الفصل الحادي عشر: المسيح وسابقه

الفصل الحادي عشر
المسيح وسابقه
11: 1- 11

بعد خاتمة خطبة يسوع لتلاميذه (آ 1)، ترد مقطوعتان صغيرتان (آ 2- 11) في ترتيب وجدناه في لو 18:7-28. ويبدو أن التقليد الاول ضمّهما في وحدة تامّة هـان بدتا في الاصل منفصلتين: فبعد أن أجاب يسوع موفدي يوحنا الذين جاؤوا يسألونه عن رسالته (آ 2-6)، قال رأيه في يوحنا المعمدان (آ 7- 11): "لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا". إذن نحن أمام دبتيكا في درفتين متكاملتين. بعد ذلك سيفترق لوقا عن متّى. لا نزال حتى الآن في تعليم يسوع عن يوحنا المعمدان، ولكن عاد الانجيليون إلى تقليدين مختلفين بعض الشيء.

1- من هو يسوع
أ- سؤال يوحنا
ما خاف يوحنا بأن ينتقد سلوك هيرودس انتيباس الذي يعاشر امرأة أخيه. وإذ أراد التترارخس (رئيس الربع) أن يُسكته، جعله في قلعة مكاور التي تشرف على الضفّة الشرقيّة للبحر الميت. ولكن هذا "الملك" ما زال يكنّ الاحترام لسجينه، فيسمح لتلاميذه بزيارة معلّمهم. وبواسطة هؤلاء التلاميذ سأل يوحنا يسوع: "أأنت من يأتي، أم ننتظر آخر"؟
حين يسمع قارئ الانجيل هذا السؤال، لا يستطيع إلاّ أن يتذكّر ما قيل له عن كرازة يوحنا: "ذاك الذي يأتي بعدي هو أقوى مني" (3: 11). تبدو العبارة صدى لقول أش 40 الذي فيه تعرّف يوحنا إلى رسالته الخاصّة: "صوت صارخ في البريّة: أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سبل الهنا مستقيمة" (آ 3، رج مت 3: 3). وتابع أشعيا كلامه: "ها هو الربّ يأتي بقوّة وذراعه تسود" (آ 10). إن ما يميّز "ذاك الآتي" هو قوّته.
أما نظرة يوحنا الى هذه القوّة التي ستتجلّى قريبًا، فهي واضحة جدًا. قابلها أولاً بقوّة الفلاّح الذي يمسك فأسه ليقطع الشجرة العقيمة، ويلقيها في النار. "ها هي الفأس على أصول الاشجار: كل شجرة لا تثمر ثمرًا صالحًا تُقطع وتُلقى في النار" (3: 10). وقابل يوحنا هذه القوّة بقوّة الفلاح الذي ينقّي بيدره، فيحرق كل ما ليس حبًا صالحًا. "يُمسك بيده المذراة، ويجمع قمحه في الاهراء، ويحرق التبن في نار لا تُطفأ" (آ 12).
دعا يوحنا الخطأة إلى التوبة، وقدّم لهم معموديّة لغفران الخطايا. ليسرعوا قبل أن يأتي ذلك الذي يكون عماده بالروح والنار، عمادًا مدمّرًا (آ 11). إن يوحنا يرى في ذلك الآتي، الديّانَ الرهيب الذي يقتلع ويحرق في نار لا تنطفىء جميع الخطأة الذين لم يتوبوا عن خطاياهم، ولم يبدّلوا سلوكهم قبل فوات الاوان.
ونصل إلى النتيجة عينها حين ننطلق من ملا 3: 1 الذي استعمله متّى ليحدّد مهمّة يوحنا (رج مت 11: 10): "ها أنا أرسل ملاكي (رسولي)، وهو يهيّئ الطريق أمام وجهي". وبعد الرسول يأتي الربّ نفسه. "فمن يحتمل يوم مجيئه؟ من يقوم عند ظهوره؟ فإنه مثل نار الممحّص وكأشنان القصّارين. يجلس ليمحّص وينقّي الفضة، فينقّي بني لاوي ويصفّيهم كالذهب والفضّة" (ملا 3: 2-3). اختلفت الصور، ولكننا ما زلنا أمام ذات الدينونة المنقّية التي ستلتهم الخطأة في النار.
إذن، اعتبر يوحنا نفسه أنه موكّل بتهيئة اسرائيل للدينونة الرهيبة. فهو يريد بمثَله وكلامه أن يقود الخطأة الى التوبة، فيفلتوا هكذا من العقاب الابديّ الذي يتهدّدهم. وحين يصل "ذلك الآتي"، يكون قد فات الآوان لننجو من قدرته المدمّرة. وفهمَ يوحنا أيضًا الدور الذي كان يجب أن يلعبه في الخضوع ليسوع. غير أن ما تعلّمه من الطريقة التي بها يتمّ يسوع رسالته، لا توافق اطلاقاً الفكرة التي تصوّرها عن الدينونة التي ستبدأ قريباً. لهذا بدت دهشته واضحة من خلال السؤال الذي طرحه.
ب- جواب يسوع
طرح يوحنا سؤالاً، فأجاب يسوع مصوّراً نشاطه الخيّر تجاه البؤساء. هنا يجب أن نتساءل: كيف ينير هذا التصوير سجين قلعة مكاور؟ ولكن يوحنا دلّنا سريعًا على الطريق. هو لم يقل مثل لوقا بشكل غامض: "وأخبر يوحنا تلاميذه بكل هذا" (8:7). بل أوضح فقال: "ولما سمع يوحنا بأعمال المسيح" (11: 2). "أعمال المسيح" هي تلك بها يكشف المسيح عن نفسه: لا تعطينا هذه العبارةُ معلومات عن المعنى الذي نسبه تلاميذُ يوحنا إلى أعمال يسوع، ولا عن المدلول الذي قد يكون يوحنا اكتشفه. فالعبارة تهدف إلى توجيه فكر قارئ الانجيل حول البُعد الحقيقيّ للتعداد الذي به أجاب يسوع على سؤال يوحنا. إن اعمال الخير هذه يجب أن تُفهم على أنها ظهورات للمسيح، على أنها تدلّ على المسيح المنتظر.
إذا أردنا أن ندرك هذا البُعد، يكفي أن نفهم أن الألفاظ التي اختارها يسوع، تذكّرنا بنبوءات مسيحانيّة نقرأها في سفر أشعيا. والعبارة الأخيرة هي العبارة المميّزة بشكل خاص. "المساكين يبشَّرون". يُعلن على المساكين الخبرُ الطيّب. هي تذكّرنا بما في أش 61: 1 كما يرد في لو 18:4 مع موضوع الكرازة في الناصرة. "روح الرب عليّ. مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين، وأشفي القلوب المكسورة، وأعلن الحريّة للأسرى، وللعميان عودة البصر".
نجد هنا التعداد عينه لخيرات العهد المسيحاني. كما نجد التشديد عينه على البشارة التي تُعلن للمساكين. بدأ يسوع فقال إن العميان يستعيدون البصر. وتحدّث أشعيا أيضًا عن العميان. ونقرأ ايضأ في أش 35: 5-6: "حينئذ تتفتح عيون العميان. وتسمع آذان الصم. ويقفز الاعرج كالغزال، ويصبح لسان الأبكم طلقًا". وفي 26: 9: "الموتى يقومون، والذين في القبور يستيقظون".
لا يعود تعليم يسوع إلى نصّ محدّد (ما عدا أش 61: 1)، بل إلى مجمل الأقوال التي بها صوّر سفر أشعيا خيرات العهد المسيحاني. عرف يوحنا إلى ماذا يلمّح يسوع. وفهم أن يسوع يكتفي بأن يؤكّد أنه المسيح. بل هو يعطي براهينه: إن عمله الخيّر يحقّق ما أعلنه أشعيا لهذه الأزمنة المسيحانية. وفي الوقت عينه، وهذا مرمى جواب يسوع، دعا يسوع يوحنا بشكل خفر لكي يرى دور المسيح بشكل مختلف عن الذي لفت انتباهه في السابق. والتعارض بين النظرتين يقدّم المناسبة للتنبيه الذي ينهي "البلاغ" الذي وجّهه يسوع إلى يوحنا.
ج- خطر الشكّ والعثار
إن الكلمة اليونانية "سكندالون" تعني أولاً وضع الفخّ. ثم تعني الفخّ عينه في المعنى الحرفيّ وفي المعنى المجازي. ويتوسّع معنى اللفظة أيضًا في التوراة اليونانية (السبعينية)، فيعني كل حاجز في الطريق، ولا سيّما الحجر الذي به نعثر. "الشكّ" هو كل ما يهدّدنا بالسقوط. وعلى مستوى الاستعارة، الشكّ هو ما يسبّب السقوط الأدبي أو الديني. في الانجيل نجد تعارضًا عامًا بين "الشكّ" والايمان. فالذي "يشكّ" هو الذي لم يبلغ إلى الايمان، أو تراخى في إيمانه.
قال يسوع كلمته بشكل عام: "طوبى لمن لا يشك فيّ" (أو: بسببي). هو لا يصيب يوحنا بشكل مباشر. ولكن من الواضح أن هذه الكلمة التي هي جزء من البلاغ الموجّه إلى يوحنا، تشكّل تنبيهًا وتحذيرًا. لقد رأى يسوع مسبقًا أن جوابه ليوحنا سوف يخيّب أمله.
والخطر الذي يجعل يوحنا يشكّ، لا يقوم في مطالبة يسوع بالكرامة المسيحانية لنفسه: فالسؤال الذي طرحه يوحنا على يسوع يدلّ على أنه مستعدّ لقبول هذا الأمر. ولكن الصعوبة تأتي من أن يسوع يفهم مهمّته بطريقة تختلف عن فكرة يوحنا. لم يقدّم يسوع نفسه ذاك "القويّ" الذي ينشر على الخطأة قوّة غضب الله وانتقامه. بل دلّ على حنان الربّ ورحمته تجاه المساكين وجميع المتألّمين. والتعارض كبير بين النظرتين. فهل يتوصّل يوحنا إلى قبوله وحي الحبّ في التواضع والضعف؟ لن ندهش من المحنة التي تنتظر يوحنا. لنتذكّر ردّة فعل بطرس الذي تشكّك بعد أن أعلن كرامة يسوع السامية في قيصرية فيلبس. تشكّك حين أعلن يسوع للتلاميذ إنه سيتألّم ويموت (مت 16: 22- 23).
أما محنة يوحنا فتجد ما يقابلها في خبر يونان. كُلّف هذا النبيّ ايضاً ببلاغ يحمل الغضب: الله سيدمّر نينوى. غير أن نينوى تابت، وعدلَ اللهُ عن تنفيذ تهديده. إذن، لم تتحقّق نبوءة يونان. "فاستاء، يونان وغضب جدًا" (يون 4: 1). لقد كان على حقّ حين حاول أن يتهرّب من الرسالة التي دعاه الله إليها! قال: "علمتُ أنك إله حنون رحوم، طويل الاناة، كثير الرحمة، ونادم على الشر" (آ 2). لم يأخذ الله قراره بالضرب، لم يدمّر نينوى رغم كل ما اقترفته من شرور. وهذا ما سيكون هنا. فبدلاً من الديّان الرهيب الذي انتظره يوحنا، وبدل نشر قدرة هائلة ومدمّرة تصيب الخطأة، ها هو يسوع يحمل إلى البشر وحياً جديداً، وحي محبة الله. ولكن الشكّ ينتظر يوحنا، لأن شدّة غيرته قد تمنعه من أن يؤمن بالمحبة التي أظهرها الله في يسوع.

2- من هو يوحنا
إذ أراد يسوع أن يحدّد مهمة يوحنا ويصوّر عظمتها، بدأ فطرح ثلاثة أسئلة (آ 7-9). السؤال الاول لا يحتاج إلى جواب: "ماذا خرجتم تنظرون في البرية"؟ والسؤال الثاني ينتظر جوابًا سلبيًا. "أإنسان عليه لباس ناعم"؟ الجواب: كلا. والسؤال الثالث ينتظر جوابًا إيجابيًا، يزيد على ما قيل من قبل. "ألتروا نبيًا"؟ الجواب: "أقول لكم: أجل وأفضل من نبيّ". نحن هنا أمام تدرّج صاعد. فكل مرحلة تقرّبنا من الذروة، من التأكيد الحاسم الذي سينطبع في عقول السامعين. هل وصلنا إلى هذه الذروة مع آ 9؟ كلا. فالعبارة "أفضل من نبيّ" تبقى غامضة وتستدعي تفسيرًا.
ولكن بدل التفسير المنتظر، قدّمت آ 10- 11 تفسيرين لا يرتبط الواحد بالآخر. التفسير الأول يُسند عبارة "أفضل من نبيّ" بإيراد كتابيّ. والتفسير الثاني يستعيد المسيرة الصاعدة لينهيها بمفارقة: الأعظم بين البشر هو أصغر الذين في الملكوت. اعتبر بعض الشرّاح أن الجواب ينتهي في آ 10، وأن آ 11 هي قول مستقلّ. ولكن لا أساس لهذه الفرضيّة. ورأى آخرون في آ 10 إضافة زيدت فيما بعد، بحيث تتواصل آ 9 في آ 11. سوف نرى كيف أن الايراد الكتابي يُفهم على مستوى النقل المسيحي أكثر منه على مستوى كرازة يسوع.
أ- النبيّ في البرية
ثلاث مرات سألت يسوعُ الناسَ لماذا جاؤوا إلى البرّية. قد تبدو الاشارة إلى المكان غامضة. أما كان من الاوضح أن يتحدّث عن الاردن؟ ولكن الاشارة إلى البرية تذكّرنا حالاً بذلك الذي قدّم نفسه على أنه "صوت صارخ في البرّية" (مت 3: 3). وهكذا منذ البداية نفكّر بيوحنا. فشخصّيته هي التي تُبرز الاسئلة التي تعنيه.
لم يذهب الناس إلى البرّية ليشاهدوا قصبة تحرّكها الريح. تزعزعها الريح لتقتلعها. التعارض واضح بين هذه القصبة وثبات يوحنا وصلابته التي تجعله قريباً من إرميا (إر 1: 17-19). وعى هذا الانسان رسالته الالهيّة، وأسندته قوّة روح الله، فلم ينحن ولم يركع أمام أحد. إن صلابة يوحنا هذه تجعله فوق سائر الناس وتدلّ على عظمته.
وهناك تعارض آخر: بين يوحنا والناس الذين يلبسون الثياب الناعمة. هؤلاء الناس يعيشون في قصور الملوك لا في البرّية. أما يوحنا "فلباسه وبر الجمال وحزام من جلد حول حقويه" (مت 3: 4). يدل هذا التعارض على النسك الكبير في حياة يوحنا. كما يدلّ على قربه من إيليا النبي الذي أخذ منه يوحنا طريقته في اللباس (2 مل 1: 8).
إذن ذهب الناس إلى البرّية لكي يروا نبياً. ويسوع هو هنا صدى للرأي العام (مت 14: 5؛ 26:21) وهو يوافق عليه. لقد تلقّى يوحنا رسالته من السماء (21: 25). إنه مرسل الله وحامل كلمته. وهو كذلك في معنى سام جدًا، بحيث إن تسمية نبيّ لا تكفي لتحدّد عظمته: يوحنا هو أعظم من نبيّ. هذا ما استشفّه الناس فتساءل بعضهم: "أما يكون هو المسيح" (رج لو 3: 15؛ يو 1: 19-25؛ 28:3؛ أع 13: 15)؟ أما هو، فوضع الامورَ في نصابها، فما احتاج يسوع أن يعود إلى هذه المسألة. فالعظمة الفريدة التي ينعم بها يوحنا، تأتيه من المكانة التي يحتلّها في تاريخ الخلاص: هو في نهاية زمن المواعيد وفي ذروته، في عهد ملكوت الله.
ب- الأعظم والاصغر
ماذا تقول آ 11؟ إن يوحنا هو أفضل من نبيّ. والآن تتوسّع النظرة، ويوحنا (هنا يزيد متّى: المعمدان) يُقابَل بمجمل البشر: فبين جميع الذين عاشوا، لم يكن أحد أعظم منه. نلاحظ العبارة المستعملة لتدلّ على البشر: "جميع الذين وُلدوا من امرأة". هي عبارة تقليديّة، وهي تصف الناس في وضاعة حالتهم البشريّة: "ابن المرأة" هو ضعيف (سي 18:10). خاضع للخطيئة (أي 15: 14؛ 25: 4). حياته عابرة (أي 11: 2، 12؛ 14: 1). نستطيع أن نفترض أن الانجيلي لم يختر هذه العبارة صدفة. فهي تُعدّ بشكل طبيعيّ التعارض مع القسم الثاني من الآية.
ماذا يقول القسم الثاني؟ اختلفت التفاسير. اصطدم بعضهم بمسألة البنية الغراماطيقية. هل نفهم: "ذاك الذي هو الاصغر في ملكوت السماوات أعظم منه"؟ أو: "ذاك الذي هو (الآن) أصغر هو أكبر منه في ملكوت السماوات"؟ في الحالة الثانية، "ذاك الذي هو أصغر" يدلّ على يسوع الذي يأتي بعد يوحنا في نظر البشر، ولكنه أعظم منه في الملكوت. هذا التفسير قد عرفه آباء الكنيسة وما زال عدد من الشرّاح يأخذون به. ولكن هناك من ينتقده، لأنه لا يوافق النظام الطبيعيّ للكلمات. ولأن استعمال عبارة "ذاك الذي هو أصغر" بشكل مطلق (وهذا أمر غريب)، يعود إلى القسم الأول من الآية، ويدلّ لا على يسوع، بل على أي انسان من الناس. لا نحاول ان نتفلّت من الصعوبة، بل أن نشرح النصّ الذي يعلن أن كل عضو في الملكوت، مهما كان صغيراً، هو أعظم من يوحنا.
نلاحظ بادئ ذي بدء أن هذا النصّ لا يستبعد من الملكوت الآتي ذاك الذي سُمّي نبياً وأعظم من نبيّ. فالآباء والأنبياء لهم مكانتهم في الملكوت. هل يجب أن نستنتج أن "الملكوت" الذي نتكلّم عنه هنا ليس ذلك الآتي والذي فيه يدخل المختارون، بل تحقيقاً أرضياً لهذا الملكوت، ذاك الذي تدشنّه رسالةُ يسوع والذي يتحقّق في الكنيسة من أجل المسيحيين؟ هناك تفسير انتشر بين الباحثين يعلن أن آ 11 تعارض بين تدبيرين للخلاص. يوحنا الذي هو الاعظم في التدبير القديم، هو الاصغر تجاه الذين ينعمون بالتدبير الجديد الذي يبدأ مع يسوع. ويرتبط هذا الشرح مراراً بفرضيّة ترى في آ 11 ب تصحيحاً محدوداً حملته الجماعة المسيحيّة لقول يسوع الذي حفظ في آ 11 أ: يوحنا هو الاعظم بين مواليد النساء، ولكن أصغر المسيحيّين أعظم منه.
ماذا نقول في هذه الشروح؟ لا نستطيع أن ننسب إلى يسوع استعمال عبارة "ملكوت السماوات" في معنى يماهي عملياً بين الملكوت والكنيسة. ثم كيف نقبل بالقول إن المسيحيين قاموا بتصحيح كلام يسوع؟ إذن، يجب أن نتساءل لكي نتجنّب استبعاد يوحنا من الملكوت الاسكاتولوجي: هل من الضروري الافتراض أن الملكوت التي تشير اليه آ 11 ب لم يعُد ذاك الملكوت الاسكاتولوجي عينه؟
إن التفسير الصحيح للآية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار موازاة التعارض بين قسمَيْ الآية. فهذه الآية تؤكّد أن الأعظم بين البشر الذين ننظر إليهم في وضعهم الأرضيّ، هو أدنى من آخر من ينعم بملكوت الله (نلاحظ أن يسوع حين يتكلم عن الصغير أو الكبير في الملكوت كما في مت 19:5؛ 18: 1-4؛ 20: 21- 28، فهو يعني الملكوت الاسكاتولوجيّ). فالتعارض يقوم في الواقع بين نظامين من العظمة، وهو يُبرز السموّ المطلق للنظام الثاني. ففي نظام "عظمات" هذه الأرض، تعود المكانة الأولى إلى يوحنا. غير أن هذا النظام ليس بشيء إذا قابلناه مع الامتيازات التي تمنحها المشاركةُ في الملكوت. وهكذا لا يعني قول يسوع أن يوحنا لم يُدعَ هو أيضًا للتمتّع بهذه الامتيازات في العالم الآتي.
ونقدّم هنا ملاحظة عابرة: اذا كانت عبارة "أولئك الذين وُلدوا من امرأة" (آ 11 أ) تشير إلى وضع البشر المائت (أي 11: 2، 12؛ 14: 1)، فالعبارة المعارضة قد تقابل تلك التي أقحمها لوقا في 36:20 حين سمّى "أبناء القيامة" المختارين الذين سيكونون "شبيهين بالملائكة"، وذلك بالنظر إلى الخلود الذي ينالونه (لا بالنظر إلى العزوبة التي عاشوا فيها. فهذه العزوبة هي نتيجة الخلود). إن "أبناء القيامة" هؤلاء، يعارضون "أبناء هذا العالم" (آ 34).
ونعود إلى النصّ فنرى النهج الذي اتّبعه الانجيليّ: هناك تدرجّ صاعد يساعدنا على إبراز عظمة يوحنا الكبيرة. غير أن هذه العظمة تنتمي إلى واقع هذا العالم الحاضر. وهي ليست بشيء إن قابلناها مع عظمة ملكوت الله. هنا يكمن مرمى آ 7- 11 مع ما فيه من مفارقة. فمن خلال هذا المرمى يقودنا الاعلان المتعلّق بيوحنا، إلى الموضوع المركزيّ في كرازة يسوع. هو موضوع إعلان ملكوت الله. لا شكّ في أن يوحنا عظيم، وهو عظيم جداً. ولكن ما قيمة العظمة البشريّة تجاه الامتيازات التي ينعم بها أولئك الذين "ينالون" ملكوت الله؟
لا نسلّط انتباهنا على يوحنا. بل ننطلق من يوحنا لنصل إلى اعتبار حوله الملكوت الآتي وحول ظروف حياة جديدة يحملها للذين يشاركون فيه. نحن هنا أمام مثال رائع يدلّ على تربية يسوع لتلاميذه. المهمّ ليس أن نندهش أمام يوحنا، بل أن نعمل ما يجب عمله لكي نشارك في ملكوت الله.
ج- سابق الرب
إن الايراد الذي أدرج في آ 10 يفسّر بنصّ كتابيّ التأكيدَ الذي اعلن أن يوحنا هو "أفضل من نبيّ". القسم الاول من هذا الايراد يتوافق توافقاً تاماً مع خر 23: 20 حسب ترجمة السبعينية: "ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك" (في العبريّة والآراميّة لا نجد الضمير المتّصل "الياء" فنقرأ فقط "ملاكاً"). والقسم الثاني "الذي يهيّئ طريقك أمامك"، يقابل بالأحرى ما يقوله الله عن رسوله في ملا 3: 1 حيث نقرأ العبري والآرامي: "وهو يهيّئ طريقاً أمامي". أما في اليونانيّة فنقرأ: "وهو يتفحّص طريقاً أمام وجهي". لسنا هنا أمام نقل حرفيّ. "طريق" صارت "طريقك" (أنت). "أمامي" (أنا) تحوّلت الى "أمامك" (أنت). عبّر الانجيل تعبيرًا أفضل عن معنى الفعل السامي، فجعلنا نشكّ في عودته إلى النص السبعيني للتوراة.
إذا أردنا أن نحيط بهذا الايراد الكتابي، يجب أن نعود إلى نصّين بيبليّين متميّزين، وإلى لغتين مختلفتين: البيبليا اليونانية للقسم الاول، والبيبليا العبرية أو الارامية للقسم الثاني. ونشير إلى أن الايراد نفسه (ما عدا الكلمتين الاخيرتين) نقرأه أيضًا في مر 1: 2 حيث يبدو كقطعة قماش جاءت من الخارج. فقال بعض الشرّاح إن مر 1: 2 هو حاشية مأخوذة من مت 11: 10. ولكنّنا لا نستطيع أيضًا أن نعتبر أن مت 11: 10 الذي يعود إلى معين استعمله الانجيلي (رج لو 27:7) يعود إلى مر 1 :2. إذن نستطيع أن نتكلم عن شاهدين مستقلين للايراد الواحد الذي حاول أن يحدّد رسالة يوحنا. فقد يكون النصّ أُخذ لا من التوراة نفسها، بل من تقليد الكنيسة الاولى، من مجموعة الاستشهادات التي استعملها الوّعاظ المسيحيّون الأولون. نحن في الواقع أمام تفسير لرسالة يوحنا المعمدان، وُضع في فم يسوع.
نرى في هذا التفسير فائدة لاهوتيّة كبيرة. فإذا أردنا أن نحيط بمرماه نتذكّر أن متى يطبّق على يوحنا نبوءة ملا 3: 1 (مثل مت 14:11 الذي طبّق ملا 3: 22). ولكن كان الضروري أن تتكيّف هذه النبوءة مع الوضع، وهي التي تتحدّث عن "نبيّ" أرسل ليُهيّىء طريق الله نفسه: "ها أنا أرسل ملاكي، وهو يهيّئ طريقًا أمامك". ويقدّم خر 23: 20 الاساس البيبليّ الذي أتاح للانجيلي أن ينتقل من "أمامي" إلى "أمامك". ولكن هذا "أنت" الذي يدلّ على شعب اسرائيل في سفر الخروج، يدلّ في الفكر المسيحي على الربّ الذي يأتي، ويبقى مميّزًا عن الله الذي يتلفّظ بهذا القول من أجله. يوحنا هو "نبيّ العليّ" وهو "ذاك الذي يمشي أمام الربّ ليعدّ له طرقه" (لو 1: 76). فما أعلنه ملاخي عن مجيء الربّ، كيّفه المسيحيّون مع مجيء يسوع على الأرض. وحين رأوا في يوحنا، السابقَ الذي يتكلّم عنه ملاخي، رأوا (في الوقت عينه) في يسوع، الربّ الذي مجده هو مجد الله، وقدرته قدرة الله نفسه. وهذا هو المهمّ في عيون المسيحيّين.

خاتمة
بعد أن قرأنا كلام مت 11: 2-6 وهو يحدّد مهمة يسوع المسيحانيّة كتجلّ لحبّ الله الرحيم، انتظرنا أن نجد في آ 7- 11 تحديداً لمهمّة يوحنا النبويّة. في الواقع، لم يتوقّف فكر متّى عند يوحنا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك. بدأ فقابل بين عظمة الأرض وعظمة الملكوت الآتي (آ 11). ثم دلّ على النور الذي يُسقطه دور السابق على كرامة الربّ (الإلهية) الذي يسبق مجيئه. فوظيفة يوحنا، كوظيفة القديسين، تقوم بأن تقود الناس إلى الربّ. فهم لا يشهدون لنفوسهم، بل للربّ الذي صنع فيهم عظائم كما صنع في مريم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM