المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الثلاثون: شفاء غلام قائد المئة
 

الفصل الثلاثون
شفاء غلام قائد المئة 8: 5- 13

دلّ يسوع بأشفيته على أنه سيّد الطبيعة، على أن له سلطاناً على المرض وعلى الموت. لهذا جاءت معجزاته رحمة بالناس، كما جاءت تثبيتاً لإيمانهم. هذا ما حدث لقائد المئة الذي قد يكون رومانياً أو لا: كان هيرودس انتيباس يجنّد الناس من المناطق المجاورة. ولكن، مهما يكن من أمر، فهو ضابط وثني، وهو يتميّز بإيمانه عمّا في العالم اليهوديّ. أشفق عليه يسوع وعلى غلامه. ثم جاءت المعجزة فثبتت له إيمانه. سلطان القائد من سلطان الأمبراطور. وسلطان يسوع من سلطة الله. وهكذا عبرّ القائد عن إيمانه بيسوع وثقته المطلقة به بطريقة محسوسة. إنه متأكّد أن المرض يطيع يسوع، كما يطيعه هو القائد جنديّ من جنوده.
وها نحن نتوقّف عند هذا الشفاء الذي قام به يسوع عن بُعد، فدلّ على سلطانه التام وقدرة كلمته التي لا تعرف المسافات.

1- نظرة عامة
يشكّل مت 8- 9 وحياً عن يسوع، وعبر يسوع وحياً عن الآب. فأعماله قدرته تدلّ عليه. تقول لنا من هو. وتقول لنا إن واقع الملكوت قد صار حاضراً، لأن فعلاته تدلّ عليه، وأقواله تعلنه. وهذا الوحي يتمّ عبر اللقاءات اليوميّة التي تتيح لكل إنسان أن يكتشف الواقع الجديد الذي بدأ يعمل في العالم ويبدّله.
في هذه اللقاءات يكتشف الناس من هو يسوع. هو المعلّم الذي نتبعه بالنظر إلى الكاتب 8: 19. هو ابن الله، كما يهتف المتشيطنان (8: 29). هو ابن داود لهذين الأعميين (9: 27) اللذين حمل إليهما الشفاء المسيحاني. إنه يبني جماعة فيها البرص (8: 1- 4)، فيها الوثنيون مثل قائد المئة الذي دلّ على إيمان لم يجده يسوع في اسرائيل... ونحن نرافق هذا الضابط الروماني في تعرّفه إلى يسوع. وسيأتي يوم يكون تلميذاً له على مثال ذاك الذي هتف له مع جنوده عند الصليب (27: 54) أو على مثال كورنيليوس الذي عمّده بطرس مع أهل بيته (أع 10- 11).
إن متّى (8: 5- 13) ولوقا (7: 2- 10) يرويان شفاء عبد قائد المئة في كفرناحوم. عاد كل منهما إلى المعين وصاغ الخبر بطريقته. ويبدو أن مت حافظ على المضمون الأولاني للخبر. قام ببعض التصحيحات الأدبية الطفيفة، ثم أدرج آ 11- 12 حول استبعاد "أبناء الملكوت"، اللتين جعلهما لوقا في 13: 28- 30. أما لو فأعاد صياغة الخبر الأولاني في العمق. لا شكّ في أنه احتفظ بجوهر القسم المركزي (آ 6 ب- 9). ولكنه حوّل المقدّمة (آ 2- 6 أ) والخاتمة (آ 10) متخيّلاً وفدين قد أرسلهما الضابط الروماني إلى المسيح. ونتج عن ذلك بعض التنافر. مثلاً، طلب قائد المئة من المسيح أن "يأتي" لينقذ غلامه (آ 3). ثم يقول له بأن لا يدخل إلى بيته لأنه غير مستحقّ (آ 6). وهكذا يبدو أن لو يمثل تقليداً ثانوياً بالنسبة إلى مت.
وروى لنا يوحنا من جهته شفاء ابن الموظف الملكي في كفرناحوم (4: 46- 54). هناك اختلافات عديدة بين خبره وخبر مت ولو. ولكن التشابهات كافية لتجعلنا نقوله بتماهي الحدثين. ونلاحظ أيضاً أن خبر يوحنا ليس متناسقاً. ففعل إيمان الموظف الملكي يُذكر مرتين: مرة أولى (آ 50) قبل شفاء ابنه، ومرة ثانية (آ 53) بعد شفائه. ثم إن اللوم الذي يوجّهه إليه يسوع في آ 48، يبدو خارج الموضوع. إذن، يمكن أن يكون الخبر اليوحناوي الحالي نتيجة صياغة أدبيّة جديدة. قد يكون لنا في الأصل خبر شبيه بما في المعنى: إن موظف الملك هيرودس انتيباس جاء إلى يسوع وطلب منه أن ينزل ويشفي ابنه المشرف على الموت (آ 46 ب- 47). أكّد له يسوع أن ابنه منذ الآن هو في تمام العافية. آمن الموظف بكلمة يسوع ومضى (آ 50). وانتهى الخبر بذكر الشفاء العاجل للولد (آ 53 أ؛ رج مت 8: 13). في هذا الخبر، سبق إيمان الأب شفاء الابن، فاستحقّه بشكل من الأشكال.
وجاء كاتب لاحق فحوّل الخبر الأولاني (الذي قد يكون بعدها صيغة شفهيّة) فزاد حدث عودة الموظف الملكي، ولقاءه مع خدمه، وفعل إيمانه بعد شفاء ابنه (آ 51- 53). وهذا ما أتاح للكاتب أن يُدرج في النصّ لوم يسوع: "إن لم تشاهدوا الآيات والمعجزات لا تؤمنوا" (آ 48- 49). كل هذا يبقى في مجال الفرضيّة التي تساعدنا على تطوّر في تأمّل ما عمله يسوع وعلّمه.
إذن، وصل إلينا شفاء غلام كفرناحوم في تقليدين مستقلّين: المعين الذي نجده أقدم آثاره في مت. والتقليد اليوحناوي. كل التحوّلات التي تمّت في النصّ ترتبط بالإلهام الإلهي. وهي تتضمّن تعليماً لاهوتياً سوف نحاول أن نكتشفه.

2- كلمة ومعجزة
أ- أشفية يسوع
إن شفاء غلام كفرناحوم يتميّز تقريباً عن سائر الأشفية المرويّة في الأناجيل. فقد تمّ "عن بُعد" (لم يلمسه يسوع كما لمس الأبرص. بل لم يره). هذا الوضع الخاص هو غنيّ بتعليم لاهوتي يكوّن مرمى الخبر. اعتاد يسوع أن يشفي المرضى بالاتصال أو بوضع اليد. في 9: 18، طلب يائيرس من يسوع أن يضع يده على ابنته المريضة. في مر 6: 5 نعرف أن يسوع شفى بعض المرضى "بوضع يديه عليهم" (رج مر 7: 32؛ 8: 23، 25)، وقد يكتفي يسوع بأن يلمسهم أو يمسك بيدهم (9: 25).
هناك بعض الأخبار ذات الطابع التدويني القديم، مثل شفاء النازفة، يجعلنا نشعر أن في جسد يسوع "قوّة" سرّية (رج مر 6: 5) تفعل من دون معرفة يسوع، أو أقله بدون أن تتدخّل إرادته تدخلاً أنياً (مر 5: 30). وفي مكان آخر، تبدو "القوة" التي يمارسها المسيح محصورة في اتصال جسدي. ويعود يسوع مرتين إلى العمل عينه لكي تكون النتيجة مرضية كلياً (مر 8: 22- 26). حسب هذه الأخبار، يبدو يسوع مجترح معجزات يصدر من جسده "قوّة" تخرج منه بشكل طوعيّ.
غير أن هناك أخباراً تقدّم مسيرة المعجزات التي يتقها يسوع في منظار "روحيّ" عميق. إن وجب على يسوع أن "يلمس" المريض، فهو يرافق لمسه بأمر: "شئت فاطهر" (8: 3). هذا ما قاله للأبرص. وقالت لابنة يائيرس: "طليتا قومي". وفسّر مر 5: 41 العبارة: "يا صبيّة، لك أقول قومي". لقد دخل هنا عنصر جديد هو أمر المسيح. أي: كلمته التي تعبرّ عن إرادته. فالاتصال الجسدي لن يكون شيئاً إن لم يرافقه عمل إرادي من المسيح يعبرّ عنه بكلمة.
والوضع الأرفع في هذه "الروحنة" في المسيرة العجائبية، نجده في الشفاء "عن بعد". هنا، لا نجد اتصالاً جسدياً، لأن المريض ليس في حضرة يسوع. فلا يبقى إلا فاعليّة الكلمة، فاعليّة أمر يسوع. وليس من قبيل الصدف أن يبرز دور الكلمة بوضوح في تقليدين مختلفين جداً مثل تقليد مت ويو. ففي مت 8: 8، قال قائد المئة للمسيح: "قل فقط كلمة فيبرأ فتاي". ولاحظ الانجيلي يوحنا أن "الرجل آمن بالكلمة التي قالها له يسوع" (4: 50). وهكذا ندرك في التقليدين الطابع الخاص للشفاء عن بُعد. ونفهم الدور الفاعل لكلمة المسيح. كان هذا الموضوع غنياً بالتعليم اللاهوتي، بحيث إن التقليد الرسولي احتفظ به وقدّمه في إطار هذه المعجزة.
ب- كلمة يسوع وكلمة الله
إن هذا الشفاء الذي تمّ عن بُعد، حرّك إيمان اليهود في شخصية المسيح الحقيقية، أكثر ممّا فعلت الأشفية العادية. فحسب التقليد البيبلي، ما هو خاص بالله هو كلمة فاعلة بشكل متعالٍ. فحسب خبر الخلق، يكفي أن يقول الله "ليكن نور" حتى يأتي النور حالاً إلى الوجود (تك 1: 3). هذا ما ينشده مز 33: 6- 19: "بكلمته صُنعت السماوات وبنسمة أنفه كل جنودها... قال فكان كل شيء. وأمر فكان كل موجود".
وفاعلية كلمة الله السامية لا تظهر فقط في عمل الخلق العجيب، بل في المعجزات التي يتمّها بواسطة الأنبياء. هذا ما نقوله عن معجزة الطحين والزيت كما تمّت على يد إيليا من أجل أرملة صرفت صيدا. "هكذا قال الربّ إله اسرائيل: جرّة الطحين لا تفرغ، وابريق الزيت لا ينفد إلى اليوم الذي فيه يرسل الربّ مطراً على وجه الأرض... لم تفرغ جرّة الطحين، ولم ينفذ ابريق الزيت حسب الكلمة التي قالها الرب بواسطة إيليا عبده" (1 مل 17: 14- 16).
ونقول الشيء عينه عن معجزة المياه التي أصلحت بيد أليشاع: "هذا ما يقول الربّ: أنا أصلح هذه المياه. وصارت المياه صالحة إلى الآن حسب الكلمة التي قالها الربّ لعبده أليشاع" (2 مل 2: 21- 22).
ونستطيع أن نقدّم عدداً من الأمثلة المشابهة، وهي تدلّ كلها على أن كلمة الله فاعلة، أن كلمة الله هي في خدمة الله عبر الأحداث والأشياء.
ونقول الشيء عينه عن المسيح. يكفيه أن يقول: "ابنك قد شُفي" حتى يُقهر المرض "في الساعة عينها" وبشكل نهائيّ (8: 13؛ رج يو 4: 53). وبما أن يسوع يجترح الشفاء بمجرّد التلفّظ بكلمة، هذا يعني أنه يعمل مثل الله (يو 5: 18- 17). أنه يمتلك سلطاناً يجعله مساوياً لله.
هناك بعض خاصيات في الخبر كما نقلها المعين (مت، لو)، وهي تبرز هذا التوازي بين فاعليّة كلمة المسيح وفاعليّة كلمة الله. فحين يعتبر قائد المئة أنه لا يستحقّ أن يستقبل المسيح تحت سقف بيته، ويعرض عليه أن يقول كلمة واحدة فيبرأ فتاه، عند ذاك يمكننا أن نتساءل: أما تكون هذه الجملة تلميحاً إلى مز 107: 20: "صرخوا إلى الربّ في ضيقهم فنجاهم من شدائدهم. أرسل كلمته فشفاهم ومن الهاوية أنقذ حياتهم".
وحين قابل الضابط الروماني الروماني سلطة يسوع على عناصر العالم، بالسلطة التي يمارسها على جنود بإمرته، قال: "أقول لهذا: اذهب! فيذهب. ولآخر: تعال! فيأتي". نحن هنا في صدى لما قاله با 3: 33- 35: "الله هو الذي يرسل نوره فيضيء، ويدعوه فيخضع مرتعداً: تشرق النجوم في مواضعها فرحة. وحين يدعوها تجيب: ها نحن هنا".
إن يسوع يأمر عناصر الكون كما يأمر الله على النجوم التي كوّنها. في هذا المنظار اللاهوتي يُفهم المديح الذي قاله يسوع في الضابط الروماني أمام سامعيه: "الحق أقول لكم: لم أجد مثل هذا الإيمان في اسرائيل". (آ 10). فالنموذج الذي يريد يسوع أن يقدّمه، ليس فقط حرارة الإيمان لدى هذا الضابط. فالرجال الذين حملوا المخلّع إلى يسوع، ونقبوا السقف لكي يوصلوه إليه، قد دلّوا هم أيضاً على إيمان قويّ. قال مر 2: 5: "فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلّع". ولكن ما أراد يسوع أن يمتدحه هو الصفة الموضوعة لإيمان الضابط الروماني: مع أنه وثني رأى في يسوع سلطاناً إلهياً، لأنه علم أن يسوع يستطيع أن يفعل بقدرة كلمته وحدها على مثال الله. واليهود الذين استصعبوا أن يروا في يسوع مرسل الله، لم يدركوا هذا الكمال في موضوع الإيمان.
ج- الكلمة والحياة الجديدة
إن كلمة يسوع، شأنها شأن كلمة الله، تستطيع أن تشفي الأجساد. ولكن هذا العمل المنظور هو علامة عن عمل سرّي لا تراه أعين البشر: هذا العمل هو شفاء النفوس. والتوازي بين هذين العملين اللذين نتجا عن كلمة المسيح، قد برز بشكل خاص في خبر شفاء المخلّع (مر 2: 3- 12). رأى يسوع إيمان الذين حملوا إليه المخلّع، وثقتهم المطلقة به، فقال للمخلّع: "مغفورة لك خطاياك". تشكّك الكتبة لأن يسوع نسب إلى نفسه امتيازاً إلهياً وهو غفران الخطايا. أجابهم يسوع قائلاً: "أيهما أيسر، أن يقال للمخلّع مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال له قم وامش"؟ حينئذ توجّه يسوع إلى المخلّع: "لك أقول: قم، احمل فراشك واذهب إلى بيتك".
إن يسوع لا يفعل هنا إلا بكلمته، كما في شفاء غلام الضابط الروماني. غير أنه يريد أن يعلّمنا بوضوح، أن لكلمته فاعليّة إلهيّة، لأنها تستطيع أن تشفي الأجساد كما تشفي النفوس في غفران الخطايا. فمن يستطيع أن ينسب إلى نفسه هذا السلطان إن لم يكن الله؟ هذا ما فهمه الكتبة كل الفهم، ولهذا حكموا على يسوع مخطئين فقالوا بأنه يجدّف.
نعمَ المخلّع وغلام قائد المئة بفاعليّة كلمة المسيح السامية، لأنهما آمنا (مر 2: 5؛ مت 8: 13). وفي الشرح الذي يعطيه يسوع لمثل الزارع، فهو يربط رباطاً وثيقاً بين فاعليّة كلمته وإيمان البشر. فالكلمة (هنا: الكرازة الانجيلية) تشبّه بيذرة تُرمى في قلب الإنسان (مر 4: 14- 15). وكان لوقا أكثر وضوحاً فقالت: "البذرة هي كلمة الله" (لو 8: 11). حين يسمع البشر الكلمة، عليهم أن "يتقبّلوها" (كما تتقبّل الأرض البذرة) في قلوبهم (مر 4: 16، 20) وهذا لا يتمّ إلا بالإيمان (لو 8: 13). فبالإيمان تأتي كلمة الله وتقيم في قلب الإنسان. حينئذ تتصرّف فيه مثل زرع حياة يتفتّح وينمو بانتظار أن يثمر ثمار حياة أبدية (مر 4: 20).
لقد أعطى التقليد المسيحي الأولاني أهمية كبرى لموضوع الكلمة التي نقتبلها بالإيمان. فيبيّن لنا لوقا في سفر الأعمال أن الكنيسة تنتشر في العالم بقدر ما البشر "يتقبّلون كلمة" الكرازة الرسولية (أع 8: 14؛ 11: 1؛ 17: 11). ونقول الشيء عينه عن أهل تسالونيكي: لقد "اقتبلوا" الكلمة التي حملها إليهم بولس (1 تس 1: 6)، ففعلت فيهم من أجل الخلاص، لأنهم آمنوا (1 تس 2: 13).
ولكن هناك ثلاثة نصوص تحمل بشكل خاص تعليماً لاهوتياً غنياً، وقد صاغها التقليد الليتورجي في الكنيسة. حسب 1 بط 1: 22- 2: 2 الذي يستعيد تعليم المسيح كما يتضمّنه مثَل الزارع، تبدو كلمة الكرازة الانجيلية بذرة تجعلنا نلد لحياة جديدة. هي تعيد تكويننا من جديد فتثبّت فينا بذار الحياة الإلهيّة (1 يو 3: 9؛ رج 2: 14) الذي يجعلنا ننمو حتى الخلاص الأبديّ. فبما أن "كلمة الله تثبت إلى الأبد" (1 بط 1: 25؛ رج أش 40)، فهي فينا مبدأ حياة أبديّة. وهذا ما يقوله القديس يعقوب أيضاً: ولدنا الله بكلمة حقيقته 1 يع 1: 18) التي "تقبّلناها" فينا والتي تستطيع وحدها أن تخلّص نفوسنا (1: 21).
وأخيراًَ، إن هذه الكلمة هي في نظر يوحنا المسيح نفسه، كلمة الله (يو 1: 1). فالذين يقبلونها بالإيمان، فهي تعطيهم سلطاناً بأن يصيروا أبناء الله (1: 12). ثم يبيّن لنا يوحنا في إيجاز رائع، الفاعليّة العجيبة لهذه الكلمة. إنها تستطيع منذ الآن أن تحيي القلوب (يو 5: 24- 25)، كما تُحيي الأجساد في يوم قيامة الموتى (5: 28- 29). ينادي يسوع البشر، يأمرهم، فيخرجون من القبور. على مثال لعازر الذي عادت إليه الحياة بكلمة صديقه الإلهي (يو 11: 43- 44). على مثال غلام الضابط الروماني الذي أحيته كلمة يسوع وحدها (مت 8: 8).

3- إيمان يطلب من جميع البشر
إن خبر شفاء غلام كفرناحوم، يجعلنا أمام مسألة هامة: دعوة الوثنيين إلى الخلاص بالمسيح.
أ- تعارض ظاهر في موقف يسوع
ما هو موقف يسوع من نداء الوثنيين إلى الخلاص؟ حين نقرأ النصوص الانجيليّة، نلاحظ تعارضاً ظاهراً بين تصرّفه وتعليمه. فما لا شكّ فيه، هو أن يسوع، خلال حياته على الأرض، حصر عمداً نشاطه الرسولي في الشعب اليهوديّ وحده. فحين طلبت منه الكنعانيّة أن يشفي لها ابنتها، أجابها بقساوة: "ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل" (15: 24). وحين أرسل تلاميذه، أوصاهم بشكل صريح: "لا تذهبوا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا إلى مناطق السامريين، بل إذهبوا بالأحرى إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل" (10: 5- 6). إذ أراد يسوع أن يحصر رسالته في الشعب اليهودي وحده، كان صدى لمشيئة الله الذي أرسله (15: 24) ورسم له حدود رسالته.
ولكن يبقى من الأكيد أيضاً أن يسوع تطلّع في كرازته إلى ارتداد الأمم الوثنيّة، وبالتالي إلى إيمانهم بعمله الفدائي. فسكّان نينوى وملكة سبأ سيقومون في يوم الدينونة ليشهدوا ضدّ لاإيمان اسرائيل، وهم الذين ارتدّوا وآمنوا (12: 41؛ 42). ومدن صور وصيدا وسدوم، ستعامل معاملة أحسن في يوم الدينونة من مدن الجليل التي رفضت كرازة المسيح (11: 21- 24). وفي ساعة الدينونة، ستلتئم جميع الشعوب، يهوداً أم وثنيين، أمام ابن الإنسان، ويُحدّد مصير كل واحد لا بانتمائه إلى نسل معيَّن، بل بتصرّفه تجاه فقراء هذا العالم والبائسين (25: 31- 46). فالشعوب الوثنيّة الآتية "من المشرق والمغرب" يتّكئون في الملكوت الاسكاتولوجي برفقة ابراهيم واسحق ويعقوب. أما "أبناء الملكوت"، أولئك الذين أعدّ لهم أولاً، "فيُطرحون في الظلمة البرانيّة" (8: 11- 12).
حين وعد يسوع الأمم الوثنية بالدخول إلى ملكوت السماوات، جعل نفسه في خطّ أنبياء اسرائيل. فقد أعلن أشعيا أن الوليمة المسيحانية ستهيَّأ على جبل صهيون "لجميع الشعوب" (أش 25: 6). وعبد يهوه الذي أعلن النبيّ عن مجيئه، قد انتدبه الله ليحمل حقيقة الوحي إلى جميع الأمم (أش 42: 1- 4) وينيرها بتعليم الخلاص (أش 42: 6؛ 49: 6). وقد وعى يسوع أنه يحقّق في شخصه مصير عبد الربّ (20: 28؛ رج مر 14: 24). وإن أراد أن يدخل إلى أورشليم على ظهر جحش ابن أتان (مر 11: 2)، فلأنه أحبّ أن يبيّن أنه يحقّق نبوءة زك 9: 9- 10 التي بحسبها يمدّ الملك المسيحاني سلطان سلامه على الأمم الوثنية.
ب- يكون الآخرون أولين
إذن، كيف نفسّر هذا التعارض الظاهر بين مواعيد المسيح من أجل الوثنيّين وتصرّفه السلبي تجاههم؟ لقد لاحظنا في النصوص التي أوردناها أن دعوة الوثنيين إلى الخلاص تتعارض مع رذل اسرائيل الذي لم يؤمن. فبما أن اسرائيل رذل تعليم المسيح، دعا الله الوثنيين بشكل مباشر إلى الخلاص. إذن، وجب أن يقدّم تعليم الخلاص أولاً إلى اليهود، إلى "أبناء الملكوت"، إلى وارثيه بالدرجة الأولى. وهذا ما عمله يسوع. وهذا ما سيعمله بولس الرسول بعده (أع 13: 46- 47).
إذن، بعد أن رذل اليهود المسيح، وجّه الله تعليم الخلاص إلى الوثنيين. وبما أن رذل اسرائيل للمسيح قد خُتم في دراما الجلجلة، سننتظر موت المسيح وقيامته لتبدأ الرسالة لدى الوثنيين مع دعوتهم إلى الخلاص. فلو كان المسيح، خلال حياته على الأرض، أوصى الرسل بأن لا يبشّروا الوثنيين، فما كانوا بشّروهم. ولكن هذه الرسالة صارت أمراً واضحاً بعد القيامة (28: 19- 20؛ مر 16: 15؛ لو 24: 46- 47، يو 20: 21). وهكذا يبدو من المعقول أن التدوين الانجيلي لكلمات المسيح هذه قد تأثّر تأثّراً عميقاً بمواضيع عرفتها الكرازة الرسوليّة. وأمام هذا التوافق الأساسي بين مختلف الشهود، لا نشكّ بأن المسيح أعطى تلاميذه مهمّة تبشير العالم أجمع. قد يكون أعطاها خلال حياته العلنيّة، وثبّتها بعد قيامته.
ج- ضابط وثني
في هذه النظرة إلى موقف يسوع تجاه دعوة الوثنيّين إلى الخلاص، نفهم خبر شفاء غلام قائد المئة في كفرناحوم. فيسوع شفى غلاماً بناء على طلب من رجل وثنيّ. ونقرّب هذا المشهد من مشهد آخر رواه الإزائيان مت 15: 21 ي ومر 7: 24 ي: شفاء ابنة أرملة وثنيّة، ابنة السوريّة الفينيقيّة. جاءت هذه المرأة إلى يسوع وطلبت منه أن يشفي ابنتها. بدأ يسوع وقابل طلبها بالرفض، مشدّداً على خطّ رسالته: "لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل" (15: 24). انحنت المرأة. وحين رأى يسوع تواضعها وإيمانها، قرّر أن يمنحها ما طلبته من معجزة.
أما معجزة قائد المئة فتبدو مختلفة بعض الشيء. لم يضع يسوع أي عائق، بل قبل حالاً بأن يأتي ويشفي الغلام المريض: "ها أناذا آتي وأشفيه" (8: 7). غير أن الضابط هو الذي خفّف من اندفاع يسوع، فذكّره بطريقة خفيّة أنه لا يليق بيهودي أن يدخل إلى بيت وثنيّ. تهرّب بعض الشرّاح من الصعوبة، فجعلوا كلام يسوع في صيغة الاستفهام: "أترى أذهب وأشفيه"؟ فكأن يسوع يلاحظ أنه لا يليق به أن يجترح هذه العجزة. ولكن الانجيلي اعتبر الجملة عبارة إيجابيّة.
وطُرح سؤال آخر: أما يجب أن نفضّل التقليد اليوحناوي على التقليد الإزائي؟ في الخبر اليوحناويّ، نحن لسنا أمام ضابط روماني، بل أمام موظف رفيع لدى هيرودوس انتيباس، ولا شيء يفرض أن يكون الموظف وثنياً. وقد يكون يهودياً. هذا في يوحنا. ولكن الأمور ليست كذلك في التقليد الإزائي.
د- خلاص الوثننن ورذل اليهود
نلاحظ هنا ردّة فعل الأناجيل تجاه رذل اليهود ودعوة الوثنيين إلى الخلاص. فحسب التقليد اليوحناوي الذي يعطينا صورة عمّا فعله يسوع، نرى يسوع يشفي ابن موظف ملكي في كفرناحوم. ولكن بدل أن يضع يديه على المريض كما اعتاد أن يفعل، اكتفى بالقول إلى والد الولد بأن ابنه قد شُفي. آمن الرجل بفاعليّة كلمة المسيح، وهكذا دلّ على إيمان عظيم لأنه رأى أن يسوع يمتلك سلطان الله بالذات. هذا هو المعنى الأساسيّ للمشهد.
وجاء تقليد آخر يمثّله المعين، فأعاد تفسير الحدث. جعل من الموظف الملكي قائد مئة رومانياً وبالتالي ضابطاً وثنياً. وقد يكون هذا التبدّل قد تأثّر بحدث شفاء ابنة المرأة الفينيقيّة الكنعانيّة. ولكن معجزة "الفينيقيّة" دلّت على أن يسوع يأنف من التدخّل من أجل امرأة وثنيّة قبل الزمن الذي حدّده الله. وهكذا نكون في إطار عام أحاط بموقف يسوع تجاه الوثنيّين. غير أن الأمر يختلف مع شفاء غلام قائد كفرناحوم الوثني. لقد توخّى تفسير الحدث أن يبرّر تجاه بعض المحيطات المسيحيّة المتهوّدة، الرسالة التي تقوم بها الكنيسة تجاه العالم الوثني. وكانت نتيجته لوناً معارضاً لليهود تلوّن به هذا الخبر. فحين قال يسوع "لم أجد مثل هذا الإيمان في اسرائيل" (8: 10)، عارض بين إيمان رجل وثنيّ وبين إيمان اليهود الذين لم يروا في يسوع مرسل الله.
وركّز مت هجومه على اليهود حين أدرج في هذا الموضع تهديد يسوع لهم. "وأنا أقول لكم: إن كثيرين يأتون من المشرق والمغرب... أما أبناء الملكوت فيُلقون في الظلمة البرّانية" (8: 11- 12). لم يكتفِ بالقول إن إيمان الوثنيين يتجاوز إيمان اسرائيل. بل أعلن أن لاإيمان اسرائيل سوف يستبعده من الملكوت الذي هيّىء له. أما الوثنيون فكانوا أسرع إلى الإيمان، ولهذا اخذوا مكانهم في الوليمة الاسكاتولوجيّة، بجانب ابراهيم واسحق ويعقوب (الذين هم آباء الشعب العبراني والذين يُنتظر منهم أن يستقبلوا أبناءهم).
أما لوقا الذي هو إنجيلي حنان المسيح وأمثال الرحمة، فخفّف ما يحمله الخبر من قساوة على اليهود. لم يضف كلمة يسوع التي أدرجها مت. ثم جعل هذا الضابط الوثني "يحبّ أمتنا وقد بنى لنا مجمعاً" (7: 5). قد يكون هذا الضابط مرتداً حديثاً إلى إيمان اسرائيل بالله الواحد. وإن هو آمن بيسوع، فيقينه الدينيّ جعله اسرائيلياً بالقلب أن لم يكن في الواقع.

خاتمة
نستطيع أن نُجمل الآن مختلف التعاليم الرئيسيّة في معجزة كفرناحوم. اتفق التقليد اليوحناوي مع التقليد المتاوي على واقعين يشكّلان مرمى الخبر. من جهة، اجترح يسوع المعجزة عن بُعد بفاعليّة كلمته وحدها. وهكذا دلّ على أنه يمتلك سلطاناً إلهياً، لأن العهد القديم يرى أن مثل هذا الشفاء خاصّ بالله. من هذا القبيل، يقع شفاء كفرناحوم في خطّ سائر المعجزات مثل تهدئة العاصفة وطرد الشياطين (ردة فعل الحاضرين في مر 4: 41؛ مت 9: 33)، ولكنه يسمو عليها.
ومن جهة ثانية، يطلب يسوع من الرجل أن يؤمن قبل أن يتحقّق من المعجزة. وهكذا يبدو مدفوعاً بيد المسيح الذي يجعله يؤمن ساعة لم يكن بعد لاحظ قدرته. هكذا نفهم نوعيّة إيمان الضابط الملكي الذي هو نموذج للمؤمنين. ثم أعاد التقليد الإزائي تفسير الحدث ليدافع عن مبدأ الرسالة لدى الوثنيين. تصلّب اليهود، فتوجّه المرسلون إلى العالم الوثني. رفض المسيحيون المتهوّدون مثل هذا الموقف، فكان هذا الخبرُ الانجيلي الذي ربط الرسالة إلى الوثنيين بما فعله يسوع مع غلام كفرناحوم وبما قاله من دعوة العالم كله، بشرقه وغربه، إلى وليمة الملكوت.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM