المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الحادي والثلاثون: شفاء حماة بطرس
 

الفصل الحادي والثلاثون
شفاء حماة بطرس
8: 14- 17

نجد في هذه المقطوعة الصغيرة جوهر الكرازة الإنجيليّة، أي اعلان الخلاص بواسطة المسيح. فإذا أردنا أن نكتشف الخلفيّة اللاهوتيّة لهذا الخبر، ندخل إلى مدرسة المسيحيّين الأولين ونفهم طريقة تفكيرهم حول الأشفية العجائبية.
يقول الشّراح: إن المعجزات التي أوردها يوحنا تحملنا من خلال وجهتها التاريخيّة إلى الطابع الرمزيّ. وهكذا يشدّد الشّراح على الطابع اللاهوتيّ والروحيّ لهذه الآيات: فشفاء المولود أعمى صورة مسبّقة عن استنارة الإيمان. وتكثير الأرغفة يعلن الافخارستيا. ولكن أما نستطيع أن نجد الشيء عينه عند الإنجيليين الثلاثة الأول؟ وهل هناك تعارض بين يوحنا والأناجيل الإزائية؟ نسارع إلى القول: كلاّ ثم كلاّ.
في الواقع إن الفنّ الأدبيّ للأناجيل الأربعة يدعونا إلى أن نبحث فيها كلها عن أفكار لاهوتيّة أشرفت على اختيار التذكّرات اللاهوتيّة وابرازها. فعلى ضوء القيامة وفي مناخ من المشاركة في هذه القيامة، اتخذت التقاليد الإنجيلية شكلها الحاليّ. وهكذا نكون مع الإزائيين في منظار رمزيّ يشبه ما في يوحنا.
في هذا المناخ نقرأ خبر شفاء حماة بطرس (آ 14- 15) ونتبع دراستنا بإجمالة اعتاد متّى أن يضعها في أماكن عديدة من إنجيله (آ 16- 17).

1- شفاء حماة بطرس
مت 8: 14- 15

يسوع
إذ جاء إلى بيت
بطرس

رأى حماته
مطروحة ومحمومة



فلمس يدها
فتركتها الحمّى
فقامت
وخدمته. مر 1: 29- 30
وحالاً
إذ خرجوا من المجمع
ذهبوا إلى بيت
سمعان واندراوس
مع يعقوب ويوحنا
وكانت حماة سمعان
مضطجعة ومحمومة
فللوقت أخبروه
عنها
فتقدّم
أقامها
ماسكاً اليد
فتركتها الحمّى

وخدمتهم. لو 4: 38- 39
وإذ قام
ليترك المجمع
دخل إلى بيت
سمعان

وكانت حماة سمعان
قد أخذتها حمّى شديدة
فسألوه
من أجلها
فوقف فوقها

انتهر الحمّى
فتركتها
وللوقت قامت
تخدمهم.


أ- خبر مرقس
حين نقدّم خبر مر، نكتفي مراراً بأن نشير إلى تعدّد الأشخاص، وحيويّة الخبر... ولكن، هل هذا كل ما نجده في خبر كُرز به مدة ثلاثين سنة قبل أن يدوّنه مرقس في إنجيله؟ اعتاد مرقس على الأسلوب الرمزيّ الذي هو جزء من الواقع، فما اكتفى بالمدلول المباشر للأحداث التي يوردها، بل وجد في "معنى" هذه الوقائع ما يوجّه فكره نحو مجال أسمى. فكل معجزات المسيح عنده، تتلخّص في صراع يسوع ضدّ إبليس.
إذا قابلنا مر مع مت ولو، نراه يُغفل عدة أشفية جسديّة. ولكنه لا يغفل تقسيماً واحداً فيه يطرد يسوع الشيطان. بل هو يعتبر الأشفية الجسدية والتقسيمات على أنها انتصار على الشيطان. رج 1: 39 (فمضى يكرز في المجامع، ويطرد الشياطين)؛ 3: 15 (يكون لهم سلطان على طرد الشياطين)؛ 6: 7 (أعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة)، 13 (أخرجوا شياطين كثيرين، ودهنوا بالزيت مرضى كثيرين فشفوهم). إن هذه المقاطع تدلّ على نفسيّة مر، لا سيما وأن ما يوازيه في مت ولو يقدّم نصوصاً مختلفة.
وهكذا حين شفى المسيح أمراض الجسد التي هي نتيجة الخطيئة وعلامات عن تسلّط الشيطان، حارب الشيطان. لا شكّ في أن هذه الحروب ليست إلا مناوشات بالنسبة إلى الصراع الكبير الذي يقرّر مصير البشر. ولكنها إذ تدلّ حقاً على قدرة الله في المسيح، فهي تعلن وتهيّىء وتدشّن منذ الآن انتصاره النهائيّ على الخطيئة والموت، على سلطة الشيطان. في هذا المنظار نفهم أن يكون مرقس اهتمّ في إبراز الرباط الموجود بين الشياطين والموت: حين صوّر مجنون جراسة، أشار إلى القبور ثلاث مرات (مر 5: 2، 3، 5)، وليس هذا بنقص في اللباقة بالأسلوب الكتابيّ. بل طريقة بها يلفت الانتباه إلى شيء مهمّ على مستوى النظر. إنه يريد أن يصوّر الممسوس كعبد للموت. ونقول الشيء عينه عن الممسوس المصاب بداء الصرع (9: 14- 29). لقد شدّد أكثر من مت ولو على الوجهة الشيطانيّة في المريض وعلى الموت الظاهر الذي سبق الشفاء. ففي نظر مرقس، يدلّ الموت والمرض على قبضة الشيطان. وكل شفاء يجترحه يسوع هو انتصار مسيحانيّ ضدّ القوى المعادية، وهو انتصار يرينا منذ الآن في يسوع قدرة الله التي تتدخّل من أجل الخلاص.
ولكننا هنا فقط أمام استباق وتهيئة، أمام بداية. نحن الآن أمام شفاء عابر. بعد ذلك سنكون أمام شفاء علويّ. وفي النهاية نصير شبيهين، جسداً ونفساً، بصورة المسيح المجيدة. ولكنها القدرة الإلهية ذاتها تعمل في هذه المراحل الثلاث. هذا ما تشهد له لفظة "القدرة" التي تسمّى بها هذه الأعمال. فما يهمّ الانجيليّ ليس نتيجة العمل، بل القدرة التي تفعل، القدرة العلويّة، القدرة الإلهيّة التي تستطيع أن تحوّل كل شيء وتخلّص كل إنسان.
خلال حياة يسوع على الأرض، رغم تلاشيه وامحّائه، ما استطاعت هذه القوّة إلاّ أن تتجلّى. قبل الساعة تدخّلت كعلامة سابقة تهيّىء وتدشّن مجيء الملكوت بقوّة. وبما أن هذه الأعمال العجائبية التي اجترحها يسوع خلال حياته على الأرض لم تكن إلا بداية واعلاناً، فهي بالضرورة قد ارتدت مدلولاً ديناميكياً ورمزياً. فمرقس الذي اهتمّ كل الاهتمام بتوسّع الأمور (4: 8 و4: 26- 28)، يعرف كل المعرفة أن بشرى الخلاص تتضمّن بداية (1: 1) تهيّىء وتستدعي انتصاراً حاسماً. فالمعجزات هي في نظره واقعٌ له معناه. هي موجّهة نحو هدف. ويكفي للفكر أن تنقله الديناميّةُ الخاصة بهذه التجليات القديرة، لكي يدرك الخلاص التامّ.
أن يكون من الضروريّ أن يتجاوز الإنسان الحدث الخام لكي يفهم معناه، هذا ما يعلّمنا إياه الانجيليّ الذي يلاحظ بعد أول معجزة لتكثير الأرغفة والسير على المياه: "لم يفهموا شيئاً من أمر الأرغفة، بل كانت قلوبهم عمياء" (كان عقلهم مغلقاً، 6: 52؛ رج 8: 7- 12). ثم إنه لمن السهل أن ننتقل من شفاء الجسد إلى شفاء النفس. وهذا ما يدلّ عليه تأكيد يسوع كما نقرأه في مر 2: 17: "ليس الأصحّاء بحاجة إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الصدّيقين، بل الخطأة".
هذه الاطلالة على فكر مرقس تساعدنا على إدراك الأفكار الكبرى التي تنعش النصّ الذي ندرسه هنا (1: 29- 31). ففي الموضع الأهم من الخبر، نجد عبارة غريبة ومعبرّة، عبارة تبرز فعلة المسيح الرئيسية حين يقيم (ينهض) المريضة. قلبَ مر التسلسل الكرونولوجيّ للحركات التي قام بها يسوع. بدأ فاقترب، ثم لمس اليد، وأخيراً أنهض حماة بطرس. استعجل مر فأراد أن يصل سريعاً إلى هدفه. رغب في أن يبرز الحركة الأهم، فجعل في قلب الجملة الفعل الرئيسي: أقامها. قال: "متقدّماً أقامها آخذاً بيدها". لقد اهتم بالفعل "أقام، وارفقه باسمي فاعل. وهذا الفعل هو "اغايرن" الذي يدلّ أيضاً على القيامة من الموت. وقد استعمله مر مراراً في هذا المعنى، حين يتحدّث عن قيامة البشر أو قيامة المسيح. "أما أن الأموات يقومون" (12: 26). يسوع الناصري الذي تطلبونه قد قام...
نجد فعل "قام" مرتين أيضاً في مر. "يا صبيّة، لك أقول قومي" (5: 41)، فقامت لساعتها. وفي 9: 26- 27 نحن أمام مصروع "صار كالميت بحيث قال الناس إنه مات". أما يسوع فأقامه. حين أنهضه يسوع فكأنه قد أقامه. وهكذا نكون أيضاً في شفاء حماة بطرس أمام قيامة يعرفها المسيحيّ حين يعتمد: يموت ويقوم مع المسيح. هنا نفهم نشيد بولس في أف 5: 14: "استيقظ أيها النائم، وقم من بين الأموات والمسيح يضيء لك". حين نتذكّر أن الاستنارة هي المعموديّة، نفهم معنى المشهد الذي فيه أقام يسوع حماة بطرس بعد أن أخذها بيدها وأدخلها إلى "الكنيسة".
ونقرأ في نهاية الخبر: "كانت تخدمهم". لا شكّ في أننا هنا أمام الأعمال الوضيعة التي تفرضها واجبات الضيافة على حماة بطرس (كما أن "أنهض" يدلّ على أنه ساعدها لكي تنهض من الفراش). ولكن إن بقينا عند هذا المستوى، تجاهلنا ديناميّة الفكر المرقسيّ. فالخدمة المصوّرة هنا هي بداية تدشّن خدمة جميع البشر الذين شفاهم المسيح (بواسطة المعمودية. إذن حماة بطرس هي شماسة في الكنيسة). وهذه الخدمة تدوم فتتوجّه إلى المسيح كما إلى الجماعة الكنسيّة. إن حماة بطرس تخدم المسيح كما تخدم الجماعة على مثال الأرامل اللواتي تحدّثت عنهن الرسائل الرعائية.
ونتوقّف أيضاً عند البُعد الحقيقيّ للحاشية الأولى من النصّ: "وإذ خرجوا من المجمع جاؤوا إلى بيت سمعان". نحن نفهم هنا البُعد الرمزيّ لمسيرة يسوع الذي ترك المجمع ليجعل من بيت سمعان بطرس كنيسة خلاص. وهكذا حملت اللفظة ديناميّة تتجاوز المنطق العاديّ لمدلولها. فصور حياة يسوع على الأرض لا توافق كفرناحوم فقط، بل تمتدّ إلى الكون كله. وفي المسيح الذي يُنهض المريضة ويخلّصها، نحن نرى المخلّص القدير الذي يقدّم الخلاص للمؤمنين ويقيمهم من الموت.
ب- خبر لوقا
كل الأمور العامّة التي تتعلّق بقدرة يسوع العجائبيّة، تنطبق أيضاً على لو. غير أن طريقته في عرض الأمور تبقى مختلفة. وهكذ نلاحظ حالاً أنه حوّل المقطع الأهم في الخبر. فقد أحلّ محلّ فعل "اغايرن" فعل "انستاسا". فما يهمّ الراوي وما يتوسّع فيه هو موقف يسوع الذي ينحني على المريضة ويأمر الحمّى (ينتهرها). ما يهمّه هو حنان يسوع وقدرته التي تفعل حالاً.
يبدو أنه كان للوقا اهتمامات تاريخيّة، وهذا ما يدلّ عليه مطلعُ انجيله (1: 1- 4). لهذا حاول تجنب المبدّلات الرمزيّة. واهتمّ في ديناميّة خبر المعجزة الخاص، لا بامتداد الحدث في حدّ ذاته، بل في موقف يسوع وعواطفه فقد كشف يسوعُ في أصغر معجزاته عن حنان وقدرة سنجدهما عظيمين في المسيح الممجّد.
ما احتاج لو أن يبدّل موضع الحدث السابق، فجعل قارئه يفكّر في المسيح الذي هو المخلّص الآن. وما هو ضروريّ من أجل خلاص البشر هو هذا الحنان وهذه القدرة. فبدون حنان (أو: لطف) لا يحاول المسيح أن يخلّصنا. وبدون قدرة، لا يستطيع أن يخلّصنا. والوحدة بين هاتين الصفتين في المسيح، أمس وغداً، هي ما يهتم لوقا. وقد أبرز هاتين الوجهتين في خطبة بطرس أمام كورنيليوس: "يسوع الناصري... الذي مسحه الله بالروح القدس والقدرة، وهو الذي اجتاز وهو يحسن إلى الناس ويشفي جميع من سقطوا في قبضة الشيطان، لأن الله كان معه" (أع 10: 37- 39). وهذا ما نجده في كلام لو مع هذا الخبر: حين انحنى (وقف فوق) المسيح على المريضة دلّ على حنانه. وحين انتهر الحمّى فخضعت له، دلّ على قدرته.
ونشير إلى خاصيّة أخرى في خبر لو. من جهة، ترك جانباً التلاميذ، تركهم في الظلّ. وهكذا أبرز الشخصين الرئيسيّين: يسوع وحماة بطرس. ومن جهة ثانية، احتفظ مرتين بصيغة الجمع: سألوه (هم، الغائب الجمع) من أجلها. قامت تخدمهم (هم). هل أشار لوقا إلى تقليد قديم يتحدّث عن التلاميذ؟ لا شكّ في ذلك. ولكننا نظنّ أيضاً أن لو احتفظ بهاتين الصيغتين من الجمع، لأنه فكّر بالجماعة المسيحيّة (في الأمس واليوم) التي يجب عليها أن تصليّ من أجل المرضى والخطأة (رج يع 5: 14- 15؛ أع 8: 15).
ج- خبر متّى
وتفوّق مت على مر ولو على مستوى الرمز والمتبدّلات وهكذا عبر تذكّر يورده، نرى موت المسيح وقيامته (مت 8: 29؛ 14: 26- 27) أو وضع الجماعة في أيام متّى (9: 8: أعطى البشر مثل هذا السلطان 14: 33: أنت حقاً ابن الله). وتظهر هذه الطريقة هنا بشكل واضح جداً. بسّط مت الأمور تبسيطاً كبيراً فأبعد كل التلاميذ وظلّ المسيح وحده وجهاً لوجه مع المرأة المريضة. فالمسيح لا يحتاج إلى وساطة: هو يرى وهو يفعل طوعاً.
حين نعرف إلى أي حدّ (مع عدا في حالات التقسيم وطرد الأرواح النجسة) كان يجب على الناس أن يتوسّلوا إلى المسيح لكي ينتزعوا منه معجزة، يمكننا أن نظنّ أن مرقس ومتّى كانا قريبين من الواقع؛ أترى "شوّه" متّى الحقيقة التاريخيّة؟ الجواب هو نعم إذا كان هدفه الوحيد يقوم بأن يقدّم لنا سيرة يسوع العلميّة. غير أن هذه المتبدّلة تنبّهنا إلى أن مت، وإن كان أميناً للتذكرات والتقاليد الخاصة بيسوع، فقد أراد أن يجعلنا في حضرة المسيح المخلّص الذي لا يحتاج إلى أحد لكي يرى آلامنا وعاداتنا، لكي يشفق علينا ويبادر إلى خلاصنا.
ونجد إشارة ثانية إلى هذا التبدّل في السياق المباشر. فبعد أن صوّر مت، شأنه شأن مر ولو، الأشفية العديدة التي اجترحها يسوع في ذلك المساء، زاد: "ليتمّ" ما قال أشعيا النبيّ: "إنه أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا" (8: 17؛ رج أش 53: 4). هذا الاستشهاد الوارد في هذ الموضع يدلّ على فكر متّى حول الأشفية العجائبية التي سبقته. فبحسب النصّ العبريّ (هي أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها) واليوناني (حمل خطايانا وتألّم لأجلنا)، حمل عبد الرب (على كتفه) الآلام التي استحقتها لنا خطايانا. فإن طبّق مت هذا النصّ لا على آلام المسيح، بل على الأشفية العجائبية، فهذا يعني بالنسبة إليه أن هذه الأشفية تعبرّ عن خلاص ناله لنا المسيح بآلامه، وترمز إليه. وهو يرى، عبر هذه الأشفية، المسيح المتألّم والمائت لأجلنا لكي يشفينا من الخطيئة ومن الموت.
كل هذا يدعونا إلى أن نعطي فعل "قام" معناه الأقوى. فكما أن الصبية قامت واقفة (9: 25)، وكما قام يسوع من بين الأموات (28: 6، 7)، هكذا قامت هذه المريضة بيد المسيح. في هذا المنظار، اتخذ موقف هذه المرأة التي "شُفيت" فخدمت المسيح، معنى دينياً عميقاً. وإذ جعل مت اسم "بطرس" محل اسم "سمعان"، شدّد على الوجهة الكنسية لبيت بطرس. واختلف مت عن مر ولو، فلم يجعل يسوع يخرج من المجمع. ففي نظره يشكّل يسوع وأخصّاؤه إسرائيل الحقيقيّ، فلا يجب عليهم أن يخرجوا من المجمع. فاليهود اللامؤمنون هم الذين يتركون المجمع.
إن خبرات يجعلنا نفكّر في فقاهة عماديّة. ولكنه لا يعارض خبر مر ولو. غير أنه يوضح فكرة لاهوتيّة نجدها عند مر ولو. فإذا تميّز لو بتأمّله في موقف يسوع الباطنيّ الذي يطلّ على الأبد، ومر بديناميّة لا تنضب، فإن مت يَبرز في المتبدّلات الرمزية، في وضوح وجمال عبارة تجعلنا كما في احتفال ليتورجيّ.

2- إجمالة حول الأشفية (8: 16- 17)
إذا أردنا أن ندرس موضع هذا الخبر في تصميم متّى، يجب أن نقول إنه يدلّ على طريقة خاصة بمتّى. فكأننا أمام رابي مسيحيّ يقوم بعمل تربويّ لكي يطبع الخبر ومدلوله في ذاكرة الجماعة بكل أفرادها.
حين نقابل مت مع مر ولو، نرى أن الأول يقدّم نصّاً مبسّطاً جداً، وقد انتزع منه كل تفصيل نادري. ويبدّل الألفاظ حول نقاط هامّة (الإشارة إلى "كلمة" يسوع كما في 8: 8). ثم إن مت يعمّم كما يفعل مراراً فيقول: "جميع المرضى" (قال مرقس: كثير من المرضى). وأغفل المنعَ الذي أرسل إلى الشياطين بأن لا يعرّفوا به (مر ولو)، والذي عرفه في مكان آخر (12: 16: وأوصاهم بشدّة ألا يشهروه). ويتفرّد مت في آ 17 فيورد نصّ أش 53: 4.
"ولما كان المساء" (آ 16). إن برودة المساء (14: 15، 23؛ 20: 8؛ 26: 20؛ 27: 57) تساعد على التجمّعات ونقل المرضى. وقد يفترض مت أن ذلك اليوم كان يوم سبت، كما يقول مر 1: 21 (وفي الحال يوم السبت) ولو 4: 31 (وكان يعلّمهم في السبوت)، حيث يبدأ النشاط عند غياب الشمس.
إن عبارة "طرد الأرواح" تقابل عبارة "شفى جميع من بهم سوء" وحرف العطف "كاي" (الواو) هو تفسير لا زيادة شيء على آخر. "طرد الأوراح النجسة، أي شفى جميع من بهم سوء". والتنويه بكلمة يسوع خاص بالرواية المتّاوية كما في 8: 8 (قل كلمة فقط). يتميّز مت عن مر ولو في أنه يُعطي الأهميّة الكبرى لكلمة يسوع: فالكلمة التي تعلن الشريعة الجديدة (7: 24، 28) هي ذاتها التي تشفي.
يتحدّث النصّ عن "المتشيطنين" (فيهم شيطان) كما في 4: 24؛ 9: 32؛ 12: 22؛ رج 8: 8؛ 15: 22. أما الأرواح التي هي في المرضى، فيتحدّث عنها الإنجيل في 10: 1؛ 12: 43. نلاحظ هنا أن هناك أربع ألفاظ للتحدّث عن "المتشيطنين": متشيطن، فيه شيطان، فيه روح، فيه روح نجس. في التقسيمات التيّ قام بها يسوع، نرى دور كلمته السامية تجاه التلاعبات التي يقوم بها المقسّمون في عصره. ونلاحظ هنا أيضاً ارتباطاً مع العهد القديم، الذي يقدّم أشفية يسوع على أنها علامة عن تدخّل الله الحاسم لشفاء البشر وخلاصهم.
"ليتمّ ما قيل بأشعيا النبيّ" (آ 17). إن مقابلة نص مت مع نص السبعينيّة اليونانيّة والماسوريّة العبريّة، تدلّ بوضوح على أن الإنجيل الأول عاد إلى العبري. أما السبعينيّة فروحنت النصّ. ونظنّ أن مت أخذ ايراده من نصّ يونانيّ آخر غير السبعينية، أو أنه ترجم النصّ العبري، وهذا معقول جداً. ثم إن ألفاظ الترجمة المتاوية هي ألفاظ مجمل إنجيل متّى.
إن فعل "الابن" يعني "حمل رفع" (5: 40؛ 15: 26). في أش 53، أتمّ عبد الله عملاً ذا طابع بدلّي: "طُعن بسبب خطايانا" (آ 5: حلّ محلّنا). هذا الطابع لا يبدو هنا واضحاً. غير أن كل الرواية المتاويّة ترينا في يسوع، لا ذاك المحرّر المجيد كما يقدّمه عالم الجليان اليهوديّ. بل عبد الله والبشر المطيع. ولهذا ندهش أن لا يكون مت قد احتفظ بالطابع البدليّ في السياق المباشر للمقطع الذي يورد. ولكن مفسّرين آخرين يظنّون أن مت يورد هنا آية انتزعت من سياقها الأدبي واللاهوتيّ كما في العهد القديم.
وهكذا تضمّنت آ 16 ملخّصاً يشبه ملخّص 4: 24، وقبل عظة الجبل. ويحدّد النصّ هنا دور "الكلمة" التي بها يطرد يسوع الأرواح. وفي الواقع، ظهرت قوّة هذه الكلمة في المعجزات السابقة.
وتنتهي هذه المقطوعة بإيراد من أشعيا. في الأصل، أشارت هذه التأكيدات إلى "عبد الله المتألّم" في قصيدة اكتشف بنو إسرائيل فيها أن هذا الشخص السريّ يتألّم عنهم (محلّهم)، بسبب آثامهم. في هذا المنظار تجعل 1 بط 2: 24 من هذا النصّ نبوءة عن آلام المسيح. غير أن متّى وبعض الكتبة المسيحيين قد يكونون عرفوا تفسيراً آخر، فبدّلوا بالتالي ألفاظ النصّ الكتابيّ. فأشعيا بالنسبة إليهم، قد تنبّأ عن نشاط المسيح وما فيه من رحمة وحنان. وهو بالأشفية والتقسيمات (طرد الشيطان) التي قام بها قد أخذ آلامنا وحمل عاهاتنا. فلا يبقى لنا إلا أن ندخل هذا الملكوت الذي يقدّمه لنا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM