الفصل العاشر :دمار الهيكل ونهاية العالم

الفصل العاشر

دمار الهيكل ونهاية العالم
24: 1-36

هذه هي بداية الخطبة الخامسة والأخيرة في انجيل متّى. تبدأ أولاً في حديث عن دمار هيكل أورشليم. ثم تعلن المضايق الأخيرة ومجيء ابن الانسان. هي خطبة مؤلّفة من عناصر عديدة. تبدأ في آ 1-3 مع إعلان دمار الهيكل (مر 13: 1-4؛ لو 21: 5-7). هذا الهيكل الثاني بعد الهيكل الأول الذي شيَّده سليمان، قد بُني سنة 520-518 ق م. وبدأ هيرودس الكبير العمل فيه. دُشّن سنة 60 ب م ولم يكن العمل فيه قد انتهى. عنه قال يسوع: ((لن يُترك فيه حجر على حجر)). وسوف يرى مت هذا الدمار حين يكتب انجيله فيرى في هذا الدمار نهاية عالم وبداية عالم.
في آ 4-14 نتعرّف إلى بداية المخاض. يموت عالم ويعيش عالم (رج مر 13: 5-13؛ لو 21: 8-19). سأل التلاميذ المعلّم: ما هي علامة نهاية العالم؟ فأجاب يسوع وقدّم ثلاثة مواضيع ترتبط بعضها ببعض: دمار أورشليم. نهاية هذا العالم. مجيء ابن الانسان في المجد. ولكن يسوع يحذّرنا من الاهتمام بعلامات تدلّ على أن نهاية العالم بدأت، ويدعونا إلى السهر بانتظار ابن الانسان الذي يأتي.
تحدّث يسوع عن ألم الولادة، فدلّ على أن ما سيحصل سيحصل لا محالة. كما تحدّث عن ضيق نهاية الأزمنة. فالاضطهادات والمضايق والآلام الشخصيّة والأحداث السياسيّة والكونيّة، كل هذا يُعتبر مؤشَّرًا إلى ما يحدث في النهاية، بل هو يهيِّئ النهاية.
مع آ 15-25 (رج مر 13: 14-23؛ لو 21: 20-24) نتعرّف إلى الكارثة، إلى الضيق العظيم، وهو تنجيس الهيكل بسبب دخول الجيوش الرومانيّة إليه. عاد النصّ إلى ما صنعه انطيوخس الرابع ابيفانيوس، فصوّر الوضع الذي صار إليه الايمان من جحود وضلال بسبب المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة.
وتحدّثت آ 26-36 (رج مر 13: 24-31؛ لو 17: 23-24؛ 21: 25-31) عن مجيء ابن الانسان الذي لا ننتظره هنا أو هناك. أما الشيء الوحيد الذي نحن متأكّدون منه فهو أنه يجيء. هو قال، وكلامه لا يزول. بل تزول السماء والأرض. وما قاله يتحقّق لا محالة.
هذا هو النصّ الذي ندرسه الآن. بعد نظرة عامة، نتوقّف على التفاصيل فندرك بنية النص ومراجعه وتفسير آياته.

1 - نظرة عامة

أ - دمار هيكل أورشليم (24: 1-3)
في مت 24: 1-3 كما في مر 13: 1-4 ولو 21: 5-7 نقرأ آيات تنقلنا من خطبة يسوع ضد الفريسيين (23: 1-36 وز) إلى الخطبة الاسكاتولوجيّة الكبرى (ف 24 وز). ونجد فيها قسمين مميّزين، حيث القسم الأول يشكّل مقدّمة للقسم الثاني: أعلن يسوع دمار الهيكل (آ 1-2). فطرح عليه تلاميذه سؤالاً عن الزمن (بوتي، متى) وعلامات (سيميون) هذه الأشياء.
نستطيع حالاً أن نلاحظ في آ 3ب أن مت يجمع في زمن واحد ثلاثة أحداث لا يمكن أن تحصل دفعة واحدة: دمار الهيكل (توتا، هذا، هذه الأشياء)،عودة يسوع، نهاية العالم. ولكن متّى ((المعلّم الناضج)) أراد أن يركّز انتباهنا على موضوع واحد، فما استعاد ((فلس الأرملة)) الذي جعله مر 12: 41-44 (رج لو 21: 1-4) هنا لأننا في معرض الحديث عن الهيكل، والذي يحمل تعليمًا عن تقوى الفريسيين وما فيها من تقوى ظاهر، بل ربط ف 24 مع 23: 37-39 حيث نجد نبوءة عن أورشليم.
على مستوى نقد النصوص الأدبيّة، ترتبط هذه الآيات بعدد من النصوص الانجيليّة. تورد سؤالاً طرحه على يسوع أشخاص ذُكروا بوضوح مثل التلاميذ هنا. وجاء من جمع هذه الأسئلة التي يوجّهها الخصوم أو التلاميذ على يسوع، فكانت كما يلي: بعد مثل الزرع، سأل الاثنا عشر يسوع عن الأمثال (مر 4: 10 وز). بعد الكلام عمّا يدخل الانسان، سأل التلاميذ يسوع حول هذه الكلمة الملغزة (مر 7: 17 وز). في مر 9: 11، سأل التلاميذ يسوع بعد أن عجزوا عن طرد الشيطان، رج مر 10: ،10 28؛ 13: 3... نحن هنا أمام أساليب ثانوية مصطنعة تساعد على وضع قول من أقوال يسوع في ((إطار)) تاريخيّ. وفي النص الذي ندرس (مت 24: 1-3)، يسأل التلاميذ يسوع على انفراد. أما في مر 13: 3 فنقرأ: ((سأله بطرس ويعقوب ويوحنا واندراوس)) أي التلاميذ الأربعة الذين دعاهم يسوع على شاطئ البحر في بداية رسالته. أما لو 21: 5 فلا يهتمّ بهويّة السائل. نقرأ: سألوه (من سأله؟) قائلين)). نحن نرى أيضًا في هؤلاء التلاميذ أشخاصًا من كنيسة متّى يطرحون أسئلة طالما طرحها العالم اليهوديّ في فلسطين.
في السرد المتّاوي، كان يسوع في الهيكل منذ 21: 23. ويُبرز الانجيليّ الأول ذكر خروجه، لأن يسوع لن يعود بعدُ إلى الهيكل حيث صراعه مع قوّاد شعبه الدينيين وصل إلى الذروة (21: 23-27).
أورد كل انجيليّ بطريقته الخاصة ملاحظات تدلّ على إعجاب التلاميذ بالهيكل. في مر، لاحظ أحد التلاميذ ضخامة الحجارة والبناء. في لو، كان الحديث عن الحجارة الجميلة. في مت، دلّ التلاميذ يسوع على مجمل البناء دون وصف ولا إعجاب. تجاه هذه الملاحظات التي تدلّ على نظرة دينيّة سطحيّة، أعلن يسوع نبوءة هائلة: كل هذا سيدمّر. لن يبقى منه حجر على حجر.
القسم الأول من جواب يسوع يأتي بشكل استفهام (ألا ترون هذا كله؟)، وهو يأتي في أسلوب بلاغيّ. لا ينضمّ يسوع إلى التلاميذ في إعجابهم، بل يجعلهم يتأمّلون في مجمل عظمة الهيكل (هذا كلّه) ليشدّد على أهميّة الخراب القريب.
هنا يُطرح سؤالان: السؤال الأول حول معنى الفعل الذي يصوّر لدى الازائيين الثلاثة الدمارَ المعلن. والسؤال الثاني حول القيمة الحقيقيّة لصيغة المضارع في هذا الفعل (عند مت ولو. أما مر فاستعمل الماضي). سيجيب مجمل ف 24 على هذا السؤال الثاني الذي هو سؤال حول الأحداث التي أنبئ بها. وسنعود إليه. أما بالنسبة إلى السؤال الأول، فنظن أن المسيح في مت قد لمّح إلى كارثة عسكرية قد تكون سلب الهيكل بيد الرومان سنة 70، أو إلى كارثة كونيّة كما في أسفار الرؤيا.
إن الفعل ((كاتلواين)) (نقض) (5: 17؛ 26: 61؛ 27: 40؛ رج 2كور 5: 1) قد يعود إلى هذه الكارثة أو تلك، وقد تكون الكارثتان كارثة واحدة في فكر سامعي يسوع أو سامعي متّى. غير أن مجمل ف 24 يدعونا إلى الأخذ بالمعنى الجليانيّ. لهذا، تخلّى عدد من الشّراح عن الارتكاز على هذه الآية ليحدّدوا متى دوِّن مت. ولكن يبدو أنه دوّن بلا شك بعد سنة 70، وقد تكون كارثة أورشليم صورة عن كارثة من نوع آخر.
من أجل هذا، نفهم الاهميّة اللاهوتيّة لدمار أورشليم سنة 70. فالهيكل الحقيقي صار بعد الآن المسيحَ وجسدَه المبنيّ بحجارة حيّة. وها قد بدأ العالم القديم بالزوال. فدمار المدينة المقدّسة هو علامة نهاية هذا العالم القديم وبداية عالم جديد. لقد بدأت الديانة في التاريخ، في بيت الله. كل هذا نستطيع أن نكتشفه في مت 24. وموضوع تدنيس الهيكل ثم دماره، لم يكن غريبًا عن الفكر اليهوديّ في زمن يسوع. هذا ما نجده في مزسل التي ارتبطت بسقوط أورشليم في يد بومبيوس الروماني سنة 63 ق م. ((ما منعت الوثني أن يدمّر السور)) (2: 1). ولكن ينتظر الناس هنا، كما في النصوص الاسيانيّة، سحق مدمّر الهيكل. في مت ،24 ما يلفت النظر هو الطابع النهائي للكارثة. ثم إن هذا الفصل لا يتضمّن أي تلميح إلى عودة عظمة اسرائيل حتى عبر المحنة المنقِّية. ولا يقال شيء عن هويّة مدمِّر الهيكل. وجاءت الأفعال في المجهول لتدلّ على أن الله هو سبب الكارثة (المجهول الالهيّ).
((وفيما هو جالس...)). حدّد مر ومت موقع سؤال التلاميذ على جبل الزيتون (ذات العبارة المتاويّة في 19: 28؛ 23: 2). عاد التلاميذ الذي ذُكروا في آ 1، وقد جعل مت في فمهم سؤالاً مركّزًا على يسوع المسيح. ضمّ دمار الهيكل إلى مجيء يسوع ونهاية العالم. هذا المجيء (يذكر في مت هنا وفي آ 27، 37، 39) لا يمكن أن يكون إلاّ عودته المجيدة والمظفّرة في نهاية التاريخ (1تس 2: 9؛ 3: 13؛ 4: 15؛ 5: 23؛ 1كور 15: 23)، لا مُلكه على الكنيسة.
ب - بداية المخاض (24: 4-14)
وبدأ يسوع يعلن الضيقات الأخيرة ومجيء ابن الانسان في آ 4-36 (رج مر 13: 5-8؛ لو 21: 8-11). مع أن هذه الآيات قد شكّلت تأليفًا أدبيًا متأخّرًا، إلاّ أنه يجب أن ندرسها بشكل إجماليّ، ولكن من خلال ثلاثة مواضيع رئيسيّة: العلامات السابقة للآلام الأخيرة والتحريضات التي تتعلّق بها (آ 4-14). الضيق في يهوذا وهو ذروة المحنة ويوم ابن الانسان (آ 15-28). مجيء ابن الانسان، ومثَل التينة، ومسألة زمن الأحداث الأخيرة (آ 29-36).
ولكن قبل أن نبدأ بتأويل هذه المجموعة الكبيرة، نودّ أن نسوق الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: يُشكّل ف 24-25 الخطبة الخامسة والأخيرة في مت. ففي نظرة الفقاهة المتاويّة، هذه الخطبة التعليميّة الكبيرة تعالج لا ((البرّ)) أو الأمانة للملكوت (رج ف 5-7). ولا إعلان الملكوت في العالم (ف 10). ولا سرّ هذا الملكوت الذي هو خفيّ بشكل موقّت (ف 13). ولا الجماعة الأخويّة المؤلَّفة من أبناء الملكوت (ف 18). بل أزمة كونيّة سيتجلّى فيها هذا الملكوت المخفيّ الآن، على أعين الجميع (ف 24). وهكذا يُطلب منّا السهر الناشط المستند إلى رحمة الله تحسّبًا لهذه الأحداث (ف 25). إذن، ظلّ الانجيلي أمينًا كل الأمانة لمخطّطه الأول، وهو أن يبيّن لجميع البشر، نتائج هجمة ملكوت الله في شخص يسوع المسيح (رج 3: 2؛ 4: 17).
الملاحظة الثانية: ولكن إن كان السرد المتاويّ قد خضع لاهتمامات فقاهيّة في الدرجة الأولى، فهذا لا يعني غياب النظرة السيرويّة. فإن ف 24، يتسجّل بشكل تام في خط ف 19-23 التي جعلتنا نرى نموًا متواصلاً للصراع بين يسوع ورؤساء شعبه. وهذا الصراع وجد ذروته في التقريع الذي وجّهه يسوع ضد الكتبة والفريسيين في ف 23. إذن، هناك في الفكر المتاويّ رباط وثيق بين الكوارث الاسكاتولوجيّة التي تُعلن، ورفض يسوع من قبل اليهود ولاسيّما رؤساء أورشليم والهيكل. هذا التداخل الحميم بين المواضيع الجليانيّة اليهوديّة المنتشرة في ذلك الوقت وبين المصير التاريخيّ ليسوع الناصري، يشكّل أصالة مت 24: 4-36 التي سنعود إليها.
الملاحظة الثالثة: غير أن العلاقة المميّزة بين مصير يسوع الشخصي والأحداث الكونيّة، ليست وحدها هنا. فنحن نلاحظ أيضًا في كل هذا علاقة (قد تبدو بعض المرات غامضة) بين نهاية أورشليم ونهاية العالم. قد تكون هذه العلاقة عائدة إلى زمن يسوع، وقد يكون أقامها التقليد الانجيلي. فما هو أكيد في الوسط المتّاوي، هو أن المؤمنين اعتبروا سقوط أورشليم كأحد عناصر الكوارث الأخيرة التي عبرها سيتجدّد العالم تجدّدًا تامًا ونهائيًا.
الملاحظة الرابعة: لا نقدر أن نكتب التاريخ الادبي لهذا التأليف منذ البداية. فقد كان متشعّبًا في قلب كنيسة متّى. ولكننا نستطيع أن نشير بشكل إجمالي إلى عنصرين: تبع مت مر حين جعل هذه المجموعة في بنية انجيله العامة، كما حين جعل الوحدات الصغيرة في سلسلة نقرأها هنا. هذا من جهة. ومن جهة ثانية حوّر مت نصّ مر وكمّله خصوصًا حين استعمل عناصر استعملها لوقا أيضًا (لو 17: 22-37؛ رج مت 24: 26-27، 28، 37-39، 40-41). لهذا نظن أن مت لم يتردّد هنا، كما فعل في الخطب الأربع السابقة، في جمع عناصر متفرّقة من التقليد الشفهي (أو كُتبت جزئيًا)، وفي ترتيبها في خطّ اهتماماته الكبرى. ونظنّ أيضًا أنه فعل كعادته، فجمع هنا أقوالاً تفوّه بها يسوع في مناسبات مختلفة، لأنه اعتبر أنها تتعلّق بالموضوع عينه.
الملاحظة الخامسة: وإذا تساءلنا الآن عن المرمى الدفاعي أو الفقاهي لهذه المجموعة الكبيرة، نستطيع أن نقول ما يلي: إن آ 4-36 تردُّ في رأي مت على سؤال طرحه التلاميذ في آ 3: متى تأتي النهاية، وما هي علاماتها؟ ونستطيع أن نجمل جواب يسوع في ثلاث نقاط تتوخّى كلها تهدئة الحمّى الجليانيّة في المحيط الذي فيه كُتب الانجيل: إحذروا من أين يضلّكم أحد (آ 4). سيكون مجيء ابن الانسان واضحًا بحيث لا يكون تردّد بالنسبة إليه (آ 27). لا أحد يعرف يوم أو ساعة هذا المجيء إلاّ الآب (آ 36).
وتنضمّ إلى هذه النقاط الثلاث الأساسيّة مجموعتان من النصوص يجب أن نحدّد مدلولها في هذه الخطبة. المجموعة الأولى: تصوير المضايق الأخيرة في ألوان فاقعة (آ 5-14، 15، 25، 29، 31). فلماذا هذا التصوير إن كان الهدف هو تجنّب القلق والبلبلة والخوف الجليانيّ؟ نظنّ أن هذه السمات الجليانيّة قد أضيفت إلى أقوال يسوع على أساس التقاليد اليهوديّة. أو أن يسوع نفسه استعملها ليشدّد على خطورة التعليم الجوهري الذي اكتشفناه في آ 4، 27، 36. في أي حال، يعطي مت هذه الصور المكانة الأولى في مجمل هذه الآيات. ومجموعةُ النصوص الثانية التي زيدت على التذكّرات الجليانيّة تتكوّن من تحريض يدعونا إلى الثبات حتى النهاية (آ 13: من يصبر إلى المنتهى). هذه العبارة تعلن موضوع السهر الذي سيسيطر منذ آ 42. سهر يتميّز به مت. لا سهر القلق والضياع والخوف والبلبلة. بل سهر روحيّ وداخليّ. سهر ناشط في تتميم المهمّة التي تسلّمناها (24: 54-25: 30)، سهر في ما نحمله إلى الجائع والعاطش والسجين والمريض من عون ومساعدة (25: 31-46).
بعد هذه الملاحظات نتوقّف عند شقّي هذه المقطوعة: آ 4-8؛ آ 9-14
> احذروا أن يضلّكم أحد (آ 4-8)
في مر الذي يبدو أكثر وضوحًا من مت، لا يجيب تعليمُ يسوع فقط على السؤال المطروح في آ 3ب، بل يعارضه. هذا هو معنى الفعل (ابوكرينو) الذي يعلن جواب يسوع. ((فأجاب يسوع وقال لهم)). أما الجواب فهو هو في شكل شبه حرفي في الأناجيل الازائيّة الثلاثة. وهو يشكّل عنوانًا لما في آ 4-36. إن فعل ((أضلّ)) (بلانان) يميّز هذا الفصل المتّاويّ (آ 4، 11، 24) كما يميّز ف 18 (آ 12، 13). نحن هنا في إحدى نقاط الاتصال بين ألفاظ استعملها مت وألفاظ استعملها يو (1يو 1: 8؛ 2: 26؛ 3: 7). يلمّح مت هنا إلى أصحاب البلبلة المسيحانيّة الذين يضلّون التلاميذ بنظرياتهم الجليانيّة (رج 18: 10-14).
وتتوسّع آ 5 في التحذير الذي أطلق في آ 4. صار ((أحد)) (تيس، يضلكم أحد) الجمع (بولوي، يضلون كثيرين). ستعود فكرة مماثلة في آ 23-26، وهذا ما يثبت الفرضيّة التي تقول إننا أمام تأليف أدبيّ تكوّن من أجزاء كانت في الأصل مستقلّة بعضها عن بعض. ولفظة ((باسمي)) (تحت اسمي، يختبئون) تدلّ على أن هؤلاء المضلّين يقدّمون نفوسهم على أنهم المسيح (خرستوس) المنتظر، أو يسوع المسيح الآتي في المجد. وقد تكون الفرضيّة الثانية معقولة في السياق التاريخي. أما الفرضيّة الأولى فنسمعها في أيامنا حيث يعلن انسان من الناس أنه يحمل ((الخلاص)) الذي لا يقدر أن يحمله إلاّ المسيح.
والضلال الذي تحدّث عنه النصّ بدأ يتوضّح: قد يضلّ التلاميذ في ما يتعلّق بهويّة المسيح نفسه. هنا تبع مت نصّ مر ولكنه جعله في أسلوب نبويّ. ((فالحروب وأخبار الحروب)) كانت تُعتبر علامات عن النهاية القريبة في العالم الجلياني اليهوديّ. وإذ أراد مت أن يهدئ هذا الغليان المسيحاني (حركات مسيحانية عديدة ستجد ذروتها مع بركوخبا، ابن الكوكب، في الحرب اليهوديّة الثانية سنة 132-135)، أكدّ على أمرين مميّزين: حسب مخطط الله، يجب أن تحصل هذه الأحداث المقلقة، سواء الحربية منها أو الكونيّة. فالتاريخ، وإن كان في أزمة، يظلّ داخل تدبير الله. إذن، يستطيع المؤمنون أن يلبثوا هادئين، بل هذا واجبهم (وهذا ما نقرأه في 1و2تس). ذاك هو الأمر الأول. والأمر الثاني: هذه الأحداث هي بداية (أرخي) الآلام الأخيرة. يبدو أنه يجب أن نقرأ آ 8 في المعنى الحصري، لأنه منذ آ 9 ستصوَّر الضيقات التي تصيب الرسل بشكل مباشر، وستكون أكثر أهميّة في نظر مت لأنها ستكون الـظرف التاريخي للكرازة بالملكوت (آ 14).
إن لفظة ((اودي)) (الاوجاع) تظهر هنا وفي مر 13: 8 ولا تعود تظهر في الأناجيل (رج أع 2: 24؛ 1تس 5: 3). أما الفعل المقابل ((اودينو)) فنجده في غل 4: 19، 27؛ رؤ 12: 2. هو يعني أوجاع الولادة. نستطيع أن نفهم هذه الصورة في معنيين: إن فكّرنا في بداية النهاية، شدّدنا على الأوجاع كعلامة تدلّ على بداية ((النهاية)). وإن فكّرنا بهذه الأوجاع التي قد تدوم طويلاً، قلنا إنها علامة تستبق النهاية. أما السياق المتّاوي فيجعلنا في التفسير الثاني. استعمل العهد القديم الصورة في هذين المعنيين (أش 13: 8؛ هو 13: 3؛ إر 6: 24؛ 2صم 22: 6؛ مز 17: 5-6؛ 114: 3-4).
> حينئذ يسلمونكم إلى الضيق (آ 9-14)
جعل مت في موضع آخر، في خطبة الرسالة (10: 17-21)، جوهر النص الموازي لمرقس. ولكنه أدخل من جديد في آ 10-13 صورة عن البغض الداخليّ والبغض الخارجيّ دون أن يذكر المجامع والولاة والملوك كما في مر 13: 9. نحسّ أن كل هذا العمل التدوينيّ قد تأثّر باختبارات عاشتها كنيسة متّى ساعة دوِّن الانجيل الأول. بينا صوّرت آ 4-8 كوارث عامّة وكونيّة، ذكرت آ 9-14 اضطهادات ضد التلاميذ (يسلمونكم، أنتم، يقتلونكم). قد قيل إن آ 10-12 قد انطبقت في الأصل على الجماعة اليهوديّة حوالي سنة 70. ولكن السياق المتّاويّ يدلّ على أن يسوع استعملها لكي يحرّض التلاميذ والكنيسة المسيحيّة في السنوات 80-90.
نحن هنا في مناخ يشبه مناخ التطويبات، ولا سيّما التطويبة الأخيرة: ((طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وافتروا عليكم بكل سوء من أجلي)) (5: 11). أو مناخ نهاية عظة الجبل حول الأنبياء الكذبة: ((إحذروا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، وهم في الباطن ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم)) (7: 15-16). أو مناخ خطبة الارسال (10: 17-21): ((احذروا الناس. سيسلمونكم إلى المحافل وفي مجامعهم يجلدونكم. وستساقون إلى الولاة والملوك من أجلي)).
((النهاية)) في آ 14 هي هي في آ 3. وإن آ 14 تعني بشكل حرفيّ أن الانجيل سيُعلن في الأرض المسكونة كلها (اويكوماني، لا نجدها إلاّ هنا في مت، رج لو 2: 1؛ 4: 5؛ روم 10: 18...). هناك من يحصر المسكونة في الامبراطوريّة الرومانيّة. قد يكون هذا معناها في لو، لا في مت العائش في الشرق، وقد يكون امتدّ عمل كنيسته إلى ما وراء حدود الامبراطوريّة الرومانيّة.

ج - المحنة الكبرى (24: 15-28)
أولاً: وضع المؤمنين (آ 15-22)
هذه الآيات (آ 15-22) مع آ 29-31 تبدو وكأنها تعود إلى عالم يهوديّ. فلا نجد فيها عنصرًا مسيحيًا واحدًا، وهذا ما يجعلنا نقول إن آ 4-36 تعني أول ما تعني سقوط أورشليم سنة 70 ثم نهاية العالم (آ 3). ولكن إن نظرنا في العمق، قدّم لنا السياق تفسيرين آخرين.
الأول: قد تكون هذه الآيات معترَضة تعني بشكل خاص سقوط أورشليم سنة 70. أو تحذيرًا أعطي للمسيحيين حول السقوط القريب للمدينة المقدسة. ودعوة لأخذ الاحتياطات في ذلك الوقت، داخل مجموعة من التعليمات ترتبط بكارثة مسكونيّة في نهاية العالم.
الثاني: قد تكون هذه الآيات قد أخذت من العالم اليهودي، ولكن وجب على التلاميذ أن يفهموها كتلميحات لا تتعلّق باليهوديّة ولا بأورشليم، بل بالعالم والكنيسة. وهكذا يكون المكان المقدس المذكور في آ 15 طريقة خفيّة للتكلّم عن الكنيسة. هنا نفهم التنبيه الذي وُجّه إلى القارئ. ((ليفهم القارئ)). لسنا على مستوى صورة لأحداث يفهمها الجميع، بل أمام تعليم يتوجّه إلى المؤمنين حول مستقبل يرجوه الايمان وحده. القارئ هو المؤمن في كنيسة متّى.
عندذاك نفهم عبارة ((رجاسة الخراب)) الدانياليّة (رج دا 9: 27؛ 11: 31؛ 12: 31 مع إشارة إلى ما عمله انطيوخس الرابع) كإعادة تفسير هذا الموضوع اليهوديّ من أجل قرّاء مسيحيين. وذكرُ اليهودية (يهودا) قد يشير إلى مسيحيين ظلّوا في اليهوديّة حتى النهاية، أو إلى تسمية مصوّرة لأماكن مختلفة أقام فيها المؤمنون. إن آ 19-22 تبيّن أننا أمام كارثة كونيّة تصوَّر بطريقة شعرية في ألفاظ مأخوذة من حياة فلسطين. والمختارون ليسوا اليهود المدعوّين للدخول إلى ملكوت الله،بل المسيحيين. وعبارة ((بسبب المختارين)) قد تعني أولئك الذي تقبّلوا الرسالة التي وصلت إليهم (رج آ 14). أو: لكي ينجو المختارون فلا تهدمهم الاحداث، أو: بما أن هناك مختارين،، بما أن هناك مؤمنين في العالم، سيُعفى عن البشريّة. إن لفظة ((مختارين)) ترتدي بُعدًا اسكاتولوجيًا ولكن دون التشديد على الوجه الخاصاني والشيَعي. فالمختارون الذين يُجمعون من الرياح الأربع (مر 13: 27) هم المسيحيّون المشتّتون في العالم كله، هم الجماعة الجديدة في الأيام الأخيرة، التي وضعت كل رجائها في عودة المسيح.
ثانيًا: شخص المسيح (آ 23-28)
هنا يتبدّل الموضوع. فبعد الصور الجليانيّة في آ 15-22، يتركّز الانتباه على شخص المسيح أو بالأحرى على الأخبار الكاذبة التي ترافق ظهوره الأخير. إذن، نحن أمام الموضوع الذي قرأناه في آ 4-5 (يقولون: أنا هو المسيح). ولكن في آ 5، كان الحديث عن مضلّين يقدّمون نفوسهم قائلين: أنا هو المسيح. أما آ 23-28 فتندّد بالذين يقولون للكنيسة المتّاويّة: هو هنا. هو هناك. ونودّ هنا أن نشير إلى ثلاثة تفاصيل في النصّ.
الأول: المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة هم خطرون، لأنهم هم أيضًا يُجرون الأعاجيب والآيات. لا يقول النصّ إن كانت هذه الآيات صادقة، ولكن 7: 21-23 يبيّن أن ذاك هو الفكر المتّاويّ: ((باسمك تنبّأنا، باسمك أخرجنا الشياطين، باسمك صنعنا عجائب كثيرة)). ولكن يسوع يعلن لهم أنه لا يعرفهم.
الثاني: يكشف النصّ بوضوح نوايا هؤلاء المقلقين المسيحانيين. هم يريدون أن يضلّوا المختارين. إذن، لا يحارب النصّ فقط أصحاب الأحلام الذين لا يمكنهم أن يسيئوا إلى المؤمنين الحقيقيين، بل الذين يقودون الناس بضلالهم إلى الهلاك.
الثالث: هنا نتذكّر ما قلناه سابقًا عن معنى آ 26-28: يرفض مت نظرات جليانيّة باطنيّة (ايزوتيريّة) يكون فيها ظهور المسيح الأخير خفيًا ومحفوظًا لفئة صغيرة من المتدرّجين. هذا موضوع عزيز على قلب العالم الجلياني اليهوديّ. أما مت الذي سبق وشدّد في ف 13 بشكل خاص على طابع السرّ والمفارقة في رسالة يسوع، فهو يشدّد الآن على الطابع الشامل لتجلّي يسوع الأخير. وهو تجلٍّ يفرض نفسه. فهو لا يتوخّى أن يضع الخوف لدى التلاميذ، بل الهدوء.
أما موضوع البرق (رج زك 9: 14؛ مز 97: 4) فهو يشير إلى فكرتين: سيراه كل البشر ولن يكون تردّد ولا ارتياب حول شخصه. وقد يكون هناك المعنى عينه في آ 28 الذي هو صدى لمثل معروف: كما أن الجثة تدلّ على الشخص في البعيد، هكذا المسيح. قد يعني هذا القول ((جثة)) المسيح المصلوب. وقد يعني أيضًا أورشليم بعد دمارها.
إذا قابلنا هذه الآيات مع الأفكار الجليانيّة المعاصرة، فهي تتميّز عنها في نقطة هامة. هي لا تقول شيئًا عن ملك أرضي لمسيح مجيد، بل تكتفي بأن تعلن بداية ملكه والدينونة التي يشرف عليها (25: 31-46). نراجع هنا مثلاً هذه الصورة للمُلك المسيحاني: ((طوبى للذين يعيشون في تلك الأيام ليشاهدوا حسنات الرب التي يعطيها للجيل الآتي، في عهد مسيح الرب المؤدّب، في مخافة الله، في حكمة الروح والبرّ والقدرة، بحيث يوجّه البشر في أعمال البر بمخافة الله)) (مز سل 17: 7-9). ونقرأ في رؤ با 71: 2-6 (نهاية القرن الأول ب م) ما يلي: ((وبعد أن تحصل هذه الايات التي أعلنتها لك، حين تكون الأمم في الاضطراب ويأتي زمنُ مسيحيّ (أنا)، يدعو جميع الشعوب ويُحيي هؤلاء ويقتل أولئك... وكل أمّة لم تعرف اسرائيل ولم تدس زرع يعقوب تحيا، وذلك لأنها هي التي تخضع لشعبك من بين جميع الأمم. ولكن تلك التي سيطرت عليكم وعرفتكم، فتُسلم إلى السيف)). ونقول عن الرؤيا المتّاوية، إنها لا تحفظ السعادة المسيحانيّة لتلاميذ المسيح. فهي تتوخّى بالأحرى أن تنبّههم وتحذّرهم من الاضطراب واللاأمانة. وفي الرؤيا اليهودية ولاسيّما الاسيانيّة، فأعضاء الجماعة المقدَّسة يستطيعون أن ينتظروا السعادة مسبقًا: ((حين يظهر مجد الله على اسرائيل، يُستبعد الخائنون للعهد من المخيّم ومعهم جميع الذين جرّوا يهوذا إلى الكفر في زمن المحن. أما جميع الذين تعلّقوا بهذه الفرائض، فساروا بحسب الشريعة وسمعوا صوت المعلّم واعترفوا أمام الله... هؤلاء يكونون سعداء، ويبتهج قلبهم ويصيرون أقوى من جميع سكان الأرض. ويغفر الله لهم ويرسل إليهم خلاصه، لأنه وثقوا باسمه المقدّس)) (وثيقة صادوق).

د - مجيء ابن الانسان (24: 29-36)
أولاً: تظلم الشمس والقمر (آ 29-31)
ويترك الانجيلي مرّة أخرى موضوعه المحدّد، موضوع ظهور المسيح الأخير، ليشدّد على ما قاله عن هذا الظهور في سلسلة من الكليشاهات المأخوذة من عالم الجليان اليهوديّ التقليديّ (أش 13: 9-10؛ 34: 4؛ زك 12: 10-12). وإن فعل ما فعل، تبع عن قرب نصّ مر متوخيًا تقديم فكرة هامة ومطمئنة عبّر عنها في آ 27: لم يعد من تردّد ممكن. فهذا الضجيج الكوني لا مدلول مسيحيًا له إلاّ لأنه يرافق علامة ابن الانسان في السماء ويجعلها ظاهرة للجميع. وعلامة ابن الانسان تعني في نظر مت ابن الانسان نفسه (وإن قال بعضهم إن هذه العلامة هي الصليب. رج الظهور للملك قسطنطين).
إذن، يشدّد النصّ على مجد هذا الظهور وقدرته التي لا شكّ فيها. وهنا أيضًا نبتعد عن تفسير يرى في الكوارث صورًا تقليديّة تدلّ على خطورة سقوط أورشليم. نحن بالأحرى أمام تجديد نهائيّ لكل شيء (رغم رقصة الكواكب، فالله يبقى أمينًا لخليقته) في نهاية العالم. ومع ذلك، نستطيع القول إن إقامة المملكة المسيحانيّة بواسطة ابن الانسان الآتي على السحاب، قد تحقّقت حين أغلق الله الدهر القديم ودمّر أورشليم وأحلّ محلّها الكنيسة بشكل نهائيّ. وما يلي من ف 24+ ف 25 يدلّ على أن الدينونة الأخيرة تهدّد أيضًا التلاميذ: فإن كانوا يستطيعون أن ينتظروا بهدوء ((اليوم))، فهم يحرَّضون لكي ينتظروه في السهر والأمانة (ف 25). فالكنيسة بحسب الفقاهة المتّاوية، ليست الواقع ((النهائي)). إنها الشاهد للواقع النهائي الذي هو ملكوت الله.
ثانيًا: فمن التينة تعلّموا المثل (آ 32-36)
هذه الآيات الأخيرة في الرؤيا المتاويّة (التي تمتدّ في الواقع حتى نهاية ف 25) هي التي يستلهم فيها مت نصّ مر 14 بأكثر ما يكون من الدقّة. ما قام متّى إلاّ ببعض التحويلات الطفيفة التي لا تحمل أي بُعد لاهوتيّ. مع مر ولو أدخل هنا مرّة ثانية قولين ليسوع أخذهما من موضع آخر في أشكال مختلفة بعض الاختلاف (آ 34 = 16: 18 = مر 9: 1 = لو 9: 27؛ آ 35 = 5: 18= لو 16: 17).
لا يرتدي مثل التينة (آ 32-36) الصغير أي معنى تحريضي ولا هجومي، بل تحديدي: كما أن الفلاّح لا يفقد صبره إن لم يرَ الصيف يأتي قبل أن تبرعم أوراق التينة، فعلى التلاميذ إن لا يحلموا بمجيء ابن الانسان، ويتبلبلوا قبل أن يروا ظهور جميع العلامات التي ذُكرت من قبل (بنتا توتا، هذا كله). هي الفكرة عينها تتكرّر: لا اضطراب قبل أن تظهر علامات النهاية التي لا تناقش.
إن آ 34 (هذا الجيل لا يزول إلى أن يتم هذا كله) نقرّبها من 16: 28 (من يذوقون الموت حتى يروا ابن البشر آتيًا) ومن 10: 23 (لن تتمّوا مدن اسرائيل). وهي تبدو صعبة في السياق الذي تظهر فيه. من جهة، فهي تبدو وكأنها تحدّد زمنًا (ولو تقريبيًا) للمجيء، ساعة تستبعد آ 36 (لا يعلمه أحد) كل محاولة تحديد زمنيّ في هذا المجال. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تجعل هذه الآية على شفتي يسوع إعلانَ نهاية قريبة من زمنه. وهي لم تتحقّق. الصعوبة الأولى هي أيضًا تلك التي نجدها في 10: 23 و16: 28. وقد نتجاوزها حين نشير إلى اللادقّة الكرونولوجيّة في نبوءة يسوع. وفي أي حال، يمنعنا السياق كله من أن ((نهاجم)) هذا القول في ما يخص زمن المجيء. فالذين رفضوا أن يروا على شفتي يسوع (أو مت) خطأ شارك فيه عددٌ من الناس من عصره، قد وجدوا أشكالاً عديدة لكي يتجاوزوا الصعوبة. نذكر اثنين. الأول: لم يتكلّم يسوع هنا عن نهاية العالم، بل عن نهاية أورشلبم (التي هي نهاية عالم قديم وبداية عالم جديد). والشكل الثاني: لا يدل ((هذا الجيل)) على أناس عاشوا في زمن يسوع، بل شعب اسرائيل الذي يمتدّ في التاريخ. أما الموقف الأبسط والذي يوافق موافقة الفكر المتّاوي، فنجده عند المفسّر الالماني كولمان: ما يهمّ على المستوى اللاهوتيّ في كرازة قرب ملكوت الله... هو التأكيد الضمني أننا، منذ مجيء المسيح، نعيش منذ الآن في عهد جديد وأن النهاية قد صارت قريبة. لاشك في أن المسيحيين الأولين قد قاسوا قياسًا هذا القرب فجعلوه بضع سنوات...
لا نقرأ في آ 35 (كلامي لا يزول) نبوءة عن زوال السماء والأرض أي الكون كله. فكما في 5: 18 (لا يزول من الناموس ياء أو نقطة)، يؤكّد المسيح في مت أن كلماته أبديّة. فمن تعلّق بها تسلّح حتى في زمن الدينونة والملكوت الآتي. هذا القول، شأنه شأن ما سبق وإن كان بشكل أوضح، يحمل بعض الثقة والهدوء في قلب انتظار النهاية. أما لفظة ((الابن)) بشكل مطلق (تتواتر في يو) فلا نجدها عند مت إلاّ هنا وفي 11: 17. ما استعادها لو. وقد تردّدت المخطوطات في تدوينها لأنها ما أرادت أن تنسب ((الجهل)) إلى الابن. ومع ذلك، فهي لا تعارض أعظم معطيات الكرستولوجيا الانجيليّة بما فيها الكرستولوجيا اليوحناويّة. هذا الجهل لدى الابن يتعلّق بمهمته كحامل وحي الآب، لا بعلمه الشخصيّ. فهو كانسان محدود في الزمان والمكان. فلماذا نخاف من التشديد على ناسوته وهو الذي قال عنه يوحنا: ((الكلمة صار بشرًا (من لحم ودم) وسكن بيننا))؟

2 - الدراسة التفصيليّة
نتوقّف هنا عند البنية والمراجع والتأويل والتفسير

أ - البنية
هذا القسم الأول من وصيّة (قبل الموت) يسوع الاسكاتولوجيّة، يبدأ بحوار ثم يصبح خطبة وهو يصل بنا إلى آ 36 (رج مر 13: 1ي). كما يتضمّن عددًا من الوحدات القصيرة. الوحدة الأولى هي مشهد يشكّل مقدّمة فيها يُنبـىء يسوع بدمار الهيكل (آ 1-2). وهذا ما يحرّك سؤالاً حول الزمن الذي فيه تحدُث هذه الأمور. فيجيب يسوع على هذا السؤال بشكل تحذير أولاً ثم بإنباء حول مضايق نهاية العالم.
آ 3-8 : بداية الأوجاع
آ 9-14 : شدّة الأوجاع
آ 15-28 : ذروة الأوجاع.
هذه الأقسام الثلاثة تتدرّج في الطول فتنقلنا من عالم واسع (آ 3-8)، إلى الكنيسة (آ 9-14)، إلى اليهودية (آ 15-28)، وهي حركة تعني أن أحداث النهاية تتركّز على الأرض المقدسة (رج 8: 11-12، يأتون من المشرق والمغرب).
أما آ 29 -36 فتصوّر انتصار الله في نهاية الأزمنة بمجيء ابن الانسان (آ 29-31)، وتتواصل مع مثل التينة (آ 32-33)، وتنتهي بقولين، الأول حول ((هذا الجيل)) (آ 34) والثاني حول قوّة كلمة يسوع (آ 35). وكل هذا ينتهي بقول حول جهل الساعة واليوم (آ 36).

أ - مقدمة إخبارية (آ 1-2)
> ملاحظة التلاميذ (آ 1)
> جواب يسوع: دمار الهيكل (آ 2)
ب - الأشياء الآتية (آ 3-36)
> سؤال التلاميذ (آ 3)
> جواب يسوع (آ 4-36)
- حقبة الضيق (آ 4-28)
> بداية الأوجاع (آ 4-8)
> شدة الأوجاع (آ 9-14)
> ذروة الأوجاع (آ 15-28)
- الرجاسة والهرب (آ 15-19)
- رعب تلك الأيام (آ 20-22)
- أين هو المسيح (آ 23-28)
- المجيء (باروسيا، آ 29-35)
> مجيء ابن الانسان (آ 29-31)
> المثل (آ 32-33)
> ثلاثة أقوال (آ 34-36)
- هذا الجيل لا يزول (آ 34)
- كلامي لا يزول (آ 35)
- ذلك اليوم وتلك الساعة (آ 36).
ب - المراجع
إن آ 1-3، 4-9، 13-14، 15-25، 29، 30ج-31، 32-33، 34-36 تجد ما يقابلها في مر وتستند إلى أولويّة مر. أما آ 26 (في البريّة أو في المخادع)، 27 (البرق)، 28 (جثة النسور) فتشبه لو 17: 32-34، 37، وتجد ينبوعها في المعين. وتبقى آ 10-12 (الشكوك، الأنبياء الكذبة، تبرد المحبّة)، 30أ (علامة ابن الانسان)، 30ب (النواح) وإضافة البوق في آ 31. هناك من ينسب آ 10-12 إلى تدوين (رج مر 13: 9-13 الذي نقله مت إلى ف 10 وخطبة الرسالة) مت أو إلى تقليد سابق لمتّى. نقول إن هناك تقليدًا سابقًا، وقد استقى منه تعليم الرسل أو الديداكيه (16: 3-6).
مت 24 الديداكيه 13: 3-6
آ 10 - يشكّ كثيرون آ 3- يشكّ كثيرون
آ 12 - ضلال كثير آ 4- ضلال كثير
آ 12 - تبرد المحبّة آ 3- تنقلب المحبّة بغضًا
آ 30 - وتظهر علامة ابن الانسان آ 6- وتظهر علامات الحقيقة:
أولاً: علامة تظهر في السماء
آ 31 - مع صوت بوق عظيم آ 6- مع علامة صوت بوق
وهكذا يكون مت عاد إلى رؤيا صغيرة استقى منها أيضًا تعليمُ الرسل. وهناك شرّاح قالوا إن مت، مر، لو، عادوا إلى رؤيا قبل إزائيّة طويلة وأخذوا منها ما أخذوا. وقد يكون بولس عرف هذه الرؤيا من أجل 1 و2تس.

ج - التأويل
هذا القسم الباطني الواسع يقدّم لنا يسوع مثل رائي المستقبل الاسكاتولوجي. غير أن هذا ليس بجديد: فعبْر متّى، يتنبّأ يسوع عن الأشياء الأخيرة. ولكن ف 24 وف 25 يكرّران أمورًا عديدة ذُكرت من قبل: الأنبياء الكذبة (7: 15-23). اضطهاد التلاميذ (10: 21-39). مجيء ابن الانسان (16: 27). حصاد الملائكة (13: 49). هناك تكرار، بل أمور جديدة وإيضاح.
هناك أمور عن زمن النهاية لم يتطرّق لها الانجيليّ، مثلاً القيامة أو حالة الأبرار. فاكتفى بما يلي: قدّم خبر المسيح في نظرة شاملة. تحدّث مسبقًا عن آلام المسيحيين بحيث يستطيعون أن يتحمّلوها. غذّى الرجاء فبيّن أن المستقبل الخيّر سيأتي بعد حاضر رديء. شجّع المسيحيين على الجهاد في وجه القنوط.
وعبر هذه الأمور العموميّة، تبقى عدد من الآيات موضوع جدال، وكذلك مدلول النص ومرجعه (يعود هذا الوضع إلى غياب جواب مباشر على سؤال آ 2 حول الهيكل. وهذا الغياب ورثه مت من نص مر). هناك مقاربة تقول إن مت 24 مليء بالنبوءة. وقال آخر، إن آ 3-35 تتطرّق إلى أحداث تدور حول دمار أورشليم الذي حدث في ((جيل)) يسوع (آ 36ي) مع المجيء الذي ظلّ تاريخه مجهولاً. لا نتوقّف عند أحداث سنة 70 ب م فقط. فهناك عدد من التوازيات اليهودية والمسيحية ولا سيّما في مت. ارتباط هذا الكلام بدانيال. غياب إشارة واضحة ترفض الوجهة الاسكاتولوجيّة. أما عبارة ((أو في السبت)) (آ 20) فقد وُضعت فيما بعد لكي تربط الأحداث بالعالم اليهوديّ.
بعد رأي يتوقّف عند العالم اليهودي، هناك رأي آخر يعتبر أن ف 24 هو إسكاتولوجيّ كله. بسبب طبيعة اللغة. بسبب وحدة الخطبة التي تمنعنا من التطلّع إلى أكثر من حدث. بسبب ((في الأثر)) التي نقرأها في آ 29. فلو كتب مت بعد سنة 70، لما كان قال إن المجيء يأتي حالاً بعد دمار الهيكل، وهذا ما يجعل الصورة عن دماره في آ 15 ي غير معقولة. نجيب على هذا القول بأن الحدث تمَّ في الماضي وقد عرفه الجميع. وإن مت ترك النهاية الاخباريّة معلّقة.
ونزيد نقطة ثالثة. يقول الشرّاح: إن كان مت كتب بعد سنة 70، فيجب أن تتمّ النبوءة حول دمار الهيكل. غير أن آ 15 تتضمّن أن الهيكل ما زال يلعب دورًا في التاربخ. هل انتظر متى، شأنه شأن عدد من اليهود القدامى (رسالة برنابا 16: 3-4) أن الهيكل سيُعاد بناؤه ثم يدمّر من جديد قبل النهاية؟ ويمكن أن يكون قد أخذ نبوءة يسوع بشكل حرفيّ فعرف أن الهيكل لم يدمَّر كله. فقبل سنة 135 كان اليهود يذهبون إلى الهيكل (وإن كانت شعائر العبادة فيه قد توقّفت) ويحجّون هناك.
وهناك رأي ثالث يقول إن مت 24 يشير إلى دمار أورشليم وإلى المجيء، وقد جعل الامرين متداخلين في متتالية واحدة. هناك ((اليهودية)) (آ 15). و((على الأثر)) (آ 29). في آ 34: ((هذا الجيل)). وقبل ذلك ((هذه الأشياء)). وهناك رأي رابع تحدّث عن دمار أورشليم سنة 70 ونهاية العالم. قال افرام في تفسير الدياتسارون (18: 14): ((تحدّث يسوع عن عقاب أورشليم، وفي الوقت عينه عاد إلى نهاية العالم)). وهنا نعود إلى المدرسة الانطاكيّة التي تعتبر أن العهد القديم يتحدّث عن شيئين في الوقت عينه. هناك انطلاق من دمار أورشليم، ووصول إلى نهاية العالم. نحن هنا على مستوى قراءة تعود إلى زمن ما بعد الفصح. فالخطبة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل. فما حصل سيظلّ يحصل. وسرّ الاثم ما زال يعمل (2تس 2: 7). فسواء ارتبط دمار أورشليم بما في آ 15 ي أو المضايق، فهذا ما لا نعرفه بالتأكيد. ولكن أن يكون الحديث عمّا حصل سنة 70 فهذا لا يستنفد مدلول آ 15 ي التي تتطلّع إلى الأحداث الاسكاتولوجيّة الآتية. وهكذا سيكون الجواب على سؤال التلاميذ في آ 3 كما يلي: سيدمّر الهيكل في ضيق الأيام الأخيرة التي تبدأ في المجيء الأول وتنتهي في المجيء الثاني. وبعد ذلك يأتي ضيق النهاية الذي لا نعرف زمانه.

د - تفسير الايات (24: 1-36)
أولاً: دمار الهيكل (آ 1-2)
تبدأ الخطبة بقول يتكوّن من الوضع، من ملاحظة التلاميذ، من جواب يسوع بشكل نبوءة. بالنسبة إلى القرّاء الذين عاشوا بعد سنة 70، فقد وجدوا في كلام بسوع تتمّة النبوءة. وهكذا يستطيعون أن يثقوا بالمستقبل.
دخل يسوع إلى الهيكل في 21: 23. وهكذا كل ما حصل في 21: 23-23: 29، قد حصل فيه. وتبديل المكان الآن يدلّ على أننا أمام شيء جديد. سيكون السامعون قلائل، ولكن الموضوع هو هو (رج 13: 1-2، 36). تنبّأ يسوع (آ 2) عن نهاية الهيكل (رج 26: 61؛ 27: 40). هذا يعني أن النبوءة تمّت بالنسبة إلى القارئ الذي عرف أحداث سنة 70 ب م. هذا الاعلان لا يعارض شرعيّة العبادة في الهيكل. فالأنبياء أيضًا قد هاجموا الهيكل دون أن يهاجموا البنتاتوكس وما فيه من شرائع موسويّة. فنحن لسنا أمام رذل لنظام أسّسه الله، بل أمام كارثة سبّبتها خطيئةُ البشر (ولا سيّما ملك أورشليم). وهكذا نقول عن دمار الهيكل: هو حكم الله على العاصمة.
ثانيًا: بداية الأوجاع (آ 3-8)
إن آ 3 التي تربط نبوءة دمار الهيكل بالخطبة الاسكاتولوجيّة، تفترض أن التلاميذ لا يعرفون متى يدمّر الهيكل ولا متى يعود يسوع. غير أن سؤالهم (رج 18: 1) يعني واقع الحدثين. وجاء جواب يسوع ووحيه بشكل غير مباشر (آ 4). أجاب عن ((متى)). ثم عن ((كيف)). ((كثيرون يأتون باسمي قائلين)). رج يوستينوس في الحوار مع تريفون (35)؛ رؤ بطرس (1: 2). إن القرنين الأول والثاني قد عرفا عددًا من الأنبياء الكذبة الذين تكلـّموا عن نهاية الأزمنة.
هنا نقابل بين آ 5 وآ 11 وآ 24
الفاعل: كثيرون (آ 5)
كثير من الأنبياء الكذبة (آ 11)
مسحاء كذبة وأنبياء كذبة (آ 24)
الفعل: يأتون (آ 5)
يقومون (آ 11)
يقومون (آ 24)
العمل: يقولون: أنا هو المسيح (آ 5)
يضلّون الكثيرين (آ 11)
يُجرون آيات عظيمة وخوارق (آ 24)
النتيجة: يضلّون الكثيرين (آ 5)
يضلون الكثيرين (آ 11)
يضلون المختارين (آ 24)
وهكذا يشدّد النص على الضلال الذي يتأتّى من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة. ((تسمعون بحروب وأخبار حروب)) (آ 6). لا نسرع فنتحدّث هنا عن أمور اسكاتولوجيّة. فإن آ 7 تفسّر آ 6 في لغة بيبليّة اصطلاحيّة. وتماهي الكوارث السابقة مع ((بداية الأوجاع))، يجعل الضيق الاسكاتولوجي يمتدّ أبعد من الزمن. أما الوجهة العمليّة فهي الصبر والثبات.
ثالثًا: اضطهاد التلاميذ (آ 9-14)
بما أن مت استعمل فيما قبل مر 13: 9-13 في 10: 17-21، فهو يوجز هذا الآن، ويزيد بعض الأمور. إن تكرار حرف العطف عشر مرات في خمس آيات، يزيد قوّة البناء الدراماتيكي: لقد أخذت الأمور تتسارع. ونتيجة الاضطهاد الخارجي تطلُّ فوضى داخليّة. فالبغض الآتي من الخارج يولّد بُغضًا آتيًا من الداخل.
هنا نقرأ آ 10-12 حيث تبدو في تواز تام ثلاثة أمور: الجحود، الخيانة، الأنبياء الكذبة. وهكذا يسقط كثيرون. ويخون الواحد الآخر. ويبغض الواحد الآخر. ويقوم عدد كبير من الأنبياء الكذبة، ويضلّون كثيرين. ولكثرة الاثم تبرد المحبّة عند كثيرين.
المحبّة والشر (أو اللاشريعة) (أنوميا) يتناقضان (آ 12). فالحب يملأ الشريعة (نوموس). والحبّ يحتمل كل شيء (آ 13) كما قال بولس في 1كور 13: 7. إن الرسالة المسيحية تنتمي إلى الاسكاتولوجيا. لذلك فجمع آ 13 مع آ 14 يُنتج فكرةً تقول إن الذين يقاسون الدينونة الاسكاتولوجيّة هم الحاملون الامناء لانجيل الملكوت. ((انجيل الملكوت (= كلمة الملكوت، 13: 19): ما كرز به يسوع. وما كُرز به في شأن يسوع. هو ما يُسمع في العالم كله قبل أن تأتي النهاية فيهيّئ الدينونة الأخيرة (25: 31-46)
رابعًا: ذروة العذاب (آ 15-28)
نجد في هذه المقطوعة ثلاثة مواضيع: الرجاسة التي تدلّ على زمن الهرب (آ 15-20). تقصير زمن الضيق (آ 21-22). المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة. ((فإذا ما رأيتم رجاسة الخراب)) (آ 15). هذه الآية التي تبدو قريبة جدًا من السؤال حول الهيكل (آ 3)، تدلّ على منعطف دراماتيكي يتّخذ مدلولاً جديدًا بعد أن كان موضوعَ نبوءة. ((رجاسة الخراب)) هي سلسلة من الأحداث المريعة تصل بنا إلى نصيحة تقول: اهربوا. فكما في 10: 32، الهرب الاسكاتولوجي يوقفه مجيء ابن الانسان (آ 29). وتأتي آ 17 وتقول إن الهرب ضروريّ. فلا وقت لنا لنجمع ما نملك. هنا نتذكّر ما فعله التلاميذ في ف 10 وسرعة العبرانيين في تقليد الخروج (خر 12: 39). قد يكون الواحد في الحقل والآخر على السطح.عليهما كلاهما أن يهربا ولا ينظرا إلى الوراء مثل لوط (هنا نلاحظ التوازي بين آ 17 وآ 18). الهرب يعني السفر الذي يكون أسهل حين لا يكون هناك أطفال (الحبالى، المرضعات، آ 19).
((صلّوا لئلا يكون هربكم في الشتاء أو في السبت)) (آ 20). تدلّ هذه الآية على أننا لسنا أمام صورة تاريخيّة بل نبوءة اسكاتولوجيّة. فماذا تفيد الصلاة في حدث قد مضى. وتأتي آ 21 بشكل ملخّص. ومع آ 22 نفهم أن الله قصّر هذه الأيام لئلاّ يطول العذاب.رج سي 36: 8: ((عجّل اليوم وتذكّر الزمن المحدّد)). كما نقرأ في كتاب العاديّات البيبليّة: ((أُوصي السنين وآمر الأزمنة فتقصر)). وفي 2عز 2: 13: ((صلِّ لكي تكون أيامك قليلة، لكي تكون قصيرة))،
((إن قيل لكم: المسيح هو هنا...)) (آ 32). اعتبرت آ 23-24 وكأنهما تشيران إلى المسيح الدجّال (انتيكرست) كما قال يوحنا الذهبيّ الفم في عظاته حول مت 76: 2. هذا ((المسيح)) يحاول أن يجترح الآيات، شأنه شأن يسوع المسيح. ((لقد أخبرتكم)) (آ 25).
خامسًا: مجيء ابن الانسان (آ 29-31)
هذا المقطع ينهي خبر الضيق ويتحدّث عن المجيء في اللغة التقليديّة لظهورات العهد القديم. فمجيء يسوع هو مجيء مجد الله. الأفعال كلها هي في صيغة المضارع. بعد أن حرَّكت آ 28 عيوننا من الأرض إلى السماء، ها هي ترفعها إلى أعلى. هي رؤية تترك الضيق وتهيّئ الطريق للرجاء الذي يأتي من السماء. ((وعندئذ تظهر علامة ابن البشر)). إن آ 30 وآ 31 تشكّلان ذروة في ف 24. فمجيء ابن الانسان لا يكون في البريّة ولا في المخادع، بل سيشاهده الكون كله. هو يدعونا لكي ننظر إليه. حين يتراءى ابن الانسان في النهاية، سيعترف الكل بمن تعترف به الكنيسة. فله كل سلطان في السماء وعلى الأرض (28: 18).
((علامة ابن الانسان)) هي العلامة التي تقول إنه ابن الانسان، ابن الانسان الآتي. وقد تكون العلامة الصليب (كيرلس الاورشليمي، السلسلة 15: 22: يوحنا الذهبيّ الفم. عظات على مت 76: 3). وقد تكون نورًا عظيمًا (رؤ 21: 23-25؛ رج أش 60: 1-5). وقد تدلّ على ((راية)) من أجل الحرب الاسكاتولوجيّة.
((ويرسل ملائكته بالبوق العظيم)) (آ 31). ما نلاحظه هو غياب الله الآب. فابن الانسان يعمل بسلطته فيرسل ملائكته ليجمع المختارين من كل الأرض. وهكذا يرفع مت الجلالة الالهيّة لابن الانسان إلى أعلى المراقي. والنهاية السعيدة ستذكر الله الآب، ولكنها لا تلمّح إلى دينونة الأشرار ولا إلى قيامة الموتى. إن مجيء ابن الانسان لا يراه الجميع فقط. بل سسيمعه الجميع (البوق العظيم).
سادسًا: مثل التينة وزمن المجيء (آ 32-36)
هذا المثل القصير (آ 32-33) يعطينا صورة عن ظرف يدعو ظرفًا آخر، فيقابل هذه الصورة بمضمون ف 24: حين ترى كل هذه الأشياء، كل علامات آ 5ي، تكون النهاية (الانقضاء الذي صوِّر في آ 29ي) قريبة. وبعد أن يعطي يسوع المثل (آ 32) يطبّقه كما في 4 عز 8: 36-9: 2: ((أريتني الآن عددًا من الايات التي ستصنعها في الأزمنة الأخيرة، ولكن ما أريتني ما سوف تصنع بهم. أجابني وقال... حين ترى أن بعضًا من الآيات المعلنة قد مضت، تعلم أنه الوقت الذي فيه يزور العليّ العالم)). ((إعلموا أنه قريب، على الأبواب)). رج مر 13: 29؛ ق تك 4: 7؛ أش 13: 6 (يوم الرب قريب)؛ حز 30: 3 (اليوم قريب)؛ يوء 1: 15؛ 2: 1؛ صف 1: 7، 14؛ يع 5: 9 (الديّان واقف على الباب).
وتتحدّث آ 34-36 عن زمن المجيء ردًا على السؤال الذي طُرح في آ 3. يتحدّث النص عن ((هذا كله)) (بنتا توتا). فماذا تعني هذه العبارة؟
- كل هذه الأشياء تعود إلى دمار أورشليم الذي حصل في ((جيل)) يسوع.
- كل هذه الأشياء تعود إلى سيناريو اسكاتولوجي قرأناه في آ 4-31، فأعلن أن كل شيء قد حصل قبل أن يأتي ((جيل)) يسوع.
- عند آباء الكنيسة، الجيل هو الكنيسة التي لا تقوى عليها أبواب الجحيم.

الخاتمة
إن خطبة يسوع الكبرى في مت تتحدّث عن الاسكاتولوجيا، عن النهاية. هذا مع العلم أن خطب مت الأربع الأخرى (5-7، 10، 13، 18) تنتهي كلها في إطار اسكاتولوجيّ. ويفسّر مت 24 المسافة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني كزمن عذاب مسيحاني، كزمن يتميّز بغياب الربّ. ولكن 28: 16-20 (يعود إلى آخر الدهر ويعلن الرسالة إلى الأمم) يصوّر زمن الكنيسة كزمن حضور المسيح والتعزية التي تحملها قدرته. فهاتان الصورتان هما منظاران مختلفان لحقبة واحدة، وهما تعكسان مفارقة الخبرة المسيحيّة. يسوع هو الآن الربّ الحاضر الذي يوجّه السماء والأرض. ولكنه أيضًا المعلّم الغائب الذي يتيح تأخّرُه لقوّة الشرّ بأن تحرّك الضيق في العالم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM