الفصل الثاني والعشرون: بطرس ينكر معلّمه

الفصل الثاني والعشرون

بطرس ينكر معلّمه  26: 69-75

إن خبر انكارات بطرس في مت يستعيد بشكل موجز ما في مر. كما يحتفظ بتوزيع ((الرواية)) في ثلاثة مشاهد يتبعها حوار. كانت هناك بعض التصحيحات فدلّت على تنوّع دراماتيكي. ليست الجارية نفسها هي التي جابهت بطرس في المرة الثانية، بل جارية ((أخرى)) (26: 71؛ ق مر 14: 69). ويعبِّر التلميذ عن توبته حين يخرج (اكسالتون) من الرواق حيث كان. وهكذا نكون أمام أمكنة ثلاثة: الدار (آ 69 أ)، البوابة (آ 71أ)، خارج (آ 75ج). أما في مر فلا نجد إلاّ مكانين: الدار (14: 66). الدهليز في الخارج (14: 68 ج).
وصاغ مت التدرّج بشكل واضح. فقد رافق الانكار الثاني حلَف. نقرأ في آ 72: ((أنكر أيضًا بقسَم)) (ق مر 14: 70 أ: فأنكر أيضًا). وفي الانكار الثالث زاد على الحلف التمنّي بالشرّ لنفسه إن كان يعرف يسوع (آ 74أ؛ ق مر 14: 71 أ). وأخيرًا، جعل مت علاقة بين الانكار الاول والانكار الثالث، وهكذا حصر المجموعة في إطار تضمين واحتواء.
***
ربط مت بداية هذا الخبر بما هيّأه في آ 58 (رج أيضًا آ 75 ج). فالشخص الرئيسي يبرز كما في السابق (هو دي بتروس). وهناك الماضي غير الكامل: كان جالسًا. لم يكن عابرًا. وتصوّر مت المشهد في الرواق الداخلي من قصر عظيم الكهنة.
هنا اقتربت ((المجرّبة)) الاولى. واجهت بطرس. لم يتوقّف مت عند اصطلاء بطرس في النار، في آ 58، وها هو يستغني عن تفصيل آخر هنا (تفرّست فيه، مر 14: 67أ) ليصل بسرعة إلى هدفه.
دوّن مت التحدي الأول بشكل متوازن، ونسّقه مع الثاني (آ 71 ج: مع يسوع). ولكن قال في المرة الأولى ((يسوع الجليلي)) (آ 69). وفي المرة الثانية ((يسوع الناصري)) (آ 71). نشير هنا إلى أن عبارة ((يسوع الجليليّ)) هي فريدة في كل العهد الجديد. عاد مت إلى مر 14: 70 ج (لأنك جليلي)، كما عرف أن يسوع أقام في الجليل (2: 22؛ 3: 13) وهناك مارس نشاطه (4: 12-16).
تمّ انكار بطرس الأول ((قدّام الجميع)). هذا ما يدلّ على خطورة الخطيئة. وهذا ما يتيح لنا أن نربط المشهد بتنبيه قاس قاله يسوع لتلاميذه في الخطبة الرسولية: ((من يعترف بي قدّام الناس، أعترف به قدّام أبي الذي في السماوات. ومن ينكرني قدّام الناس، أنكره قدّام أبي الذي في السماوات)) (10: 32-33).
لفظة ((الجميع)) تحلّ هنا محلّ ((الناس)). وتدلّ على الذين هم حول بطرس، الخدم والجواري. إن فعل ((اريدماي)) أنكر، هو الذي استعمله يسوع (تنكرني ثلاث مرات) ثم بطرس (ما أنكرتك) في حوارهما على طريق جبل الزيتون (26: 34-35). دلّ بطرس على تهوّره حينذاك. وها هو الواقع يكذّب ما وعد به: ((لو اضطررت أن أموت معك))!
أعلن بطرس جهله: ((لا أدري ما تقولين)). أوجز مت ما في مر 14: 68 ب فهيّأنا للتدرّج من إنكار إلى آخر. في آ 72 نقرأ: ((إني لا أعرف الرجل)). ورافق الانكار القسَم. في آ 74، أخذ بطرس يلعن (يتحسّر، يتمنّى الشرّ لنفسه) ويحلف: إني لا أعرف الرجل)). لاحقته الهجومات فبدا واضحًا في خيانته التي أعلنها أمام الجميع.
***
وتبدّل المكان (مر 14: 68 ب) مرّة أولى. وهكذا ذهب بطرس ((نحو البوّابة)) (هل أراد أن يخرج أن يهرب؟ ربما). هنا التقت به جارية ((أخرى)) وكلّمت الذين (كانوا) هناك بطريقة يسمعها بطرس: ((هذا كان مع يسوع الناصري)). لسنا هنا أمام تكرار لما قيل في التحدّي الأول. غير أن الجملة تُبرز الرباط بين بطرس ومعلمه. كان((مع)) يسوع. هذه هي الدراما. هل سيبقى بطرس ((مع يسوع))؟
سنقطع هذا الرباط مرّة ثانية وبطريقة أقوى من الأولى. نجد الفعل عينه في الانكار الأول والانكار الثاني (ارنساتو، آ 70أ، 72أ). ولكن بطرس يضاعف انكاره حين يضمُّ إليه القسم (ميتا هوركو) (رج مر 14: 71: يلعن، يحلف). هنا نتذكّر حلف (ميتا هوركو) هيرودس لابنة هيرودية بأن يعطيها كل ما تسأل (14: 7). كان ذاك قسمًا عديم الفطنة، ستكون نتائجه فظيعة وسيندم ((الملك)) (14: 9). بطرس، وهيرودس مثلان عن النتيجة السلبيّة لقسَم يشجب شجبًا لا استئناف فيه، عظَة الجبل(5: 33-37).
وهناك حالات أخرى يرتبط حدث من أحداث الحاش بتعليم يسوع في هذه العظة. في 26: 39، 41، 42: يسوع يصلّي خلال التجربة. ونقرأ في 6: 9-13 الصلاة الربية مع عبارة ((لا تدخلنا في تجربة)). في 26: 52 يرفض يسوع العنف. وفي 5: 39 يقول يسوع: ((لا تقاوموا الشرير)). أجل يسوع عاش عظة الجبل بشكل خاص خلال مسيرته إلى الجلجلة.
في الانكار الثاني، لا نجد في مر 14: 7 كلامًا لبطرس. بل حاشية: ((فأنكر أيضًا)). أما مت فعاد إلى مر 14: 71 واختصره: ((لا أعرف الرجل)) (آ 72). وهكذا سيفعل مت أيضًا في آ 74. ((الرجل)). من هو؟ لا علاقة لبطرس به. انقطع ما يربط التلميذ بمعلّمه. ضاع الانتماء إلى يسوع والالتزام بانجيله. في الانكار الأول، تظاهر أنه لم يفهم حديث المرأة، أنه لم يسمع بخبر يسوع. أما هنا، فبدت العلاقة سلبيّة إلى أبعد حدود السلبيّة.
والمرحلة الثالثة في هذا الانكار، قد تسلّمها ((القائمون هناك)) (الذين كانوا هناك). مجموعة واقفة عند مدخل القصر. في آ 69: ((تقدّمت)) إليه جارية. وهنا في آ 73، ((تقدّم)) القائمون هناك. هذا هو التضمين الذي تحدّثنا عنه: تقدّم، اقتراب، هجوم على بطرس، فسقط في التجربة. يا ليت سهرَه رافقته صلاةٌ لئلا يدخل في التجربة (آ 41).
((أنت أيضًا)) (رج مر 14: 67 ب). هذا ما قرأناه في آ 69 في فم الجارية الأولى. أبرز مت بذلك انتماء بطرس إلى مجموعة تلاميذ يسوع. ولفظة ((منهم)) تدلّ على الاحتقار. يجب أن لا نذكر اسمهم. ((من هذه الزمرة)). ما الذي دلّهم على ذلك؟ لهجة بطرس الآتي من الجليل. قال مر 14: 70 د: ((لأنك جليليّ)). ولكن مت أفهمنا أنهم عرفوه كذلك من لهجته، لا من وجهه أو ثيابه. ولكن كيف كانت لهجة أهل الجليل؟ هذا ما لا يقوله لنا مت.
وهكذا جاء الانكار الثالث ((احتفاليًا)) أكثر من الانكارين الأول والثاني. كان الثاني قد تسلّم من مر 14: 71 العبارة التي توسِّع المشهد الثاني، ورافقه القسَم. أما الثالث فرافقه الحلف واللعن.
***
يلتقي هذا الانكار حرفيًا مع الذي سبقه (آ 72) حيث استعمل مت مر 14: 71. ولا ننسى محبّة الانجيليّ للأساليب التي تلعب فيها الذاكرة دورها. ثم نجد هنا ((عناد)) بطرس الذي اكتفى بأن يكرّر ما سبق وقاله تحت ضغط الحاضرين.
وقد كان الخبر يستطيع أن يمتدّ على المنوال نفسه. ولكن ((فجأة)) (للحال) صاح الديك. إن صياح الديك وضع حدًا لهذا الواقع الأليم. عند مر 14: 72 (اك دوترو) هذا الصياح هو الثاني في تلك الليلة. أما مت فتكلّم عن صياح واحد.
وجاء مشهد التوبة (آ 75) قريبًا ممّا في مر 14: 72ب ما عدا بعض التفاصيل. خصوصًا الحديث عن خروج بطرس. في آ 71، كان بطرس ((خارجًا)) (اكسالتونتا). وها هو الآن يخرج. في آ 69، كان بطرس جالسًا ((في الخارج))، في القصر، وفي آ ،75 هو يخرج إلى((الخارج)). كل هذا يدلّ على الطابع الدراماتيكي للخبر، ويجعل المشهد الأخير يلتقي بما في البداية. في 26: ،58 اختلف مت عن مر فكتب ((ايسالتون اسو)) (ودخل إلى الداخل). والآن خرج إلى الخارج. وهكذا يحيط الدخول والخروج بهذه المأساة التي عاشها بطرس. ولكنه بتوبته أعطى مثالاً للمؤمنين، عكس يوضاس التلميذ الآخر الذي يقوده يأسه إلى الانتحار.
***
وهكذا ينتهي خبر انكارات بطرس، وفيه لا نجد تبديلاً كبيرًا بالنسبة إلى خبر مر (لذلك يبقى من المستحسن أن نعود إلى نص مر 14: 66-72). كل ما شدّد عليه هو النفحة الدراماتيكيّة وبشاعة الخيانة (والنكران) لدى الذي جرّبه المجرِّبون: كان ((مع يسوع)). وتبرز أصالة هذا التدوين إذا جعلناه في إطار الانجيل العام. فبطرس يحتلّ في الانجيل الأول مكانة كبيرة جدًا: دوره يتميّز عن دور رفاقه، هو تلميذ يتجاوز سائر التلاميذ (4: 18-20؛ 10: 2؛ 14: 28-31؛ 15: 15؛ 16: 16-19؛ 17: 1، 4، 24-27؛ 18: 21؛ 19: 27). إنه يجسّد صورة التلميذ بما فيها من بناء للجماعة على مستوى السلوك الخلقي (4: 20؛ 16: 16). وحتى في ضعفه (14: 30-31؛ 16: 22-23؛ 17: 4؛ 26: 33-35، 40-69-70). نحن هنا أمام درس يوجّه إلى كل تلميذ ولو تسلّم سلطة في الجماعة. فبطرس الذي استنار بنور الله فأعلن يسوع على أنه ((المسيح ابن الله الحي))، هو ذاته الذي سيقع في الخطر وينكر معلّمه (مقابلة هامة مع مشهد قيصرية فيلبس). إنه يمثّل مسبقًا أولئك الذين بسبب ضعفهم يهدّدهم الجحود. وهذا ما يفرض عليهم أن يحذروا كل اعتداد بالنفس واستناد إلى قواهم الشخصيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM