التجلي
9: 28- 36
بينما يسوع يصليّ، تغيرّت هيئة وجهه وصارت ثيابه بيضاء لامعة.
مشهد التجلي يعلّمنا أن مستقبل الانسان هو على وجه الابن الوحيد. يعلّمنا أن مجد الله شعّ على وجه انسان هو يسوع. وهو يشعّ على وجوهنا إيضا. منذ الآن. شرط أن نسمع للابن.
روى لوقا أن يسوع "صعد إلى الجبل ليصلّي". وهكذا نعرف مسبقاً أن المشهد سيلقي ضوءاً على العلاقة الخاصة بين يسوع وأبيه. وصلاته قوية جداً بحيث جعلته في حضرة الله مع شخصين مركزيّين في العهد القديم: موسى وايليا، الشريعة والانبياء. هذان الشخصان السماويان، والمجد الساطع الذي يتجلّى على وجهه وينير ثيابه، كل هذا يدل على أن المشهد مجيد وسماوي. ومع ذلك فالكلمة التي تفسّر المشهد تتحدّث لا عن المجد، بل عن الموت (خروجه أي موته).
وحاول بطرس أن يدخل في هذا الإطار. إحتفظ باللوحة المجيدة، ولكنه أحلّ محل الحوار حول الموت (الذي هو شكّ في نظره) حواراً آخر يقع في منطق المجد. لقد أراد ان يستمرّ هذا المشهد المجيد، فألقى الحدث الذي يدخل في برنامج الله. حينئذ جاءت غمامة مظلمة فغطت بظلّها كل الاشخاص: لا سبيل إلى أن نبقى مشاهدين. علينا أن نصبح ممثّلين (فاعلين). فالصوت الآتي من السماء شهد أن مجد يسوع هو مجد الله بالذات. هو الابن الذي فيه تتمّ كل الكتب (التي يمثّلها هنا إيليا وموسى). ولكن لا يجب أن نبقى في مشاهدة منفعلة. الصوت يدعونا الى السماع والاصغاء. فالذي ظهر بهذا الشكل بطريقة عابرة سيرافقه التلاميذ في طريقه الذي يمرّ في الموت: "من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (9: 23).
ووجّه الانجيلي تفسيرنا للمشهد، فأعلن أن بطرس لم يكن يدري ماذا يقول. هذه طريقة "مهذبة" بها يدّل على أن كلام بطرس لم يكن في محلّه. أما بالنسبة الينا اليوم، فمشهد التجلي يبقى مشهداً آنياً. فهو يُسقط على يسوع نوراً ساطعا فيعلن أنه حقاً ابن الله، ذاك الذي أنبأت به الشريعة والأنبياء.
نستطيع ان نرافق يسوع والتلاميذ الثلاثة، نكون بجانب بطرس، ويعقوب ويوحنا. الخطر هو هو بأن نطلب أن يطول الظهور. والدعوة الى التوبة هي هي. إن يسوع يدعونا إلى أن نترك الجبل الهادىء وأن نغامر في طرق مظلمة كالضباب. فعلينا بعض المرات أن نبقى صامتين، وأن لا نعجّل في تفسير العلامات المعطاة. ولكن علينا أن لا نتردّد في السماع والاصغاء عارفين أن الكلمة التي نحفظها ستكون نوراً لخطانا.
إن التجلي يجعلنا نشاهد يسوع في أبهى ساعة من ساعات حياته على الارض. وهو يقدَّم لنا حتى نستعد لأن نستمع دوماً اليه.
ولكن قبل عطية هذه الكلمة الفريدة، يرى الآب أننا لم نستفد منها كفاية: "إسمعوا له. إنه ابني، إنه مختاري. إسمعوا له".
أين هو اصغاؤنا؟ نحن نصغي حين تسير الأمور على ما يرام. ونكون مشتتين ولا مبالين حين لا "تقبض" علينا الكلمة. ونرفضها ونتمرّد عليها ساعة الألم والاتضاع. هل هذا هو الجواب على نصيحة الآب الملحة بأن نسمع لابنه؟! يجب أن يكون اصغاؤنا دوماً متعطشاً وطيّعاً. ولهذا قد يساعدنا التجلي وما فيه من مدهش وعجب.
نحن نملك ثلاث صور لكي نشاهد يسوع: يسوع الحي والطبيعي في عمل الكرازة والشفاء. يسوع المشوّه في الآلام. يسوع المتجلّي.
ويسوع المجيد يحيرّنا. وهذا ما يعرفه لوقا فيلاحظ أن وجه يسوع "بدا غير ما كان". ولكنه يعرف أيضا لماذا أعطي لنا هذا الوجه الذي لم نعتد عليه: لكي "يثبت" الرسل. ولكي يثبّتنا نحن أيضاً لئلا نتراخى ساعة يكون الإيمان صعباً والحياة قاسية.
صُدم الرسل صدمة قاسية: بعد أن شعروا بالفرح حين أعلنوا أن يسوع هو المسيح، جاء الاعلان القاسي بأن يسوع ذاهب الى الالم والموت. إنتظر اليهود مسيحاً ممجّداً، وها هو يسوع يحدّثهم عن مسيح ذليل ومهان! ويقول لوقا إن التجلي حصل بعد بضعة أيام. هذا ما يساعدهم على استعادة نفوسهم. ولكن ستأتي الجسمانية والجلجلة فتسحقان التجلي سحقاً واضحاً تحت غطاء اليأس: "كنا نترجّى"! هذا ما قاله تلميذا عماوس.
إن الكنيسة تدعونا الى التأمل في "يسوع آخر"، لكي لا نقع في التجربة التي نقول فيها: "ترجّينا! ولكن كل شيء انتهى".
لا، لم ينتهِ شيء حين نسمع يسوع يحمل إلينا صوت الآب. واصغاؤنا واسع وعميق وسع مشاهدتنا وعمقها. فإن قال لنا شخص آخر: إخسر حياتك تربحها، لهززنا الكتف ولم نسمع. أما عند يسوع المجيد، فهذه الكلمات تشعّ رجاء. فهو قد عبر في الالم والموت، ونحن نعبر مثله.
ولكن شرط أن نسمع هذا الصوت الذي يقول لط كيف نسير في الليل وكيف نصل إلى نور النهار. يسوع وحده يعرف وهو يدلّنا على الطريق.
تركنا طرقات صعبة، يا رب، وجئنا إليك نتذوّق الراحة. فهل نعرف ان نسهر حين يكون الجسد ضعيفاً؟ رأتك عيوننا لحظة في مجدك، فيا رب الفرح، وجهك هو النور. إختفى وجهك في ليل الزمن. أعلن الانبياء مجيئك، وعرفناك عند صوت الآب. يبقى علينا ان نسود على التجربة، نعبر معك ليالي عديدة. فيا ابن الله، قد خطانا إلى الرب فتتجلّى فيك حياتنا