الفصل العاشر: يسوع موضوع خلاف

الفصل العاشر
يسوع موضوع خلاف
ف 11-12

1- موقع ف 11-12 في انجيل متى
نحن مع هذين الفصلين على منعطف في انجيل متّى. فإذا أردنا أن نعي هذا الواقع، نعود إلى الطريق التي قطعناها. في الفصول العشرة الأولى، بدا ملكوت السماوات المقترب، وكأنه لا يَلقى حاجزاً ولا اعتراضًا. أما هنا فيبدأ شيء جديد: هي أسئلة محدّدة تُطرح على يسوع.
فيوحنا المعمدان يرسل إليه تلاميذه ليسأله: "أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (11: 3)؟ والفريسيون الذين انضمّ إليهم الكتبة (38:12)، وجّهوا للمرة الاولى إلى يسوع كلاماً مباشراً فيه توبيخ وحكم: "هوذا تلاميذك يعملون ما لا يحلّ عمله يوم السبت" (12: 2)! وهكذا تبرز أسئلة هامّة. وأمام شخص يسوع وعمله ارتسمت مواقف. فيسوع هو موضوع خلاف وشكّ، هو سبب عثار (11: 6). و"هذا الجيل" غير مستعدّ لأن يتقبّل الملكوت الذي اقترب، مدن البحيرة لا تريد أن تأتي إلى التوبة (11: 20). وتصرّف يسوع هو حقًا موضوع جدال من نقاش حول السبت، حوله بعل زبول، حول آية يونان (ف 12). وفي النهاية "ائتمروا عليه لكي يهلكوه" (12: 14).
إنّ هذا المناخ من عدم الثقة وطرح الاسئلة، هو جديد بالنسبة إلى ما سبق. حتى الآن رأينا يسوع يتجلّى بشكل تدريجي على أنه المسيح. وقد قدّم متى المراحل الكبرى عبر فقاهة صاغها الانجيلي صياغة محكمة. واكتشفنا أصالة الكاتب حين قابلناه مع مرقس ولوقا، في تنظيم ف 1-10. أما ف 11 فلا يجد ما يوازيه عند مرقس. إنه يضمّ مقاطع رتبّها لوقا بطريقة مغايرة (8:7-35؛ 10: 12-13، 21-22). ولكن بعد مت 12: 1 حيث نلتقي مع مر 23:2، نجد توازيًا متواصلاً بين مت ومر بحيث إن مت 12-22 تقابل تقريبًا مر 2-12 في متتالية تمتدّ على 55 مقطوعة.
ونتذكّر المراحل الرئيسية في نصّ متّى:
* قدّم ف 1-2 في صورة إجماليّة مسبقة، أصولَ يسوع ابن داود وابن ابراهيم. لقد دلّت عليه طفولته أنه المسيح الذي يُتمّ في شخصه وفي مصيره، تاريخَ شعب اسرائيل.
* في ف 3-4 دخل يسوع على المسرح بواسطة السابق الذي أعلنه أشعيا، وتقبّل في العماد سلطته المسيحانيّة. بعد أن كرّسته شهادةُ الآب، وامتحنته التجربة، أعلن اقتراب الملكوت.
* في ف 5-7 جاء تعليم يسوع فجعل الناس يدركون قوّة الملكوت والالتزام الذي يتطلّبه. إن عظة الجبل هذه حرّكت الاعجاب والدهشة عند الجموع.
* واكتشف القارئ في ف 8-9، السلطة التي أعطيت ليسوع وقوّة الملكوت الفاعلة فيه، وذلك عبر المعجزات التي اجترحها بقدرة كلمته الفاعلة.
* في ف 10 أُعطي الرسل الاثنا عشر سلطانًا يشاركون فيه سلطان يسوع. وهكذا كشفت خطبة الرسالة ما أعطي لحاملي رسالة الملكوت بالنظر إلى تعلّقهم الوثيق بشخص يسوع.
هناك اندفاع في هذه الفصول، حيث نرى شهرة يسوع تنتشر فتصل إلى البلدان المجاورة (4: 24؛ 9: 26، 31). وبدأت المعارضة تظهر شيئاً فشيئاً: بعض انتقادات عابرة من قبل الفريسيين (9: 11) أو تلاميذ يوحنا (9: 14) بشكل أسئلة "مهذبّة". هناك ردّة فعل واحدة قاسية في 9: 34 (برئيس الشياطين). ولكنها قصيرة. غير أنها ستعود في 12: 24: "هذا الرجل لا يُخرج الشياطين الا ببعل زبول رئيس الشياطين". ولكننا لسنا أمام جدالات بالمعنى الحصري للكلمة، لا سيّما وأن اللغة الخفيّة للامثال لم تُستعمل بعد، ما عدا مثل البيتين الذي يختتم خطبة الجبل (7: 24-27). يبدو أن متّى أخرج أخبار شفاء المخلّع، والأكل مع الخطأة، والجدال حول الصوم (9: 1-17) من سياق المجادلات كما في مر 2 ولو 5، فأدرجها في مجموعة معجزات يسوع العشر. وهكذا وجدنا أول جدال حقيقي (حول السبت) في مت 12: 1- 8 (ق مر 2: 23-28؛ لو 6: 1- 5). وسوف تتبعه جدالات.
ومع ذلك، لا نستطيع أن نُهمل وجهة التهديد والخلاف الحاضرة في الفصول العشرة الأولى من إنجيل متّى: نوايا هيرودس الذي أراد أن يقتل يسوع (2: 16). التجارب (4: 1- 11). إعلان الاضطهادات (5: 10- 12، 44؛ 10: 16-32، 38). ولكننا أمام دعوة إلى عدم الخوف، وإلى ادراك السعادة في قلب المواجهة، لأن الوعد بالملكوت هو هنا. وفي أي حال، إن امكانيّة الخلاص تبدو مؤكّدة للذي يثبت إلى المنتهى (10: 22). حين شدّد يسوع في خطبة الرسالة على تنبيه تلاميذه من الصعوبات والعوائق التي يواجهونها، فقد جعلهم أمام منظار جديد صار واضحاً الآن، وهكذا هيّأهم لمحنة الايمان.
وها قد جاء الوقت لكي نتساءل عن معنى نشاط يسوع كما رسمه متّى مطولاً. ما رأيُنا بـ "أعمال المسيح" (11: 2-19)؟ كيف نفهم "أفعال القوة" (11: 20، 21، 23)؟ فنحن حول سؤال يتعلق بمسيحانية يسوع: إن لفظة "مسيح" (كرستوس) التي يوردها متّى هنا، لم تعد تظهر منذ ف 1. ولكن إن بدا أننا في وقت غير محدّد حيث يقدّم الخلاص كأمر ممكن، فمن الواضح أيضًا أن الشك والرفض والمعارضة والجدال تتعاقب خلال ف 11-12، فتجعل يسوع على المحكّ وموضوع تساؤل. وسوف نرى في ما يلي أن انجيل متّى هو خبر رفض الناس ليسوع. في هذا المعنى نستطيع أن نتحدّث عن منعطف في مسيرة انجيل متّى.

2- البنية الاجمالية
نلاحظ أولاً أن هذين الفصلين (11-12) يتكوّنان في قسمهما الاكبر من أقوال يسوع. ففي ف 11 نجد آيات تقدّم التعليم (آ 2-4 أ، 7 أ، 20، 25 أ). والباقي هو أقواله يسوع. وف 12 هو نسيج من خطب طويلة أو قصيرة (آ 3-8، 11-13، 25-37، 39-45، 48، 49-50). يُطرح على يسوع سؤال فيردّ عليه. أمّا في ف 5-7 وف 10، فيسوع يوسّع بمبادرة منه شروط الملكوت ومتطلّباته.
حين نقرأ ف 11-12، يلفت انتباهنا التوازي في التأليف، وتكرارُ الألفاظ عينها التي تحدّد في كل من الفصلين خمس وحدات صغيرة تتوسّع في مسيرة مشابهة. في الحالتين، يُطرح على يسوع سؤالا بشكل بداية. ويأتي التضمين فيحيط بكل من الفصلين مع لفظة "تلاميذ" يسوع. كل هذا طبيعيّ بعد خطبة الرسالة. نشير هنا إلى أن عبارة "تلاميذ يسوع" لا ترد إلاّ في بداية ونهاية هذين الفصلين، وفي 11: 2.
ف 11: آ أ: إلى تلاميذه الاثني عشر.
آ 29: كونوا تلاميذي.
ف 12: آ 1-2: جاع تلاميذه... ها تلاميذك.
آ 49: مدّ يده نحو تلاميذه.
ونقدّم رسمًا موازيًا لهذين الفصلين على أن نعود إلى التفاصيل بعد ذلك.
ف 11 ف 12
أعمال يسوع الخادم (عبد الله)
شكّ رجاء الأمم
وتمييز حكم الشعب.
أ (آ 2-6) سؤال يوحنا المعمدان أ (آ 1-14) سؤال الفريسيين
وأعمال المسيح (أش 35: 5- وسبت ابن الانسان
6؛ 61: 1). (هو 6:6).
ب (آ 7-15) يوحنا نبيّ الملكوت ب (آ 15-23) يسوع يشفي
ومرسله (خر 23: 20؛ ملا 3: 1) هو عبد الله وديّان (أش 42: 1-4)
والمغتصبون الأمم.
ج (آ 16-19) تمييز "هذا الجيل" ج (آ 24-37) تمييز الارواح بمجيء
بالحكمة. الملكوت.
د (آ 20-24) دينونة المدن د (آ 38-45) دينونة "هذا الجيل"
التي ما تابت حين رأت بواسطة الأمم، أمام آية يونان
أعمال قدرة يسوع (أش 14: 13-15). (يون 2: 1).
هـ (آ 25-30) الابن يكشف الآب هـ (آ 46-50) قرابة يسوع الحقيقية:
للصغار للتلاميذ. التلاميذ يصنعون مشيئة الآب.

3- تحليل النصوص
أ- اعمال المسيح: شكّ وتمييز (ف 11)
حين تقدّم يسوع إلى معمودية يوحنا، تقبّل يوحنا موقفه، مع أنه لم يكن ينتظر هذه الوجهة من رسالته. قالت يسوع: "هكذا ينبغي لنا أن نتمّ كل برّ". وفعل له يوحنا ما أراد (3: 5). وها هو يوحنا يظهر من جديد على "المسرح". لا بشكل مباشر (لانه في السجن)، بل بواسطة تلاميذه، هؤلاء التلاميذ الذين كانوا قد طرحوا سؤالاً على يسوع حول الصوم (9: 14). أما السؤال القلق الذي طرحه يوحنا من أعماق سجنه فيعني هويّة يسوع الحقيقيّة: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر" (11: 3)؟
هناك علاقة بين تدخّل يوحنا الأولى في ف 3 وتدخّله الثاني في ف 11. فالتوازيات واضحة على مستوى الالفاظ: يوحنا المعمدان (3: 1، 4، 13، 14، 4: 12 و11: 2، 4، 7، 11، 12، 13، 18). تلميح إلى لباس يوحنا والعلاقة مع إيليا (3: 4 و11: 28، 14). الملكوت والتوبة (3: 2، 8، 11؛ 17:4 و11: 11-12، 20-21). "ذاك الذي يأتي" (3: 11 و3:11، 14). الآب والابن (علاقات متبادلة: 3: 17؛ 4: 3 و11: 25-27. مسرّة الآب (17:3 و11 :26). وهكذا تتيح لنا المقابلة أن نشاهد الطريق التي سرنا فيها منذ كرازة يوحنا، وهي طريق وصلت بنا الآن إلى اكتشاف يسوع في واقعه الحميم وفي علاقاته مع البشر (25:11- 30). فعبر هذا الوحي المتدرجّ، أظهرت جذرية الملكوت وجدّته، الاساسَ المتين الذي عليه بُني (7: 24- 25).
وعرفنا أيضًا أن الجماعات المسيحية الأولى في أيام متّى، كانت في جدال مع تلاميذ يوحنا (رج أع 19: 1-7): ما زال تلاميذ يوحنا يطرحون السؤال الذي طرحه معلّمهم: هل المسيح الذي أعلنه الانبياء هو يسوع حقاً؟ إذن، كانت المسألة آنيّة ساعة كتب متّى انجيله، وهي آنيّة بالنسبة إلينا اليوم: أما زلنا ننتظر مسيحاً قويّاً يبدّل العالم ويُصلح البنى و"يحطّم الاعداء". لقد نسينا أن كل شيء قد أعطي لنا في يسوع. لهذا نطرح السؤال عن المسيح على مثال تلاميذ يوحنا.
أولاً: سؤال يوحنا المعمدان وأعمال المسيح (11: 2-6)
إذن، سمع يوحنا من أعماق سجنه عن "أعمال المسيح" (11: 2)، كما انتشرت في الجليل وفي المناطق المجاورة. هذه الاعمال هي أقوال يسوع وأفعاله. وهي على ما يبدو لم تكف الناس لتدلّهم على أن يسوع هو المسيح. في الواقع، يُطرح السؤال على مستوى شخص يسوع: كيف نفسّر أعماله (3:11)؟ فالتعارض بين صورة الديّان الرهيب الذي أعلنه السابق (3: 11- 12) والواقع الظاهر في أفعال يسوع وأقواله، يطرح السؤال ويثير الشكّ (6:11). ثم إن لدى المعمدان سببًا شخصيًا يجعله يشكّ: المسيح المنتظر هو الذي يحرّر السجناء ويعزّي الحزانى (أش 61: 1-2). فما الذي فعله لكي يحرّر ذاك الذي هيّأ الطريق له؟
حين قدّم يسوع جوابه لتلاميذ يوحنا، عاد إلى النبوءات وما تحمل من معنى: "إذهبوا وأعلموا يوحنا بما تسمعون وما ترون" (11: 4). فما يميّز النبيّ هو أنه يرى الاحداث ويُدرك بُعدها الحاسم، ويفهم الوحدة العميقة بين الآيات والمدلول الأخير الذي تحمله. وإذ أراد يسوع أن يُفهم يوحنا بُعد تعليمه وأفعاله، أعاده إلى الكتب المقدّسة وأورد أش 35: 5 (رج 42: 7) الذي يُعلن عودة المنفيّين، وذكر البرص الذين طهروا، والموتى الذين قاموا (11: 5). وعاد أيضًا إلى أش 61: 1 الذي قدّم رؤية اسكاتولوجيّة عن هذه العودة عينها مع التشديد على البشارة التي تُحمل إلى المساكين. وهكذا قرّب يسوع بين عودة الشعب إلى أرضه وعودته النهائية إلى ربّه من أجل "عهد أبدي" (أش 61: 8). ففيه جاءت الأزمنة الأخيرة، والمسيح هو هنا. يبقى أن نراه ونسمعه، ونقبل أن نكون من هؤلاء العميان الذين استعادوا النظر، من هؤلاء الصمّ الذين يسمعون، من هؤلاء المساكين الذين يبشرون.
يبدو جواب يسوع هذا مخيّبًا للوهلة الأولى، لأنه لا يكشف شيئًا عن شخصه. في الواقع، هو أعاد يوحنا إلى ذاته: "طوبى لمن لا يشكّ فيّ" (11: 6). فهذه "التطويبة" التي وجّهها يسوع إليه، على المعمدان أن يكشف معناها في حياته الخاصة. فالايمان بأن الآيات المسيحانية التي ذُكرت له (11: 5)، قد تمّت حقاً في شخص يسوع، في اتّضاعه وامّحائه (29:11). هكذا فرض على يوحنا تجاوز تامٌّ لذاته يصل به إلى الموت. هذا ما يدعوه اليه يسوع.
ثانيًا: يوحنا المعمدان النبي الذي يبشر بالملكوت (11: 7- 15)
تراكضت الجموع إلى البرية لترى يوحنا، ولم يكن ذهابُها عبثًا: ما ذهبوا إلى البرّية ليروا "قصبة تهزّها الريح" (رج أش 35: 7؛ 1 مل 14: 15) أو "إنسانًا في لباس ناعمة" (رج 4:3-6). ما اجتذبهم هو النبيّ. فحين طرح يسوع السؤال على الجموع، شدّد على هذه اللفظة (النبيّ): "ماذا خرجتم تنظرون في البرية"؟ وأورد من جديد الكتاب المقدس، فذكر الملاك الذي يقود اسرائيل إلى أرض الموعد (خر 23: 20)، وإيليا الذي يهيّئ طريق الربّ إلى مقدسه (ملا 3: 1). وهكذا حلّ يوحنا المعمدان محلّ ملاك الخروج ومحل إيليا كما في نبوءة ملاخي، وصار يسوعُ الذي يسبقه، شعبَ اسرائيل والربّ الذي يعلنه.
وهكذا يتسجّل يوحنا المعمدان في تواصل مع أنبياء العهد القديم (11: 11)، لأنهم كلّهم أعدّوا الطريق ليسوع. في هذا المعنى هو أكبرهم لأن فيه اختُتم انتظار اسرائيل الذي عبّر عنه التقليد النبويّ. ولكن هناك في الوقت عينه انقطاعًا أحس به المعمدان عبر الشكّ الذي يساوره والسجن الذي يأسر جسده: إن ملكوت الله الذي صار قريبًا من البشر في يسوع هو جديد جدًا في جذريّته. في هذا المعنى، الاصغر في ملكوت السماوات (أي التلميذ) هو أكبر من يوحنا المعمدان. وهكذا انتقل الانجيليّ من الواقع البشري (الانسان المولود من المرأة) إلى الواقع النبويّ (حالة أبناء الله) الذي لا يدركه الا الصغار (25:11).
فعلى يوحنا أن يكتشف (ومعه سامعو يسوع وقرّاء الانجيل) أن يسوع يبلبل كل نظراتنا إلى ما هو كبير أو صغير. حتى الآن كانوا يقولون إن موسى هو أول الأنبياء وأعظمهم (تث 34: 10). أما يسوع فيرى أن المعمدان حلّ محلّ موسى في المنظار الذي تحدّث عنه تث 18: 15-18. ثم إن الكبير الحقيقي هو الصغير. والكبرُ الحقيقي هو الامّحاء الذي يدلّ عليه موقف يسوع. ف "الأصغر الحقيقيّ" في ملكوت السماوات (11: 11)، هو يسوع الذي لا تأخذ سلطته الرفيعة سمات قاض غضوب، بل سمات عبد الله الذي يلتزم مع البشر ويتعاطف معهم. سيقول فيما بعد إن ملكوت السماوات يشبه حبّة خردل، وهي أصغر جميع المزروعات (13: 32).
غير أن يوحنا هو أكثر من نبيّ. فما اكتفى بأن يعلن المسيح، بل دلّ عليه بإصبعه، فأعطيت له تطويبة الملكوت التي تكرّسه تلميذًا مع التلاميذ. حين استقبل يوحنا "ذلك الآتي" بغير ما أنبأ به، فقد دخل إلى الملكوت، وتأكّد دخولُه بامّحائه وموته. "منذ أيام يوحنا المعمدان حتى الآن، ملكوت السماوات يُغتصب" (يؤخذ عنوة) (11: 12). أي منذ اعلان المسيح بفم يوحنا المعمدان حتى زمن يسوع التاريخيّ. وجماعة متّى في جدالها مع تلاميذ يوحنا، وقارئ الانجيل الذي يطرح سؤالاً عن يسوع، وحتى حقبة التاريخ الاخيرة، كل هذا يُظهر حالة من العنف يدلّ على حضور الملكوت.
فإذا كان للتلاميذ آذان تسمع (11: 15)، فالاضطهادات (10: 17-23) والمحن والشكوك سوى تدفعهم إلى تحطيم كل الصور التي "فبركوها" عن ملكوت السماوات. هذا الملكوت يُعطى، ولكن يجب أن يكون المؤمن عنيفًا، أن يقسو على نفسه أو يتحمّل عنف الله نفسه مثل يوحنا المعمدان، لكي يحصل على هذا الملكوت. يجب عليه أن يرتدّ (17:4) ويبقى ثابتًا حتى المنتهى عبر الاضطهاد (22:10). إن 13:11-14 يدلّ على الطابع الحاسم والاسكاتولوجي للساعة الحاضرة: يسوع هو إيليا الذي سيأتي، وقد قالت عنه ملا 23:3: "ها أنا أرسل إيليا النبيّ قبل أن يأتي يومي العظيم الرهيب". لقد حصلت التتمّة، ويجب أن نقبل العنف لنتقبّل هذا الملكوت (14:11) ف "نسمع" (11: 15) السرّ الخفيّ (11: 25) الذي سيُكشف للاطفال.
ثالثًا: الحكمة تميّز "هذا الجيل" (16:11-19)
تجاه يوحنا الذي هو "أكثر من نبيّ" (11: 11)، وتجاه يسوع نفسه، يتذمّر "هذا الجيل" (11: 16) كأولاد يرفضون أن يدخلوا في اللعبة. هنا نعود إلى صورة الخلاص المسيحاني التي يرسمها زكريا (8: 2-8) مع أولاد "يلعبون في الساحات". أما متّى فبدّل ترتيب الجملة: "هذا الجيل" يعيش ضد التيّار، ولا يفهم ما يحصل في الحقيقة، ما يَتمّ بشكل نهائيّ في مجيء ابن الانسان. فعبارة "هذا الجيل" تدلّ على الجموع في آ 7. بل تعني أكثر من ذلك. تعني جميع الذين لا يستطيعون أن يسمعوا ويروا، الذين لا حكم لهم ولا فهم. وتذكر آ 17-18 بشكل خفر، عتاب الفريسيين ليسوع (9: 11، 34) فتفتحان الطريق أمام جدالات ف 12. من تقبّل الملكوت، أدرك التعليم الخاص بكل وقت وبكل انجيل، ورفض أن ينغلق في ما تمثّلَه من هذا الملكوت، واستبعد كل نظرة غير نظرته مثل أولاد يتبعون نزواتهم.
ولكن "تبرّرت الحكمة بأعمالها" (19:11). الحكمة تدلّ على عمل الله في الخلق والتاريخ (سي 24: 1 ي؛ 42: 15-25؛ حك 10: 1- 11: 4). إنها تعبّر عن مشيئة الله (حك 13:9-18) التي نكتشفها بالروح الذي يرسله الله. ففي نظرة متّى، يتماهى يسوع مع الحكمة ويتوازى عمله وعملها (11: 2- 19). فأعماله المسيح قد جهلتها مدن شاطىء البحيرة (11: 20-24)، فأدّت ليسوع شهادة أوضح من شهادة يوحنا، وساعدت على اكتشاف ذاك الذي يقوم بهذه الاعمال، حكمة الله بالذات. إن هذا التلميح إلى الحكمة يذكّرنا بابن سيراخ الذي يعلن بر الله بسبب حكمته (18: 1-4). هنا نلاحظ أن يسوع الذي يتمّم الشريعة والأنبياء (17:5؛ 13:11)، هو أيضاً ذاك الذي يتمّم أعمال الحكمة.
رابعًا: ويل للمدن التي ما تابت أمام الرب (11: 20-24)
وإذ دانت أعمالُ يسوع المسيحانية "هذا الجيل" الذي لا يؤمن، فقد دانت أيضًا "المدن" التي "أجرى فيها أكثر عجائبه". رأينا في خطبة الرسالة (10: 23) المدلول الواسع لهذه اللفظة. ففي يسوع صارت الدينونة أمراً آنياً، مع أنه يجب أن ننتظر عودة الربّ المجيدة لنرى هذه الدينونة تتمّ في ملئها (25: 31-32). فحضور المسيح نفسه هو "تقريع" لهذه المدن، وأعماله القديرة ومعجزاته تحذير لا مهرب منه: أو أننا نرتدّ إلى الملكوت، أو أن الملكوت يشجبنا ويحكم علينا. لا خيار آخر ممكنا. يجب أن نتعرّف إلى اعمال يسوع القديرة (دينامايس، 22:7؛ 20:11، 21، 23؛ 54:13، 58؛ 2:14؛ 29:24). فإن أدركناها في الايمان على أنها "أعمال" المسيح (11: 2-19)، فهي سوف تقودنا إلى التوبة (ميتانواين، 3: 2؛ 4: 17؛ 11: 20- 21؛ 12: 41)، سوف تقودنا إلى الملكوت.
ولكن رفضَ هذه المدن ليسوع، جعله يهتف هتاف الألم والقرف، جعلته يتأسّف (ويرثي بشفتيه) أمام شقاء كان من الممكن أن نتجنّبه (عد 29:21؛ عا 5: 16؛ أش 1: 4؛ 29: 1؛ إر 27:13). شبّه النصّ كورزين وبيت صيدا بصور وصيدا اللتين ترمزان في نظر اليهود إلى الوثنيّة المتصلّبة كل التصلّب (رج أش 23؛ حز 26-28). وشبّه كفرناحوم ببابل المتعجرفة (أش 14: 13، 15)، قبل أن يشبّهها بسدوم وعمورة (15:10؛ رج عا 4: 11؛ أش 19:13؛ إر 50: 40). هذا الرفض قد أحسّ به يسوع في أعمق كيانه، مما جعلنا ندرك "العنف" الذي تتحدّث عنه آ 12.
خامسًا: الابن يكشف الآب للصغار، للتلاميذ (11: 25- 30)
إذا أردنا أن نعيش هذا الارتداد وهذه التّوبة، يجب أن نقبل على مثال يوحنا المعمدان أن نكون من الصغار (11: 25)، وذلك بالدخول في حياة يسوع الحميمة. وهذه الحياة تنكشف في صلاة شكر (27:11) تتجاوب مع شهادة الآب لابنه في العماد (3: 17). وصلاة يسوع هذه التي سمّاها الشّراح "صلاة التهليل" (أو الابتهاج) تبدو قريبة من الانجيل الرابع. لهذا اعتبرها بعضهم قولاً يوحناوياً انتقل إلى التقليد الازائي. ولكن لاحظ آخرون أن ارتباطها بالجوّ الحكمي والجليانيّ وموقعها في السياق، يفسّران وجودها في هذا الموضع من مت، وبعد عودة التلاميذ الاثنين والسبعين من الرسالة في لوقا (10: 21-22). هذا ما نوضحه الآن بايجاز.
إن جوّ صلاة يسوع في مت 25:11- 30 هو قريب من جوّ فعل الشكر الذي به أنهى ابن سراخ كتابه (51: 1-30). بدأ باعتراف، وتوسّع في موضوع البحث عن الحكمة التي يعطيها الله، وانتهى بدعوة إلى التتلمذ له آخذاً نيره وحمله لكي يجد الانسان الراحة (رج سي 6: 25-.3؛ 19:24 حيث نجد الالفاظ عينها).
ونجد الحركة عينها في سفر الحكمة (ف 6-9) الذي يشيد بعظمة الحكمة ويدعو قرّاءه إلى التتلمذ لها (حك 9:8؛ 9: 1، 4-9). فكما أن الحكمة عدّدت ألقابها لتدعو الناس إلى اتّباع تعاليمها، هكذا شدّد يسوع على علاقاته الفريدة والسامية مع الآب ليدعو سامعيه إلى حياة التلمذة له.
غير أن نصّ متّى يذهب أبعد من ذلك، لأنه يدلّ على أن الحكمة الالهيّة نفسها قد تمّت في يسوع. والسياق الاسكاتولوجيّ لهذا الفصل يتيح لنا أن نفهم على ضوء دا 13:7-14 أن يسوع هو حقاً ابن الانسان الذي انبأت به الكتب (11: 19)، الذي أعطي له السلطان على أمم الأرض. وتظهر هذه التتمّة أول ما تظهر في يسوع الذي جعل نفسه "صغيرًا"، "وديعاً ومتواضع القلب" (29:10). هكذا تنكشف بنوّة يسوع، عبد الله المتألّم، الذي خرج من مياه العماد ساعة رأى فيه الصوت الآتي من السماء، مسرّة الآب ورضاه (3: 17؛ 26:11).
إن أسرار الملكوت أي حياة الابن الحميمة مع الآب، وينبوع عمله في العالم، هي موضوع "وحي" (11: 25 ,27) أخفي عن "الحكماء" (عارضوا، "حكمة الله"، آ 19) وفهماء الارض. ليس الملكوت امتياز بدعة من "العارفين" (الغنوصيين) أو "المتدرّجين" كما في قمران، أو لدى أهل الاختصاص في الحياة الباطنية. ذاك الذي سلّم اليه الآب و"ربّ السماء والأرض" (11: 25) كلّ شيء، ليس إلا فقيراً يقف على المستوى الذي إليه يدعو تلاميذه (11: 29)، ويحمل عاهات البشر (8: 17)، ويواجه الاضطهادات (10: 17، 22). إن الديّان الرهيب الذي أعلنه يوحنا هو طفل صغير، وهذا الطفل يدين البشر حين يجعلهم أمام الآب. فمن عرف "أعمال المسيح" في "معجزاته"، أدرك بنظر نبويّ واقعَ الآب الذي يكشفه للعالم عملُ الابن. فمن ترك هذا الوحي ينيره، دلّ على أنه قَبل الانجيل، أنه بدأ يتتلمذ لحكمة الملكوت الحقيقية، بدأ يكون فقيراً مع يسوع. وما يشكّك الناس هو وحي الربّ بهذا الشكل وقدرته التي تظهر في الضعف وفي الفقر.
ب- عبد الله رجاء الأمم وديّان الشعب (ف 12)
تماهى يسوع مع كلمة الله (11: 19-28)، وتماهى مِع الأصغر (11: 29)، لأنه حقًا ابن الآب الذي يعرف مخطّط الله ويحقّق مسرَّته. فخادم الله المحبوب (18:12) سيظهر الآن كسيّد (كربّ) السبت (8:12)، كذاك الذي يميّز الأفكار (12: 35)، ويحكم على أقوال (12: 37) البشر وأعمالهم (12: 33، 50). سنلاحظ في هذا الفصل كم يشدّد متّى على لفظة "فعل، صنع" (بوياين، 12: 2، 3، 12، 16، 33، 50) ولفظة "روح" (بنفما 12: 18، 28، 31، 32، 43، 45): إنّ حضور يسوع الذي حكم على استقبال البشر للملكوت، يحكم عليهم الآن، يحكم على أعمالهم، يحكم على الروح الذي فيهم: أخوه، أخته، أمّه، هم الذين "يصنعون" مشيئة أبيه (12: 50).
أولاً: سؤال الفريسيين وسبت ابن الانسان (12: 1- 14)
تتركّز الوحدة الأولى في هذا الفصل على سؤال حول السبت: ماذا يقدر أن "يصنع" المؤمن في ذلك اليوم (12: 2)؟ وسيعود هذا السؤال في آ 10: "قل لنا هل يحلّ الشفاء في السبت". وسيأتي الجواب في آ 12 بشكل تضمن مع آ 2: "يحلّ فعل الخير يوم السبت".
السؤال مهمّ بسبب المكانة الجوهريّة التي يمثّلها السبت في الحياة اليهوديّة. السبت هو اليقين بأن الروح يسمو على الكون، والقدسيّ على كل الخيرات. السبت هو القدسيّ في الزمن. السبت هو قدرة الأبديّة وشعاع الفرح. إنه أكثر من يوم من الأيام، أكثر من اسم يعطى لليوم السابع من أيام الاسبوع. إنه الابديّة في الزمن، والاساسُ الروحيّ للتاريخ.
تلك هي روحانيّة السبت، وقد عاد يسوع إلى الجذور فرأى في السبت مساحة روحيّة لعمل الله في تاريخ البشر. كما جدّد ماويّة ذاك اليوم فجعل العمل الالهي يتجسّد في جسم الانسان، وينشر قوّته في العالم. كان اليهود قد حصروا ممارسة السبت في سلسلة من الفتاوى، ما هو مسموح، وما هو ممنوع.
ولكن أين هو واقع السبت؟ ما يدلّ عليه ليس شعائر العبادة، وسائر الفرائض، بل الرحمة والرأفة التي تعطي التزامَ الانسان في عمل الله كيانَه وقوامه. لهذا أورد يسوع هو 6:6 كما فعل في مت 9 وفي سياق مشابه من الجدال مع الفريسيين (13:9-7:12). وهكذا قابل بين الذبيحة (تيسيا)، أي ذبائح الهيكل وفرائض الشريعة، وبين الرحمة (الايوس)، أي الاهتمام بالآخرين في جوّ من الحنان والرحمة. هكذا فعل الله مع البشر، وهكذا يفعلون بعضهم مع بعض. لسنا أمام شجب لتقوى طقسيّة للانتقال إلى موقف من التضامن البشري. فنحن حينذاك أمام نصّ هوشع ونصّ متّى. بل أمام دعوة توجّه إلى الفريسيين في كل زمان لكي يدركوا أن يسوع وحده يحكم على عمل الخلاص الذي يصنعه الله في التاريخ. ويتّخذ منطق يسوع طريقة البراهين الرابينية. انطلق من مثل من أمثال الكتب المقدسة، فقابل فعلة التلاميذ مع فعلة داود الذي أكل خبز التقدمة (الخبز المكّرس لله) (1 صم 21: 1-6). لسنا أمام السبت في هذا النصّ، بل أمام تدنيس خاطئ (لا 8:24-9). قد نظّن أن صفة يسوع الملوكيّة سمحت له ولرفاقه بأن يتجاوزوا الشريعة دون أن يُخطئوا. ولكن يسوع يذهب أبعد من ذلك، فيلمّح إلى اعمال العبادة والاهتمام بالهيكل، على ما كان يفعل الكهنة يوم السبت. هل هناك تدنيس؟ نعم في إطار تفسير ضيّق يثير الضحك. ولكن من يقبل بهذا التفسير؟ لهذا قال يسوع: "إن ههنا أعظم من الهيكل" (12: 6). لسنا هنا فقط أمام حالة إعفاء من ممارسة الشريعة، بل أمام سبب وجيه يبرّر عمل الكهنة: فالهيكل أسمى من السبت، ولكن يسوع أسمى من الهيكل، وبالتالي أسمى من السبت... هذا هو بُعد البرهان الثاني حيث تنمو الفكرة من الأقل إلى الأكثر. في البرهان الأول فهمنا أن يسوع، شأنه شأن داود، هو أسمى من السبت، وهو هنا أسمى من الهيكل الذي هو أسمى من السبت. وسيقول يسوع بعد ذلك إنه أعظم من يونان، أعظم من سليمان (مت 12: 41-42). ونستطيع أن نستنتج هنا: إنه أعظم من داود (22: 41-46).
لقد أعطى يسوع للهيكل والسبت بُعد الشمول بحضوره الذي يجعل ملكوت السماوات يقترب من البشر: فمعه كل الارض صارت هيكلاً، وكل الزمن صار سبتًا، صار يومَ الربّ. لقد دقّت الساعة الحاسمة، ساعة الزمن المسيحانيّ، لأن "ابن الانسان" هو "ربّ السبت" (12: 8).
غير أن كلمة يسوع لا تكفي لكي تبرهن عن ذلك. لا بدّ من فعلة مسيحانيّة تؤكّد البرهان، فعلة تحمل الخلاص إلى خروف سقط في حفرة يوم السبت. ففي العالم اليهودي، تسقط جميع الفرائض أمام نجاة انسان من الخطر. إذا كان ابن الانسان هو ربّ السبت، فيستطيع أن يأمر هذا العليل بأن يمدّ يده اليابسة. وكل هذا بقدرة الربّ التي فتحت مياه بحر القصب بيد موسى (خر 14: 16، 21، 26، 27). فيسوع الذي شفى الأبرص (8: 23) بكلمة فمه، سيكوّن أيضًا قرابته الحقيقيّة (12: 49). وهكذا يظهر أن عمل الخير الذي يدلّ على "الرحمة" الحقّة (12: 7)، هو عمل الله نفسه "ربّ السماء والأرض" (11: 25)، الذي ظهر في يسوع، وربّ السبت (8:12). غير أن الفرّيسيين رفضوا أن ينفتحوا على ما يتمّ أمامهم ويتجاوزهم. "فائتمروا عليه لكي يهلكوه" (14:12).
ثانيًا: يسوع الشافي هو عبد الله من أجل الأمم (12: 15-23)
أشار متّى مرتين الى أشفية اجترحها يسوع، فشدّد على طابع الشموليّة فيها (شفاهم جميعًا، 12: 15)، وعلى بُعدها المسيحانيّ (متشيطن أعمى وأصمّ وأخرس، 12: 22؛ رج 11: 5). ومع ذلك رفض يسوع "دعاية" تستبق الوقت المحدّد (16:12). أما الجموع فخرجت من ذاتها ورأت فيه بعض سمات المسيح. "أفلا يكون هذا ابن داود" (12: 23)؟ فكما شُفي المتشيطن، استعادت الجموع القدرة على النظر وعلى الكلام.
يستضيء هذان الشفاءان باستشهاد كبير من أشعيا (24: 1-4) لا يتبع النصّ العبريّ ولا النصّ اليونانيّ في السبعينيّة. لقد اهتمّ متّى اهتمامًا خاصًا بهذا الاستشهاد الكتابي، وجعله في صيغة شخصيّة مشدّدًا على دور الأمم والدينونة المنتظرة. فضّل لفظة "حبيبي" على لفظة "مختاري" ليدلّ على "عبد الله"، فتذكّر تدخّل الآب في عماد يسوع (3: 17). اختار متّى من بين أربعة أناشيد عبد الله في أشعيا (42: 1-4؛ 49: 1- 6، 4:50- 11؛ 13:52- 53: 12) النشيد الأول الذي يعبّر عن دعوة ومصير مختار الله ومعارضة الشعب له. و"الكثيرون" (12: 15) الذين تبعوا يسوع، والذين احتاجوا "جميعهم" إلى الشفاء، نالوا شهادة الآب بواسطة الكتب. أجل، إن يسوع هو حقًا عبد الله الذي تكلّم عنه أشعيا. إنه حبيب الآب وموضوع رضاه. إنه ذاك الذي نال مسحة الروح لكي يكتشف الأمم فيه أيضًا. مبدأ كل عمل وكل حياة. أعلن للجميع الحكم الحاسم الذي يحدّد كلَّ بشر موقعه بالنسبة إليه (18:12). إنه الديّان الموعود، ولكن قدرته تعمل في الامّحاء، بحيث إن "الصغار" (11: 25) وحدهم يستطيعون أن يدركوا ظهور الملكوت. هو لا يفرض نفسه كمحتلّ للبلدان أو مضايق للشعوب. لا يفرض نفسه بأسلحته ولا بعمله (12: 19- 20). بل إن صمتَ الله في يسوع يقود الحكم إلى النصر النهائي. عمله الخيّر الذي يتنبّه لأقل علامة انفتاح وقبوله، لأقلّ علامة حياة، يشكّل رجاء للامم، رجاء للمسكونة (12: 21). فإذا أراد الشعب أن يقبله، عليه أن يتخلّص من الشيطان الذي يجعله أعمى، أصمّ وأخرس، أن يتخلّص من العمى وقساوة القلب اللتين تحدّث عنهما أشعيا (18:42-25؛ رج 6: 9- 10).
ثالثًا: تمييز الأرواح (12: 24-27)
حين نقرأ آ 22-24 نشعر وكأننا قرأنا هذا الخبر. فهو يستعيد تقريبًا 9: 32-34 الذي يختتم سلسلة معجزات (أعمال قدرة) يسوع العشر. غير أن المتشيطن هنا هو في الوقت عينه أعمى، أصمّ، أخرس. أما متشيطن ف 9 فأصمّ وأخرس فقط. وهناك أعميان تقدّما إليه ورأيا فيه يسوع ابن داود (9: 27). ثم إن كلام الفريسيين (12: 24) الذي يذكّرنا بما في 9: 34، يتوسع الآن في جدال طويل (12: 25-37).
لا شكّ في أن الكاتب توخّى هدفًا لاهوتيًا حين استعاد هذا الخبر. لا يكفي أن نقول إننا أمام تكرار. لقد كان للشفائين الاخيرين في ف 9 معنى مسيحاني واضح شدّد عليه جواب يسوع لتلاميذ المعمدان (11: 5). والبُعد المسيحاني عينه نجده في ف 12 مع التشديد على نصّ أشعيا الطويل وردّة فعل الجموع، الذين اضطرّوا أن يروا في يسوع حضور "ابن داود"، وعبّروا عن ذلك بشكل سؤالا مليء بالدهشة (23:12). ولكن إن توصل الناس (مع بعض التأخّر، رج 2 صم 7: 13-16؛ عا 9: 11) إلى يقين يقول إن المسيح هو ابن داود، فما كانوا ينتظرونه فقيرًا متواضعًا. لم يظهر يسوع كالملك. لهذا حكم عليه اليهود بسرعة، وكشفوا القناع عمّا اعتبروه "حيلة" من قبله: "لا يُخرج الشياطين إلاّ ببعل زبول، رئيس الشياطين" (12: 24). لا يمكن أن يظهر المسيح بهذا المظهر.
لقد أراد متّى أن يبيّن أن الشكل الذي به نتصوّر المسيح قد يكون شكلاً شيطانياً حين ننغلق على ذواتنا ونرفض نور الروح. فأي ملكوت نعني عند ذاك، ملكوت الشيطان (12: 25-26) أو ملكوت الله (28:12)؟ غير أن يسوع وضع سامعيه أمام خيار يحكم عليهم. من أي روح هم؟
كانوا يعتبرون المرض على أنه امتلاك الشيطان لأناس من الناس. لهذا فالشفاء هو عمل الله. وكل تقسيم لإخراج الشياطين هو عمل روح الله. فمن رفض شفاءات اجترحها يسوع، أعلن برفضه أن ملكوت الله قد "انتهى" (افتاسن، 12: 28) إلى البشر، أخذهم على غفلة وهم لا ينتظرون. فالمتّهم (هذا معنى كلمة شيطان، رج زك 3: 1-5؛ أي 1: 6) وصل، ولكنه وصل متأخّرًا. فمن عارض ملكوت الله اعتبره حاضراً وبالتالي حكم على نفسه (12: 36-37).
ففي يسوع، قدرةُ الشرّ التي يرمز إليها "الرجل القويّ" قد قُيّدت بشكل نهائيّ (12: 19). كان المقسّمون اليهود (أبناؤكم، أتباعكم) يعملون بقدرة الملكوت، بعنف (11: 12، رج فعل اغتصب، هربازاين، رج 12: 29) تعبّر عنه الآن سلطةُ يسوع بشكل نهائي. فمملكة الشيطان، مدينته وبيته (12: 25)، "بيت الرجل القويّ" (12: 29)، كل هذا قد دُمِّر وخرب بقدرة الله التي تكشف غربة العالم وتخلّص هذا العالم من تغرّبه، وموضعُ التمييز هو حضور يسوع وسط البشر. إن التجربة في البريّة (4: 1- 11) ما زالت تتابع مسيرتها في التاريخ. ففي يسوع تتواجه الخطيئةُ والنعمة.
وفي ما يلي من أقوال يسوع التي تؤلّف هذه الخطبة، أدخل متّى هنا مع تقليد يرتبط به مرقس (28:3- 30) لا لوقا (12: 10 في سياق آخر)، موضوع الخطيئة التي تُغفر أو لا تُغفر: "كل خطيئة وتجديف يُغفر للبشر" (12: 31). من المعروف أن سفر اللاويّين فرض ذبائح تكفير لغفران الخطايا (19: 22). وأن أشعيا تكلّم عن خطيئة لا يكفّر عنها إلا الموت (22: 14)، فدلّ بذلك على رفض الشعب بأن يرى في الأحداث علامة عن حضور الله. ولكن أمام يسوع تتجلّى حقيقة الخطيئة، وفيه ينكشف الغفران. قد لا نتعرّف اليه عن جهل أو ضعف، ولكن مثل هذه الخطيئة تُغفر.
ومع ذلك، فهناك شكل من الرفض لا يستطيع الله نفسه أن يفعل شيئًا ضده: هو رفض المغفرة. فالتجديف على الروح يعني أن نرفض الوحي بإرادتنا، مع أننا أدركناه في يسوع نداء ملحاً في أعماق قلوبنا. يعني أن نعلن أننا لا نحتاج إلى الخلاص. وهذا ما يحكم على الانسان بشكل نهائيّ (12: 32، 37).
إن "التجديف" الذي عنى في العهد القديم (خر 27:22؛ 1 مل 21: 31) ذروة الكفر، ووصفَ موقفَ الوثنيين (مز 89: 51-52)، كان يُعاقَب بالموت (لا 24: 16). فالتجديف هو اتّخاذ موقف نهائي لا رجوع عنه. وهو يدلّ على الفساد (12: 33، رديئة) والشرّ (12: 34-35) في الانسان الذي لا ينفتح على غفران الله، ويسمح لنفسه بأن يحكم على عمل الله. نكتشف هنا عمق مدلول "الكلمة" كفعل أو عمل حاسم يعبّر عن قرار الانسان النابع من أعمق أعماقه (12: 35). وقد استعاد يسوع هنا لهجة يوحنا المعمدان، فقال: "نسل الأفاعي" (12: 34=3: 7). هذا الموقف نجده عند الفريسيين الذين حاولوا أن يتهرّبوا من دينونة تحكم عليهم في الاعماق. إن يسوع هو ذاك الذي أعلنه المعمدان وإن ظهر بشكل بشريّ لم يكونوا يتوقّعونه.
تُعرف الشجرة من ثمارها. والكلمة هي ثمرة القلب، والقلب هو الأصل في الانسان. "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك" (6: 21). فالكلمة هنا هي اعتراف (أو رفض) بشخص يأتي الينا، بملكوت الله الذي نعرفه بالروح في شخص يسوع عبد الله الوضيع (18:12). فالموقف الذي نتّخذه من يسوع يجعل الشجرة "جميلة" (كالوس) والانسان صالحاً (أغاتوس)، وهذا الموقف تدلّ عليه الدينونة الاخيرة. ولكن منذ الآن، وبحضور يسوع، يتمّ التمييزُ، لأن يسوع هو الحضور النهائي للدينونة التي تعمل في تاريخ البشر (18:12، 21). وبما أن الحكمة قد برّرتها أعمالُها (11: 19) هكذا تبرّر الكلمة الانسان أو تحكم عليه، إن دلّت على انفتاح كيانه العميق أو انغلاقه.
رابعًا: دينونة هذا الجيل، الأمم وآية يونان (12: 38- 45)
وتدخّل الفريسيون أيضاً مع الكتبة (38:12) ليطلبوا من يسوع آية. لقد جاءت "التجربة" بشكل أعنف، لأن الفريسيين ضمّوا إليهم الاخصّائيين في الشريعة. فالكتاب يُستخدم في كل شيء حتى لكي نبرّر نفوسنا حين نجدّف على الروح القدس. "فالانسان الشرّير من كنزه الشرير يخرج الشرور" (12: 35). فمن طلب آية دلّ على أنه يرفض الآية التي تنير كل آية. أما "هذا الجيل الشرير الفاسق" (12: 39؛ رج 11: 16)، أي العابد الاوثان، والمعروف بنواياه السيئة، فستُعطى له آية، هي آية موت ابن الانسان، آية امّحائه الكامل: "سيكون في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (12: 40)، مثل يونان النبيّ في أعماق البحر.
وهكذا قدّم يسوع لمعلّمي الشريعة هؤلاء، أمثولة في تفسير الكتاب: قبلَ الوثنيون تعليم القيامة، قبلوا آية "الثلاثة أيام" كما قبل أهلُ نينوى كرازة يونان. ولكن يونان الحقيقيّ هو يسوع. إن أهل نينوى سيقومون (سينهضون كما في القيامة، آ 41) مع يسوع ليحكموا على الذين رفضوا الحقيقة. ومعهم ستقوم ملكة الجنوب، ملكة سبأ، التي جاءت لتسمع حكمة سليمان (12: 42؛ رج 1 مل 10: 1-13) مع أنها لم تدرك حين سمعت ابن داود أنها صارت تلميذة يسوع. "ها هنا أعظم من يونان. ها هنا أعظم من سليمان" (12: 41-42). وكما قلنا: "ها هنا أعظم من الهيكل" (6:12). فالذي تمّ في يسوع يحكم على كل ما لم يتمّ بعد. فالشريعة والأنبياء والحكمة قد تمّت في يسوع وفي الوثنيين الذين نقلوها. انفتحوا على الملكوت أكثر من الكتبة الذين اعتبروا نفوسهم أبناء الملكوت وورثته (رج 8: 11-12).
حين نجّى يسوع المتشيطن، أعاد النظر والكلام إلى الشعب، فأتاح له أن يتمتم: "ألا يكون هذا ابن داود" (12: 23)؟ ولكن يجب أن يتعرّفوا بعد إلى هويّته المسيحانية كابن الانسان (12: 40) فلا يعودوا يسقطون في قبضة الروح النجس. فهذا الروح يبحث عن الراحة (أي 2: 20)، لا تلك التي يعطيها يسوع (28:11-29)، بل راحة الانسان المنغلق على ذاته في رفضه. قد نتعرّف لحظة إلى الملكوت الحاضر في يسوع، ولكن يجب أن نبقى حذرين (7: 15-23). فالطلبة الاخيرة في الصلاة الربّية يجب أن تكون صلاتَنا: "لا تدخلنا في تجربة، بل نجّنا من الشرير" (6: 13). والتنبّه يتوجّه إلينا اليوم وكل يوم. "تكون آخرة هذا الانسان شراً من أولاه" (12: 45).
خامسًا: قرابة يسوع الحقيقيّة (12: 46- 50)
إن المواجهة بين يسوع من جهة والكتبة والفريسيين من جهة أخرى، بيّنت كيف أن الملكوت يواجه الانسان في العمق ويحكم على مبرّرات أعماله. والآن، أعاد متّى انتباهنا إلى الجموع الحاضرة وإن بشكل خفر خلال هذه الجدالات (11: 7؛ 12: 15، 23- 46). فالجموع حكَم بين يسوع والفريسيين، وكلُّ ما قيل يعنيها. ولكن يبقى عليها أن تسمع النداء وتدخل إلى مدرسة يسوع وتتتلمذ له (11: 29).
إن أم يسوع وأخوته هم هنا يطلبون أن يكلّموه. فالاخوة هم أبناء القبيلة والعشيرة (تك 14: 14-16؛ 29: 15؛ لا 10: 4). وفي أيام متّى، كل أعضاء الجماعة المسيحيّة هم إخوة، لأنهم كلهم أبناء الآب السماوي (أع 1: 15؛ 17:9).
تكلّم يسوع فدلّ مرة أخرى على الفصل بين ملكوت السماوات وواقع الأرض، بين الملكوت وعلاقات القرابة بين البشر. هنا نتذكّر نداء يسوع إلى التلاميذ الأربعة الاولين (4: 20-22)، وجوابه للتلميذ الذي أراد أن يتبعه (8: 21-22)، وتنبيهه في خطبة الرسالة (10: 21-22، 35-36). يجب أن نفهم أن ملكوت السماوات يرتبط بنظام آخر: من أراد أن يُدعى تلميذًا، يصنع إرادة الآب الذي في السماء (12: 50). إن القرابة الآتية من الآب هي قبل القرابة الآتية من البشر. فجماعة يسوع هي جماعة الاخوة التي تعرف بالروح أن يسوع هو ابن الآب، فتفعل ما يفعله يسوع: إرادة الآب ومسرّته (11: 26؛ رج 3: 17). هكذا تأخذ الصلاة الربّية (الابانا، 6: 9-13؛ 7: 21) مكانتها في الجماعة.

4- المعنى اللاهوتيّ
في ف 10، أرسل يسوع تلاميذه في مهمّة صعبة تشبه مهمّة الأنبياء: موسى (خر 3: 7-12؛ 5: 2-9)، إيليا (1 مل 19: 15-18)، هوشع (1: 2- 9)، أشعيا (6: 8-13)، إرميا (1: 6- 10)، حزقيال (2: 10- 11، 16- 21)، وعبد الله المتألم (أش 42: 1-9). كل هؤلاء أحسّوا أنهم أمام مهمّة صعبة، مستحيلة، ومع ذلك ساروا مع الربّ. أما هنا، فالتلاميذ لم يذهبوا، لأنهم لم يكونوا بعد مهيّأين للذهاب إلى العالم "كالخراف بين الذئاب" (10: 16)، ليسلَّموا إلى الناس (10: 17-19)، دون خوف من الذين يقتلون الجسد (26:10- 31). "فالتلميذ ليس أفضل من معلمه. ولا العبد من سيّده" (10: 24). فبقي لنا أن نعرف المدرسة (11: 29) التي جعلهم فيها المعلّم. هذا ما رأيناه في ف 11-12.
مرّت الجماعة في المحنة، محنة الشكّ مثل يوحنا المعمدان، والمعارضة والمجابهة مع الفريسيين والكتبة، وعرفت التجربة مع ابن الله (4: 1- 11)، كما رأت معلّمها يتغلّب على المحن بأقواله وأفعاله. ورأته ينطلق في رسالته بعد خطبة الرسالة، فتعلّمت منه الشيء الكثير.
جاء تلاميذ يوحنا، وجاء الفريسيون والكتبة إلى يسوع، فعارضوا تعليمه وأعماله باسم تصوّرهم الخاص للملكوت وللمسيح. ففي زمن متّى، تواجه تلاميذُ يسوع مع تلاميذ يوحنا والفريسيين. واستصعبوا أن يكون "أعداء الرجل أهل بيته" (10: 36). فالايمان بالرب القائم من الموت، طلب من المؤمن (كما يطلب منه اليوم) أن يختار. فعلى الكنيسة أن تعيش تحت تأثير الروح القدس، فتطرد الشيطان الاعمى، الأصم والاخرس، لكي تعلن المسيح الحاضر فيها. والملكوت واقع يتطلّع إلى المستقبل. ما زالت مدن العالم لم تعرف الانجيل. وحين يصل ملكوت الله إلى البشريّة كلها، يطرح الروح السؤال الأساسي (12: 28). فتلاميذ يوحنا الذين يدافعون عن الديّان الرهيب الذي ينقّي بيدره (3: 12) ما زالوا هنا. والفريسيون المنغلقون في نظرتهم التقليدية إلى الممنوع والمسموح (12: 2)، هم حاضرون. والكتبة الذين يبحثون في الكتب عمّا يبرر أعمالهم، حاضرون بيننا (38:12). يجب أن يحكم عليهم الروح القدس الذي لا يرتّب البشر فئات فئات، بل يدعو كل واحد للدخول إلى مدرسة يسوع (11: 29). هكذا تتكوّن جماعة الإخوة الذين يعملون إرادة الآب (12: 49) ويقبلون الدعوة إلى التوبة (11: 12) التي يطلقها يسوع عبد الله المتألم وابن الآب الحبيب (12: 28).
نستطيع في ف 10 أن نقول إن الكنيسة تأسّست بدعوة الاثني عشر وإرسالهم. فالروح ينعش جماعة التلاميذ، وسلطةُ يسوع تُعطى لهم كما أعطيت للانبياء. يبقى على كل واحد أن يعيش هذه الدعوة عبر وضعه الملموس الذي فيه أدركه الملكوت. هناك الاثنا عشر والتلاميذ والصغار والجموع والناس والفريسيون والكتبة والعشّارون. أناس وُجدوا في أيام يسوع. ولكن حياتهم الحقيقيّة لا تظهر الا على ضوء يسوع: فحضوره ينير وجودهم، ويحطّم الأبواب المغلقة، ويحرّك حريّتهم.
إن نداء يسوع يبدو للوهلة الأولى "اعتباطياً": فالبعض يُدعون، والآخرون يُرذلون. فنحن كأننا أمام ملك "متسلّط". في الواقع، نداء يسوع ليس محصورًا في أشخاص ولا اعتباطيًا: فكل واحد منا مدعوّ في حريته. مدعوّ بطريقة شخصية وفريدة مثل الرسل. غير أن هذا النداء لا يصبح ملموسًا إلاّ حين نتجاوب معه. عند ذاك يتجسّد نداء الله في أعمالنا وأقوالنا، يتجسّد في حياتنا.
أرسل يسوع مجموعة خاصة من التلاميذ ليعلنوا مجيء الملكوت. لامستهم كلمتُه فاستعدّوا لاحتمال المحن من أجل نشر البشارة (10: 39). وإذا كان قد منع البعض من التعريف بالشفاء الذي حصلوا عليه، وبالتالي باعلان "ذلك الذي يأتي" (11: 5)، فلكي يكشف الالتباس في حماسهم أمام معجزة لم يفهموا مدلولها: أعاد يوحنا المعمدان إلى الكتب المقدسة (11: 6). ودعا الجموعَ لتقبل المسيح عبر الآية النبويّة التي هي يوحنا المعمدان (11: 13-14). وإن كان كلامه قاسياً مع المدن (11: 20-24)، مع الفريسيين والكتبة (12: 34-37، 39-45)، فلكي يجعلهم يعون الوضع الذي يصلون اليه في رفضهم. وفي كل هذا، ما زال يسوع يوجّه كلامه إلى الجميع. وروح يسوع الحاضر في العالم، هو الذي يساعدنا على إدراك الانجيل في واقعنا اليوميّ، وعلى الدخول إلى مدرسة يسوع، مدرسة الصغار والتلاميذ، مدرسة الوداعة وتواضع القلب.

خاتمة
إن خطبة الرسالة جعلت الجماعة تلتئم بالكلمة النبويّة. وساعة ينبغي أن نعلن إيماننا أو نعلّم، نعي ما في واقعنا من التباس وما في قلوبنا من ثورة. هناك محنة شكوكنا، ونظرتنا الضيّقة. لهذا نقدّم نفوسنا للشفاء، وعيوننا لنور المسيح، وآذاننا لسماع تعليمه، ونترك الملكوت يدخل إلى حياتنا ويبدّلها. فيسوع هو هنا، وهو يكّرس الشعب ويجعل منه إخوة وأخوات بقدر ما يقبلون أن يكونوا صغاراً معه.
إن الاتّحاد بجسد المسيح يتيح لنا أن نعيش الاخوّة مع ابن الله الحبيب. والاحتفالات التي نعيشها هي البوتقة التي فيها تُمحَّص نوايانا ومواقفُنا وحياتُنا كلها. هكذا ننفتح على الآيات المسيحاوية، ونكتشف الانبياء الحقيقين، ونصلح أحكامنا بواسطة الحكمة التي هي مبدأ تمييز ملكوت الله الذي يعمل في العالم. وندخل في مدرسة رضى الله، التي تجعلنا نحمل متطلّبات الحياة وكأنها نير ليّن وحمل خفيف. ونناله الروح الذي يجعلنا نرى قيامة المسيح في آية يونان، ويدفعنا إلى العمل بمشيئة الله لكي نؤلّف عائلة يسوع الحقيقيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM