الفصل الثاني :ابن الانسان في الأناجيل الازائيّة

 

الفصل الثاني

ابن الانسان في الأناجيل الازائيّة

إن لقب ابن الانسان السريّ، يقودنا إلى وعي يسوع لنفسه. وينحصر هذا اللقب في الاناجيل مع استثناءات ظاهرة في أع 7: 56 (رج لو 22: 69) ورؤ 1: 12؛ 14: 14 (تلميح الى دا). كما لا نجده إلاّ على شفتي يسوع (في يو 12: 34، يستعيد سؤال الجمع كلامَ الربّ). وهكذا نستطيع أن نقول ببعض اليقين إن المسيح كان أول من سمّى نفسه بهذا الاسم، وما سمّاه أحد. ساعة دُوّنت الأناجيل، جاءت ألقاب أخرى أكثر وضوحًا (الرب، ابن الله) فحلّت محلّ هذه العبارة القديمة ((ابن الانسان)) . وإن كان لقب ابن الانسان قد ظلّ حاضرًا بين أقوال يسوع، فلأن الانجيليين اعتبروه جزءًا من هذه الأقوال. فعلينا أن ندرك عبر الآثار القديمة في التقليد الرسوليّ شهادة الربّ على نفسه.
إذا توقفّنا عند مضمون النصوص وزّعنا الأقوال المتعلّقة بابن الانسان في ثلاث مجموعات. تجعلنا المجموعة الأولى في بداية حياة يسوع العلنيّة: يبدو ابن الانسان كائنًا خفيًا سريًا. ومع ذلك فهو ينعم بسلطات استثنائيّة. وفي المجموعة الثانية نجد الانباءات بآلام المسيح وتمجيده، كما يتماهى ابن الانسان مع عبد الله المتألِّم في أشعيا. وفي المجموعة الثالثة، يشكّل مجيء ابن الانسان المجيدُ النواة المركزيّة لعدد من الأقوال الاسكاتولوجيّة.
حين أراد يسوع أن يكشف سرّ شخصه، تبع هذه المراحل الثلاث. أما نحن فنأخذ الطريق المعاكسة. نبدأ بالمجموعة الثالثة التي هي قريبة من تقليد دانيال، مع صعوباتها على المستوى الأدبيّ واللاهوتي. بعد هذا، نرى كيف تتقاطع هذه الخطوط الثلاثة في مشهد شامل، هو مشهد الدينونة الأخيرة. وفي النهاية، نتطلّع إلي الوحدة العميقة التي تمثّل موضوع ابن الانسان في الانجيل.
1- مجيء ابن الانسان المجيد

أ - ابن الانسان أمام المجلس الأعلى (26: 64؛ مر 14: 62؛ لو 22: 69)
نبدأ مقالنا بنصّ مهمّ جدًا: إعلان يسوع أمام السنهدرين. ونهتمّ قبل كل شيء بشكله الأصلّي. فالنظرة إلى الإزائيّة الانجيلية، تكشف اختلافات واضحة بين الأناجيل الثلاثة. قال مت 26: 64: ((منذ الآن سترون ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة، وآتيًا على سحاب السماء)). ومر 14: 62: ((سترون ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا مع سحاب السماء)). ولو 22: 69: ((منذ الآن يكون ابن الانسان جالسًا عن يمين قدرة الله))
اشترك مت، مر، لو، في الحديث عن جلوس ابن الانسان عن يمين الله . وأوضح مت ولو أن هذا التمجيد سوف يتمّ قريبًا. وتحدّث مت ومر عن مجيء على (أو: مع) السحاب. لا يتحدّث لوقا عن هذا الحدث ويُلغي الرؤية: ((سترون ابن الانسان جالسًا))، صارت في لو: ((سيكون ابن الانسان جالسًا)). ينتج عن هذه المقابلة أن مت احتفظ لنا بالمحتوى الدقيق لكلام المسيح. بالمحتوى الأول حين يقدّم مع لوقا (ضد مرقس) التحديد الكرونولوجيّ، وحين يقدّم مع مرقس (ضد لوقا) الاعلانين حول رؤية الجلوس عن يمين الله والمجيء على السحاب.
ويبدو حسب التفسير المتعارف عليه، أن المسيح أعلن هنا مجيئه (باروسيا) أمام قضاته. ففي نهاية هذا الدهر، وحين يظهر بجانب الله كابن الانسان الذي ارتدى القدرة والعظمة، يتجلّى بشكل يفرض نفسه كالمسيح، على البشر، بل على الذين يحكمون عليه في هذه الساعة. غير أن هذا الشرح يصطدم بصعوبات خطيرة. فكيف يُبعد الحدثُ المعلن الآن إلى نهاية الأزمنة؟ لهذا يبدو بالأحرى أن يسوع يفكّر في إقامة قريبة لملكوته في هذا العالم. وهذا ما اختبره أصحاب المجلس الأعلى. جمع هذا الاعلان دا 7: 13 ومز، 11: 1، فصوّر بطريقة رمزيّة جلوس المسيح الملك على عرشه. سيجلس يسوع عن يمين الله في يوم قريب هو يوم تمجيده الفصحيّ. وفي سفر دانيال، يلي ظهورُ ابن الانسان على السحاب، مجيئَه إلى قديم الأيام لينال منه التنصيب الملكي، لا نزولَه على الأرض من أجل الدينونة التي جرت قبل ذاك الوقت.
((فجلس أهلُ القضاء، وفُتحت الأسفار وسُمع صوتُ الأقوال العظيمة التي ينطق بها القرن. وبينا كنت أرى، قُتل الحيوان، وتلف جسمُه، وجُعل وقودًا للنار. أما باقي الحيوانات فأزيل سلطانها، ولكنها أوتيت طول (مهلة) حياة إلى زمان ووقت. ورأيتُ في رؤى الليل، فاذا بمثل ابن الانسان آتيًا على سحاب السماء. فبلغ إلى القديم الأيام وقرِّب إلى أمامه. وأوتي سلطانًا ومجدًا وملكًا)) (دا 7: 10-14).
عبّر يسوع عن الفكرة عينها أمام المجلس الاعلى: سيقترب ابن الانسان من الله لينال منه السلطان على الكون. دلّ لوقا على تطوّر الفكرة الاسكاتولوجيّة. ألغى الإشارة إلى المجيء على السحاب المجيد من أجل نهاية الأزمنة.

ب - ابن الانسان في الرؤيا الازائيّة (24: 1-44؛ مر 13: 1- 37؛ لو 17: 22-3: 21: 1-36).
أولاً: مرقس ومتى
في صورة أولى تنبأ ابن الانسان كما أمام السنهدرين، عن ملكه المسيحانيّ على عالم يهودي قد خرب، وتضمّن التقليدُ اليهوديّ خطبتين حول ((الآخرة)) . قدّم متّى شميلة اسكاتولوجيّة فدمج معطيات مر 13 (رج لو 21) مع خطبة أخرى احتفظ بها وحده الانجيل الثالث (لو 17: 22-37). نستطيع أن نفهم مر 13 كله عن دمار أورشليم. ونقول الشيء عينه عن مت 24. ولكن الانجيل الأول الذي لا يعطي لفظة ((باروسيا)) معنى الحدث الاخير، نبّهنا في مقدّمته أنه يعتبر دمار أورشليم كمقدّمة لانقضاء العالم. ((قل لنا علامة مجيئك (باروسيا) ونهاية الأزمنة)) (24: 3). سنعود فيما بعد إلى معطيات لوقا.
ُبنيت خطبةُ مرقس الاسكاتولوجيّة بشكل دراما في ثلاثة فصول. في الفصل الاول، تبدو سلسلة الالام والكرازة بالانجيل في العالم الروماني، كأنها مقدّمة للعقاب أورشليم (آ 5-13): بداية المخاض، بداية آلام الولادة. وفي الفصل الثاني، يأتي الضيق الكبير للمدينة المقدّسة ودينونة الشعب اليهوديّ (في التاريخ). ومع ذلك تبقى بقيّة. يبقى هؤلاء (( المختارون)) الذين لأجلهم ((ستقصَّر)) المحنة (آ 14-23). في الفصل الثالث (آ 24-27) يظهر ابن الانسان في إطار تقليدي لانقلاب كونيّ.
نقرأ مر 13: 26-27: ((حينئذ يرون ابن الانسان آتيا في السحاب بقدرة عظيمة ومجد. وحينئذ يرسل الملائكة ليجمعوا مختاريه من الرياح الأربع، من أقصى الأرض إلى أقص السماء)) . وفي مت 24: 20-31: ((وحينئذ تظهر في السماء علامة ابن الانسان. وحينئذ تقرع الصدورَ كلُّ قبائل الأرض، ويرون ابن الانسان آتيا على سحاب السماء بقدرة ومجد. ويرسل ملائكته ببوق عظيم ليجمع مختاريه من أربع زوايا الأفق من طرف السماء إلى آخر)) .
أعلن يسوع مجيء ابن الانسان على السحاب في الوقت الذي يلي دمارَ أورشليم. لسنا هنا (عكس ما يقول عدد الشرّاح) أمام نبوءة عن المجيء الثاني. فكما في سفر دانيال، يأتي مجيء ملكوت الله بعد دينونة القوى المعادية. والحكم على اسرائيل يدلّ على إقامة الكنيسة وانتشارها فوق دمار العالم اليهوديّ. في هذا السياق، يعبّر تجمّعُ المختارين عن دخول اليهود المؤمنين إلى ملكوت الله . يبدو يسوع هنا صدى لموضوع بيبليّ هو موضوع تجمّع المشتّتين (تث 30: 4؛ زك 2: 10). تستعيد بقيّةُ اسرائيل وحدتها حين تجتمع، لا حول هيكل مدمّر، بل حول ابن الانسان الذي هو رئيس شعب الله الجديد.
وأضاف متّى حاشيتين أصيلتين على ما قيل عن المجيء على السحاب وعن تجمّع المختارين: ظهور علامة ابن الانسان في السماء، نواح قبائل الأرض. رأى بعض آباء الكنيسة في هذه العلامة صليب المسيح. لا شكّ في ذلك. ولكن العلامة روحيّة أكثر منها ماديّة، وهي تدلّ بالأحرى على شخص ابن الانسان. فيسوع يدلّ من خلال عمله في الكنيسة، أنه القائم من الموت وأنه المالك في السماء في المجد. حين ترى كلُّ قبائل الأرض هذا المشهد، تقرع الصدور، لا حدادًا أو يأسًا، بل توبة وارتدادًا كما يقول زك 12: 12. هذا الارتداد الجماعيّ يدلّ على انقطاع عن عالم الخطيئة القديم والدخول في الملكوت.
في المرحلة الثانية من دراما ((النهاية)) ، تحدّث مت عن ((باروسيا)) ابن الانسان بشكل يدعو إلى التفكير: ((فكما أن البرق يطلع من المشرق ويلمع حتى المغرب، كذلك يكون مجيء (باروسيا) ابن البشر)) (24: 27= لو 17: 24). لا يمكن أن يكون مجيء يسوع هذا موازيًا لظهوره على السحاب (24: 3)، لأن آ29 تدلّ في بنية الخطبة على انتقال إلى مرحلة جديدة، إلى الفصل الثالث من الدراما: ((وعلى الأثر، بعد ضيق تلك الأيام)). فالمجيء في آ 27 السابق للظهور على السحاب في آ 30 والمرتبط ((بالضيق العظيم)) (آ 31)، هو دينونة تمارَس تجاه أورشليم الخاطئة. وصورة البرق التي تتواتر في الصور البيبليّة عن دينونة الله (أش 29: 6؛ 30: 30؛ زك 9: 14؛ مز 97: 4)، تدلّ بوضوح على فجاءة ظهور ابن الانسان من أجل الانتقام.
ثانيًا: لوقا
إن النسخة اللوقاويّة للرؤيا الازائيّة (21: 1-36) تطرح سؤالاً صعبًا. نحسّ هنا أن المجيء على السحاب (آ 27) يرتبط بالدينونة الأخيرة التي تصيب البشريّة. وتمتدّ الكوارث في الأرض كلها (آ 27). وبين دمار أورشليم ومجيء ابن الانسان، تدخل حقبةٌ من الزمن غير محدودة يسمّيها الانجيلي (( زمن الأمم)) (آ 24).
أما الخطبة الاسكاتولوجيّة الأولى في لو 17: 22-37، فتُفهم كدينونة اسرائيل في التاريخ، أكثر من عودة المسيح في نهاية الأزمنة. وتوازي هذه الحقبةُ بين ثلاثة أوضاع مماثلة: يتكوّن كل وضع من سلسلة ((أيام)) تبلغ إلى ((يوم)) عصيب. انتهت أيام نوح في اليوم الذي فيه دخل إلى السفينة. وأيام لوط يوم خرج من سدوم. أمّا أيام ابن الانسان فتتمّ يوم يكشف عن نفسه. وأيام ابن الانسان تدلّ على زمن وجوده على الأرض. ويوم أزمة أورشليم، تطلّع التلاميذ بحنين إلى تلك الأزمنة (الأيام) السعيدة. ولكن عبثًا. فيوم ابن الانسان يفاجئ اليهود كالبرق بفجاءته وعنفه. غير أن هذه الدينونة لا تضرب الشعب بشكل اعتباطي وبدون تمييز. فالخاطئون ((يؤخذون)) في الضربة المدمِّرة. أما الابرياء ((فيُتركون)). وقبل كل هذا، يجب على ابن الانسان ان يتألّم كثيرًا ويُرذل من قبل هذا الجيل.
ونستطيع أن نفسرّ في المنظور عينه مثَل القاضي والأرملة (لو 18: 1-18) الذي يتوجّه إلى السامعين أنفسهم. فالأبرار المضايَقون الذين يحثّهم يسوع على الثبات في الصلاة, هم مسيحيّو فلسطين الذين ضايقهم اليهود اللامؤمنون. فقد اعتبروا أن دمار أورشليم هو نجاة حقيقيّة بالنسبة إليهم. والقول الاسكاتولوجي الأخير يرتبط بهذا القول: ((عندما يعود ابن الانسان، هل يجد إيمانًا على الأرض)) (لو 18: 8ب)؟ نقرّب هذا القول من إعلان متّى حول فتور في المحبّة (24: 12) يميّز ((نهاية)) أورشليم: ((من جرَّاء كثرة الاثم تبرد المحبّة عند الكثيرين)) .
ج - ابن الانسان حسب أقوال اسكاتولوجيّة متفرّقة
> بين أقوال متفرّقة حول مجيء ابن الانسان، هناك قول يرد في خطبة الرسالة (ف 10) رأى فيه بعضهم البرهان بأن يسوع اعتبر أن المجيء قريب جدًا. ((إذا اضطهدوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى أخرى فالحقّ أقول لكم: لن تتمّوا مدن اسرائيل حتّى يجيء إبن الانسان)) (آ 23). يفترض هذا القولُ حصرًا موقتًا للرسالة في اسرائيل حسب أمر الرب كما يورده مت 10: 5-6: ((لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل انطلقوا بالحريّ إلى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل)) .
كان اليهود أول من قُدِّم إليهم تعليم الانجيل. ولكن بما أنهم لم يؤمنوا، فسيخضعون لدينونة خاصة. أما في نظر جماعة فلسطين المسيحيّة، فمجيء ابن الانسان لبنتقم من الشعب اللامؤمن، سيكون لها خلاصًا ونجاة.
> وهناك قولان اسكاتولوجيان يسبقان التجلّي (16: 27-28؛ مر 8: 38- 9: 1؛ لو 9: 26-27). نقرأ مت 16: 27-28: ((إن ابن البشر سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وعندئذ يجازي كل أحد بسبب أعماله. فالحقّ أقول لكم: في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ابن البشر آتيًا مع ملكوته)). وفي مر 8: 38-9: 1 ((من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، يستحي به ابن الانسان حين يأتي في مجد أبيه مع ملائكته القديسين. وقال لهم: الحق أقول لكم: في القائمين هنا من لا يذوقون الموت قبل أن يروا ملكوت الله آتيًا يقوّة)). وفي لو 9: 26-27: ((من يستحي بي وبكلامي يستحي به ابن الانسان حين يأتي في مجده ومجد أبيه وملائكته القديسين. الحق أقول لكم: في القائمين هنا من لا يذوقون الموت قبل أن يروا ملكوت الله)).
جمع التقليدُ هنا قولين كانا منفصلين في الأصل، وهذا ما تدلّ عليه اللحمة في مر 9: 1 ((وقال لهم)) . يشير القول الأول في تدوينه الحاليّ إلى مجيء ابن الانسان الأخير. ولكننا سوف نرى أنه تحوّل بعض الشيء. ويتحدّث القول الثاني عن مجيء ملكوت الله (مر- لو) أو مجيء ابن الانسان (مت) الذي سيكون قريبًا جدًا بحيث يشهده عدد من الناس الحاضرين هنا. إن هذا النوع من التحديد الكرونولوجي يطبع بطابعه القول الثاني ويجعله في تواصل مع مت 10: 23؛ 24: 34 وز. فالمجيء المعلن يتوافق بدون شكّ مع إقامة الكنيسة ودمار أورشليم. حين ألغى لو من نصّ مر لفظة ((بقوّة)) ، أزال كل التباس: دلّ على الكنيسة بوضوح، كما دلّ على المجد الذي يُحفظ للمجيء الأخير. وفي مت عبارة ((رأى ملكوت الله)) صارت ((رأى ابن الانسان آتيًا مع ملكوته)). لقد مّيز الانجيل الأول بين ملكوت الابن وملكوت الآب. في ملكوت الابن يمتزج الزؤان مع الحنطة: ما زلنا في المرحلة الأرضيّة، مرحلة الملكوت الأولى. هو زمن الكنيسة والكرازة وأناة الله. وفي نهاية العالم، يُزيل المسيح ((كل الشكوك وفعلة الاثم))، ويُدخل المختارين في ملكوت الآب النهائي والسعيد: ((حينئذ يشعّ الابرار كالشمس في ملكوت أبيهم)) (13: 40-43؛ رج 25: 31-46؛ 1كور 15: 24).
> الاعلان الاسكاتولوجيّ الذي يسبق التجلّي، يقرّب بين مجيئين مختلفين لابن الانسان. هذا يعني أن التقليد الانجيلي جعل بعض التواصل بين حقبتين مميّزتين في إقامة ملكوت الله. وقد امتزج المنظوران في الرؤيا الازائيّة، دمار أورشليم ونهاية العالم، فعبّر هذا المزج عن حقيقة لاهوتيّة عميقة. وقد نجد نفوسنا بعض المرات أمام قول يصعب علينا تحديد معناه. نقرأ في مت 19: 28: ((الحقّ أقول لكم: أنتم الذين تبعتموني في يوم التجديد، ساعة يجلس ابن الانسان على عرشه، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر عرشًا لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر)). وفي 22: 20: ((تأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي، وتجلسون على عروش لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر)).
في لو نفهم الوعد في منظور كنسيّ للخطبة بعد العشاء السري. إذن، هو يشير الى التدبير الروحي الذي يقوم به الاثنا عشر في اسرائيل الجديد. أما في مت، فمدلول القول أقلّ وضوحًا: سيُضمّ الرسل الاثنا عشر إلى ابن الانسان، من أجل دينونة تتمّ في المجيء، أو من أجل تدبير شعب الله الجديد، لأن فعل ((دان، قضى)) يعني أيضًا دبّر، كما في سفر القضاة. وفي أي حال، يقاسم الاثنا عشر ابن الانسان امتيازاته. هي فكرة سنعود إليها أيضًا.

د - استنتاجات
> الاول. دلّ إعلان يسوع أمام السنهدرين، والخطبة الاسكاتولوجية، دلالة واضحة، على اصل لقب الابن الانسان كما نجده في الاناجيل. إن المجيء على السحاب يعود بنا إلى دا 7.
> مع أن القول الاخير جعلنا نستشفّ امتدادًا جماعيًا لامتيازات ابن الانسان، فإن يسوع استعاد عبارة دانيال وأعطاها مدلولاً فرديًا كما في التقليد اليهودي (أخنوخ، 4 عزرا) .
> كان اهتمام يسوع الرئيسي مجيئه بقوّة كابن الانسان ليدين أورشليم في التاريخ ويدشّن الملكوت بقيامته وبالكنيسة.
> استعادت الجماعة الأولى الطابع الاسكاتولوجيّ لانباءات مجيء ابن الانسان، وأعطتها قوّة جديدة: طبّقت على المجيء (باروسيا) نصوصًا انطبقت أولا على انتصار يسوع الفصحيّ، في كل مداه التاريخيّ واللاهوتيّ. ولنا مثال عن هذه الطريقة في قراءة جديدة للرؤيا الازائيّة في منظور نهاية الأزمنة.

2 - ابن الانسان وعبدالله المتألم
نبدأ هنا فنعالج سلسلة ثانية من النصوص تربط بلقب ابن الله مضمونًا لا نجده في سفر دانيال والتقليد الجليانيّ: على الغالب الآتي من عند الله أن يمرّ في الذلّ والموت قبل أن يدخل في المجد .
بعد اعتراف قيصريّة فيلبس، دشّن يسوع تعليمًا جديدًا: على ابن الانسان أن يحقّق برنامج عبد يهوه كما في نبوءة اشعيا. ((ومنذئذ شرع يسوع يبيّن لتلاميذه أنه ينبغي له أن يمضي إلى أورشليم، ويتعذّب كثيرًا من قبل الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يُقتل، وأن يقوم في اليوم الثالث)) (16: 21).
في الأناجيل الازائيّة الثلاثة تبرز الانباءات الثلاثة بالحاش والقيامة بروزا خاصًا. رج مت 16: 21 (مر 8: 31-32؛ لو 9: 22)؛ 17: 22-23 (مر 9: 35-32؛ لو 9: 43 ب-45)؛ 10: 17-19 (مر 20: 32-34؛ لو 18: 31-34). ونجد صدى لهذه الانباءات في أقوال مشابهة ولكنها موجزة: في خبر الحاش والآلام (26: 2؛ 26: 45؛ مر 14: 41)، أو خارج هذا الخبر (17: 9-13؛ مر9: 9-11؛ لو 17: 25). فرغم اختلاف في التعبير، عبرّت كلُّ هذه النصوص عن فكرة مماثلة. كما دلّت على ارتباط حرفيّ أو معنوي بنبوءة أش 53 حول آلام عبد يهوه ومجده. ففعل ((أُسلم)) (17: 22 وز؛ 20: 18-19 وز؛ 26: 2) يعود صراحة إلى أش 53: 6: ((أسلمه الرب بسبب خطايانا)). وإلى 53: 12: ((أُسلمت نفسه إلى الموت)). إن مسيرة ابن الانسان كما صوّرتها انباءات الحاش (= الالام)، تتكوّن حسب مصير عبد يهوه: الذلّ، الموت، العودة إلى الحياة. نلاحظ هنا أن انباءات يسوع الثلاثة قد توضّحت في الكرازة المسيحيّة وأعيدت قراءاتها على ضوء أحداث الحاش والآلام (مثلاً، الاشارة إلى الصلب في 20: 19).
ونلاحظ أيضًا أن يسوع يقدّم هذه الانباءات المرعبة عبر لقب ابن الانسان. فيكشف لتلاميذه أن ضرورة حقيقيّة تفرض نفسها عليه بسبب قصد الله : ((ينبغي على ابن الانسان أن يتعذّب كثيرًا)) (16: 21 وز). وقصدُ الله هذا قد قرأه يسوع في الكتب المقدسة. لهذا فهو يستطيع أن يسأل تلاميذه: ((كيف كُتب عن ابن الانسان أنه ينبغي له أن يتعذّب كثيرًا ويُحتقر)) (مر 9: 12 وز)؟ وتعود مقدّمة لوقا إلى الإنباء الثالث بالآلام، إلى قرار إلهي دوِّن في الكتب المقدّسة: ((ثم انفرد بالاثني عشر وقال لهم: ها نحن صاعدون إلى أورشليم فيتمّ كل ما كتبه الأنبياء عن ابن البشر)) (لو 18: 31).
غير أننا لا نجد مقطعًا واحدًا في العهد القديم يقول إن على ابن الانسان أن يتعذّب. وبما أن إنباءات الآلام هذه تقدّم بإلحاح سمات عبد يهوه، نستطيع أن نتساءل: لماذا قال يسوع ((كُتب عن ابن الانسان))، وما قال (وهذا أمر طبيعيّ): ((كُتب عن عبد يهوه)) ؟ جاء شرحان يقلّلان من غنى النصّ ونحن نرفضهما. انطلق الشرح الأول من الطابع الذي يتّخذه لقب ابن الانسان على شفتي يسوع فنفهم عبارة ((كُتب عن ابن الانسان)) في معنى باهت: ((كُتب عني)). وظنّ الشرحُ الثاني أن يسوع حين كشف نهاية مصيره المأساوي لمـَّح إلى ((الضعف)) الذي يرافق لقب ((ابن الانسان)) في الكتاب المقدس (أش 51: 12؛ أي 25: 6؛ عز 11: 4) وأكّد تضامنه مع البشر بشكل عام. في الواقع جعلت هذه الآلامُ وهذا الموت يسوع على حدة: لسنا أمام مجرّد مقاسمة الوضع البشريّ، بل أمام مصير حدّده الله وقبله يسوعُ بكلّ حرّيته. ونحن نفهم دومًا لقب ابن الانسان على ضوء دا 7، حتّى إن ارتبط بالذلّ والاتّضاع. ففي كتاب الرؤى اليهوديّة تتوافق إقامةُ ملكوت الله من أجل ((القديسين)) المضطهدين مع ظهور ابن الانسان. ثم إن يسوع لا يتكلّم عن الآلام إلاّ ليدلّ على النهاية المجيدة. وقيامته هي انتصار ملموس وساطع حازه من أجل شعب الله الجديد. وهذا ما يدلّ عليه الاعلان أمام المجلس الأعلى خلال المحاكمة.
وحين أعلن يسوع عن نفسه أنه ابن الانسان حتّى في آلامه، أكّد على هويّته كشخص مجيد (في سفر دانيال) وعبدالله المتألم (سفر أشعيا). هنا نلاحظ أن يسوع لم يتكلّم عن عبد يهوه، بل عن ابن الانسان. وهكذا حين أنبأ بآلام ابن الانسان السماويّ الذي شاهده دانيال، ضمّ أقوالاً مسيحانيّة من العهد القديم لا يمكن أن تتوافق في الظاهر. ونقول أيضًا: إن كان العالم اليهوديّ قد عرف فكرة مسيح متألم، فيستحيل علينا أن نبيّن ارتباط هذا الألم بصورة الانسان السماوي الآتي على سحاب السماء. نحن هنا أمام عمل جديد كل الجدّة قام به يسوع، حين جمع في وجدانه دعوتين تبدوان متناقضتين في الظاهر، فعبَّر عن وحدتهما في تعليمه وفي حياته.

ب - حياة ابن الانسان فدية (20: 28؛ مر 10: 45)
ويشير الانجيل إلى صورة عبد يهوه كما في اشعيا، في القول حول الفدية: ((ما جاء ابن الانسان ليُخدم، بل ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين)) فالملكوت الذي جاء المسيح يؤسّسه لا يستند إلى التسلّط والفوقيّة. فالأكبر بين التلاميذ هو خادم الاخوة وأوضعهم. وموقف المسيحيين هو امتداد لموقف المعلّم واقتداء به. وبدا يسوع كذلك الذي يخدم لأنه ابن الانسان. هذه الخدمة الطوعيّة تتّخذ شكلها الكامل حين يبذل حياته فدية عن الكثيرين الذين خضعوا لعبودية الخطيئة والموت. لا شكّ في أن يسوع تأمّل المعنى العميق لنشيد عبد الله الرابع. فلفظة ((كثيرين)) (بولوي) التي تدلّ في العالم الساميّ القديم على عدد كبير وغير محدّد، نقرأها خمس مرات في نشيد أشعيا (52: 14، 15؛ 53: 11، 12أ، 12ب). ويتحدّث النصّ عينه عن بذل الحياة من أجل البشر (53: 10-12). ولفظة ((لترون)) (فدية) تستعيد فكرة عميقة في أشعيا الثاني. وفي العشاء الأخير نجد تلميحات واضحة إلى عبد يهوه. فدم يسوع يُهرق (26: 28 وز) على مثال حياة عبد يهوه التي تُبذل (اش 53: 12). وإقامة العهد الجديد (26: 28وز) تُفهم على ضوء عهد سيناء (خر 24: 7-8) وأقوال إر 31: 8، كما تُفهم بالنسبة إلى عبد يهوه الذي كُلّف بحمل العهد إلى الامم (اش 42: 6؛ 49: 6-8).
ونزيد على هذه النصوص قولاً حول ابن الانسان، جعله مت 8: 20 في بداية رسالته، ولو 9: 58 بعد ذلك الوقت. جاء شخص ((رشّح)) نفسه للتلمذة في خُطى يسوع: ((يا معلم، أتبعك حيثما تذهب)). فأجاب يسوع: ((الثعالب لها أوجرة، وطيور السماء أوكار. أما ابن الانسان فليس له موضع يسند إليه رأسه)). هذا القول الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه يشدّد على فقر تحلّى به ابن الانسان خلال حياته على الأرض، أو على خطر يهدّد رسالته، يشكّل في الواقع رسمة سرّية عن الحاش والآلام. فلوظلّ يسوع في الناصرة كان له بيت يأوي إليه بدون شكّ. ولكن المصير الذي كان له، جعله متروكًا لا مكان له يبيت فيه.

د - استنتاجان
> إن التقاء فكرة ابن الانسان وفكرة عبد يهوه شكّل معطية أساسيّة في وجدان يسوع. لسنا هنا أمام موضوعين جُعل الواحدُ قرب الآخر: ففكرة عبدالله خضعت للقب ابن الانسان وانضمّت إليه. فدلّت على مضمون عمل ابن الانسان خلال حياته على الأرض. وسيكون الانتصار الموعود به ((للقديسين)) المضطهدين في سفر دانيال ثمرةَ ذبيحة الرئيس المخلّص.
> وارتدى لقب ابن الانسان رداء الضعف والاتّضاع، مع أنه عبّر في أصله الجلياني عن المجد والغلبة. غير أن القول حول الفدية يشير إلى أن خدمة يسوع وآلامه ليست وليد ضحيّة مفروضة من الخارج، بل هي جزء من حرّية ابن الله السامية. ما أراد ابن الانسان أن يكون متسلطًا. ولا كان عنده حاجة يريد أن يرضيها. بل هو جاء يمارس ملكه في التواضع والتضحية.

3 - سلطة ابن الانسان

أ - ابن الانسان الخفيّ
نحن هنا أمام وضع ابن الانسان بما فيه من مفارقة، في السلسلة الثالثة من النصوص التي تضمّ الاستعمالات الأولى للقب: بواسطة هذه التسمية، قدّم يسوع نفسه منذ بداية حياته العلنيّة ككائن خفيّ وسري، ولكنه ينعم بسلطات استئناثيّة. وهكذا دلّ لقبُ ابن الانسان دلالة ملموسة على المسيح الذي لا يتماهى مع الفكرة المسيحانيّة المعروفة لدى أناس جعلتهم في حيرة. كما أتاح هذا اللقب ليسوع أن يعلن بشكل خفر ووضيع كل ما سيكشفه شيئًا فشيئًا من رسالته وشخصه. فماذا فهم سامعوه الأولون حين سمّى نفسه هكذا؟ لا نستطيع ان نعطي جوابًا أكيدًا عن هذا السؤال. فقد بدت العبارة موازية ((للانسان الذي ترونه أمامكم)). وقد يكونون ظنّوا أن يسوع النبيّ (16: 14وز؛ 21: 11، 46؛ لو 7: 16) يستعيد تسمية أعطيت لحزقيال النبيّ (حز 2: 1، 8)
من جهة، يشير لقب ابن الانسان إلى موقف يسوع البشريّ وسط البشر في تعارض لافت مع تصرّف السابق وما فيه من تنسّك. غير أن اليهود بدوا كصبيان، رفضوا كل تجلّيات مخطّط حكمة الله. ((جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا إن فيه شيطانًا. وجاء ابن الانسان يأكل ويشرب، فقالوا هوذا انسان أكول شروب للخمر، يحبّ العشّارين والخطأة، إلا أن الحكمة تزكّت بأعمالها)) (مت 11: 18-19 = لو 7: 33-35).
انتهى اعلان يسوع باعتبار غريب يفتح أمامنا أفقًا غير متوقّع حول سرّ ابن الانسان: فيه تجلّت حكمة الله. لا شكّ في أن العلاقة بين يسوع والحكمة لم تبدو وثيقة (تزكّت الحكمة بجميع أبنائها، لو 7: 35). ولكن في مقاطع أخرى من التقليد الازائيّ نسب يسوع إلى نفسه دور الحكمة ولا سيّما في 11: 25-30 (القول اليوحناوي) حيث تستلهم علاقاتُ الآب والابن ونداء البشر إلى التلمذة، عبارات مأخوذة من الأدب الحكميّ.
ونقدّم تفسيرًا مشابهًا للقول حول التجديف على ابن الانسان: لا تقوم الخطيئة في خطأ حول ظاهرة ابن الانسان وما فيه من اتضاع، بل في انغلاق على النور الذي جعله الله حول مرسله. ((من تكلّم على ابن الانسان يُغفر له. أما من يتكلم على الروح القدس، فلا يُغفر له، لا في هذا الدهر ولا في الآتي)) (12: 30= لو 12: 10).
من أخطأ ضد ابن الانسان ولم يكتشف سرّه، يُغفر له. ولكن حين يدمّر ابن الانسان (وقد أعطي قدرة الروح القدس) بأعماله العجيبة مملكة إبليس، فمن يرفض أن ينفتح على النور يقترف خطيئة لا تُغفر. هو يرذل ما يقدمّه الله له، ويتجاهل ابن الانسان الذي يكشف في هذه الحالة سرّه ويقيم ملكوت الله. ((إن كنت بروح الله أخرج الشياطين فذلك أن ملكوت الله قد انتهى إليكم)) (12: 28).
ب - سلطة ابن الانسان الخفيّ
إن ابن الانسان، رغم وضاعة حاله الخفية التي تعذر ((التجديف)) عليه، قد بدأ يمارس سلطانًا (اكسوسيا) نُسب إلى الشخص المجيد الذي تحدّث عنه دانيال. فحين غفر يسوع للمخلّع خطاياه (9: 1-8؛ مر 2: 1-2؛ لو 5: 17-26)، بدا وكأنه جعل نفسه مكان الله . وإذ أراد أن يدّل على حقّه في أن يفعل ما فعل، شفى المريض بمعجزة عائدًا إلى صفته ابن الانسان: الشفاء العجائبيّ هو علامة تدلّ على ((أن ابن الانسان له سلطان به يغفر الخطايا على الأرض)) (9: 6؛ مر 2: 10؛ لو 5: 24). ويعود الشرح بشكل خفيّ إلى دا 7: 13-14. إن الشخص السماوي المذكور هنا يُسمّى ابن الانسان وينال السلطان (اكسوسيا). وسيعود يسوع إلى هذا المقطع بعد قيامته حين يعطي تلاميذه توصية بأن يحملوا الانجيل إلى العالم كله: ((أُعطي لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم)) (28: 18-19).
حين قال يسوع: إن لابن الانسان سلطانًا على الأرض بأن يغفر الخطايا، فعبارة ((على الأرض)) مهمّة جدًا، وهي تقابل بشكل ضمنيّ ((في السماء)): فابن الانسان يمارس على الارض سلطانًا يمتلكه في السماء. وهذا التقابل بين السماء والأرض يميّز الأدب الجلياني. فبفضل سلطان ابن الانسان، لم يبقَ ينبوع الغفران خفيًا في السماء، بل نزل على الأرض ليعطي البشر امكانيّة الحصول على نعمة الله بشكل أكيد.
في الانجيل الاول، ينتهي حدثُ المخلّع الذي غُفر له بعبارة أصيلة وُضعت في فم الجمع: ((ولدى هذا المنظر، استولى على الجموع خوف ومجّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا كهذا)) (9: 8؛ رج مر 2: 12؛ لو 5: 26). يكمن مرمى هذه العبارة في تعارض يقول: أعطي للبشر سلطانًا يخصّ الله. كتب متّى ما كتب بالنظر إلى قارئيه: فالجماعة المسيحيّة حلّت محلّ الجماهير اليهوديّة، فمجّدت الله لسلطان غفران الخطايا الذي يخصّ ابن الانسان، والذي انتقل به إلى رؤساء الكنيسة. وجاءت خاتمة حدث المخلّع صدى لقولين تفرّد الانجيل الأول فأوردهما. في القول الأول نجد وعدًا تلقّاه بطرس بشكل شخصي: ((أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماء)) (16: 19). والقول الثاني يتوجّه إلى مجموعة الرسل: ((كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء)) (18: 18).
إن سفر دانيال يشير إلى انتقال سلطات ابن الانسان: ((فالقديسون)) يقاسمون ابن الانسان امتيازاته. ((حين جاء القديم الأيام سُلّمت الدينونة إلى قدّيسي العلي، وجاء وقت امتلك فيه القديسون الملكوت)) (دا 7: 22؛ رج 7: 14؛ 7: 27).

ج - استنتاجان
> إن سمة التواضع التي نجدها في هذه النصوص، تدعونا إلى تفسير لقب ابن الانسان في معنى متعال. فيسوع هو كائن سماوي. ولكنه تجلّى في شكل بشريّ: وتسمية ابن الانسان تدلّ على هذه الوجهة او تلك، وذلك حسب المدلول الجلياني أو المعنى الاساسي لهذه التسمية. مثلُ هذا اللقب ساعد يسوع على ((تربية)) تلاميذه: هو المسيح الخفيّ الذي لا يستطيع أن يكشف سرّه إلاّ بعد الفصح والقيامة.
> والعودة إلى سلطان وُعد به ابن الانسان المجيد، يدعونا إلى اعتبار رسالة يسوع على الأرض، كاستباق لملكوت الله بانتظار تنصيبه ملكًا في سرّ الفصح والقيامة. فابن الانسان، بمجرّد حضوره على الأرض، يقيم الملكوت حوله ويجعله ملموسًا في شخصه.

4 - وحي مجد الانسان وألمه وسرّه في الدينونة الأخيرة (25: 30 -46)
بعد دراسة هذه السلاسل الثلاث من النصوص، نتفحّص مقطوعة الدينونة الأخيرة التي تشكّل تطوّرًا أدبيًا ملحوظًا وشميلة عميقة لمختلف وجهات لاهوت ابن الانسان. ففي هذا المشهد يتجلّى لنا سرُّ ابن الانسان، وسرّ شخص يسوع، في كل عمقه وعظمته كما في بساطته العجيبة .
أ - المسألة الأدبية
ان الشميلة الأدبيّة التى ألَّفها متّى (ف 24-25) تتضمّن ثلاث لوحات كبيرة: لوحة ((نهاية)) أورشليم، وانتصار يسوع في كنيسته (24: 1-44). ثم ثلاثة أمثال حول ((نهاية)) كل مسيحيّ بمفرده (ربّ البيت، العذارى العشر، الوزنات، 24: 45-25: 30). وأخيرًا لوحة ((نهاية العالم (25: 31-46) حين يأتي ابن الانسان لكي يدين البشريّة كلها. ((ومتى جاء ابن الانسان في مجده، وجميع الملائكة معه، حينئذ يجلس على عرش مجده وتُحشر لديه جميع الأمم)) (آ 31 -32).
هذه المقطوعة هي نتيجة عمل تدويني هام ينطلق من عناصر تعود إلى كرازة يسوع. في أساس هذا النصّ نجد موضوعين من مواضيع التقليد الانجيليّ. موضوع الراعي الذي يبدو بشكل مثَل نتصوّره كما يلي: ((يشبه ملكوت السماوات قطيعًا يجمعه الراعي. يميّز الخراف من الجداء: يجعل الخراف عن يمينه، والجداء عن يساره)) (آ 32-33). هذا المثل القصير حول الفصل الاسكاتولوجي، يشبه مثل الزؤان (13: 24-30) والشبكة (آ 47-48)، وهو يتركّز على مجيء ابن الانسان كالديّان السامي (آ ،31 ،32 ،34 ،41 46). ثم الحوار بين يسوع والبشر (آ 35-،40 42-45) يعود إلى يسوع (ما عدا بعض العناصر التدوينيّة). نجد ما يقابله في مر 9: 37 وز: ((من قبل واحدًا من هؤلاء الصغار باسمي إياي قد قبل)) . وفي مت 10: 42وز: ((ومن سقى أحد هؤلاء الصغار على أنه تلميذ لي، كأس ماء بارد فقط، فالحقّ أقول لكم إن أجره لن يضيع)). وفي لو 12: 8-9 وز: ((وأقول لكم: إن كل من يعترف بي قدّام الناس، يعترف به ابن الانسان قدام ملائكة الله . ومن ينكرني قدّام الناس، يُنكر أمام ملائكة الله)) .
حين نقرأ مقطوعة الدينونة الاخيرة تلفت انتباهنا آ 31 لأنها تُدخل بشكل واضح ابنَ الانسان في المثل. وإذا توقفنا عند لو 12: 8-9 نكتشف البُعد الاسكاتولوجي: حين تواجه البشرُ مع شخص المسيح، كانوا في حضرة الحدث الاسكاتولوجي. وردّة فعلهم أمامه لها نتائج أدبيّة، لأن الله قال فيه كلمته النهائيّة. واليوم الأخير ينعكس في حاضر رسالة ابن الانسان المسيحانيّة. أما مر 8: 38 فتضمّن توسّعًا يقول: يبقى الحاضرُ الوقتَ العصيب. والمجيء الاسكاتولوجيّ هو المجيء الثاني. أما مت 16: 27 فمثّل نهاية الحركة: خسر القول كل علاقة مباشرة برسالة المسيح على الأرض، وتوجّه الانتباه كله إلى الحدث العظيم، حدث المجيء الآتي.

ب - المنظور اللاهوتي
إن مشهد الدينونة هذا يؤثّر فينا حين نضعه في مسيرة الانجيل الاول: هو يشكّل تتمّة الشميلة الاسكاتولوجيّة وانفتاحًا عظيمًا على مجد ابن الانسان وعلى المصير (السعيد أو المأساوي) المحفوظ للبشر، قبل آلام ابن الانسان. هذا ما أعلنه يسوع أمام المجلس الأعلى: سيبدأ انتصاره حالاً بعد محاكمته.
إن موضوع ابن الانسان يشكّل قلب هذه المقطوعة (25: 31-46)، ويوحّد عناصرها. وتبرز وجهة المجد: فالمسيح يأتي في مجده، يرافقه الملائكة، فيمارس الدينونة التي هي وظيفة إلهيّة، شأنها شأن خلق العالم. لم يعد ابن الانسان الشاهد الذي يعترف بالبشر أو ينكرهم أمام أبيه، بل الديّان السامي بالذات. في سفر دانيال لم يظهر ابن الانسان إلاّ بعد الدينونة المنقّية. وأقرّ له كتاب أخنوخ بوظيفة الديّان. غير أن الشخص المسيحانيّ في هذا الكتاب المنحول، العائش في خفاء قرب الله، لم يكن له أن يعيش حياة على الأرض قبل أن يلعب دوره المجيد. أما في نصّ متّى، فالحضور الخفيّ للديّان السماوي في قلب البشريّة المتألمة، قد انكشف للأمم المجتمعة. وإذ ينتظر ابن الانسان ظهوره المجيد، فهو يعرف وجودًا (وحياة) من نوع خاص، حضورًا سريًا وخفيًا. كان حاضرًا بشكل سري في المعذّيين. في إخوته الجياع والعطاش والعراة والمرضى والسجناء. وحين يجيء الديّان السامي (ابن الانسان كما في دانيال وأخنوخ)، فهو يكشف لجميع الأمم المجتمعة عن يمينه ويساره سرًا ذات بُعد كونيّ. هذا الديّان الذي يظنّون أنهم يرونه للمرّة الاولى، قد التقوا به مرارًا خلال حياتهم كل يوم. ولن يعرفوا السرّ إلاّ متأخرين، ساعة تصيبهم الدينونة فيكونون عن اليمين أو عن اليسار.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM