الفصل الحادي والعشرون: يسوع أمام المجلس الأعلى

الفصل الحادي والعشرون

يسوع أمام المجلس الأعلى
26: 57-68

إن خبر مثول يسوع أمام السنهدرين (المجلس الأعلى) يشكّل وحدة مع حدث إنكار بطرس ليسوع (كما في مر). والمجموعة تكوّن توازيًا متعارضًا بين اعتراف المعلّم وخيانة التلميذ.
أما الخبر الأول (مثول يسوع) فهو ينقسم، كما في مر، إلى ثلاثة أجزاء رئيسيّة: مقدّمة تهيّئ الطريق للشخصين الرئيسيين: يسوع وبطرس (آ 57-58). مسيرة المحاكمة (آ 59-66). خاتمة تصوّر مشهد الهزء الذي تلقّاه يسوع من قبل قضاته.

1- المعلّم والتلميذ في بيت عظيم الكهنة (26: 57-58)
بدأ الانجيليّ فربط هذا الحدث بما سبقه، ثم حدّد هويّة الأشخاص.
فالذين ((اقتادوا)) (ابيغاغون) يسوع إلى عظيم الكهنة، هم الذين أوقفوه (قبضوا عليه، كراتاين). هكذا عاد مت إلى عمل حصل فيما مضى (آ 50، رج آ 48، 55)، وجنّب القارئ خطر المزج بين الشرطة والتلاميذ الذين تحدّث عنهم قبل ذلك بقليل. وسمّى عظيم الكهنة باسمه، قيافا، كما في 26: 3. رج لو 3: 2؛ أع 4: 6 (حنان، وقيافا)؛ يو 11: 49؛ 18: 13، 14، 24، 28. لا يظهر اسم قيافا في مر.
ودوّن مت الشق الثاني من آ 57 بشكل يحصل فيه على تواز أفضل ممّا في مر (رج المؤامرة في 26: 3). نجد فعل ((سوناغاين)) (اجتمع). يرد 24 في مت، 5 في مر، 6 في لو. يستعمله مت في صيغة المجهول ليدلّ على اجتماع السلطات اليهودية (22: 34، 41؛ 26: 3، 57؛ 27: 62 (لا نجد ما يوازي هذا الوضع في مر). أما صيغة الماضي فتدلّ على أن المجلس كان ملتئمًا حين مثل يسوع أمامه.
كان اجتماع أول للمجلس. وتبعه اجتماع ثان تحقّق فيه المشروع الذي فكّروا فيه: بعد أن أوقف الرؤساء يسوع، حرَّكوا الأمور بشكل لا تعرف التراجع، وصلت إلى موت يسوع.
اتّخذ مت نهج مر، فأدخل خبرًا في خبر (9: 18-19، 20-22، 23-32 = مر 5: 21-24، 25، 34، 35-43؛ مت 26: 1-5، 6-13، 14-16 = مر 14: 1-2، 3-9، 10-11) وقد توخّى من هذا الادخال أن يهيّئ القارئ لخبر انكارات بطرس ليسوع، وأن يُبرز الرباطَ الوثيق والمتعارض بين هذا المشهد والحكم على يسوع.
استعمل مت مواد مر 14: 54، فدلّ على حركتين متعاقبتين لبطرس: في حركة أولى، تبع (الماضي مع صورة مسيرة بطرس الطويلة حتى قصر عظيم الكهنة) يسوع من بعيد حتّى دار رئيس الكهنة . في حركة ثانية ولج إلى داخل الدار وجلس. لقد أراد مت، شأنه شأن مر، أن يبيّن كيف أن بطرس يستعيد سيره على خطى يسوع (رج مت 4: 19-20). وهكذا يُبرز سقوطه القريب. وعبارة ((من بعيد)) هي صدى لما في المزمور 39: 12: ((أقاربي وقفوا بعيدًا عني)).
لقد حلّ محلّ اللوحة التي ترينا بطرس يصطلي (مر 14: 54 ج) عبارة تبرّر وجود بطرس في هذا الموضع: لقد أراد التلميذ أن يرى كيف تنتهي الأمور، أن يرى النهاية. غير أننا نستشفّ أكثر من ذلك حين نقابل بين هذه الحاشية ومقاطع أخرى من الحاش يبدو فيها مت مستقلاً عن مر. سيُشار إلى جلوس بطرس مرة أخرى حين نصل إلى الانكار بحصر المعنى (26: 69: ليس ما يوازيه في مر). ثم يخبرنا مت وحده أن الجلادين على الجلجلة جلسوا لكي يحرسوا يسوع (27: 36). وأخيرًا يرينا النساء جالسات تجاه القبر الذي فيه دُفن يسوع (27: 61؛ ق مر 15: 47). تقع هذه الاشارات في أوقات هامة من خبر الحاش: الدينونة، الصلب، الدفن. يجلس الأشخاص فيدلّون على التوقّف والتأمل، لا على المرور السريع. هم حاضرون ويعيشون ((مطوّلاً)) ما له سيشهدون. إن النبرة الابولوجيّة (الدفاعيّة) التي نسمعها خلال الحديث عن ((قيامات)) حصلت بعد موت يسوع (27: 53)، وفي حدث الحرس عن القبر، ندركها منذ الآن فتكفل تسلسل المراحل الجوهرية في الحاش والآلام.

2 - المحاكمة (26: 59-66)
يحدّد المشهدَ الذي فيه يمثل يسوع أمام قضاته (كما في مر) تلميحٌ إلى موته (آ 59، يميتونه، يقتلونه. آ 66: يستوجب الموت). وهذا التلميح يرسم خطًا متواصلاً يسير من قصد اليهود بأن يقتلوا يسوع حتى المسيرة النهائيّة التي تصل بهم إلى تحقيق هذا القصد، عبر مشهد نعرف هدفه منذ البداية.
بدت المحاكمة في ثلاث محطّات: كُرّست الأولى للشهادات (آ 59-61). وافتتح الثانية سؤالٌ احتفالي طرحه عظيم الكهنة. ثم كان جواب يسوع (آ 62-64). وأوردت المحطة الثالثة نتيجة جواب يسوع على قضاته (آ 65-66). سوف نرى أن المحطتين الأولى والثانية ترتّبتا في شكل يختلف عمّا في مر.

أ - الشهادات (آ 59-61)
بدأت المحاكمة بدعوة الشهود. ونجد عبارة مر 14: 55 أ بشكل شبه حرفيّ في مت. أما الاختلاف الوحيد اللافت، فهو أن مت يصف الشهادة منذ البداية بأنها شهادة زور (بسادورمرتيريان). وهكذا استبقت اللفظة ولْي النص (آ 69؛ مر 14: 56). وتأثّرت به. هذا لا يعني أن القضاة بحثوا عن شهادة تكون كاذبة، بل أن الشهود لا يمكن إلاّ أن يُدلوا بكلام كاذب لأن يسوع بريء. وهكذا نعرف منذ البداية أن لا شيء ضد يسوع يسبّب الحكم عليه. كما نعرف أن قضاته قرّروا موته مهما كان الثمن، حتى لو احتاجوا إلى شهادة زور. وهكذا تتلوّن صورتهم منذ البداية في نظر القارئ.
باءت المحاولة بالفشل، مع أنه تقدّم شهود كثيرون. ولكن مت لم يقل السبب (آ 60أ). نعرف بواسطة مر 14: 56ب أن سبب الفشل هو عدم اتفاق الشهود على ما قالوا. أسرع مت في تقديم هذه الوثيقة الأولى من الشهادات ليُبرز ما سوف يلي.
ونصل إلى النهاية، إلى ذروة السلسلة مع الاداة ((هسترون)) (أخيرًا). هي خاصة بمتى (ترد 7 مرات عنده مقابل 11 في كل العهد الجديد)، وتعطي الخبر بُعدًا دراماتيكيًا. حينئذ جاء ((اثنان)) (بدون تحديد). نستطيع أن نكمّل فنقول: شاهدان اثنان، شاهدان كاذبان. فالنص الموازي في مر يجعل أقوال الآخرين في خانة شهادات الزور. غير أن مت احتفظ من كل إشارة في هذا المعنى قبل أن يدلو الشهود بدلوهم وبعد أن يدلوا. ((قبل)): ألغى التلميح إلى شهادة الزور. ((بعد)): ألغى ما قيل في مر 14: 59 عن تضارب بين الشهادات (رج مر 14: 56ب). بل زاد مت على ((صحّة)) الشهادة، عائدًا في هذه المحاكمة إلى قاعدة تث. فهذا السفر يمنع أن يُحكم على أحد بالموت بشهادة انسان واحد. المطلوب شهادتان أو ثلاث (تث 17: 6. نجد الشهادة المزدوجة عند قبر القائم من الموت. يرد تث 17: 6 في مت 18: 16؛ رج يو 8: 13؛ عد 25: 30). وهكذا ينتبه العارف بالكتب إلى هذا التذكّر: يجب أن تحمل الشهادة على محمل الجدّ (لسنا فقط أمام شهادة شاهدين كما في مت 9: 27-31؛ 20: 29-34 والأعميين؛ رج 8: 28-34 والمتشيطنين؛ ق مر 10: 46-52؛ 5: 1-20).
بدأ الإدلاءُ بالشهادة بشكل مباشر. انفصل عمّا سبقه، ففرض نفسه على القارئ. ولكنه ليس كما في مر، تقريرًا عمّا سمعه الشهود من كلام يسوع، بل تأكيدًا قاطعًا: ((لقد أعلن هذا (الرجل): أقدر (ديناماي) أن أهدم هيكل الله وأعيد بناءه في ثلاثة أيام)). في رأس الجملة، نجد ((هوتوس))، هذا. لفظة فيها السخرية والاحتقار، لفظة تشكك على شفاه الشهود. هذا هو ظاهر النصّ. ولكن الانجيليّ يأخذنا إلى أبعد من ذلك.
فلسنا هنا أمام اعلان بسيط، كما في مر، بل أمام تأكيد احتفالي على ((سلطان)) (إلهي). ظنّ بعضهم أن مت أراد أن يتجنّب أن ينسب إلى يسوع كلمة فيها جرأة تجديفيّة تكذّبها الوقائع فيما بعد: فليس يسوع هو الذي دمّر الهيكل، بل الرومان. ولكن دون هذا الدفاع الابولوجي والحصري صعوبات كثيرة. فقد دوّنت الجملة في سياق خاص، بحيث لا يمكن تخفيفها. وما يدلّ على ذلك هو ردّة فعل قيافا العنيفة. ثم إذا قابلنا هذه الجملة مع اعلان مشابه ليسوع في جتسيماني (26: 53، من وضع متى)، لن يبقى شكّ حول خطورة هذه المطالبة الكاملة التي تُنسب إلى يسوع. فمن اعتبر أنه يستطيع (له سلطان) أن يحرّك هجوم الملائكة ليخلّصه من أعدائه، قد اعُتبر أنه يمتلك هذا ((السلطان)) عينه ليدمّر الهيكل ويعيد بناءه كما يشاء.
ألغى مت التمييز بين هيكل يدمّر (هيكل ((صنعته أيدي البشر)) ) وهيكل يجب أن يُبنى من جديد (هيكل لم تصنعه أيدي البشر). فالهيكلان في نظره هيكل واحد، هو هيكل أورشليم المبنيّ من حجر، والذي اعتبر يسوع أنه يستطيع أن يدمّره ويعيد بناءه في ثلاثة أيام (يعني: في أقل وقت ممكن). تأكيد فظيع! وقد ضخّمه مت حين أحلّ محلّ ((هذا الهيكل)) (مر 14: 58) عبارة ((هيكل الله)) (لا ترد إلاّ هنا في مت. رج 1كور 3: 16-17 مرتين؛ 2كور 6: 16 مرتين، 2تس 2: 4؛ رؤ 3: 12؛ 11: 1، 19. في السبعينية نجد عادة ((هيكل الربّ)) ). تأكيد فيه الكثير من الاعتداد بالذات. ومع ذلك، فهو يتوافق مع اعتدادات أخرى ليسوع في الانجيل الأوّل. لقد لاحظنا أعلاه قول يسوع في جتسيماني (26: 53: 12 كتيبة من الملائكة. هل هو الله ليأمر الملائكة؟). وأكدّ يسوع أيضًا أنه ((أعظم من الهيكل)) (12: 6. ليس لها ما يقابلها). لا شكّ في أن هذا التأكيد الذي أورده الشاهدان صحيح.
ولكن هذين الشاهدين هما من خصوم يسوع، وقد جاء بهما القضاة الذين عزموا على إرسال يسوع إلى الموت. كانت شهادة ثقيلة بالنسبة إلى يسوع. غير أن الانجيليّ اعتبرها الحقيقة بالذات. فقد قدّما من حيث لم يدريا اعلانًا ذا بعد لاهوتيّ رفيع. فيسوع هو حقًا سيّد الهيكل وهو يمارس عليه سلطانه المطلق. نحسّ هنا بلهجة هجوميّة أولى سنُدركها في ما يلي من النصّ.

ب - الاستجواب (آ 62-64)
إن المقدّمة المختصرة (ألغى مت: في وسط المجلس) التي نقرأها في آ 62 أ تستعيد بداية مر 14: 60 أ، فلا تعود تميّز تميّزًا واضحًا بين ما سبق والتدخّل الشخصي لعظيم الكهنة. قد ندهش للوهلة الأولى ونتساءل: لماذا لم يقدّم مت هذا التدخّل بشكل احتفالي، لماذا لم يبُرزه بالنسبة إلى السياق السابق؟ نجد الجواب حين نفهم أن الانجيليّ يرى في ما أدلى به الشهود من كلام، السببَ الذي حرّك أسئلة عظيم الكهنة. إذن، لم يرَ مت أسبابًا خاصة تدعوه إلى أن يحوّل نصّّه حيث التسلسل يتمّ بواسطة حرف العطف. غير أن تبدّل المتكلّمين وظهور عظيم الكهنة وحده على المسرح، والاستجواب الذي يقوم به حسب القواعد المرعيّة، كل هذا يفرض علينا أن نعتبر الخبر متنقلاً من محطّة إلى محطّة أخرى. فالاستجواب يشكّل في الوسط، القمة والمركز الايديولوجي.
هل كان أولُ سؤال طرحه عظيم الكهنة سؤالاً واحدًا أم سؤالين؟ إذا عدنا إلى مر 14: 60ب نجد أننا أمام سؤالين (حاول بعضهم الحديث عن سؤال واحد فبدت براهينهم ضعيفة). أما الهدف الذي توخّاه السائل فهو: أن يدعو يسوع إلى الإجابة، وإذ يدعوه يعرف أنه سيصمت تجاه الاتهام الذي رُفع ضدّه.
هذا الصمت الذي نجد فيه موضوعًا معروفًا في العهد القديم، يذكّرنا أيضًا بميزات التواضع التي وصف بها مت شخص يسوع المسيحاني (11: 29-30؛ 12: 16-21؛ 21: 4-5). ولكن نُسب دورٌ دراماتيكي إلى هذا الصمت. فستليه كلمة تزيل كل اعتداد آخر. لم يهتم يسوع بالكلام في شأن نفسه. فما سوف يلي يكفي لكي يبرّره.
وإذ أراد عظيم الكهنة أن يحرّك هذا الاعلان النهائي، هيّأ الجوّ بإطار احتفاليّ: ((أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله))؟ عبارة في أسلوب بيبلي، وهي قريبة من أقوال عديدة في العهد الجديد (مر 5: 17؛ أع 9: 13؛ 1تس 5: 27؛ رج تك 24: 3؛ عد 13: 35؛ 1مل 2: 42؛ 2أخ 36: 13: هوركيزاين: استحلف). هناك من استلهم الحق الرابيني وشدّد على الطابع القضائي! لا حاجة إلى ذلك. إن الانجيلي يرى فيها طريقة ليعطي الجواب الآتي كل وزنه. هي تخضع لأمر يجعل الله ((شاهدًا)). هكذا لا يستطيع يسوع أن يتهرّب وإلاّ أغاظ الله. وما يدلّ على خطورة الالحاح هو أن المتكلّم هو عظيم الكهنة وهو يتصرّف انطلاقًا من سلطته المقدّسة.
إن عبارة ((الله الحي)) لا تُقرأ إلاّ هنا وفي اعتراف بطرس بالمسيح في 16: 16 (أنت هو المسيح ابن الله الحيّ). ولكنها تُستعمل في العهد الجديد (أع 14: 15؛ روم 9: 6؛ 2كور 3: 3؛ 6: 13؛ 1تس 1-9؛ 1تم 3: 15؛ 4: 10؛ عب 3: 12؛ 9: 14؛ 10: 31؛ 12: 22؛ 1بط 1: 23؛ رؤ 7: 2؛ 15: 7. هي عبارة بدون أل التعريف مع عدا مت ورؤ 15: 7) الذي أخذها من العهد القديم (تث 4: 33؛ 5: 26؛ 1صم 17: 36؛ 2مل 19: 4، 16؛ أس 6: 13 حسب السبعينيّة؛ مز 84: 2 ؛ هو 1: 10؛ أش 37: 4، 17؛ مرا 4: 22 حسب السبعينيّة؛ 5: 23؛ 6: 21 حسب تيودوسيون). ونحن نجدها مرارًا في الأدب اليهودي القديم (اليوبيلات، أخنوخ). الاله الحي يتميّز عن الأصنام الميتة. لسنا هنا في نيّة هجوميّة. بل أراد السائل أن يقدّم اسم الله في إطار احتفاليّ.
واستجلب الاستحلاف الذي أدخله مت، استجوابًا غير مباشر ومرتبطًا بالخاتمة بدلاً من استجواب مر. ولكن حين كتب: ((أستحلفك أن تقول لنا))، هيّأ حرفيًا الجواب الذي سيجعله على فم يسوع: ((أنت قلت)). أما موضوع السؤال فهو هو في مر، مع اختلاف طفيف وهو أن مت فضّل لقب ((ابن الله)) (كما يعلنه المسيحيون في أيامه) على عبارة يهودية خاصة: ((ابن المبارك)).
إن مت الذي سيبقى أمينًا لمرجعه في استجواب بيلاطس (27: 11)، دلّ هنا على استقلاليّة. الجواب في مر 14: 62: .((إغوا ايمي))، أنا هو. جواب مباشر تأكيدي على سؤال عظيم الكهنة. ابتعد عنه مت.((أنت قلت)). كما في مر 15: 2 (رج مت 27: 11).
ما هو بُعد ((أنت قلت)) (سو ايباس)؟ إن جواب يسوع إلى بيلاطس في الآية التي أوردناها هو ايجابي. ويسوع يجيب عظيم الكهنة (مت 26: 64) بتأكيد. هذا ما يقوله السياق الانجيليّ.
في 26: ،25 خلال العشاء الأخير، قدّم يسوع ليوضاس الجواب الذي قدّمه لعظيم الكهنة: أنت قلت. وهذا الجواب يساوي تأكيدًا. تفرّد مت فأورد السؤال والجواب، وهكذا استفاد من المناسبة ليدلّ على معرفة يسوع المسبقة بأحداث الحاش. ولكن هو السياق المباشر (أي مسيرة المحاكمة اليهوديّة) الذي يتيح لنا أن نعطي معنى إيجابيًا لجواب يسوع إلى قيافا.
كنا قد رأينا أن مت جعل من ادلاء الشاهدين الأخيرين تعبيرًا عن حقيقة: يسوع هو سيّد الهيكل ولهذا فهو يستطيع أن يتصرّف به كما يشاء. ويجري الباقي بصورة طبيعية من هذا الاعلان. إذا كان يسوع قد نسب إلى نفسه السلطان الذي ذُكر الآن، فهذا يعني أنه يعتبر نفسه المسيح، ابن الله. هذا ما فهمه عظيم الكهنة حسب ترتيب الخبر المتّاوي حيث لا نجد فاصلاً (كما في مر 14: 59) بين الشهادة الأخيرة واستجواب عظيم الكهنة.
وهكذا أراد الانجيليّ أن يفهمنا أن ممارسة السلطان على الهيكل هي امتياز خاصّ بالمسيح. وينتج عن هذا ضرورة فهم جواب يسوع كتأكيد. هذا ما سوف يثبته الهازئون على الجلجلة حين ضمّوا في هزئهم المطالبتين: دمار الهيكل واعادة بنائه، البنوّة الالهيّة (27: 40). أخيرًا، وفي السياق عينه (وهذا أهم شيء)، حمل عظماء الكهنة (وهم الذين كانوا قضاة المحاكمة) كفالتهم فوجّهوا كلامهم إلى المصلوب: ليأت الله وينزله عن الصليب، لأنه قال: ((أنا ابن الله)) (27: 43). لم يعلن يسوع هذا الاعلان في أي ظرف آخر سوى خلال مشهد المحاكمة أمام المجلس الأعلى.
إذن، جواب ايجابي. ولكن لماذا بهذه الكلمات؟ ولماذا لم يستعد مت جواب مر 34: 62؟ هذا ما نعرفه إذا أخدنا بعين الاعتبار اللهجة ((الساخرة)) في هذا الخبر (سنجد أمثلة مشابهة فيما بعد كما في مر). هناك لباقة وربما حيلة أن نجعل رئيس المحكمة (الذي دوره أن ((يقتل)) يسوع) يعلن بشكل صريح ألقاب يسوع الملوكيّة والالهية. ولما أجاب يسوع ((أنت قلت))، لم يتهرّب(كما قال بعض الشرّاح)، بل قال ما فحواه: ما أحسن ما تقول، والألقاب التي تنسب إليّ في استجوابك هي صحيحة.
يفضَّل هذا التفسير على تفسير آخر يرى في التأكيد ((لفًا ودورانًا))، لأن عظيم الكهنة، وإن قال الحقيقة، لم يفعل بتأثير مما عرفه (رج بطرس في 16: 16-17)، بل أراد أن يتهم يسوع بأنه جدّف. إذن، أدخل ((التباسًا)) في تأكيد يسوع لحقيقة موجودة في سؤال عظيم الكهنة. إنها طريقة تبيِّن أن عظيم الكهنة يجهل كل الجهل نبوءة يسوع الالهية، وأنه ينطلق من مقدّمات أخرى. غير أن التقارب مع جواب يوضاس (26: 25) الذي هو واضح، ومع أمور مشابهة تبدو فيها اللهجة ((الساخرة))، يجعلنا نقدّم من تفسير ما قدّمنا: إن يسوع يؤكّد على كلام عظيم الكهنة.
وتابع مت (كما في مر) فضمّ ذات التذكّرات الكتابيّة ليعلن لأهل المجلس أنهم ((سيرون)) ابن الانسان (أي يسوع) خلال ظهوره في المجيء (باروسيا). وزاد مت عبارة تدخلنا في الاعلان: ((وأيضًا (بل) أقول لكم: منذ الآن)) (تحديد كرونولوجي). هكذا فصل مت بين قسمَي جواب يسوع، وشدّد في الوقت عينه على ما سيلي.
((منذ الآن)). تقف هذه العبارة بين وضعين: وضع حالي، ووضع مقبل واسكاتولوجيّ كما في 23: 39؛ 26: 29 (مع اب ارتي). لقد أعلن عظيم الكهنة الآن كرامة يسوع وأقرّ يسوع بذلك. ولكن ليعرف قيافا وأشباهه أن هذه الكرامة ليست لحسن طالعهم. في المستقبل سيكونون شاهدين لتمجيد ضحيّتهم ومجيئه المجيد في الباروسيا. تهديد يكاد يكون خفيًا. فإن قرأنا الباقي نجد أن مصير هؤلاء القضاة لا يُحسد عليه.
لم يقدّم مر كلمات واضحة تتيح أن ننسب إلى المسيح ترؤّس الدينونة الأخيرة. أما مت فقام بخطوة جديدة (13: 41-42؛ 25: 31-46؛ رج 3: 12). نقرّب هذا المقطع من مقطع آخر هو خاتمة الخطبة ضد الفريسيين حيث نقرأ: ((فأنا أقول لكم: منذ الآن (اب ارتي) لن تروني حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب)) (27: 39). الظواهر غائبة. فالأفق ليس أفق ارتداد اللامؤمن والمضطهد. ونقول الشيء عينه بالنسبة إلى قيافا وزملائه: أعلن لهم يسوع أنه لن يكون لهم اتصال به في المستقبل إلاّ اتصال دينونة من أجل هلاكهم (يتفق الشرّاح على اللهجة الهجوميّة في هذا المقطع).إن انقلاب الوضع ساخر. حين جعل مت من يسوع الـ ((قاضي)) (ديّان) الأعلى في المحكمة اليهوديّة، تابع هجومه على اليهود. يسوع هو الهيكل. يسوع هو عظيم الكهنة الجديد. وهو يمارس القضاء الأعلى، بل هو الديّان.

ج - التشاور والحكم (آ 65-66)
تختلف نهاية الجلسة في مت عمّا هي في مر. اكتفى الانجيليّ الأوّل ببعض التحويلات البسيطة ليُبرز الطابع الدراميتيكي للمشهد (مثلاً: ها إنكم). هنا يرفض يسوع بكل بساطة الدينونة الأخيرة. أجل، هناك تقابل بين مجيء ابن الانسان وممارسة سلطانه كالديّان السامي. فالشخص عينه الذي أعلن هذا، واصل قائلاً: ((إن ابن الانسان يُسلم ليُصلب)) (26: 2). وها هو يعلن أمام قضاته وقاتليه، مجيئه المقبل مظفّرًا. ففي خلفيّة ((التجديف)) نجد هذا الامتياز الذي ينسبه المسيحيون إلى يسوع، وهو يقابل ما يحتفظ به اليهود لله.
وتشاور المجلس. ألغى مت هنا فعل ((كاتاكريناين)) (حكم، رج مر 14: 66ب). ولكن هذا الفعل انتقل إلى حدث موت يوضاس (27: 3). هذا ما يتيح لمتّى أن يقدّم رسمة جديدة للمحاكمة اليهوديّة، كما سوف نرى.

3 - الخاتمة: المسيح المهان (26: 67-68)
في هذا المشهد الأول من الهزء (سيكون الثاني في 27: 27-31)، جعل مت مجمل المجلس الأعلى (حذف ((تينس)) البعض كما في مر 14: 65) يدخل في عمل التحقير. أيّ إن أولئك الذين حكموا على يسوع بالموت يبصقون في وجهه. يلطمونه. فكأنهم أرادوا أن ينجزوا محاكمتهم الأليمة. كان قد جاء مر 14: 65 بالخدم في النهاية (لطموه). أما مت فجعل الخدم مع ((القضاة))، قائلاً: ((وآخرون لكموه)).
((تنبأ لنا)). هذا ما يلتقي مع استحلاف رئيس الكهنة ((أن تقول لنا)). ومع المنادى ((أيها المسيح)). كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشهد المحاكمة: أصحاب هذا التعذيب هم الذين سمعوا جواب يسوع على سؤال عظيم الكهنة حول هويته المسيحانيّة. وهو اعتراف يليه اعلان بظهوره خلال مجيئه. هذه هي نبوءة حقيقيّة. إذن، قالوا له: تنبأ لنا (هازئين).
قال مر: ((تنبأ)). أما مت فقال: ((تنبأ لنا، يا مسيح! من الذي ضربك))؟ نقرأ العبارة عينها في لو 22: 64 ب الذي قال: غطوا وجهه (كما في مر 14: 65). أما مت فلا يتحدّث عن تغطية الوجه. كيف يُلطم الانسان إن لم يكن وجهه مكشوفًا؟
وينتهي المشهد في هذا السؤال. عومل يسوع بأعمق احتقار، فحقّق انباءات العهد القديم. ومع ذلك فخصومه أنفسهم قد أكرموه. أعطوه لقب ((مسيح)). أرادوا أن يهزأوا منه. ولكنهم في الواقع قالوا الحقيقة. فالذين حكموا على يسوع لأنه اعترف بأنه المسيح، ها هم يتوجّهون إليه الآن رافعين إليه اللقب الذي رذلوه واعتبروه تجديفًا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM