه لا يوبّخها على شقائها الاخلاقي ولا على عصيانها الوصايا بشكل عام، بل لأنها لم تتُب رغم جميع المعجزات التي تمّت فيها. والتوبة (أو: الارتداد) أو العودة إلى الله (3: 2؛ 12: 41) قد ارتبطت هنا بمعجزات يسوع (لا بكرازته بالدرجة الاولى)، كما ارتبط في انجيل يوحنا الايمان بالآيات. ونلاحظ أنها مدن كان يجب أن تتوب، لا أشخاص. هكذا اعتاد العهد القديم أن يفعل حين يهدّد أورشليم أو غيرها من المدن إذا كانت لا ترجع إلى الله.
ويبدأ تقريع يسوع بلفظة "أواي" الويل. هي تدلّ على الألم والحزن المليء بالمرارة (إر 13: 27). نشير هنا إلى أن التلمود يذكر كورزين ثلاث مرات. ويتحدّث عنها أوسابيوس القيصري (265- 340) ويحدّد موقعها. أما صور وصيدا القريبتين من الجليل فقد لجأ إليهما عددٌ كبير من اليهود (بعد دمار اورشليم سنة 70 ب م). في مثل هذا الاطار حيث يمتزج العنصر اليهوديّ مع العنصر الوثني، قد حمل متّى انجيله: بدأ مع اليهود، ثم انتقل إلى الوثنيّين على مثال ما كان يفعل بولس خلال رحلاته الرسوليّة.

خاتمة
هكذا انطلق يسوع من يوحنا، ودلّ على أن مصيره يجد صورة مسبقة في مصير يوحنا. رُفض يوحنا وسوف يُرفض يسوع. أخذ يوحنا طريق النسك والتقشّف في البرية، أخذ وجهة الحزن والبكاء والتوبة، فلم يبك معه الناس، ولم يتبعوه في طريق التوبة. وأخذ يسوع طريق الحياة مع الناس ومشاركتهم في أفراحهم وولائمهم، أخذ وجهة الفرح "والرقص"، ولكن الناس لم يشاركوه فرحته. بل هم لم يسمعوا ليوحنا ولا ليسوع. رفضوا كل نداء أُرسل إليهم. لهذا سيكون مصير الشعب اليهوديّ سيّئًا بالنسبة إلى الوثنيّين الذين ستحمل إليهم جماعة متّى الانجيل. وسيكون مصير كورزين وبيت صيدا أكثر سوءًا من مصير صور وصيدا الوثنيّتين. فيا ليت يسوع عمل فيهما ما عمله في المدن اليهوديّة. ولكن ما لم يعمله يسوع قد عمله تلاميذه حين ذهبوا بأمره "فتلمذوا جميع الأمم" (28: 19) وعمّدوهم وعلّموهم. بما أن اليهود لم "يروا نفوسهم أهلاً للحياة الأبديّة" (أع 47:13)؛ وجّه الرسل تعليمهم إلى الأمم الوثنية "وحملوا الخلاص إلى أقاصي الارض".

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM