الفصل التاسع :مجيء ابن الإنسان

الفصل التاسع

مجيء ابن الإنسان
ف 24-25

1 - موقع الخطبة الاسكاتولوجيّة
رأينا كيف أن مهمّة يسوع كلها على الأرض تسجّلت داخل دراما كبيرة توالى فيها القولُ والعمل كمركَّبتين لا تنفصلان داخل رسالة واحدة: الوحي وتكوين ملكوت السماوات على الأرض. بما أن الملكوت قد اقترب في يسوع (3: 2؛ 4: 17)، فقد بدأت تتمّة الأزمنة الأخيرة. بدأت تتمّ. وملكوت السماوات يخصّ أولئك الذين يكتشفون سعادتهم حين يكونون فقراء ومضطهدين من أجل البرّ (5: 3-10)، ويدركون عبر الوحي الذي أعطي لهم عبر ريائهم واكتفائهم بذاتهم (23: 13-32)، جديّة الالتزام الذي دُعوا إليه (23: 39). ما هو في النهاية معنى الوجود البشريّ؟ كيف نحقّق الوحدة والاتحاد بين البشر؟ هي مهمّة نرتبط بها نحن الذين يربطنا المصير الواحد.
إن قصّة كل انسان تأخذ معناها، انطلاقًا من موته. فهذا الموت هو الذي يعطيها حدودَها الأخيرة. وهذا هو الوضع بالنسبة إلى العالم. يبقى علينا (مع العالم) أن ندخل في ((التتمة)) التي هي المسيح، كما دخل هو في مجد أبيه فحمل معه كلَّ أبناء الملكوت. ذاك هو الهدف الذي يكشفه يسوع لنا، والرجاء الذي يعطينا بحياته وموته. فإذا أردنا أن ندرك مدلول حاشه (= آلامه) وقيامته، يجب أن نفهم أولاً (أو أقلّه نستشفّ) أنه يحق ليسوع وحده أن يكشف مصير الانسان ويدعونا إلى ملء الاتحاد معه، مع الآخرين، مع العالم، لأنه في الوقت عينه انسان بما في وجوده البشري من خصائص، ويمثّل كل انسان بسبب الشموليّة التي تمنحه إياها بنوّته الالهيّة. فقبل أن ننظر إلى ابن الانسان متألمًا ومائتًا، يجب أن نتأمل فيه آتيًا في مجده (25: 31) فنفهم ما هو الانسان وماذا يعني الابن (ابن الله) بالنسبة إلينا. تلك هي الدعوة التي وُجّهت إلى أورشليم أي إلى معاصري يسوع، وإلى كنيسة متّى، وإلى قرّاء الانجيل (أي نحن): ((لن تروني حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الربّ)) (23: 39).
يشكّل ف 24-25 خطبة طويلة، هي خامس الخطب التي تتوزّع مت، فتجعل من يسوع موسى الجديد، ومن الانجيل الأول كتابًا في خمس عظات كما كانت توراة موسى في خمسة كتب. وهذه الخطبة تنتهي كما انتهت الخطب الاربع السابقة (7: 28؛ 11: 1؛ 13: 53؛ 19: 1) بعبارة مقولبة : ((ولما أتمّ يسوع كل هذه الأقوال)) (26: 1). جعل مت لفظة ((كل)) ليدلّ على أن هذه الخطبة هي الأخيرة. وفيها يتحدّث يسوع عن نهاية الأزمنة ومجيئه الأخير: على هذا الضوء يختار الناس. هل يقبلون، هل يرفضون الملكوت الآتي إليهم في شخص يسوع؟ وهذا الضوء أيضًا هو الذي يُنير وجود كل انسان، لأن هذا القرار النهائيّ يُشرف منذ الآن على حياتنا كلها ويدين أعمالها. إن وحي التتمّة يدلّ على نقطة لا يمكن الرجوع عنها في التاريخ البشريّ.
و((خرج يسوع من الهيكل ومضى...)) (24: 1): بهذه الكلمات بدأت المرحلة التي سندرسها الآن. خرج يسوع من الهيكل حيث دخل بعد وصوله ((المظفَّر)) إلى أورشليم (21: 12). ثم دخل مرة ثانية بعد عودته من بيت عنيا (21: 17) لكي يعلّم (21: 23). منذ الآن، سيكون هو الهيكلَ الحقيقيّ (26: 61؛ 27: 51)، في تواصل مع الهيكل القديم ولكن مع مسافة، مع قطيعة، تدلّ على ما في التتمّة من جديد بالنسبة إلى ما لم يتمّ بعد.

2 - بنية الخطبة الاجماليّة
طرح التلاميذُ سؤالين: ((قل لنا متى يكون هذا))؟ قل لنا: ((ما هي علامة مجيئك وانتهاء العالم)) (آ 3)؟ هذان السؤالان يقسمان هذه المجموعة قسمين. بدأ يسوع فأجاب على السؤال الثاني. ذاك الذي يعني علامة مجيء الدهر وانتهائه (24: 4-35). وحين طُرح السؤال حول زمن هذا المجيء، أّكّد يسوع أنه لا يستطيع أن يجيب (آ 36). وهذا ما يقوده إلى توسّع طويل حول آنيّة هذا الحدث وضرورة السهر (24: 27-25: 30)،وهو موضوع نقرأه في ثلاثة أمثال. وتأتي الخاتمة فتقدّم في لوحة مؤثرة مجيء المسيح في المجد ودينونة جميع الأمم (25: 31-46).
كيف تتوزّع في النصّ مركّبات هذه الخطبة؟
أ - المقدّمة (24: 1-3)
تتضمّن المقدّمة قولاً ليسوع حول الهيكل الذي تركه الآن، وسؤالين طرحهما التلاميذ أشرنا إليهما أعلاه: متى تكون النهاية، وما هي علامتها؟

ب - القسم الأول (24: 4-36)
يتطرّق القسم الأول من الخطبة إلى مجيء ابن الانسان ومنتهى الدهر (24: 4-36). وما يحدّده على المستوى الادبي هو تواتر فعل ((حصل)) (آ 6: يكون هذا، آ 20: لئلا يكون، آ 21 مرتين، آ 32، آ 34) الذي سيتّخذ أهميّة رئيسيّة في خبر الحاش والقيامة. وتستطيع آ 6 وآ 34 أن تلعبا دور التضمين والاحتواء، خصوصًا إذا زدنا عبارة ((كل هذا)) (بنتا توتا، آ 8، 34) التي رأينا أهميتها في خطبة الأمثال (آ 13: 34، 51، 56). عند ذاك تظهر مواضيعُ عديدة مطبوعة بلفظة واحدة أو بتضمينات قصيرة.
أولاً: الوحدة الأولى (آ 4-14)
قد تُعتبر بعضُ الأحداث خطأ وكأنها علامات عن النهاية (احتواء: آ 6 وآ 14 مع المنتهى). لهذا جاء التحذير من الذين يُضلّون الكثيرين (آ 5، 10، 11، 12)، وإعلان المعارضة بين الأمم (آ 7) التي ستّتحد من أجل البغض كما من أجل تقبّل الشهادة (احتواء: آ 9 وآ 14 مع جميع الأمم). هذه الاشارات تحدّد وحدة أولى حول ضلال الكثيرين (آ ،4 8) ومجيء النهاية (آ 9-14).
ثانيًا: الوحدة الثانية (آ 15-28)
تنطبع النهاية بظهور ((رجاسة الخراب التي تكلم عنها دانيال النبي في المكان المقدس)) (آ 5). وهي علامة ضيق لم يُسمع به، ضيق يجعل إيمان المختارين يتزعزع (آ 22، 23، 24، 26). عندئذ يحصل مجيء ابن الانسان (آ 27، رج آ 3). يكون ظاهرًا ولا يقف في وجهه أحد. وهكذا ترتسم وحدةٌ ثانية تعلن الضيق العظيم (آ 15-22) وتميّز المجيء (آ 23-28).
ثالثًا: الوحدة الثالثة (آ 29-31)
هذا المجيء سوف يقلب الكون. ويُبرز مت طابعَه الظاهر بعدد من الكليشاهات المأخوذة من العالم الجلياني اليهودي: بعد العودة إلى الشواش الاولاني، تتزعزع السماء (آ 29) وتظهر علامةُ ابن الانسان على السحاب لكي يجمع المختارين (آ 30-31): ذاك هو موضوع الوحدة الثالثة
رابعًا: الوحدة الرابعة (آ 32-35)
وفي الوحدة الرابعة وبواسطة مثل التينة (آ 32-33)، نتعلم كيف نعرف اقتراب ما لا يزول، أي كلام يسوع آ 34-35): السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول.
وتعود آ 26 إلى السؤال الأول الذي طرحه التلاميذ (آ 3) في شأن زمن المجيء (باروسيا). فطابعه كانتقالة يظهر بشكل واضح مع لفظة ((يوم)) في آ 9، 22 (مرتين)؛ 29؛ رج 37، 38 (مرتين)، 42، 50، ولفظة ((ساعة)) التي تظهر الآن وفيما بعد (آ 42، 44، 50؛ 25: 13).

ج - القسم الثاني (24: 37 - 25: 30)
ويتوسّع القسم الثاني من الخطبة في السؤال حول زمن المجيء. غير أنه قلبَ المعطيات رأسًا على عقب، فأكّد آنيّة هذا المجيء ودعا إلى السهر والتمييز (24: 36-25: 30). ويتألّف هذا القسم من أربع وحدات نكتشفها بفضل الفنّ الأدبي المستعمل هنا وهو فنّ الامثال.
أولاً: الوحدة الأولى (آ 37-44)
مجيء غير متوقّع لابن الانسان وضرورة السهر. هذا ما يتوسّع فيه 24: 37-44 في زمنين وبواسطة تضمينين: ((هكذا يكون مجيء ابن الانسان)) (آ 37-39). ((والرب)) أو((ابن الانسان يأتي)) (آ 42-44). وهذا ما يدعونا إلى السهر.
ثانيًا: الوحدة الثانية (آ 45-51)
ترينا الوحدة الثانية خادمًا ساعة مجيء سيّده (24: 45-51). في ذلك الوقت يكتشف نفسه الأمين الحكيم (آ 45-47) أو الرديء (آ 48-51). وذلك حسب الموقف الذي اتخذه حين انتظر ربّه.
ثالثًا: الوحدة الثالثة (25: 1-13)
هنا نقرأ مثلاً ثانيًا يرينا لقاء العذارى العشر مع العريس (15: 1-13). يبرز النصُّ انتظار اللقاء (آ 1-6) ثم مجيء العريس والدينونة الأخيرة التي تدعونا إلى السهر (آ 7-13).
رابعًا: الوحدة الرابعة (آ 14-30)
تبيّن لنا الوحدةُ الرابعة خدمًا أعطاهم الرب وزنات. وعند عودته طالبهم كما في يوم الدينونة. نحن هنا في مرحلتين: أعطيت الوزنات (آ 14-18). وجاء وقت الحساب (آ 19-30).

د - خاتمة الخطبة (25: 31-46)
إن خاتمة الخطبة التي نستطيع أن نعتبرها قسمًا ثالثًا، تتحدّث عن مجيء ابن الانسان في المجد وتمييز جميع الأمم (25: 31-46). بعد مقدّمة (آ 31-33) تصوّر تجمّع الأمم أمام عرش ابن الانسان، يُكشف وحيُ الملك في لوحتين، للذين عن اليمين (25: 34-40) وللذين عن اليسار (25: 41-46). أما 26: 1، فيشكّل خاتمة تنقلنا من خطبة النهاية إلى آلام يسوع وموته.

3 - تحليل النصّ

أ - نظرة عامة
قبل أن نبدأ دراسة ف 24-25 دراسة مفصّلة، نتوقّف عند نقطة هامة لفهم التأليف المتّاويّ. فإذا كان يصعب علينا في تطوّر الخطبة، أن نكتشف تقسيمات واضحة، فلأن نص مت يمكن أن يُفهَم على مستويين مختلفين مزجهما الكاتب، أو هو جعل المستوى فوق المستوى الآخر.
فمنذ سؤال التلاميذ (24: 3)، استطعنا أن نميّز ثلاثة مستويات: ((قل لنا متى يكون هذا (= دمار الهيكل) وما هي علامة المجيء (باروسيا) (= مجيء ابن الانسان) ومنتهى الدهر (= نهاية العالم))). إذن يمكن أن نميّز عدّة وجهات في واقع واحد وحيد.
أولاً: دمار الهيكل وأورشليم
هذا ما حدث سنة 70 على يد الجيش الروماني بيد تيطس. إن القسم الأول من سؤال الرسل يتوقّف بلا شكّ عند هذه الوجهة التاريخيّة: في هذا الوقت، هم لا يقدرون بعد أن يدركوا كل القيمة الرمزيّة للهيكل. وهي قيمة لم تُكتشف في الكنيسة الأولى إلاّ بعد قيامة يسوع. ويوم كتب متّى انجيله كان الهيكل والمدينة قد دُمِّرا.
ثانيًا مجيء (باروسيا) ابن الانسان
يجب أن نرى ما تتضمّنه هذه العبارة بالنسبة إلى التلاميذ. لا شكّ في أنه كان في عقولهم بعضُ فكر الغيورين: سيدخل يسوع إلى أورشليم، فيطرد الرومان من المدينة ويضع يده عليها، كما حاول آخرون قبله. في زمن متّى، لم يعد لهذا الحدث المعنى عينه: فأورشليم قد دمِّرت وتشتّتت الجماعات اليهوديّة في كل مكان. ويسوع نفسه قد مات وقام. إذن، هناك موضع لمجيء مجيد، لعودة الربّ. فيبقى علينا أن ندرك مدلولهما العميق.
ثالثًا: نهاية العالم أو منتهى الدهر
طرح التلاميذ دفعة واحدة سؤالاً حول علامة المجيء ونهاية العالم. قد نماهي نحن أيضًا بين هذين الواقعين ونحدّدهما في وقت من الزمن. هذه النظرة التي هي محض كرونولوجيّة (أي تقف عند تسلسل الأزمنة) عن نهاية العالم، هي بعدُ ماديّة، وتجعلنا في خط نحصر فيه مدلول هذه النهاية في إطار ضيّق.
رابعًا: ماذا فعل متّى
بما أن متّى مزج هذه المستويات الثلاثة من الفهم في واحد، هل نستطيع أن نميّز حيث رفض هو أن يميّز؟ ولكن يبدو أن هذه التمييزات تساعدنا على فهم النصّ فهمًا أفضل: عندئذ نعلم متى يتكلّم عن دمار الهيكل ومتى يتكلّم عن المجيء أو نهاية العالم. ولكننا نعي حالاً أن مت سار في هدف معيّن ساعة ترك هذه المجالات المختلفة تمتزج وتقف بعضها فوق بعض: فمعنى هذه الأحداث لا يمكن أن ينكشف إلاّ إذا رفضنا فصلها بعضها عن بعض. فمنظار متّى الاسكاتولوجيّ الذي سنعود إليه، يدفعنا إلى أن نضع مستوى فوق آخر، لأن الأقوال تعبّر تعبيرًا أساسيًا عن واقع واحد وحيد: هو مجيء الرب. أي حضوره في كل انسان وفي جميع البشر. وهذا ما يفرض علينا أن نتّخذ موقفًا بالنسبة إلى هذا المجيء.
خامسًا: مقدّمة الخطبة
إن مقدّمة الخطبة ربطت هذا المجيء بالتعليم الذي أعطاه يسوع في الهيكل (21: 23)، فأتاح له أن ((يتكلّم مسبقًا)) عن الدمار. في الأصل، كلمة يسوع عن الهيكل (آ 2)، ليست في الواقع إنباء عن دمار ماديّ قريب لبناء ابتعد عنه يسوع وهو يتأمّل فيه مع تلاميذه. هي تعود بالأحرى إلى كلمة حول ((هيكل جسده)) كما يقول يو 2: 21، وكما يشير مت ومر خلال محاكمة يسوع أمام السنهدرين أو المجلس الأعلى (26: 61؛ رج مر 14: 58). إن المدلول الذي يرتديه هيكل أورشليم الذي هو موضع حضور الله وسط شعبه، هذا المدلول بالنسبة إلى اليهوديّ، قد نقله يسوع إلى شخصه، وفي الوقت عينه أعطاه بُعدًا شاملاً. وحين فكّرت الكنيسة في سرّ الهيكل على ضوء القيامة، أعادت قراءة هذا القول وكأنه نبوءة تتحدّث عن دمار هيكل أورشليم.
إلى سرّ الهيكل هذا أدخل يسوع تلاميذه الذين جاؤوا يحدّثونه على انفراد، وهذا السرّ سوف تكشفه آلامُ الرب وقيامته (رج 14: 13-23؛ 17: 1-19؛ 20: 17). جاؤوا إليه وهو على جبل الزيتون، تجاه المدينة، وإلى هناك سيعودون معه بعد العشاء الأخير (26: 30)، ساعة يعيش نزاعه ويُقبض عليه.

ب - مجيء ابن الانسان ونهاية الدهر (24: 4-36)
أولاً: الموضوع الأول، ضلال الكثيرين (آ 4-14)
تبدأ الخطبة بموضوع ضلال الكثيرين (آ 4-14). من المعلوم أن ساعات الأزمة تشكّل محيطًا مؤاتيًا لظهور حركات مسيحانيّة، يعيش فيها الناس، بشكل ملتبس، انتظارَ مخلّص يُقيم نظامًا جديدًا. والتيّارات المسيحانيّة في زمن يسوع، سواء كانت من النمط الاسياني أو النمط الغيوري، شابها شيء من الضلال كما رأينا حين تحدّثنا عن يوحنا المعمدان. والأمر صحيح أيضًا في زمن مت (80-90 ب م) الذي كان خصبًا بمُقلقين سياسيّين (أع 5: 36؛ 21: 38)، بمسحاء دجّالين (انتيكرست، مناوئ للمسيح) (1يو 2: 18-22؛ 4: 3؛ 2يو 7؛ 2تس 2: 3-12؛ رؤ 13: 4-18) من كل نوع. وولّدت الحروب والكوارث، في الوقت عينه، الخوفَ والرجاء في القلوب. بل هي دلّت الانسان على أن وجوده سريع العطب، ودعته إلى أن يطرح السؤال حول الخلاص الحقيقيّ.
من يستطيع أن يرى في كل هذا آلام (مخاض) الولادة (آ 8) التي تدلّ على أن النهاية قريبة، تدلّ على أن الحياة لا تولد إلاّ في الألم والموت (رج هو 13: 3؛ أش 13: 8؛ إر 6: 24؛ مز 17: 5-16؛ 114: 3)؟ الله وحده. هو خالق الكون وسيّد التاريخ. ووحده يكتشف في كل هذا ولادةَ الملكوت. فلماذا نخاف إذن؟
وفوق ذلك تأتي الاضطهادات فتصيب المؤمنين ((باسم)) المسيح (آ 9؛ رج آ 5). والثبات الذي به يواجهونها، يكون شهادة صادقة عن حقيقة التزامهم. فتلك هي البشارة. وذاك هو انجيل الملكوت (آ 14).
هنا نفهم كيف أن مت مزج، في هذا التوسيع عن الاضطهاد، عبارات عرفها 2مك 6: 12-17؛ دا 6: 17-28، أو وردت في خطبة الرسالة (10: 17-22). هذا لا يمنعنا أن نبحث بحثًا دقيقًا عن تلميحات إلى هذا الاضطهاد أو ذاك، كما إلى كرازة الانجيل في الشتات اليهوديّ. استند مت إلى المعطيات التاريخيّة في حقبات مختلفة، منذ الاضطهادات اليونانيّة ضدّ اليهود حتى اضطهاد اليهود ضدّ المسيحيين، فنظر هنا إلى المقاومة التي يلاقيها دومًا الحاملُ الحقيقيّ لكلمة الله في أي حقبة من حقبات التاريخ عاش. فإعلان إنجيل الملكوت يقود بالضرورة إلى الموت. هذا الواقع له بُعد شامل، تُبرزه عبارةُ ((في العالم كله)) (أي في المسكونة)، وعبارة ((جميع الأمم)) (آ 14؛ رج آ 9).
ثانيًا: الموضوع الثاني، الضيق العظيم (آ 15-22)
أُعلنت علامة النهاية بألفاظ استلهمت دانيال النبيّ: ((حين ترون رجاسة الخراب قائمة في المكان المقدس)) (دا 9: 27؛ 11: 31؛ 12: 11). نحن هنا أمام تلميح إلى تدنيس الهيكل بيد انطيوخس ابيفانيوس، بحسب دا وبحسب 1مك 1: 54. ففي سنة 167 ق م، شيّد الملك السلوقي تمثالاً لزوش الاولمبي على مذبح المحرقات (2مك 6: 2). ولكن مت (مثل مر 13: 14) يدعو القارئ إلى أن يفهم (آ 15)، ويكتشف ((السرّ)).
نستطيع أن نرى في هذه الإشارة التي ذكرها مت ومر، دمارَ الهيكل على يد الرومان. ولكننا نستطيع أن نرى أيضًا أكثر من ذلك. فـ((رجاسة الخراب)) هي رمز إلى الجحود الذي أقام في قلب المكان المقدّس، في قلب إيمان الشعب. وهربُ الذين يقيمون في اليهوديّة (وهي منطقة جبليّة) إلى الجبال، هو دعوة إلى المقاومة كما فعل المكابيون (1مك 2: 28). أو هو يذكّرنا بهرب لوط وعائلته نحو جبل مدينة صوعر (تك 19: 17-22).أو نحن نرى، عبر صوَر مأخوذة من هرب السكان أمام هجمة العدوّ المفاجئة، إيمان المؤمنين يمرّ في محنة قد تصل بهم إلى الجحود.
ما يضعنا في الطريق الصحيح لنفهم هذه العبارة هو إيراد من دا 12: 1 قريب من يوء 2: 1-2 وهما نصّان يتحدّثان عن يوم الرب والدينونة الأخيرة. يقول دانيال: ((وفي ذلك الزمان ينهض ميخائيل، رئيس الملائكة العظـيم الذي يعتمد عليه بنو شعبك، ويكون وقت ضيق لا مثيل له منذ كانت الأمم إلى ذلك الزمان. ولكن في ذلك الزمان ينجو من شعبك كل من يوجد اسمه مكتوبًا في الكتاب)). ساعة تصل الأزمة إلى ذروتها في التاريخ، عند ذاك يصل الخلاص. وقال يوئيل: ((يوم الرب مقبل وهو قريب. يوم ظلمة وغروب، يوم غيم وضباب)). نُفخ في البوق في صهيون فاجتمع سكان الأرض على جبل الرب المقدّس. ويحضر يسوع في النهاية فيكون حضوره للعالم دينونة جذريّة. ولكن بما أن هناك ((مختارين)) أي أناسًا اختارهم المسيح فقبلوا نداءه (22: 14)، يفكّر مت بحضور الملكوت لدى المسيحيين. فقد ((قُصّرت تلك الأيام)) (آ 22). وبعبارة أخرى: جاء الايمان الحقيقي، فأوقف مدّ الجحود الذي لا يستطيع الله أن يترك العنان لقوّته المدمِّرة.
ثالثًا: الموضوع الثالث، تمييز المجيء (آ 23-28)
ويعود الايمان إلى الظهور (في آ 23) وهو إيمان يحمي من الضلال. لأنه حضور الرب وسط جماعته. لأنه إيمان يساعدنا على تمييز الملكوت حيث يتجلّى، رغم دعاية المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة (آ 24؛ رج آ 11) الذين يستطيعون أن يُضلّوا حتى ((المختارين)). فالتمييز الحقيقيّ لمجيء ابن الانسان لا يتمّ في خطّ ((قالوا لكم)) (آ 26): هو على مستوى الادراك الباطنيّ، كما كانت قراءة ((علامات الأزمنة)) (16: 1-4). هذا ما أبرزه متّى في آ 26-28 بلغة خاصة به (رج لو 17: 24). وقد يكون أشار إلى تقاليد جليانيّة يهوديّة تتحدّث عن حقبة فيها يبقى المسيح مختفيًا لكي يكشف عن نفسه أولاً لمجموعات المتدرّجين. وصورةُ البرق (آ 27) تدلّ على فجاءة مجيء ابن الانسان، كما تدلّ بشكل خاص على طابع يجعل الكون كله يراه: البرق هو جزء له مكانته في إطار التيوفانيّات التوراتيّة (خر 19: 6؛ أش 29: 6؛ 30: 27، 30، 33؛ زك 9: 14؛ مز 18: 14-15؛ 97: 3-4؛ 144: 5-6). أما النسور (أو: العقبان) التي تجتمع حول الجثث، فهي تدلّ على الخراب والدمار المريعين (رج أش 18: 6؛ إر 7: 33؛ 12: 9؛ 15: 3)، كما تدلّ على الحسّ الأكيد لدى هذه الكواسر.
نشير هنا إلى أننا لا نجد شيئًا عن مُلك أرضيّ لمسيح ممجّد، بل حديثًا عن اعلان بداية ملكوته ودينونة يقوم بها.
رابعًا: الموضوع الرابع، مجيء ابن الانسان (آ 29-31)
هذا التوسّع الجديد حول الطابع الظاهر لمجيء ابن الانسان (آ 29-31)، ينطلق من نصوص العهد القديم، فيصوّر الانقلاب الكوني الذي يُحدثه هذا المجيء. ننطلق من أش 13: 10؛ 34: 4 لنجد عند مت كما عند مر 13: 24-27 وعند لو 21: 25-27، ظاهرة معاكسة للخلق: عودة إلى الشواش الاولاني. ساعة كانت الأرض ((توه وبوه))، خالية خاوية (تك 1: 1)، ظهر الله نفسه فحرّك هكذا الخليقة كلها (عا 8: 9؛ مي 1: 3-4؛ إر 4: 23-26؛ حز 32: 7-8). إن عبارة ((علامة ابن الانسان تظهر في السماء)) (آ 30) هي إشارة خاصة بمتّى، وقد اعتُبرت في تاريخ التأويل تلميحًا إلى صليب المسيح أو إلى المسيح الذي يُتم ((جذر يسّى)) فيصبح علامة تجمع الأمم (أش 11: 10).
هناك من قارب هذا النصّ من رؤ 1: 7 (ها هوذا يأتي في السحاب. تراه كل عين) الذي يدمج أيضًا دا 7: 13 (مجيء ابن الانسان في السحاب) وزك 12: 14 (بكاء القبائل)، فاعتبره إشارة إلى رؤية رمزيّة للمسيح الملك الذي ما زال يحمل، بشكل سمات مجيدة، آثار موته المذلّ على الصليب،وهي رؤية تفرض نفسها على البشر فيشاهدونها ويتأمَّلون فيها. إن رؤية ملك الكون في مجده (25: 31-32) تسير في خطّ هذا التفسير.
والتجمّع على صوت البوق يذكّرنا في الوقت عينه بظهور سيناء (خر 19: 19) والاحتفالات الكبيرة في الهيكل (سي 50: 16). كما يرمز إلى عودة الشعب المشتّت إلى أورشليم بشكل نهائيّ (أش 27: 13؛ إر 2: 1؛ زك 2: 10؛ تث 30: 4)، ويبيّن تتميم المواعيد التي أعطيت لابراهيم ونسله (تك 12: 2؛ 28: 14). إذن، ما يَبرز الآن هو الطابع المسكوني للدينونة: إن مجيء ابن الانسان في المجد يدعو جميع البشر، التاريخ كله، الكون كله، وسوف يـُدان كل واحد أمام شخص يسوع وليس من يُفلت.
خامسًا: الموضوع الخامس، حضور الملكوت (آ 32-35)
وتتوسّع آ 32-35 في موضوع الحضور الآنيّ والحاسم للملكوت في قلب البشريّة. يتبع مثلُ التينة عن قرب نصّ مر 13: 28-31، فيدعو التلاميذ، كما يدعو قرّاء الانجيل، إلى الصبر والثقة. كما أن التحوّل الربيعي هو علامة لا تخطئ في الدلالة على اقتراب الربيع، كذلك حضور الرب لكنيسته يدلّ على برعم حياة تسير إلى تفتّحها النهائي.
يوم الربّ هو دومًا ((قريب)) (26: 18) لذلك الذي يترك ملكوت الرب الذي صار قريبًا في يسوع، ينمو فيه (رج 3: 2؛ 4: 17؛ 10: 7). ويأتي تنبيه حول الآنيّة المستمرّة لأقوال يسوع فيُكمّل هذا القسم الأول من خطبة ((نهاية العالم)) (ف 24-25). فإن آ 34 التي نستطيع أن نقرّبها من 16: 28، تبدو وكأنها تحدّد زمنًا للمجيء، ساعة تؤكِّد آ 36 أن ((لا أحد يعلم ذلك اليوم ولا تلك الساعة)). نحن هنا أمام تعارض في الظاهر فقط. فوجودنا في حضرة يسوع الذي بدأ مع رسالته التاريخيّة، هو علامة تقول إن ((كل هذا قد حصل)). فنحن لسنا أمام قرب تاريخيّ من نهاية العالم، بقدر ما نحن من مجيء العهد المسيحاني الجديد في يسوع. وعبارة ((هذا الجيل)) (كما سبق وقلنا) (رج 11: 16؛ 12: 41، 45؛ 23: 36)، تدلّ على أن كل انسان صار قريبًا من يسوع، اتّصل به. اتّصل به أولاً من خلال حضوره على الأرض، ثم من خلال حضوره كالقائم من الموت، وعبر الدهور فيما بعد. ونقول الشيء عينه عن آ 35 التي تدلّ على آنيّة مستمرّة لكلمات يسوع لأنها أبديّة (رج 5: 18): فمن امتلكها امتلك الملكوت الذي سيظهر كاملاً في شخص يسوع المسيح.
سادسًا: الخاتمة (آ 36)
وتأتي آ 36 فتنقلنا إلى القسم الثاني من هذه الخطبة. هي تتحدّث عن معرفة يوم الدينونة الأخيرة وساعتها. هناك من تشكّك (بمن فيهم نسّاخ الانجيل) حين قرأ مت ومر 13: 32 حول جهل الابن لذاك اليوم وتلك الساعة. لهذا فسِّر هذا القول (الذي لا نجده في لو 21: 33) على أنه جهل يصيب فقط مهمة يسوع على مستوى الوحي، لا معرفته الشخصيّة. بل نذهب أبعد من ذلك: فمعرفة الابن تتميّز حقًا عن معرفة الآب، في أنها لا تجد أصلها في ذاتها. فالابن لا يدرك واقع التاريخ في مبدأه كما في غايته إلاّ في علاقته بالآب. فكائنه كله هو بنويّ. ورسالته الارضيّة تسجّل في الزمان والمكان هذا الخضوع الجذريّ والفريد. لهذا استعمل مت (مثل مر 13: 32) هنا بشكل مطلق لفظة ((الابن)) (لم يقل ابن الله أو ابن الانسان) كما في 11: 27 (رج لو 10: 22). هذه الطريقة الكلاميّة التي تتواتر في انجيل يوحنا تبدو شاذّة في التقليد الازائيّ.
بالإضافة إلى ذلك، إن كان يسوع رفض أن يعطي تاريخًا للدينونة الاخيرة، فلأن مثل هذا الواقع يفلت من حساباتنا وروزناماتنا. إنه حدث تاريخيّ بقدر ما يدرك أناسًا (وخلائق) يعيشون في الزمان والمكان. ولكنه غير متوقّع بشكل جذريّ لأنه يرتبط ارتباطًا جوهريًا ((بلعبة)) الحرّيات البشريّة التي تواجه حريّة الله. إذن، هذا التاريح يخضع كله لقرار الآب الذي لا يستطيع البشر أن يلجوه. والابن نفسه، في خضوعه التام لأبيه، يسلّم إليه مصير وجوده البشريّ وكيانه البنويّ. فليس من معيار بشريّ يستطيع أن يقدّر هذه الفترة الحاسمة في تاريخ الحرّيات.
نقرأ آ 36: ((أما في ما يخصّ ذاك اليوم وتلك الساعة، فلا أحد يعلم)). ليس لأحد رباط معروف بمسيرة التاريخ. فالملائكة أنفسهم، والابن نفسه، لا يستطيعون أن يتوقّعوا ذلك اليوم وتلك الساعة. كل ما نستطيع أن نقول عنهما هو أنهما يحصلان ساعة يرى الآب ذلك. ونقول أيضًا: هذا الوقت يختلف بين انسان وانسان. فزمن كل انسان هو زمن حواره مع الله. المهمّ هو أن ندرك آنيّة حضور الربّ في كل وقت من أوقات حياتنا، ولاسيّما عند ساعة موتنا. فنهاية العالم بالنسبة إلى كل واحد منا هي ساعة الموت، لأنها الساعة التي فيها ينتهي هذا العالم بالنسبة إلينا فندخل إلى الأبديّة. وتبقى النهاية العامة التي تنتظرها البشريّة، وتنتظرها الكنيسة، كل مرة تحتفل بالافخارستيا فتتذكر موت الرب وتعترف بقيامته وتنتظر مجيئه.

ج - آنيّة اليوم والساعة وأهميّة السهر (24: 37-25: 30)
في امتداد آ 36 نجد توسيعًا يوضح هذه الآنيّة الحاسمة، آنيّة ظهور ابن الانسان وما يتبعه من سهر. وهكذا نكون في القسم الثاني من الخطبة، الذي يوافق تحريضًا قصيرًا على السهر عند مر 13: 33-37 ولو 21: 34-36. واستعاد مت كل ما يتضمّنه هذا الكلام في ثلاثة أمثال: الخادم الذي ينتظر عودة سيّده (آ 45-51). العذارى العشر وتأخّر العريس (25: 1-13)، والعبيد الذين نالوا وزنات سيطالبهم سيّدهم بالحساب (25: 14-30)
أولاً: تحريض على السهر (آ 37-44)
لا نستطيع أن نتوقّع متى يأتي ابن الانسان. إذن، من الضروريّ أن نسهر: هذا هو موضوع التوسّع الأول. عاد مت أولاً إلى نوح (رج تك 6: 6-12؛ حز 14: 14-20) كما فعل لو 17: 28-29 في سياق آخر. إذا قرّبت ((أيام نوح)) من مجيء ابن الانسان، فلأنها تعبّر عن تواز في الوضع. ففي زمن نوح، اهتمّ عدد قليل من الناس بالمسألة الأساسيّة التي هي مسألة علاقتهم بالله. ما كانوا ينشغلون إلاّ بالأمور اليوميّة (آ 38: يأكلون، يشربون). نلاحظ أن مت لا يبرز إفراط معاصري نوح في الأكل ولا فجورهم، بل غياب كل إدراك حقيقي للواقع، والجهل واللامبالاة بالنسبة إلى الجوهر (آ 39). ونستطيع اليوم أن نوسّع المقابلة مع المناخ الذي نعيش فيه: غاب الله ولم يعد له من موضع في مجتمعنا. يبقى علينا أن نأكل ونشرب، نزوِّج، ونتزوَّج.
غاب الله. ولكنه في الواقع حاضر، وتلك هي المفارقة. وحضوره يظهر انطلاقًا من السؤال حول الموت وكل تهديد يصل بنا إلى الموت. فالتهديد بدمار شامل قاد نوحًا إلى أن يحدّد موقعه في الحقيقة تجاه الله، ويرى فيه سيّد الخليقة والتاريخ. أما معاصروه فاكتفوا بأن ينظـروا إلى نفوسهم ويرضوا عن أعمالهم. هكذا يكون حضور الله في العالم لهذا ولذاك: يؤخذ واحد (في الموت) ويترك آخر (في الحياة) (آ 40-41): بدا مت ولو كأنهما يشيران إلى مثل معروف. لا أحد يفلت سواء كان رجلاً أو امرأة، وذلك وسط العمل اليومي، أكان الحقل أو الرحى. في هذا الوضع يتفجّر السؤال الحاسم. ويأتي الموت بغتة. لا نتوقّعه، لا نستطيع أن نفلت منه. وعلى ضوء هذه اللحظة تأخذ الحياة معناها أو لا.
عندئذ يظهر موضوع السهر (آ 42-44) الذي سيعود حتى نهاية ف 25. لماذا السهر؟ لأننا لا نعرف في أي يوم يأتي الربّ. هذا الجهل يتسجّل في طبيعتنا. وهو يدلّ على أن حياتنا تفلت من أيدينا. لا يعني السهر أن نكدّس الطمأنينات ونقفل باب بيتنا لئلا يأتي السارق ويسرقنا. فلا نتوقّف عند الوجهة المادية من مثل السارق الذي يأتي في ساعة نجهلها. السهر هو أن نكون هنا، نكون حاضرين لكي نواجه الأحداث، ونأخذ مسؤولياتنا على عاتقنا. وفي اللغة البيبلية، نكون مستعدين، أي نقف أمام الربّ، نكون دومًا حاضرين (لاغائبين) لديه. ولكن هذا الحضور سيكون حاسمًا بشكل خاص عند ساعة الموت. عند ذاك نكون في عرينا، بدون أي قناع يُخفي حقيقتنا.
ثانيًا: أمثال ثلاثة (24: 42-25: 30)
> صورة عن السهر في ثلاثة أمثال
وتأتي ثلاثة أمثال فتقدّم في صور ملموسة موضوع السهر. هي تعبّر عن ذات الواقع الأساسيّ: يجب علينا السهر بانتظار اليوم والساعة اللذين لا نتوقّعهما (24: 50؛ 25: 13). وتنقسم هذه الأمثال في لوحتين حول محور هو الانتظار. وتشمل بنيتها الداخلية ثلاثة أزمنة:
- الزمن الأول. فيه تُعطى المسؤوليّات: تدبير البيت (24: 45). الذهاب للقاء العريس (25: 1). المتاجرة بالوزنات (25: 14-15).
- الزمن الثاني. هو زمن الانتظار. خلال غياب طويل من السيّد الذي ((يتأخّر)) (خرونيزاي، 24: 48)، من العريس الذي ((ننتظره)) (25: 5؛ خروني زونتوس)، من الرب الذي لا يعود إلاّ ((بعد زمن طويل)) (25: 19).
- الزمن الثالث. زمن عودة الرب. تجاهه يتمّ التمييز بين الذين ظلّوا أمناء والذين تخلّوا عن مسؤولياتهم.
فإذا أردنا أن نفهم هذه الأمثال، نعالجها عبر الزمن الثالث، أي بواسطة النهاية. فعودة الربّ تقوم بالكشف الحاسم الذي يميّز تصرّفات البشر.
> مثل الخادم الأمين (آ 45-51)
في مثل الخادم الذي ينتظر مجيء سيّده (آ 45-51)، يأخذ السهر شكل أمانة مسؤولة تجاه مهمّة سلّمها الرب إليه. وعبر تقديم المثل، نكتشف أن الجماعة المتاويّة اختبرت اختبارًا مؤلمًا ضعف بعض المسؤولين فيها ولاأمانتهم. وقد نظنّ أن مت رغب في أن يذكّرهم بجديّة الخدمة التي أوكلت إليهم.
أن يكون الواحد ((أمينًا وحكيمًا)) يعني أن يهتمّ بأهل ((البيت فيعطيهم الطعام في حينه)) (آ 45). ويكون الواحد ((رديئًا)) (شريرًا) حين ((يبدأ يضرب رفاقه في الخدمة، ويأكل ويشرب مع السكّيرين)) (آ 49، يريد أن يكون سيّدًا بحسب روح العالم، لا خادمًا بحسب روح المسيح). يستطيع كل مسؤول أن ينتقل من موقف إلى آخر، ولكن لن يظهر حقًا تصرّف كل واحد منا خلال غياب الربّ إلاّ في عودة الرب. في هذا الغياب نستطيع أن نقرأ تاريخ الكنيسة التي تنمو وتنتظر الملكوت النهائي، بل هي تعيش هذا الملكوت منذ الآن. وهذا الوضع يجعلها تعي مسؤولياتها.
نلاحظ أن ((تطويبة)) الخادم ((الأمين والحكيم)) (آ 46) تقابل مصير الخادم ((الشرير)) وما فيه من تعاسة: ((سيفصله ويجعل نصيبه مع المرائين)). هذا ما يذكّرنا بـ((الويلات)) التي قرأناها في ف 23 (آ 13-32) ضد رؤساء الشعب الذين تخلّوا عن مسؤولياتهم، مع قرار مقولب يشدّد على العقاب النهائي: ((هناك يكون البكاء وصريف الأسنان)) (آ 51؛ رج 8: 12؛ 13: 42، 50؛ 22: 13؛ 25: 30).
> مثل العذارى العشر (25: 1-13)
ويرينا مثل العذارى العشر الذاهبات للقاء العريس (25: 1-13) موقفين ينكشفان في النهاية ويُحكم عليهما حينذاك: حضور أو غياب العذارى في اللحظة الحاسمة (((أغلق الباب، آ 10) التي فيها وصل العريس. نحن هنا أمام تعبير عن قبول أو رفض نعيشهما منذ البداية في قلبنا. فمنذ آ 2 تحدّث مت عن ((جاهلات)) (موروس) و((حكيمات)) (فرونيموس، رج 24: 45).
أراد بعض الشّراح أن يفهموا هذا المثل انطلاقًا من عادات فلسطينيّة في زمن يسوع، ليدركوا كيف لجأ مت إلى الاستعارة ليصوّر حاجات كنيسته. فالطريقة التي بها قدّم يسوع هذا المثل تظهر وكأنها تصوير لقول نجده في سياق مختلف ونقرأه في لو 13: 25 (ينهض ربّ البيت ويغلق الباب فتقيمون أنتم في الخارج تقرعون الباب)؛ رج مت 8: 11-12.
تمثّل هذه العذارى العشر (العدد 10 هو عدد العمل البشري، عدد عشر أصابع اليد. نحتاج إلى عشرة أشخاص لكي تصحّ الصلاة في المجمع) الجماعة المسيحيّة في نظر مت. فإن قال إنهن ((عذارى)) (بتولات)، فعودة إلى التفسيرات الرابينيّة لنشيد الأناشيد، الذين رأوا في جوق ((بنات أورشليم)) مجموعة التلاميذ الذين يحملون نور التوراة ويسهرون في الدرس منتظرين المسيح. و((المصابيح)) التي في أيديهن هي في الأصل شعلة زيت سيرقصن بها عندما يصل العريس فينشدن أفراح العرس. ويرمز الزيت إلى الأعمال الصالحة كما يقول العالم اليهوديّ (مدراش عد 4: 16؛ 6: 15؛ 8: 8). كما يرمز إلى فرح اللقاء (مز 23: 5؛ 4-1؛ 15؛133: 2) كالعطر الذي نسكبه على الضيف والمسحة المسيحانيّة (مز 45: 8؛ 89: 21).
وهكذا نفهم لماذا لا تستطيع العذارى الحكيمات أن يعطين من زيتهنّ (آ 8-9) لرفيقاتهنّ. لأننا لسنا أمام كميّة من المادة ساعة يجب أن ننتظر العريس بمحبّة قلوبنا. فلا أحد يستطيع أن يكون ساهرًا عن غيره. ووصول العريس جعل الحكيمات والجاهلات يعين طبيعة حبهنّ: فالحبّ الحقيقيّ مستعدّ دومًا. أما الجاهل والشرير (موروس 7: 24؛ 23: 17؛ رج 5: 22؛ مز 14: 1؛ أش 32: 6) فيلجأ إلى الباعة ويفضّل زيتهم على انتظار القلب. ذهبت الجاهلات إلى ((السوق)) ليشترين. في ذلك الوقت جاء العريس في وسط الليل. ولما عدن وجدن الباب مقفلاً ولا سبيل إلى فتحه البتّة. ونفهم هذا المثل حين نستعيد قولاً موازيًا في نهاية عظة الجبل (7: 21-23): ((ليس من يقول لي: يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات)).
إذن، المهم هو أن نكون هنا (حاضرين) في مجيء العريس. المهم هو هذه ((النهاية)) التي تحدّث عنها مت في 24: 13-14 أي هذا ((الوقت)) الذي فيه نكون في حضرة الله، والذي يشرق على أبديّتنا، هذا الوقت، الذي ليس هو في البداية ولا في النهاية، بل يعبّر عن التتمة التي يشكّلها حضور الرب بالنسبة إلى كل واحد منا. فمجيء العريس، شأنه شأن عودة الرب في المثل السابق (24: 50) وفي المثل اللاحق (25: 19)، يكشف تصرّف الجماعة وأعضائها في زمن الانتظار. عندئذ يرتسم وجه الأبديّة على نمطين من الخدم، نمطين من العذارى، كما أن البرّ الذي تحدّثت عنه خطبة الجبل كشف التعارض بين خيارين ممكنين (7: 13-27، الباب الضيّق والباب الواسع، من يسمع ومن لا يسمع). منذ البداية وفي أيّة لحظة يؤخذ الخيار ((النهائيّ)) في خطّين: خط حدث حاسم يكون النقطة الأخيرة. وخطّ حدث يحدّد معنى كل ما سبقه.
> مثل الوزنات (آ 14-20)
ويأتي مثل الوزنات (أعطوا وزنات يتاجرون بها بانتظار عودة المعلّم) فيتعمّق أيضًا في هذا المنظار. فمشهد الحساب حاسم هو، وهو يُبرز التعارض بين موقف العبدين الأولين والعبد الأخير. والحوار بين العبد الأخير والرب له مدلوله: إنه صدى لذاك الذي جعل رب الكرم تجاه عمّال الساعة الأولى (20: 21-15). غضبَ العبدُ لأنه سيّده يطالبه بأكثر ممّا أعطاه. فنظرته الضيّقة إلى العدالة جعلته يعتبر سيّده رجلاً قاسيًا، وينسى أنه هو الجبان والحقير. فالمال يُعطى لكي نصرفه ونخاطر به، وإلاّ يبقى عقيمًا. فلا أحد يتركه لنفسه سوى البخيل. نحن نرغب فيه لما يعنيه لنا، لا في ذاته.
وبدأ الرب جوابه فدخل في وجهة عبده، ثم بيّن له أنه لم يفهم مدلول الوزنة التي سُلِّمت إليه. فقبول موهبة يخلق مسؤوليّة إنماء هذه الموهبة. كان العبدان الأولان ((صالحين وأمينين)) (آ 21-23)، فقاسما الآخرين ما يملكان، وإذ صرفا أموالهما أثمرت. أما العبد الثالث الذي تسلّم أقلّ من رفيقيه، فقد ظنّ أنه غير محظيّ لدى سيّده. انغلق على ذاته، فحفظ وزنته من أجل خدمته الخاصة، ورفض أن يُشرك الآخرين في ما يملك. ما عرف في وزنته عطيّة وموهبة، بل ظن أن هذا المال هو له (آ 25)، فخبّأه ولم يخاطر به. ما عرف أن سيّده الذي ذهب إلى البعيد ما زال حاضرًا من خلال عطيّته. هنا نشير إلى أن الوزنة تساوي 36 كلغ من الفضّة، وهي تقابل 6000 يوم من العمل. هذا يعني أن ما تسلّمه العبد الثالث كان كبيرًا جدًا.
وجاءت ساعة الحساب، فكانت أيدي العبدين الأولين مملوءة بما صرفا وبما أنميا. ((تاجرا)) بما تسلّما من وزنات وما خافا (هنا نتذكّر الجبناء في رؤ 21: 8). هما غنيّان بما ربحا وبما خاطرا، هما غنيان بسخاء سيّدهما. أما الثالث فأخذ منه سيّده ما يملكه، وطرده في الليل والظـلمة. كان عقيمًا لنفسه وللآخرين، فاكتشف أنه فقير وقد حُرم من وزنة جعلها في مكان أمين. خاف من سيّده الذي اعتبره قاسيًا واعتباطيًا في تصرّفه. خاف وما عمل، اختار موقف الانغلاق، فقيِّد وألقي في الظلمة البرانيّة.
وعاد مت إلى هدفه اللاهوتي الذي هو السهر. نحن نسهر حين نُتمّ المهمّة التي أوكلنا الربّ بها. لا يكفي أن نتقبّل الكلمة. بل يجب أن نجعلها تحمل ثمرًا (13: 23). وملكوت السماوات رأسمال وُضع بين أيدينا، فلا يحقّ لنا أن نتركه بدون ثمر. هنا نكتشف معنى تأخّر الربّ ووصول العريس في نصف الليل وغياب الرب الطويل. لسنا هنا أمام زمن كرونولوجيّ بقدر ما نحن أمام مساحة فيها نتسلّم مسؤولياتنا. ذاك هو مدلول التاريخ الذي نعيش فيه، بين مجيء الربّ الذي كلّفنا بمهمّة، وعودته التي تفترض موقف التزام تام. حين قرأ متّى هذا الخبر في جماعته، وعى خطر انتظار مجيء الرب القريب. لهذا حاول أن يحذِّر المسيحيين من التخاذل والكسل والقنوط، من الفتور والتهرّب من المسؤوليّة. فنحن نبرهن عن حبّنا بالعمل: فمن أحبّ الله الذي في السماوات عمل مشيئته ولم يترك أحدًا من إخوته يهلك (18: 14). هذا ما نتعلّمه في هذه اللوحة الأخيرة من خطبة مت حول نهاية الأزمنة.

د - مجيء ابن الانسان في المجد لدينونة الأمم (25: 31-46)
تستعيد هذه الخاتمة جوهر ما وجدناه في ف 24-25: وهكذا نقرأ هذه اللوحة الواسعة عن الدينونة الأخيرة في منظار ف 24-،25 ساعة تأتي الأمم وتقف للدينونة أمام ابن الانسان في مجده. طُرحت أسئلة عديدة حول هذا المثل: فمن هي الأمم المجتمعة (آ 32)، عن اليمين وعن اليسار؟ هل هي جميع الشعوب بدون تمييز، أم أولئك الذيت سمعوا كلمة الانجيل وصاروا مسيحيين؟ من هم ((إخوتي هؤلاء الصغار)) (آ 40، 45)؟ هل كل انسان يعرف الشقاء والضيق، أم التلاميذ وكارزو الانجيل الذين نستقبلهم أو نزورهم؟ ويتساءل الشّراح: هل نحن أمام نصّ يعود إلى يسوع نفسه، أم إلى ينبوع تقليديّ أعاد صياغته مدوّن انجيل متّى؟
لا نستطيع أن ننكر دور مت في تدوين هذا المقطع، دون أن نعرف بالضبط مدى هذا الدور. لهذا، سنحاول أن نفهم بُعد هذا المثل الأخير في مت. إن المقدّمة (آ 31-33) تستعيد موضوع ((مجيء ابن الانسان)): سمعنا الخطبة الاسكاتولوجيّة (24: 3، 27، 30، 31...) وفهمنا حضور الرب النهائيّ في حياة كل انسان. إن الظهور المجيد لدينونة الله، الذي يذكّرنا بما في زك 14: 5 وتجمّع كل الأمم (24: 9، 14؛ 28: 19) أمام المسيح، يدلّ على حدث رئيسيّ: فالبشريّة كلها (وكل انسان بمفرده) ستمثل أمام الملك (آ 34؛ رج 18: 23؛ 21: 5؛ 22: 2، 7، 11، 13) الذي سيجعل ((مباركي أبي)) يرثون الملكوت (5: 4). على كل واحد منهم، عاجلاً أو آجلاً، أن يتّخذ موقفًا بالنسبة إلى المسيح.
إن صورة فرز القطيع إلى خراف وجداء بيد الراعي يهوه، أمرٌ معروف منذ خر 34: 17-22. وحده نظرُ الراعي يميّز في الحقيقة هويّة كل واحد. والدينونة التي تُلفظ على كل واحد، ستكون دومًا موضوع دهشة (آ 37-39، 44): ما وعى أحدٌ أنه استقبل أو رفض الربّ في الفقراء والمهمَّشين.
إذن، من هم ((إخوتي هؤلاء الصغار)) (آ 40، 45)؟ استند عدد من الشّراح إلى العبارة المتّاويّة ((هؤلاء الصغار))، لا سيّما في خطبة الرسالة (10: 42) وخطبة الجماعة (18: 6، 10، 14)، فاستنتجوا أن الصغار هم تلاميذ المسيح الذي نعطيهم كأس ماء بارد فنستقبل فيهم ذاك الذي أرسلهم (10: 40). ثم إن لفظة ((إخوتي)) المستعملة في آ 40 تدلّ أيضًا على التلاميذ في 12: 48-50؛ 28: 10. وهكذا تتوجّه الدينونة نحو استقبال مرسلي المسيح، وبالتالي استقبال شخصه وتعليمه. ومن خلال أعمال الرحمة أو الاهتمام بالتلاميذ المتألّمين، نصل إلى يسوع نفسه الذي جعل نفسه ((صغيرًا)) مع أنه الأول. ((جاء ليخدم ويبذل حياته فدية من أجل الكثيرين)) (20: 28). وهكذا نفهم أنه يتماهى كليًا مع مرسله المتألّم ((المضطَهد لأجل البرّ)) (5: 10؛ 10: 17-18).
غير أننا رأينا أن خطبة ف 10 وخطبة ف 18 توجّهتا، عبر تلاميذ يسوع، إلى جميع المدعوين ليكونوا تلاميذه. فمتّى لا يجعل الناس في إطار محدّد لا يخرجون منه. ونحن لا نعرف إلى أي حدّ هذا الأخ هو تلميذ المسيح أم لا. فنظرُ الآب وحده يكشفه. أما يسوع فانحنى على الفقراء والمتألّمين، لأنه اكتشف فيهم صغارًا سينمون وتلاميذ ما زالوا براعم. ليس الموضوع أن نسأل إذا كان الناس الذين استقبلوا إخوتهم الجائعين والعطاش... سيخلصون أم لا في يوم الدينونة، بل إذا كنا نحن الذين نقرأ هذا الانجيل نذهب إلى الآخرين بعد أن انطبع على وجههم وجه المسيح.

4 - البعد اللاهوتي للاسكاتولوجيا المتّاويّة
ما هي ((نهاية العالم)) أو ((منتهى الدهر))؟ ساعة يكون كل واحد في حضرة الله. وتأتي النهاية حين يُعلَن الانجيل في المسكونة كلها (24: 14). وهكذا، فإرسال التلاميذ كما في خطبة الرسالة (ف 10) في الارسال الأخير (28: 18-20)، يعبَّر عنه بكلام يدلّ على التتمّة: تأتي النهاية حين يقف كل انسان في حضرة الربّ. إذن، المجيء هو وضع فيه يتوجّه الرب بشكل جذريّ إلى كل واحد منا ساعة موته، يعني ساعة ((تبدأ)) أبديّته.
فإذا أردنا أن نعبّر عن هذه الأبديّة التي لا يعبّر عنها، لأناس يعيشون في الزمان والمكان، نطرح هذه ((اللحظة)) في نهاية حياتنا أو في نهاية العالم. وبشكل بديهيّ يعبّر فكرنا عن الابديّة (أي ما لا يزول، 24: 34-35) بكلام يدلّ على النهاية، لأن هذه اللفظة تحمل كل الحياة في لحظة حاسمة واحدة. في هذه اللحظة يتمّ مصيري أنا ومصير العالم. ولكن في الواقع، مصيري يتمّ في كل لحظة، لأن الانسان في كل لحظة يجد نفسه أمام الله بقدر ما يعي حضوره.
إذن، نستطيع القول إن الاسكاتولوجيا تؤسّس نظرة مت إلى التعليم الاخلاقيّ، لأن كل خيار على مستوى القول أو العمل في الحياة اليوميّة، نأخذه في حضرة المسيح في المجد. كانت متطلّبة عظة الجبل قد بدت متطلّبة تُتمّ البرّ. وفي يسوع ملك الأمم يظهر البعد الشامل لهذه التتمة. وهكذا يعود أقلّ عمل إلى الدينونة الأخيرة حيث محبّة الله ومحبّة القريب تصبحان وصيّة واحدة.
هكذا ندرك لماذا لا يقدر يسوع أن يجيب عن السؤال حول تاريخ نهاية العالم. فإن حاولنا أن نعرفه، كنا كمن يفلت من لقاء الرب ويجد كفالة ضده في طمأنينات بشريّة. ووقت اللقاء هذا يختلف بين انسان وآخر. وحين نعي هذا نكون في حضرة الله.
بالنسبة إلى مجمل الشعب اليهوديّ، بدأ هذا الوعي مع دمار أورشليم: ساعة دمِّر الهيكل، وجد العالم اليهوديّ نفسه على المحكّ. وهكذا كان رباط بين دمار المدينة ومجيء الربّ، ورُفع التناقض الظاهر بين آ 34 وآ 36 في ف 24. فالجيل الذين توجّه إليه يسوع، قد دُفع إلى أن يطرح سؤالاً حول مصيره وحول يسوع: أليس يسوع هو المسيح المنتظر؟ ألا نستطيع أن ننتظر رجوعه المسيحانيّ؟ في أي حال، طُرح السؤال ولا يستطيع أحد أن يتهرّب منه، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء.
هذا السؤال طرحته أيضًا كنيسة متّى، وهي التي آمنت بقيامة ربّها وعودته القريبة. ولكن السؤال يُطرح أيضًا بالنسبة إلى كل جيل. فأمام موت الرب وقيامته، يعي كلُّ جيل، كل انسان، مجيء الرب في حياته.

خاتمة
تحتفل الجماعة الافخارستيّة بالحضور الحالي للمسيح القائم من الموت وسط إخوته. هي صورة مسبقة عن تجمّع الأمم أمام ملك المجد. والكلمة التي تتوجّه إلينا تكشف لكل واحد حقيقة أعماله فتجعله يعي مسؤولياته وكيفيّة عيشها. فكل حدث من الحياة يحمل تهديدًا أو تحديدًا (مرض، موت، فشل، ضيق)، يصبح في حضرة ابن الانسان، موضعًا يُطرح فيه السؤال الأساسيّ. هذا السؤال حول معنى حياتنا، هل نترك الرب يطرحه علينا؟ هل نحن ساهرون؟ أم نتهرّب من الالتزام من أجل الملكوت فنختبئ وراء أعذارنا؟ إن الافخارستيا تحكم على حياتنا، لأنها تدفعنا إلى الوقوف أحرارًا أمام حضور المسيح في كنيسته وسط تهديدات العالم والضعف الذي يحيط بوجودنا البشريّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM