الصلب

الصلب
19: 17- 30

خرج يحمل صليبه إلى الجلجلة حيث طلبوه هو واثنين آخرين معه.
كان الرومان يعاقبون بالصلب آخر طبقات المجتمع ولا سيّما العبيد، ويعاقبون المجرمين على مستوى الحق العام (السرقة، القتل)، الجندي الهارب من الخدمة، والعبد الذي يترك سيده، كما يعاتبون الثائرين الذين يبلبلون النظام العام. ولقد قالت شيشرون، خطيب رومة، إنه "أقسى عذاب واشنعه".
لم يكن هذا العذاب مجهولاً في التشريع الروماني. كانوا يعلّقون على الخشبة أجساد الاشخاص الذين قتلوا رجماً لأنهم عبدوا الأصنام أو جدّفوا على الله والملك. واذ كانوا يفعلون ذلك، كانوا يشدّدون على خطورة مثل هذه الخطايا. وهناك نصوص متأخرة تتحدّث عن صلب أناس أحياء، دون أن توضح كيف تتم عملية الصلب هذه. كلّمنا المؤرّخ فلافيوس يوسيفوس عن صلب عدد كبير من اليهود على يد أناس يهود، خلال القرن الأول ق. م. في أيام الاسكندر يناي. ويرى اليهود في هذه الميتة لعنة حقيقية: "ملعون من الله كل من علّق على خشبة" (تث 21: 22؛ غل 3: 13). إذن، لم يكن اليهودي يفهم اطلاقاً، بل يتشكك إن قيل له ان المسيح صُلب لأنه خان ألهه وشعبه.
لقد اعتدنا أن نرى صلباناً. فمنذ البداية، بدا الصليب مهماً للمسيحيين. ولكن في القرون الأول رُسم الصليب ولم يُرسم المصلوب. وفسرّ الصليب على أنه علامة الظفر والانتصار: إنتصرت الحياة على الموت، وصار الصليب شجرة الحياة.
أما أولى الصور عن الصليب فتعود إلى القرن السادس، والصور مع المصلوب إلى الفرن العاشر. ولكننا دوماً أمام مسيح مجيد، مهيب: فالرب يملك من أعلى صليبه. وسوف ننتظر القرن الرابع عشر لكي نجد تشديداً على الآم المسيح وعذاباته. فهذا التطوّر قد ارتبط بأحداث تاريخية حرّكت تفكير المسيحيين: انحطاط مملكة بيزنطية المسيحية بعد أن هاجمها الاتراك، الوباء الذي اجتاح اوروبا فأخذ نصف سكانها. وتنوّعت رسوم الفنانين: من مسيح يمزّقه العذاب، إلى مسيح هادئ لا يصيبه العذاب.
لقد أعطى الانجيليون مكانة هامة لخبر الآلام (الحاش، كما نقول في السريانية). ولكن كلاً منهم رواه بطريقته الخاصة. والظاهرة عينها تتكرّر على مرّ التاريخ. فبسبب الاحداث المختلفة التي نجد نفوسنا فيها، نتوّقف عند هذه الوجهة أو تلك في حدث موت يسوع. وحين نحتفل بالآلام ونعيشها من جديد، تكون ردّات الفعل عندنا متنوّعة:
- أي حب عظيم! أمام مثل علاقة الحب هذه، نتعجب ونشكر. ونتألم حين نرى أن هذا الحب ما زال مجهولاً، ونودّ أن نعمل لكي نعرّف الناس بهذا الحبّ.
- لقد تألم من أجلنا. ففي يسوع لم يفلت الله نفسه من الألم. هو واحد منّا. هو لم يتظاهر بأنه انسان، هو لم يكذب مع الحياة. وهذا ما يساعدنا على الثبات حين يصادفنا الألم في حياتنا. هذا لا يبرّر الألم، ولكنه يساعدنا على أن نعطي معنى لألمنا.
- أي صراع وأي حرب! لم يمت يسوع صدفة واتفاقاً. لقد كان موته نتيجة كل ما عمله ليعيد إلى كل إنسان كرامته، إلى صغار القوم، إلى المبعدين... لهذا، إن أردنا أن نعيش الآلام، نحيا صراعاً شبيهاً بالصراع الذي قاساه.
الكتابة على الصليب (آ 17- 22).
إختلف يوحنا عن الاناجيل الازائية حيث يساعد سمعان القيريني يسوع على حمل صليبه، فلم يحتج يسوع إلى أية مساعدة ليذهب إلى المكان الذي فيه سيتوّج ملكاً. شدّد الانجيلي على أن يسوع يسيطر على الاحداث. فلا يترك "أحداً" يقود آلامه إلى نهايتها. كما أنه عارض بعض الظاهريين (يقولون أن يسوع تظاهر ولم يكن له إلا شبه جسد، كما لم يمت حقاً) الذين وُجدوا في الكنيسة الأولى، واعتبروا أن يسوع لم يتعذّب في الآمه، فحل محله في الساعة الاخيرة شخص يشبهه.
ويرسم يوحنا الجلجلة بمهابة واحتفال. هي موضع تتويج يسوع (19: 13، المكان المرتفع). وهي موضع حدّدت معالمه، لأنّ تاريخ الخلاص يتسجّل في الزمان والمكان. يسمّى الموضع "الجلجلة" أي "الجمجمة". من أين جاء معنى هذه الكلمة؟ قد يعود إلى شكل التلة المعرّاة من الاشجار، أو إلى وجود جماجم عديدة بسبب أحكام سابقة بالاعدام. ولقد رأى بعض الآباء الكنيسة في هذه التلة موضع جمجمة آدم، لأنهم تأثروا بنمطية يسوع الذي هو "آدم الجديد".
روى يوحنا الصلب بطريقته الخاصة، فالغى عدداً من التفاصيل نجدها عند الازائيين. مثلاً، محاولة اليهود بأن يسقوا يسوع قبل الصلب خمراً (مر 15: 23). كلمات مجدّفة على يسوع (مر 15: 29- 32) قد تلقي بعض الظلّ على ملكية يسوع في نظر القرّاء المسيحيين. ولا يقول يوحنا شيئاً عن تفاصيل نجدها عند الازائيين حول الشمس التي أظلمت وستار الهيكل الذي تمزّق (مت 27: 51- 54). كما لا يحدّد هوية المصلوبين، لئلا يميل بأنظار القرّاء عن الشخص المركزي الذي هو يسوع، فيقدّم تلميحات تاريخية مفصلّة عن الغيورين (إن كلمة "لص" تدلّ على جماعة الغيورين في لغة المؤرخين والاناجيل). وعذاب الصليب الذي اعتبره الاقدمون أقسى عذاب وأشنعه، صار للمؤمن مشهداً ملوكياً فيه يعرّف يسوع بنفسه إلى أحبائه.
أشار الانجيليون الاربعة (كل واحد بطريقته) إلى الكتابة الموضوعة على الصليب، فبيّنوا سبب الحكم بالاعدام على طريقة الرومان. غير أن يوحنا توسّع في هذا الموضوع بشكل لافت، فجعل بيلاطس مسؤولاً عن الكتابة وتحدّث عن اللغات الثلاث التي دوّن فيها "الحكم": العبرية (أي: الأرامية) وهي لغة اليهود اليومية. واليونانية وهي لغة الامبراطورية. اللاتينية وهي لغة المحتلّ. كما جعل من هذه الكتابة موضع جدال بين بيلاطس واليهود. وقد يكون الحوار الملغز بين الفئتين احتفظ بأثر سهام هجومية ضد اليهود في زمن يوحنا: فرغم احتجاجهم ضدّ هذا اللقب، لا يمكن أن يكون شك في ملكية يسوع عليهم: فالسلطة الرومانية نفسها اعترفت بذلك ولم تترك مجالاً للجدال. فبيلاطس الذي تراخى وتنازل في كل شيء أمام اليهود، ظلّ هنا صلباً ولم يتراجع: "ما كُتب فقد كُتب".
في النهاية نقدّم ثلاث ملاحظات:
- هذه الكتابة هي عمل بيلاطس، هو الذي وضعها على الصليب. بما أنه يمثل السلطة الرومانية، فالنص الذي لا هذه الكتابة هو نصّ رسمي يعلن ما تقوله رومة عن علاقة يسوع باليهود: هو ملكهم. كما يعلن اعتراف "الوثنيّين" بملكية يسوع.
- هذه الكتابة هي في متناول الجميع، والجميع يستطيعون قراءتها. موضع الصليب قريب من أورشليم. ثم إن النص مكتوب في اللغات الثلاث المعروفة في فلسطين. إذن، قد أعلنت ملكية يسوع في وجه العالم كله.
- طلب اليهود أن يبدّلوا هذا النص. لم يلبّ بيلاطس طلبهم. وهكذا أتاح للحقيقة أن تظهر في ملء النهار: المقتول هو ملك اليهود. هذه حقيقة لا يتقبّلها المسؤولون عن صلب يسوع.
اقتسام الثياب (آ 23- 24).
أورد الانجيليون الأربعة الحدث. وتفرّد يوحنا فأبرز الحصص الأربع، وقدّم الاستشهاد الكامل لنصّ مز 22: 19 كما ورد في السبعينية، وتوسّع في موضوع القميص غير المخيط. كان القميص لباساً يرتديه الناس مباشرة على جسدهم، وكان قطعة واحدة. رأى الشرّاح في القميص الذي لم يمزّق ولم يقسّم تلميحاً إلى قميص عظيم الكهنة الذي لم يكن مخيطاً، كما رأوا فيه رمزاً إلى وحدة المسيحيين.
وهناك تفسير آخر نكتشفه في مجمل الخبر، إذا اعتبرنا أن الجنود الذين قاموا بهذا العمل هم مغتصبون. فالمعنى الاول يبرز تجرّداً تاماً لدى يسوع الذي تخلّى عن كل ذاته، وعن كل ممتلكاته. وفي الوقت عينه، دلّت الكتب المقدسة المذكورة هنا أن الجنود يُقادون من دون أن يعلموا لكي يصنعوا ما يصنعون. يقودهم فاعل يوجّه الأحداث بحيث يتمّ ما كُتب، بحيث تتم مشيئة الله كما نقرأها في الكتاب المقدس.
فبين الظاهر (يسوع يسلّم إلى البشر وما في أحكامهم من تعسّف) والواقع، نقرأ حقيقة عميقة تبدو في متناول أولئك الذين يعرفون أن يقرأوا الكتب المقدسة. الحقيقة تقدّم نفسها من أعلى الصليب إلى العابرين (كثير من اليهود قرأوا هذه اللوحة)، ومن خلالهم إلى جميع البشر الذين يفهمون اللغات الثلاث في العالم اليهودي كما في العالم كله. والكتابات اليهودية (مز 22) تلهم تصرّف التلاميذ من دون أن يدروا. فهذه الكتابات التي سجلّت في إنجيل يوحنا، تشير إلى القرّاء المقبلين الذين "يقرأون الكتابة"، ويتّخذون موقفاً من المسيح المعلّق على الصليب.
حسب الشريعة، تقاسم الجنود ثياب المحكوم عليه. ويشدّد النصّ على التوازي بين مشهد اقتسام الثياب والمشهد التالي (آ 25- 27) الذي يتحدّث عن التلميذ وأمّه. لهذا نستطيع أن نترجم ترجمة حرفية آ 24: من جهة، هذا ما فعل الجنود. ومن جهة ثانية، وقف عند صليب يسوع... فالمشهدان يتضمّنان أربعة اشخاص. في الأول، هناك أربعة جنود اقتسموا ثياب يسوع أربع حصص. وفي الثاني أربع نساء: أمه، أخت أمه، مريم امرأة كليوبا، مريم المجدلية.
إن المشهد الثاني يشير إلى ولادة جماعة جديدة، جماعة التلاميذ مع أمهم التي ترمز إلى الكنيسة. ونقول الشيء عينه عن المشهد الأول. فالقميص غير المخيط يرمز كما قلنا إلى الوحدة. هذا هو الهدف الذي أعطاه يوحنا لموت يسوع حسب الموقف الذي أتخذه قيافا: إن مصلحتكم تقضي بأن يموت رجل واحد عن الشعب... لقد تنبأ على أن يسوع سيموت عن الأمة، "وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أيضاً في الوحدة ابناء الله المتفرّقين" (11: 49- 52).
ستستعيد الاجيال الأولى هذه الصورة لتدعو المؤمنين لئلا يمزّقوا وحدة الكنيسة المشتتة في العالم كله. في هذا المجال كتب قبريانس، اسقف قرطاجة حوالي سنة 250 ما يلي: "إن سرّ الوحدة ورباط الاتحاد غير المنظور، نجده معروضاً في الانجيل: فقميص ربنا يسوع المسيح لم يقسّم ولم يمزّق، بل اقترعوا عليه لكي يعرفوا من يستطيع أن يلبس المسيح. إذن، نتسلّم القميص كله. نتسلّمه سليماً كاملاً لا ينقصه شيء ونتخذه كملك شخصي... لا نستطيع أن نمتلك لباس المسيح اذا شققنا كنيسة المسيح وقسمناها".
التلميذ الحبيب وأم يسوع (آ 25- 27).
هناك شخصان سيلعبان دوراً هاماً عند الصليب. لم يذكر اسمهما بل وظيفتهما: الأم والتلميذ.
* ام يسوع: هي المرة الثانية التي يحدّثنا يوحنا عن حضورها. في المرة الأولى، في قانا الجليل، حيث لم يُذكر اسمها أيضاً. ذكرت أولاً أنها أم يسوع. ثم ناداها يسوع: يا امرأة. في قانا، لم تكن الساعة قد أتت بعد. أما الآن، فقد أتت الساعة وبدأت حقاً أعراس الله مع البشرية في فرح لا ينتهي وخمر لا تنفذ.
نلاحظ أولاً أهمية لفظة "أم" التي تعود خمس مرات في بضعة أسطر. فالنصّ يريد أن يشدّد على وظيفة الأمومة عند مريم.
لماذا يوجّه يسوع كلامه إلى أمه فيستعمل لفظة "امرأة"؟ ليست هي الطريقة العادية التي يكلّم الإبن أمه. نحن هنا أمام سرّ قد نكتشفه حين نعود إلى نصوص أخرى في الكتاب المقدس حيث نجد لفظة امرأة. هناك تلميح إلى تك 3؛ تحتلّ المرأة مكانة هامة في الصراع القائم ضدّ قوى الشرّ. ونقرأ في تك 3: 20: "سمّى الرجل أمرأته حواء، لأنها أم كل حيّ". أجل، مريم هي هنا خلال انتصار ابنها على الشر والموت والخطيئة. ومريم هي حواء الجديدة، وأم جميع المؤمنين. نحن هنا أمام شعب جديد يولد من جنب المسيح على الصليب.
وهناك صورة أخرى نجدها عند الانبياء حين يصوّرون الخلاص المقبل: إنهم يمثّلون أورشليم (باسمها القديم: صهيون) كامرأة وأم تلد البنين العديدين. كلهم يجتمعون فيها لكي يكوّنوا شعب الله الجديد. نقرأ مثلاً في أش 60: 4- 5: "إرفعي عينيكِ وانظري. قد اجتمعوا كلهم وجاؤوا إليكِ. يأتي بنوك من بعيد، وتُحمل بناتك على الايدي. حينئذٍ تنظرين فيشرق وجهك ويخفق قلبك ويتسع". وفي مز 87: 5- 6: "يقال عن صهيون: كل انسان ولد فيها، والعليّ هو الذي يثبّتها. الرب يسجّل في سجلّ الشعوب: إن هذا (الآتي من الأم الوثنية) وُلد فيها".
ونجد رمزية مشابهة لهذه الرمزية في يو 16: 21: مثل المرأة التي تلد. "هي تحزن لأن ساعتها قد جاءت. ولكنها متى ولدت الطفل لا تعود تتذكّر الشدّة". ونقرأ في رؤ 12 عن المرأة التي ترمز إلى شعب الله الذي يلد وسط "الصراعات"، يلد المسيح وتلاميذه.
* التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. لا يُذكر إلا في القسم الثاني من إنجيل يوحنا، كتاب الآلام والمجد. في 13: 23: وكان متكئاً في حضن يسوع التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. وفي 19: 26 وهو النصّ الذي ندرس: رأى يسوع التلميذ الذي كان يسوع يحبّه واقفاً. وفي 21: 7، 20: قال التلميذ الذي كان يسوع يحبّه: هو الرب... التفت بطرس ونظر التلميذ الذي كان يسوع يحبّه.
من هو هذا الشخص؟ وما تعني العبارة؟ حين نتحدّث عن "تلميذ" نفكّر عادة بشخص يتبع "المعلم". أما هنا فيلفت انتباهنا وجهة أخرى: التلميذ هو أولاً من يحبّه يسوع. فمحبّة يسوع هي التي جعلت التلميذ يتعلّق بالمسيح. ونلاحظ أيضاً أن النصّ لا يقول إن هذا التلميذ كان قرب الصليب، بل قرب أم يسوع.
نحن مع هذين الشخصين (أم يسوع والتلميذ) أمام صورتين عن الكنيسة التي تُولد من الصليب. مع مريم هي الكنيسة في وظيفتها كأم. الكنيسة التي تلد الابناء العديدين. مع التلميذ، هي الكنيسة التي تتسلّم نفسها من آخر (هو الله)، التي تفتح قلبها لكي تترك المسيح يحبّها. كنيسة نبنيها وهي ثمرة مسؤوليتنا. كنيسة نتقبّلها وهي ثمرة عطية الله. فالأم هي هنا لكي تعطي الحياة، والتلميذ هو هنا لكي يتقبّل الحياة.
"أخذها التلميذ الى بيته الخاص". فالام والتلميذ يقيمان معاً في جوّ من التقوى البنوية. غير أن العبارة هي اغنى بكثير، فتدلّ على علاقة حميمة. فإذا أردنا أن نفهمها تذكّرنا أن الكلمة اليونانية "في بيته الخاص" نجدها في 1: 11 حيث نقول إن الكلمة "جاء الى خاصته". كما نجدها في شكل قريب في 13: 1: "أحبّ يسوع خاصته الذين كانوا في العالم". إذن، لسنا أمام ملك وبيت، بل أمام علاقة، أمام شركة وأتحاد. لسنا فقط على مستوى "الخارج" والعلاقات الخارجية. فالتلميذ يجعل من مريم أمه الخاصة. تصبح جزءاً من عالمه، جزءاً من حياته. فنحن لا نستطيع أن نعيش الاتحاد مع يسوع دون أن ترافقنا مريم الأم، دون أن يكون لنا علاقة مميّزة معها.
فعل يوحنا مثل الازائيين فسمّى بعض النسوة اللواتي كنّ حول يسوع. قال مر 15: 40: "كن ينظرن من بعيد". أما يوحنا فقال عنهن: كن عند الصليب، قرب الصليب. ثم إن هوية النسوة تختلف بين أنجيل وآخر أقله في الظاهر. في مرقس هناك: مريم المجدلية، مريم أم يعقوب الصغير (تمييزاً عن يعقوب بن زبدى) ويوسي وسالومة (أم يعقوب ويوحنا وامرأة زبدى؛ رج مت 27: 6 5). في مت 27: 56 هناك: مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدى. مريم المجدلية هي في كل اللوائح. وهناك من يجعل من سالومة (مر 15: 40) (ام ابني زبدى مت 27: 56) اخت أمه (يو 19: 25). حينئذٍ يكون يوحنا ابن خالة المسيح، ومريم أخت سالومة. وهكذا نفهم أنها بعد موت ابنها يسوع، ذهبت الى بيت أختها. هذا على مستوى المعنى الواقعي، وهناك ايضاً المعنى الرمزي.
بعد أن أرانا يوحنا الجنود المغتصبين الذين لا سلطة لهم إلا على جسد يسوع ولباسه، هو يقدّم لنا الوارثين الحقيقيين، أمه والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه.
في الظاهر، تجرّد يسوع من كل شيء. ولكنه ظلّ سيداً كل الأحداث. ساعته التي لم تكن قد أتت بعد في قانا الجليل (2: 9)، قد جاءت الآن. كانت قانا بداية الآيات. أما هنا فيجد الوحي ذروته في موت يسوع. وحين "يرى" يسوع هذا، سينظّم ما بدأت به أمه في قانا: جماعة الذين دُعوا ليحملوا ارث يسوع ويحيوا منه. "يا أمرأة، هوذا ابنك": مريم هي صورة. الذين ينتظرون الخلاص ويحملونه إلى الآخرين. وقد تثبتّت هنا كأم "للتلميذ الذي كان يسوع يحبّه"، للمؤمن الحقيقي، لذاك الذي يعمل ما يقول له يسوع (2: 5). وأعطي التلميذ المحبوب ايضاً كابن لأم يسوع. هكذا تلد الكنيسة (مريم هي أم الكنيسة لأنها أول المؤمنين) في هذه الكلمة المؤسّسة. والتلاميذ ليسوا بيتامى. لهم مكان يكونون فيه هو جماعة المؤمنين التي ترمز إليها أم يسوع، وهي التي أصغت إلى ذاك الذي ولدته. والبرنامج الذي يتحقّق هو الحب الذي يربط التلميذ بيسوع. إن التلميذ يتقبلّ الأم عنده ويعلنا أمه. ويتواصل وحي بيسوع بواسطة التلميذ والام اللذين يفسرّانه التفسير الصحيح. وحين قال يسوع هذا الكلام، اعلن: لقد تم (19: 28) لقد أتمّ يسوع عمله، فلم يبق له إلا أن يسلم الروح. أن يموت. وأن يسلم روحه القدوس إلى الكنيسة.
ونعود إلى التلميذ الحبيب.
تفرّد الإنجيل الرابع فترك لنا إشارات تساعدنا على اقتفاء اثره. ونستطيع أن نجعل هذه المقاطع في ثلاث مجموعات:
أ- في 1: 37- 40، تبع يسوع تلميذان من تلاميذ يوحنا المعمدان. وسمّي واحد منهما وهو اندراوس. أما الثاني، فلم يذكر اسمه. أما يكون يوحنا قد أشار إلى نفسه من خلال هذا اللقاء بين يسوع وتلميذيه؟
ب- هناك حديث عن "التلميذ الآخر" في مقطعين من إنجيل يوحنا. في 18: 15- 16 جاء بطرس والتلميذ الآخر الى دار رئيس الكهنة ساعة كانوا يحاكمون يسوع. في 20: 2- 10، "خرج بطرس والتلميذ الآخر الى القبر" بعد أن أخبرتهما المجدلية ما أخبرتهما.
ج- في ست حالات يلعب "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه" دوراً هاماً. في 13: 23- 26 نجده مستنداً إلى صدر يسوع. في 19: 25- 27، نجده مع أم يسوع عند الصليب. في 20: 2- 10، سيسبق بطرس على مستوى الايمان بالقيامة. في 21: 7 كان أوّل من عرف الرب بعد ذاك الصيد العجيب. في 21: 20- 23، سيكون قرب يسوع حتى النهاية. وفي 21: 24، "هذا التلميذ هو الشاهد". عادة، نجد التلميذ الحبيب مع بطرس. لماذا لم يُذكر أسم هذا التلميذ؟ أيكون تواضعاً؟ ربما. ولكنه لو بحث عن التواضع لطلب اسماً أقل "رفعة" بالنسبة إليه.
نحن هنا في توازٍ بين بطرس وهذا التلميذ. ثم إن هذا التلميذ يسبق دوماً بطرس بل يتوسّط له في بعض المرات: أدخله إلى قصر عظيم الكهنة، سبقه إلى القبر (قبل أن يُمحّى أمامه)، كان أول من عرف الرب على شاطىء البحيرة فقال لبطرس: هو الرب. وهناك مشهد قد يعطينا مفتاح اللغز، هو المشهد الذي فيه يظهر التلميذ الحبيب للمرة الأولى. في 13: 21 هو يستند إلى صدر يسوع. هذا القرب على مستوى الجسد (يُذكر مرة ثانية في 21: 20) يدّل على اكثر من حضور مادي بسيط. فساعة سلّم الربّ وصيته، كان هذا التلميذ متحداً اتحاداً عميقاً مع المعلّم. إنّه شاهد أمين حتى النهاية. وسيكون بإنجيله المكتوب الصورة المثالية لذاك الذي فهم المعلّم، لذاك الذي أحبّ فأقام دوماً مع المعلّم. في البداية سأل ذاك التلميذ مع اندراوس: يا رب، اين تقيم؟ (1: 39). وفي النهاية أراد يسوع له أن يقيم معه إلى أن يجيء، (21: 22). وهكذا تمّ له ما تمنّاه.
كل هذا لا يتيح لنا أن نتعرّف بدقة إلى ذاك التلميذ: فالإنجيلي الرابع (شأنه شأن سائر الإنجيليين) لم يحاول أن يجعل نفسه في وسط كتابه. فيسوع وحده هو من يلهمه، ويسوع وحده يهمّ القرّاء. لا ليس هذا التلميذ لعازر، كما قال البعض. وليس هو صورة رمزية عن التلميذ الكامل. لا شك في أن هذا الرمز موجود. ولكن على الرمز أن يستند إلى الواقع التاريخي. فالإنجيل الرابع (مع أصالته) ما كان ليُقبل في الكنيسة إلا لأن في أساسه صورة تاريخية كبيرة رافقت يسوع منذ بداية رسالته حتى صعوده الى السماء.
موت يسوع (آ 28- 30).
لقد تمّ كل شيء. تمت حياة ورسالة يسوع الذي "أحبّ أخصّاءه إلى الغاية". تمت الكتب ولا سيما تلك التي تشير إلى رجاء الانبياء: قلب جديد، عهد جديد، حبّ الله من أجل إمرأة شبابه (إر 30: 31؛ حز 36: 26؛ أش 54: 5- 7؛ 62: 4- 5). حقاً لقد جاء وقت الأعراس التي أشار اليها عرس قانا الجليل.
وجاء ايضاً وقت موهبة الروح، آخر عمل في رسالة يسوع. "أسلم يسوع الروح". لسنا فقط أمام آخر نسمة في حياة يسوع. بل أمام الروح القدس الذي يسلّمه يسوع الى المؤمنين. فقبل موته "لم يكن الروح بعد أعطي، لأن يسوع لم يكن قد مجّد" (7: 39). أما الآن، ومن أعلى الصليب، فقد تمجّد يسوع، فاعطى الروح. ونستطيع أن نرى في عطش يسوع، عطشاً بأن يصل الروح إلى الجميع. فلا يتمّ كل شيء إلا حين نتقبّل الروح فينا وفي العالم. كل شيء قد تمّ وانتهى على مستوى يسوع والكنيسة. والآن جاء دورنا.
لا نجد عند يوحنا تجاديف المجدفين وهزء المستهزئين التي ترافق موت يسوع. ولا نجد صراخ "اليأس" والألم العميق كما في الاناجيل الازائية. إن الإنجيلي يصوّر أويقات يسوع الأخيرة كأعمال حرّة يقوم بها من هو سيد مصيره حتى النهاية، من يقول ما يجب أن يقول ويعمل ما يجب أن يعمل. ففعل "تمّ" يفتح هذه المقطوعة ويقفلها. في آ 28: "رأى أن كل شيء قد تمّ". وفي آ 30، قال يسوع: "لقد تمّ". وصرخة أنا عطشان قد تدلّ على صياح طبيعي يطلقه مائت لم يبق ماء في جسمه. أما عند يوحنا، فصارت كلمة من كلمات يسوع الذي يعلن بكامل وعيه أنه أتمّ الكتب. دار مثل صاحب المزامير المضطهد: "في عطشي أسقوني خلاً" (مز 69: 22). وهكذا يؤكّد أمام الجميع فقره وعوزه. وموضوع التتمة يشير أيضاً الى طاعة بنوية يتحلّى بها يسوع الذي أحبّ تلاميذه "الى الغاية" (31: 1). هو عطشان لكأس يعطيه اياه الآب ليشربه (18: 11)، هو الجائع لارادة الآب. قال في 4: 34: "طعامي أن أتمّ عمل الذي أرسلني". أخذ يسوع كأس الموت المرة كالخلّ، ثم مات بعد أن أتمّ رسالته. لقد ذهب يسوع في الطاعة حتى الغاية (14: 31). وأتمّ المهمة التي كلّف بها (17: 4). إنه سيد مصيره حتى النهاية.
في الصورة التي ترسم موت يسوع، نجد عبارة "أسلم الروح". أي: قاد أمانته للآب حتى النهاية، حتى تسليم ذاته كلها له. نجد في هذا العمل الأخير ذروة كرستولوجيا (كلام عن يسوع المسيح) القديس يوحنا، وهي بعيدة كل البعد عن تخلي يسوع وعزلته المأساويين كما رسمهما متى ومرقس. في هذه اللحظة، ليس يسوع وحده. فقد سبق له وقال: "إن الذي أرسلني هو (دوماً) معي. ولم يدعني وحدي لأني أفعل دائماً ما يرضيه" (8: 29). موت يسوع هو عودة الابن إلى أبيه. وكلمته الاخيرة "قد تمّ كل شيء" تدلّ على أنه أنهى رسالته خير نهاية. وموت يسوع هو أيضاً عمل خلاص موجّه إلى البشر. إنه آخر فعلة من فعلات يسوع الذي ينحني نحو كنيسته التي تولد الآن، والتي تمثلها أمه والتلميذ الحبيب. ينحني على كنيسته ويعطيها روحه.
ماذا يعني لنا الآن هذا النصّ الإنجيلي؟
اولاً: نأخذ مريم إلى بيتنا.
فمع التلميذ عند الصليب، نحن مدعوون لكي نتقبّل مريم كأمّنا، أن نأخذها ألى بيتنا الخاص، نصبح من خاصتها. فمريم تحتلّ مكانة كبيرة في الكنيسة. فما هي مكانتها في قلوبنا؟ قد لا نرتاح لهذا الشكل أو ذاك من العبادات. ولكننا لا نستطيع أن نلغي مكانة مريم من حياة التلميذ. هي جزء من "إطاره الحياتي". والنصّ الذي قرأناه يوجّه أنظارنا في ثلاثة اتجاهات:
- مريم هي هنا. واقفة قرب الصليب. فالذين تبعوا يسوع لم يكونوا عديدين. فالأم تستطيع أن تساعد ابنها المصلوب على اكتشاف الطريق الذي سار فيه، تستطيع أن تلفي الضوء على الآلام التي حركت حياته كلها. حين نقف قرب أم يسوع، نستطيع أن نقف قرب الصليب.
- مريم هي هنا. إنها رمز الكنيسة، الأم التي تلد المؤمنين. مع مريم نصل إلى الوقت الذي يعدنا بالولادة. نحن نحتاج إليها لكي ننعش حبنا للكنيسة وايماننا بامكانياتها على الولادة. قد "ننتقد" الكنيسة وكأننا خارجاً عنها، ولكن الكنيسة تبقى رغم كل شيء أمّ المؤمنين. فكيف أكون رسولاً دون أن أحبّ في الواقع هذه الكنيسة التي وُلدت من جنب المسيح، التي دعينا لنبنيها لتتقبل جميع الناس في أيامنا.
- التلميذ هو من يؤمن أنه محبوب. هذا ما يقوله لنا يوحنا. وحضور مريم الأمومي يساعدنا على التعمّق في هذا الإيمان. إن ديناميتنا الرسولية تستند إلى أمور كثيرة: خدمة اخوتنا، الفرح بأن نقاسم الآخرين في ما يعمر به قلبنا من إيمان، الفرح بأن نبني ونجمع... غير أن كل هذا هو جواب إلى من "أحبنا أولاً". كم نحتاج دوماً إلى أن نتعلّم كيف "نترك" الله يحبنا، والآخرين يحبّوننا. إذا آمنا بالآخرين، إذا وضعنا ثقتنا فيهم، فالرب بدأ فآمن بنا وبهم ووثق بنا وبهم.
ثانياً: الصليب.
الصليب جزء من إطار حياتنا العادي: في بيوتنا، على طرقاتنا، في كنائسنا. كيف ننظر إلى هذه "الصلبان"؟ هل هي مناسبة لكي تنعش ايماننا وتساعده على التعبير عن ذاته؟ يا ليتنا نستطيع أن ننظر إليها كعلامات عن المسيح الحيّ الذي يجتذب إليه اليوم جميع الناس. يا ليت الصليب يساعدنا على وضع ذواتنا أمام عمل المسيح هذا الذي يسبقنا إلى قلوب الآخرين.
الأبن الحبيب والحمل الذي لا عيب فيه، سار في طرقاتنا، فهل نعرف أن نسير في طريقه؟ مجده الذليل وقلبه المطعون يدلاّننا على الطريق: هلاّ عرفنا أن نحمل الصليب!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM