الفصل الرابع عشر: مثل الوزنات

 

الفصل الرابع عشر

مثل الوزنات
25: 14-30

بين رسالة يسوع العلنيّة والتدوين النهائيّ للأناجيل، تركت حقبةٌ طويلة من التاريخ أثرَها في النصوص فبدت كالتلّ الذي تتراكم عليه الأتربة. والنصوص الانجيليّة تبدو مؤلّفة من ((طبقات)) تدلّ على غناها. لذلك لا نستطيع أن نقرأها في وجهة واحدة من وجهات تكوينها، وجهة الانطلاق (مع يسوع) أو وجهة الوصول (مع مت) دون أن نأخذ بعين الاعتبار المراحل التي مرّت فيها. فقد يكون مثل من الأمثال اتخذ معنى في فم يسوع حين تلفّظ به. وقد تستعمله كرازة الكنيسة الأولى في هدف آخر حين تقدّمه للمسيحيين. ويتّخذ منحى آخر مع الانجيليّ الذي يتطلّع إلى حاجات يلبّيها مؤلّفه. إن مثل الوزنات الذي ندرس الآن (ق لو 19: 11-27 ومثل الدنانير) هو نقطة النهاية في هذه المسيرة الطويلة التي توزّعت على ثلاث محطات: في فم يسوع. في الجماعة الكنسيّة بعد القيامة. في الانجيل كما نقرأه اليوم. ونحن قبل أن نتساءل عن التعليم الذي توخّى الانجيليّ أن يضعه في كتابه، نبدأ فنتوقّف عند هدف يسوع حين تلفّظ به، وعند التفسير التقليديّ كما تسلّمه متّى.

1 - المثل في تعليم يسوع
إذا أردنا أن نعرف ما توخّاه يسوع حين ضرب هذا المثل، نطرح على نفوسنا ثلاثة أسئلة: مرمى المثل أو العنصر الذي حاول الراوي أن يلفت انتباهنا إليه، والذي ترتبط به العبرة التي يحاول أن يدخلها فينا. وانطلاقًا من هنا، نحدّد المشكلة الملموسة التي طُرحت عند سامعي المثل. وأخيرًا، نحدّد الجواب الذي حمله يسوع.
أ - مرمى المثل
قبل كل شيء يجب أن نعرف شيئًا هامًا، وهو أن جميع معطيات الخبر لا يمكن أن تكون بذات الأهميّة. فالآيات الأولى تشكّل مدخلاً إلى الخبر. ذهاب السيّد، المال الذي يسلّمه إلى عبيده (أو خدمه)، ما فعله هؤلاء الخدم بمال تسلّموه (آ 14-18). كل هذا مقدّمة للمشهد الرئيسيّ: تأدية الحساب حين عودة السيّد.
ومشهد تأدية الحساب هذا يتوزّع على ثلاث لوحات صغيرة: تقدّم خدم ثلاثة، وقال كل واحد ما صنعه بماله، وسمع الحُكم الذي أعلنه السيّد حول سلوك كل واحد منهم. غير أن هذه اللوحات لا ترتدي الأهمية عينها. فالخادمان الأولان اللذان أحسنا العمل، رأيا وضعهما قد ترتّب في آيتين (آ 20-23). أما الخادم الثالث، الخادم الشرير، فقد كرّس له الراوي سبع آيات (آ 24-30). وإن حذفنا الآيتين الأخيرتين (آ 29-30) اللتين تنتميان إلى المضمون الاولاني للمثل، يبقى للعبد الثالث خمس آيات أي أكثر مما أعطي للعبدين الأولين معًا.
ونزيد فنقول: إن وضع الخادمين الأولين جاء في شكل مواز كل الموازاة: كرّر الراوي للثاني ما قاله للأول. فمن الوجهة الأدبيّة تشكّل الايات الأربع المكرّسة لهذين الخادمين وحدة تقابل الحصّة المحفوظة للخادم الثالث. هذا يعني أننا وإن كنا في الظاهر أمام خبر في ثلاث مراحل، إلاّ أننا في الواقع أمام تعارض بين اثنين: الشيء المهمّ هو ما به يعارض الخادمان الأولان الخادم الثالث.
كما يجب أن نعلم أنه في الأمثال المبنيّة بشكل تعارض، يكون التشديد دومًا على الجزء الثاني من التعارض. فلا يوضع الجزء الأول من أجل نفسه، بل لكي يُبرز الجزء الثاني. تلك هي الحالة في مثل يوتام (قض 9). بحثت الأشجار عن ملك، فتوجّهت أولاً إلى الزيتونة ثم إلى التينة ثم إلى الكرمة. وأخيرًا إلى العليقة. ولكن راوي المثل توقّف على العليقة من أجل تطبيق كلامه على أهل شكيم الذين جعلوا أبيمالك ملكًا عليهم. ونجد الاسلوب عينه في عدد من الأمثال. في مثل الزارع، الحبّة الجيّدة هي التي تهمّ الراوي. وفي مثل العمّال في الكرمة. ما يهمّ الراوي هو عمّال الساعة الحادية عشرة، الذين اشتغلوا ساعة فقط فنالوا أجر الذين حملوا ثقل النهار وحرّه. وفي مثل الابن الضال، تتّجه الأنظار إلى الابن الأكبر الذي كان جوابه لأبيه رفضًا لأخيه. وهذا ما نقوله عن مثل الوزنات.
إذن، إن أردنا أن ندرك الهدف الذي لأجله أُلّف المثل، نركّز انتباهنا على العبد الثالث، فنبحث عن مفتاح الخبر في الحوار بين هذا العبد وسيّده.

ب - السامعون والمسألة التي تهمّهم
إن شئنا أن نكوّن فكرة عن السامعين الذي وجّه إليهم يسوع هذا المثل، يكفي أن نسمع الشروح التي أعطاها الخادم الشرير. فقد وردت كلماته في ذات الألفاظ تقريبًا لدى مت ولو. فلا خلاف إلاّ في الترتيب. عند لو، بدأ الخادم فردّ المال الذي تسلّمه، ثم تحدّث عن الخوف (الذي يحسّ به أمام سيّده). وقال أخيرًا رأيه في هذا السيّد: ((تأخذ ما لم تودع، وتحصد ما لم تزرع)). أما مت فأخذ بالترتيب المعاكس.
ونتعرّف أولاً إلى الفكرة التي كوّنها العبد عن سيّده: ((يا سيدي، عهدتك رجلاً قاسيًا، تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر)) (آ 24). فهذا السيّد يغتني بواسطة مال لا يخصّه. ويطلب شيئًا ليس له حقّ فيه. فاهتمامه بالحق والعدل ليس اهتمامه الأول. وهكذا ما هاجم العبد فقط قساوة معلّمه، بل عدالته الجائرة أيضًا.
ثم تكلّم العبد و((برّر)) سلوكه. ((فخفت ومضيت فدفنت وزنتك في الأرض)) (آ 25). تحدّث متّى عن خوف عند هذا العبد. ومثله فعل لوقا. هو خوف العبيد. لا خوف الأبناء. لقد فعل العبد ما فعل مدفوعًا بعاطفة الخوف من عقاب ينتظره. فلو حاول أن يستثمر المال الذي تسلّمه، لكان قد ضاعفه كما فعل صاحباه. ولكنه خاف أن يضيعه: ما أراد أن يخاطر لأنه خاف سيّده. ولأن نظرته إلى هذا السيّد نظرة خاطئة.
حينئذ ردّ المال وأعلن أن الحساب كامل. لا زيادة ولا نقصان. ((هوذا مناك))، قال لوقا. ((ها هو مالك))، قال متّى. لقد ردّ العبد ما سُلّم إليه من مال ولم يخسر منه شيئًا. ولكنه لم يربح شيئًا أيضًا. هو ((يأكل حقّ)) سيّده الذي عاد إليه ماله كله. بما أن لا نقصان في ما تسلّم، اعتبر العبد أنه قام بواجبه. وأنه يستطيع أن يلوم سيّده بعد أن صار الحقّ في جانبه. فإن طلب المعلّم أكثر من ذلك ثبّت ما قيل فيه بأنه لا يهتمّ بالحقّ والعدل. كم نحن قريبون من ذلك الفريسيّ الذي اعتبر أنه ((غمر الله بفضله)) حين صلّى وصام. ونسي أننا مهما فعلنا نكون خدامًا عاديّين.
هذه الطريقة في النظرة الأمور واضحة: ففي عدالة دقيقة، اعتبر العبد الثالث أن لا لوم عليه. وباسم هذه العدالة نفسها، رفض الحقّ لسيّده بأن يطلب منه أكثر ممّا أعطاه. وبما أنه يعرف أن سيّده يريد منه أكثر مما سلّمه، جاءت شروحه تقول: أنا عادل. أما أنت فلا.
إن هذه الوجهة تلتقي مع وجهة عمّال الساعة الأولى الذين أغضبهم سلوك سيّدهم: ((إن هؤلاء الآخرين (جاؤوا في آخر النهار) ما عملوا إلاّ ساعة، وأنت تساويهم بنا، نحن الذين حملنا ثقل النهار وحرّه)) (20: 12). ونستطيع أيضًا أن نتذكّر تذمّرات الابن الأكبر في مثل الابن الضال: ((كم لي من السنين وأنا أخدمك، ولم أتعدّ قطّ أمرًا من أوامرك، وأنت لم تعطني قطّ جديًا لأتنعّم به مع أصدقائي (نلاحظ وجود ضمير المتكلم: أنا...). ولما رجع ابنك (ليس أخي) هذا (مع كل ما في هذه اللفظة من الاحتقار) الذي أكل مالك مع البغايا (هذا ما يدلّ على خيانة لله وعبادة الأوثان) ذبحتَ له العجل المسمّن)) (لو 15: 29-30). اختلفت الأوضاع، ولكن ((التهمة)) هي هي (الأصغر يتّهم الأكبر، الانسان يتّهم الله كما في بداية التاريخ حين اتهم آدم الله لأنه أعطاه حواء فسقطت وسقط معها): سلوك الأب تجاه ابنيه ليس بعادل. وكذا سلوك السيّد تجاه عبيده. هكذا يحاولون أن يبرّروا نفوسهم. ولكن الله يعرف القلوب.
ولا تتشابه هذه الأمثال فقط بالتهمة التي تبرزها. بل تلجأ إلى الاسلوب عينه: فهؤلاء الرافضون (لا يرضون بما يُعطى لهم) الذين يجعلهم الخبر أمامنا ((على المسرح)) يترجمون على المستوى الامثالي المسألة التي يودّ يسوع أن يجيب عليها. ففي مجال الواقع الدينيّ، يحدث شيء يحرّك عند سامعي المثل ردّة فعل تدلّ على الغيظ والغضب. هم أيضًا يحتجّون ويقولون: هذا ليس بعادل. لم يرضَ عمّال الساعة الأولى عن معاملة ربّ الكرم لعمّال الساعة الحادية عشرة. لم يرضَ الابن الأكبر عمّا فعله أبوه للابن الأصغر الذي هو أخوه وإن تنكّر له.
من هم هؤلاء الرافضون، هؤلاء الذين لا يرضون؟ هم الكتبة والفريسيون، هؤلاء الأتقياء الذين يحفظون الشريعة. فحين يشاهدون تصرّف الله كما يظهر من خلال حياة يسوع العلنيّة، يثورون: إن كان الله يفعل حقًا كما يقول يسوع، فهذا يعني أن سلوكه ليس بعادل. وفي مثل الوزنات الذي نقرأ، يبدو محاورو يسوع أناسًا مملوءين من خوف الله، هذا ما لا شكّ فيه. وهذه المخافة تدفعهم إلى التعلّق بعدالة دقيقة جدًا (ولكن العدالة الدقيقة جدًا قد تصل إلى الجور). فيقومون بواجبهم خير قيام بحيث لا يستطيع الربّ أن يلومهم على شيء. غير أنهم ينتظرون منه عدالة تساوي عدالتهم. ويرفضون أن يقبلوا بأن يُطلب منهم أكثر ممّا هو مفروض. قال مت 5: 20: ((فإني أقول لكم: إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين. فلن تدخلوا ملكوت السماوات)). أجل، لا يرضى الرب بأن لا نقتل فقط. بل يريدنا حتى أن لا نغضب. لا يرضى بأن نبقى على مستوى شريعة منغلقة على ذاتها فتجعلنا سجناء لها، بل يريد أن يرفعنا إلى مستوى المحبّة التي لا تعرف حدودًا في العطاء.
وهكذا عبّر يسوع في هذا المثل عن وجهة الله، فبيّن لهؤلاء الناس خطأهم الفادح. فما هو الموقف الذي سوف يتّخذونه؟

ج - جواب يسوع
بدأ السيّد فكرّر ما قاله العبد عنه: ((عهدتني أحصد حيث لم أزرع، وأجمع من حيث لم أبذر)). هو لا يدافع عن نفسه. بل يقبل بشكل فرضيّة، الفكرة التي كوّنها العبد الثالث عنه. دخل في وجهة العبد لكي يبيّن له ضلاله. هذا ما يفعله الله معنا: يدخل من بابنا ليخرجنا من بابه.
اعتبر العبد نفسه على حقّ بعد أن ردّ إلى سيّده ما يخصّه. ولكنه ضلّ ضلالاً مبينًا. ((إذن، كان عليك أن تسلّم فضّتي إلى الصيارفة،ومتى قدمتُ استردّ مالي مع الفائدة)). بما أن العبد لم يردّ إلى سيّده أكثر مما سلّمه، فقد أضرّ سيّده الذي تحقّ له فائدةُ ماله.
كيف ننقل هذا الجواب على مستوى الواقع الدينيّ؟ نُبعد بادئ ذي بدء الاسلوب الذي يستغلّ بعض عناصر الجواب ويفسّرها في خطّ الاستعارة. مثلاً، لن نتساءل عن المعنى الذي فيه يحصد الله حيث لم يزرع. ولن نتساءل عمّا تمثله الفائدة (أو: الربى) التي يحملها الانسان إلى الله. وأين هو المصرف الذي فيه نضع المال الذي تسلّمناه من الله.
فإذا أردنا أن نبقى في منظار المثل، يجب أن نأخذ جواب السيّد كله ولا نكتفي بجزء دون آخر، أن نأخذ الحكم الذي يترجم هذا الجواب. ونحن نطلب هذا الحكم في العلاقة التي توحّد بين الجزئين، أو بالحري في العلاقة التي توحّد بين الجواب والسؤال الذي طرحه العبد الثالث. حين نعزل الجزء الأول من الجواب حيث يبدو السيّد وكأنه يقبل ما يتهمّه به العبد من تصرّف مليء بالجور والظلم، نكون أمام مثل يدلّ على اعتباطيّة الله في أحكامه. ((الأقوى هو على حقّ دائمًا مهما فعل)). وحين نأخذ الجزء الثاني فقط، لا نجد النور الذي يفهمنا المثل: ما هو السلوك الانساني الذي يوافق بشكل ملموس صورة العبد الذي يضع في المصرف مال سيّده؟
ولكن حين نأخذ جزئَي الجواب معًا، فهُما يضعان وجهًا لوجه السيّد والعبد. السيّد كسيّد. والعبد كعبد. كل في موضعه. وحين وقف العبد الشرير على مستوى العدالة وحكم على سيّده، فقد حكم في الواقع على نفسه (لا نستطيع أن ندين البشر فكيف نستطيع أن ندين الله دون أن تصيبنا الدينونة). وجاء جواب السيّد لكي يذكّر العبد بعطيّة جوهريّة لم يفكّر بها: السيّد هو السيّد. وبما أنه السيّد تحقّ له كل خدمة. أما العبد فهو عبد. فعليه أن يخدم سيّده ويرضيه كل الرضى. وإذ كان ذاك العبد عارفًا بأن سيّده سيطلب منه أكثر ممّا أعطاه، فقد وجب عليه لا أن يخاطر غيرة واندفاعًا، بل أقلّه أن يضع المال ((في مصرف)) يعطيه ((فائدة)). وهكذا يتوافق سلوكه مع أهداف سيّده. أجل، وجب عليه قبل كل شيء أن يعمل مشيئة سيّده. قال يسوع في يو 4: 34: ((طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني)). هذا فخر يسوع. وهذا فخر لنا. وفخر لكل خادم يسلّمه الرب (السيّد) مهمّة. هذا ما فعله العبدان الأول والثاني فنالا الجواب عينه: ((أيها العبد الأمين الصالح، كنت أمينًا في القليل فسأقيمك على الكثير، أدخل فرح سيّدك)).
إذا كان هذا هو معنى الجواب، فالتطبيق يبدو سهلاً. فأمام يسوع أناس يرفضون تعليمه والمتطلّبات التي يفترضها هذا التعليم. يعتبرون أنهم يكتفون بحرف الشريعة وينتظرون من عملهم هذا طمأنينة أمام الله. حين يمارسون الوصايا ممارسة حرفيّة ودقيقة، يظنّون أنهم ردّوا إلى الله ما يحقّ له (ليأخذه ويذهب!). هو لا يستطيع أن يطلب أكثر من ذلك دون أن يتجاوز العدل والحقّ. إذن، اعتبر الكتبة والفريسيون أن لا شيء يجبرهم على الاصغاء إلى النداء الذي يوجّهه إليهم يسوع.
أما جواب يسوع لسامعيه فيدلّ على أن موقفهم يتضمّن جهلاً (رفض معرفة) أساسيًا لطبيعة العلاقة الحقيقيّة التي تربط الانسان بالله. فوضعُ الانسان تجاه الله هو وضع الخادم. لذلك يجب عليه أن يقبل بما يطلبه منه الله ويتمه، ولو كان هذا الطلب غير منتظر. فأمام نداء الله الذي يتوجّه إلى البشر بواسطة رسالة يسوع، لا نستطيع أن نتهرّب، أو نبحث عن شيء آخر في لاهوت يريد أن يفرض على الله نظرة البشر إلى العدالة. فلو عاملَنا الله بعدالة البشر، لكان مصيرنا مريعًا. عدالته هي رحمة ومحبّة، وهنيئًا لمن يعرف أن ينفتح عليها.

2- مثل الوزنات في الكنيسة الأولى
ووصل المثل إلى مت ولو في الشكل الذي قرأناه مع خاتمة تقول: ((كل من له يُعطى فيزداد. ومن ليس له، فحتّى ما هو له يُنزع منه)) (آ 29). ونقرأ في لو 19: 26: ((من له يُعطى، ومن ليس له، فحتّى ما هو له يُنزع منه)). نحن هنا أمام قول وصل إلينا أيضًا في سياق الأمثال (13: 12؛ مر 4: 25؛ لو 8: 18). وحين أدرجه مت هنا كخاتمة لمثل الوزنات، اتّبع نهجًا اعتاد عليه: فهو يزيد على عدد من الأمثال قولاً عامًا يتوخّى توسيع هذا التطبيق، لئلا يبقى المثل محصورًا في فئة معيّنة: ((المدعوّون كثيرون، أما المختارون فقليلون)) (22: 14). أو: ((الأولون يكونون آخرين، والآخرون أولين)) (مت 19: 30؛ 20: 16؛ مر 10: 31؛ لو 13: 30). أو: ((من ارتفع اتضع، ومن اتضع ارتفع)) (مت 18: 4؛ 23: 12؛ لو 14: 11؛ 18: 14). مثل هذه الخاتمات تستخلص عادة من الأمثال تعليمًا ثانيًا فيكون رباطه بالخبر الامثالي رباطًا مصطنعًا. غير أن هذا لا يعني أنه تعليم ثانويّ وذات أهميّة محدودة. بل هو بالأحرى يعمّم تطبيق المثل كما قلنا.
ونستطيع أن نلاحظ هنا أنه إن كان العبد الشرّير قد استحقّ اللوم، وأخذ منه السيّد ماله، فليس لأن ماله قليل. ففي مت حيث تسلّم أقل من رفيقيه (في لو، لا فرق بين خادم وخادم)، لم تقم خطيـئته في أنه أخذ قليلاً، بل في أنه لم يستثمر ما تسلّمه لكي يزيده.
ولكن كيف وُضع هذا القول الأخير (من له يعطى)؟ هو في الواقع قريب بعض القرب من الخبر الامثاليّ (الذي حدّثنا عن ثواب الخادمين الصالحين وعقاب الخادم الشرّير). وهكذا يكون ((الواعظ)) المسيحيّ قد بحث عن صورة تنطبق على مبدأ عام نُدان فيه بحسب ما لنا أو ما ليس لنا. وهكذا كان اهتمامه بالطريقة التي فيها تتمّ المجازاة في الدينونة: الرب ((يجازي كل واحد بحسب أعماله)) (مت 16: 27؛ روم 2: 6؛ 2كور 5: 10). وهكذا نال المثل تطبيقًا جديدًا لا يوافق كل الموافقة هدف يسوع حين قدّمه إلى سامعيه من كتبة وفريسيّين، ولكنه يوافق حاجة المسيحيّين في الكنبسة.

3 - تفسير مثل الوزنات في انجيل متّى
إن الإشارة الرئيسيّة حول التعليم الذي يريد متّى أن يقدّمه بواسطة المثل، نجدها في لفظة صغيرة وُضعت في بداية المثل: ((لأن)) (وذلك). وهكذا يبدو المثل بشكل توسيع يتوخّى شرح القول الذي جعل منه الانجيليّ خاتمة مثل العذارى العشر (آ 13). ((فاسهروا إذن، لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة. وذلك كمثل رجل ذهب في سفر...)). إذن، يريد المثل أن يفهمنا ضرورة ((السهر)). لا شكّ في أن مت لا يفهم هذا الفعل (اسهروا) في معنى حرفيّ، وإلاّ لما استطاع أن يجعل من هذه التوصيّة خاتمة لمثل ستنام فيه العذارى كلهنّ، الحكيمات والجاهلات. نحن ((نسهر))، أي ((نستعدّ)) (25: 10)، لكي لا نؤخذ على غفلة حين تأتي الدينونة التي نجهل يومها وساعتها. وموضوع السهر هذا يملأ القسم الثاني من الخطبة الاسكاتولوجيّة، أي منذ 24: 42: ((فاسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أي وقت يأتي سيّدكم)). وتأتي بعد هذه الآية أمثالٌ خمسة تفصّل مختلف وجهات السهر، بحيث لن يعود زمن عودة الربّ بالنسبة إلى تلاميذ يسوع يوم الدينونة وساعة الشجب والهلاك (24: 43-25: 46).
وهكذا يرى متّى في المثل الذي نقرأ حضًا على السهر. فهناك لمسة صغيرة تنيرنا حول الوضع الذي سبّب هذا التحريض. في آ 19، أوضح مت أن السيّد قدم ((بعد زمن طويل)). هذا ما لا نجده في المثل كما رواه لو 19: 15. غير أن هذا التفصيل يوافق ذاك الذي وجدناه في المثل السابق: ((وإذ أبطأ العريس...)) (25: 5). كما وجدناه في مثل ربّ البيت، حيث نسمع العبد الشرير يقول في قلبه: ((سيّدي يبطئ)) (24: 48؛ رج لو 12: 45). فهذه الاشارات التي تتكرّر تلفت انتباهنا. فنفكّر بمشكلة شغلت بال المسيحيين العائشين في الزمن الرسوليّ بعد أن تأخّرت عودة الربّ. فمجيء يسوع الذي اعتبروه قريبًا جدًا لم يحصل بعد. وأحسّوا بخيبة أمل كادت تقود إلى نتائج خطيرة بالنسبة إلى الايمان المسيحيّ (2بط 3: 4). وهذا الوضع هدّد ثبات المؤمنين، هدّد هذا السهر الذي تغذّى برجاء ينتطر بسرعة مجيء الرب الثاني.
أما الوجهة التي بها يعالج متّى واجب ((السهر)) في مثل الوزنات، فتبرز بشكل خاص من خلال الصفات التي بها وَصف الخدّام الثلاثة. فعلَ هنا ما اعتاد أن يفعل في مواضع أخرى. ففي المثل الذي ينهي عظة الجبل، وصف الرجل الذي بنى بيته على الصخر بـ ((الحكيم)). والذي بنى بيته على الرمل بـ ((الجاهل)) (مت 7: ،24 27). نلاحظ أن لو لا يورد هاتين الصفتين. والوكيل الذي يهمل واجباته يسمّى ((الخادم الشرّير)) (24: 48؛ ق لو 12: 45) . وفي حدث شفاء المخلّع، فكّر الكتبة ((بالشرّ)) على يسوع (9: 4؛ ق مر 2: 8). ويسمّى الكتبة والفريسيون ((مرائين)) (23: 13-29؛ ق لو 11: 39-52) في فصل فضح فيه الانجيليّ أولئك الذين يقولون ولا يفعلون، أولئك الحمقى والعميان والقبور المكلّسة. كل هذه التفاصيل تدلّ على هدف تعليميّ لدى الانجيليّ الذي رغب في أن ينير قرّاءه في الحكم على الأمور.
وفي مثل الوزنات، قال السيد للخادم الأول في لو 19: 17: ((أيها العبد الصالح)). وقال لكل من العبدين الأولين في مت 25: 21، 23: ((أيها العبد الشرّير الكسلان)) (25: 26). ويوصف هذا الانسان أيضًا بأنه ((عبد بطّال)) (آ 30، لا فائدة منه ولا نفع). هل نظنّ أن هذا العبد كان أقلّ كسلاً لو جعل مال سيّده في المصرف بدلاً من أن يحفر في الأرض ويخفي الفضّة؟ من الواضح أن متّى لا يهتمّ بمثل هذه المسألة. فحين سمّى العبد الشرير ((الكسلان))، فقد اهتمّ بتطبيق المثل لا بالصورة التي نستخلصها من المثل.
أورد مت في بداية المثل ما فعله الخادمان ((في الحال)) بالفضّة التي تسلّماها (آ 16-18). لا نجد ما يقابل هذه الآيات الثلاث في لو، بحيث نحسّ أنها تستبق مشهد الدينونة فتنتزع منه طابعه غير المتوقّع. ونلاحظ في الوقت عينه أنها تلقي الضوء على التعليم الذين يريد مت أن يستخرجه من المثل: هي تبرز نشاط وغيرة الخادمين الأولين (الصالح، الأمين) تجاه لااهتمام العبد الثالث ((الكسلان)).
في الأقوال التي تفوّّه بها السيّد، تميّز مت بسمات تتجاوز بشكل واضح إطار الخبر الامثالي، وهي سمات لا نجدها في لو. فقد دُعي الخادمان الأولان إلى الدخول إلى فرح سيّدهما (آ 21، 23): هذا ((الفرح)) هو فرح الوليمة المسيحانيّة، لا عاطفة أحسّ بها السيّد لسبب لا يذكره المثل. ويقال أيضًا عن العبد البطال: ((ألقي في الظلمة البرانيّة حيث يكون البكاء وصريف الأسنان)) (آ 30): هذا العقاب يدلّ على الهلاك الابدي (رج مت 22: 13).
هنّأ السيّد عبديه الأولين قائلاً لهما بأنهما كانا أمينين ((في القليل)) (25: ،21 23). في الواقع، هما قد نالا بحسب مت أموالاً طائلة جدًا. فإذا كان الدينار يشكّل أساسًا، أجرة العامل في يوم عمل، يكون الخادم الأول قد نال 30000 دينارًا. والخادم الثاني 12000 دينارًا. فكيف نفهم هذا القليل على مستوى المثل؟ إن هذه الاشارة تُفهم بشكل أفضل في لو 19: 17 حيث يتسلّم كل خادم كمية قليلة من المال. فالمنا يقابل مئة دينار. ضخّم متّى الكمية التي أخفاها العبد الأخير في منديل، فصارت ما يوازي 36 كلغ من المعدن الثمين. لهذا حفر العبد ((البطّال)) في الأرض وأخفى فضة سيّده.
وهكذا نلاحظ أن متّى حين نقل المثل، اهتمّ أول ما اهتمّ بالتعليم الذي يجب على قرّائه أن يستخلصوه. فحتى لو تأخّر مجيء الرب، يجب على المسيحيين أن يظلّوا ((ساهرين))، فيفكروا بالدينونة التي فيها يحاسَبون على أعمالهم، والتي بها يرتبط دخولهم إلى فرح الملكوت. هذا السهر هو في الوقت عينه أمانة من أجل تتميم المهمّات الملقاة على عاتقنا، أي جميع واجبات الحياة المسيحيّة. فإذا أردنا أن نشارك في الخلاص، لا يكفي أن نسمع كلمة الله، بل يجب أن نحفظها ونتركها تثمر فينا (لا نعارض عملها فينا). فمن أراد أن يتهرّب من هذا العمل، يدلّ على إهمال وكسل وينتظره أقسى عقاب. نكتشف في هذا التعليم إحدى الاهتمامات الكبرى في إنجيل متّى. فالمؤمن الذي لا يمرّ التعليم المسيحيّ في حياته لا يستفيد أية إفادة ممّا تقبّل: إنه يشبه المدعوّ الذي دخل إلى قاعة الوليمة وليس عليه ثياب العرس (22: 11-13). إنه يشبه العذارى الجاهلات اللواتي دُعين للمشاركة في موكب العريس ولكنهن لم يحملن معهنّ الزيت من أجل مصابيحهنّ التي انطفأت (25: 1-12). إنه يشبه ذاك الرجل الذي بنى بيته على الرمل (7: 26-27). يشبه العبد الذي لم يستثمر الوزنة التي أعطيت له فدفنها في الأرض، فصارت عطية الله شجبًا له ودينونة، لا نعمة وخلاصًا.
الانجيل رأس مال وغنى: فلا يحق للذين سلّم إليهم أن يتركوه بورًا، أن لا يستغلّوه. عليهم أن يتركوه يحوّلهم ويلهم كل نشاطهم. هكذا فقط يدلّون على أنهم ((أمناء)) لذاك الذي وثق بهم وسلّمهم ماله.

خاتمة
يبقى علينا في هذه الخاتمة أن ندرس نصّ لو. فتفسيره للمثل يتّخذ منحى آخر. لقد رأى لوقا في هذا المثل تحذيرًا لأناس يعيشون في الوهم، ويتخيّلون أن يسوع قد أعطى تعليمًا حول مجيء قريب جدًا لملكوت الله. ((وقال أيضًا مثلاً لأنه كان قريبًا من أورشليم، ولأنهم كانوا يتوهّمون أن ملكوت الله موشك أن يظهر في الحال)) (19: 11). لقد صار ((السيد)) في المثل ((انسانًا كريم النسب)). ذهب إلى بعيد لكي يتولّى ملكًا ثم يعود (آ 12). فالمسيح لن يعود حالاً، شأنه شأن هذا الرجل. ولكنه يعود. هذا ما لا شكّ فيه (آ 12، 13، 15). عند ذاك يمثُل المسيحيّون أمام معلّمهم وسيّدهم. ويتميّز وضعهم الخاص بأمر واضح أعطي لهم: ((تاجروا (استثمروا المال) حتى أعود)) (آ 13). فالويل للخادم الذي ((يعرف مشيئة سيّده)) ولا يعمل بموجبها (12: 47-48). في هذا المنظار، يبدو العبدُ الرديء لا ذاك الكسلانَ، كما قال مت، بل ذاك الذي عصا أوامر سيّده.
فالطريقة التي بها أوضح لوقا الأمانة المطلوبة من المسيحيّين، تختلف بعض الشيء عن تلك التي يستخرجها مت من المثل. ففي الحالتين نحن أمام تطبيق ثان لمثل توخّى فيه يسوع أول الأمر أن يُفهم خصومه الطبيعة الحقيقيّة للعلاقة الدينيّة التي تربط الانسان بالله. بما أن الانسان هو خادم، فعليه أن يقبل ويتمّ مشيئة الله كما تظهر له في الزمن الحاضر. والموقف الذي يطلبه يسوع يتعارض كل المعارضة مع مخافة العبيد التي تلجأ إلى طمأنينة تحميها من الله في ممارسة دقيقة لوصاياه. في هذا المنظار، نرى أن النقص الأكبر عند الخادم الرديء هو نقص في المحبّة. نقص في الحريّة التي يمنحها حبّ لا يخاف المخاطرة. قال يوحنا في رسالته الأولى: ((لا خوف في المحبّة. بل المحبّة الكاملة تنفي الخوف، والذي يخاف لا يعرف كمال المحبّة. أما نحن فلنحبّ لأنه هو أحبّنا أولاً)) (4: 17-20).




 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM