الفصل الأول :التفسير اللاهوتيّ لوجه يسوع في انجيل متّى

الفصل الأول

التفسير اللاهوتيّ لوجه يسوع
في انجيل متّى

جرت العادة في خطّ التدوين النقدي أن يُنظر إلى الانجيليّ على أنه لاهوتيّ. هذا ما سنحاول أن نوضحه في هذه الدراسة فنبيّن كيف أن انجيل متّى يُبرز دور يسوع في الخلاص مُعيدًا تفسير التقليد. هي محاولة جديدة في الدراسات الكرستولوجيّة، لا تشدّد أولاً على مختلف الألقاب الكرستولوجيّة، بل على الطريقة التي بها عبّر خبرُ يسوع عن كرستولوجيّة الكاتب. والسمة الخاصة في مت، هي كرستولوجّية التواضع والوداعة، والأهمية الكبرى المعطاة ليسوع كالمعلّم المعلّم: بما أن الله هو الفاعل الحقيقيّ في الخبر الانجيلي، تحوّلت كرستولوجيّة متى إلى لاهوت سوتيريولوجي، إلى لاهوت تاريخ الخلاص.

1- كل انجيليّ لاهوتي
ينظر الشرّاح اليوم إلى كرستولوجيّة كل من الانجيليين كتعبير فرديّ لما يقوله الانجيلي. في الماضي، كان اهتمام بالاستعمال الخاص لمختلف الألقاب الكرستولوجيّة. ولكن لم يلفت الشرّاح نظرنا إلى كرستولوجيا غير مباشرة، أي دور يسوع اللاهوتي في طريقة سرد الخبر الانجيلي. ومع ذلك، فهذا الخبر هو الموضع البديهيّ لاكتشاف السمات الخاصة في مختلف الكرستولوجيات الانجيليّة.
أقدم شهادة نعرفها عن اهتمام بالطابع المميّز لكل من الانجيليين الأربعة، هو الاتجاه النقديّ في مدرسة توبنغن (المانيا) في القرن التاسع عشر، الذي حاول أن يكتشف مختلف ((الاحزاب)) خلف الأناجيل. لم يكن تشديدٌ أول على إدراك وجه يسوع، ولكن هذا تغطّى بمحاولات البحث عن حياة يسوع لبناء يسوع التاريخيّ كما كان حقًا. وهكذا اعتبروا السمات الخاصة بكل انجيلي (لأسباب لاهوتيّة أيضًا) على أنها قليلة الأهميّة. وهذا الموقف كان (أقلّه بشكل جزئيّ) صورة عن المقاربة النقدية في بداية القرن العشرين. لا شكّ في أنه كان من الاهميّة بمكان أن نكتشف عند كل انجيلي ما تركته فيه التقاليد، أي بالنسبة إلى يسوع التاريخيّ. ولكن مع التدوين النقدي الذي سيطر في منتصف القرن الحالي، تبدّل الوضعُ بسرعة، وبرز اهتمام مستقلّ وايجابي بالانجيليّ على أنه لاهوتي. هذا لا يعني أن كل شيء في الانجيل نأخذه على أنه موافق للاهوته الخاص. فمرقس أخذ مواد قديمة ولم يحوّلها في خطّته . ومثله متّى الذي انطلق ممّا كتبه مرقس، فأعاد كتابته وأضاف تقاليد تمثّل طبقات لاهوتيّة قديمة. في أي حال، يمكن أن ننظر إلى كل إنجيلي على أنه لاهوتيّ بنى خبره في خط لاهوت بدا متماسكًا أو أقل تماسكًا.
هذا التوسّع في تفسير الأناجيل ارتبط ارتباطًا وثيقًا باعتراف متنام بأن ما يقف أمامنا هو اللاهوت. لهذا يستحيل علينا أن نتحوّل إلى طبقة لالاهوتيّة. فالمؤوّل الواعي للوجهة التاريخية، لا يستطيع أن يجهل الانطلاقة التاريخيّة أي يسوع الناصريّ. ولكن ما نجده في الأناجيل كمدلول يسوع من أجل الخلاص يرتبط في أي حال بالتفسير. ومع أن هذا التفسير في الاناجيل قد يجد أصله في موضوعه، إلاّ أن الانجيليّ يعتبره طريقة بناء لدور يسوع اللاهوتيّ. هذا يعني أن الوحدة المرتبطة بنقطة الانطلاق تصبح مجزّأة. فالتواصل واللاتواصل يصبحان في جدليّة لا نستطيع أن نتجنّبها. في هذا المجال يبدو من الواضح أن يسوع ((الارضيّ)) كما يصوّره الانجيليّ هو قبل كل شيء بناء لاهوتي تفرضه الحاجة إلى تعليم بسلطان ينتقل إلى المستوى الافقيّ، لا تواصل تقليد شفهي فقط. والظرف الذي يربط التقاليد الموجودة بأحداث مطبوعة بالطابع اللاهوتيّ، يبدّل طابعها بشكل حاسم.
إن ((مسيرة)) من هذا النوع، يجب أن تتكيّف مع متتالية كرونولوجية خارجيّة للاحداث، فتربط هذه الأحداث بماضٍ نستطيع أن نقترب منه عن طريق التقليد. فتحدّث بعضهم عن إدراك متّى لخبر يسوع على أنه ماض مقدّس. ولكن هذا التقليد وُجد بفضل تقبّل متواصل يشبه تفسيرًا خلاّقًا. فالتفسير يعني أن التقليد يرتبط ارتباطًا خاصًا بإحساس المفسّر بالواقع وبأفق القارئ. هذا يعني في وضع متّى، العالَم اليهوديّ وكتبه المقدّسة. فهذه الكتب تشكّل في نظر الانجيلي الخلفيّة التي نستطيع أن نقرأ عليها حياة يسوع وأعماله. وبعبارة أخرى، إن مدلول حياة يسوع وأعماله، يصبح بارزًا عبر تفسير خاص للعالم اليهوديّ وكتبه المقدّسة. في الماضي، اتّجه الشرح إلى النظر إلى يسوع كنتيجة انتظارات الكتب المقدّسة كما فُهمت في ذلك الزمان. وهكذا تجمّد يسوع في دور حدِّد له مسبقًا. مثل هذا الفهم للنصوص قد تخلّى عنه الشرّاح على حساب تقبّل حياة يسوع وأعماله كما أعاد الانجيلي تفسيرها، وتحويل محتوى الانتظار المسيحاني. التواصل هو واقع، وهو يشرح لماذا يجب أن نقيّم كل تفسير على اساس مضمونه الخاص.

2 - تاريخ البحث
سنة 1940، ظهر كتاب عنوانه: عمل الانجيلي الأول في تقديم صورة يسوع. بيّن الكاتب كيف أن موسى هو النموذج الأول ليسوع في انجيل متّى. ((المخلص الأول أعطى التوراة (في المعنى الحصري، أي الأسفار الخمسة)، والمخلّص الثاني أعطى توراته (أي شريعته) التي هي تذكير بالقديمة وامتداد لها. لقد تكونّت الكرستولوجيا المتّاوية هنا من مزج بين انتظار ابن الانسان الجليليّ وانتظار مسيح يهوذا كما في كتاب عزرا الرابع .
سنة 1960، كان كتاب ((يسوع في انجيل متّى)) أول محاولة تدوينيّة نقدية متكاملة لتكشف الطابع الخاص لوجه يسوع كما في متّى. لم يحصر الكاتب عمله في الالقاب الكرستولوجيّة التي وجدها في مت، بل ركّز مجهوده على مضمون أعمال يسوع وعلى مدلولها بالنسبة إلى الخلاص. قال في المقدمة: ينتج الخلاص بالنسبة إلى متّى من فهمه لأسرار أهداف الله الخلاصيّة ونشاطاته كما وصلت إلينا بواسطة يسوع الابن. من الايمان بيسوع كالمخلص الاسكاتولوجي. من مواقف من البرّ الداخلي والمحبّة. من أعمال الرحمة كتعبير عن روح الصلاح. ويدور فكرُ متى في هذا الموضوع حول أربع نقاط: فهم، آمن، كان، صنع. وهكذا نعود إلى أصل سلطة يسوع كما في مت، وهي سلطة ترتبط بالهويّة كحقّ باطنيّ وإمكانيّة ظاهرة: يمتلكها الواحد بسبب ما هو أو بسبب ما يصنعه آخر. مثل هذه السلطة ترافق الوضع الشخصيّ. وطبّق الكاتب هذه التقسيم على ثلاثة ألقاب كرستولوجية: المسيح، ابن الله، ابن الانسان. ويُعتبر هذا الأخيرُ اللقب الأهم (يسوع هو مسيح تدلّ عليه جزئيًا عبارة ((ابن الانسان)) ). هذا يعني وجود انتظار خاص لابن الانسان. وتُدرس سلطة يسوع في مجال المعرفة وفي مجال السلوك.
ويأتي الفصل الأخير كمحاولة لوضع يسوع المتّاوي في مسيحيّة القرن الأول. يسوع هو الانسان الاله، مرسل الله، الفادي الاسكاتولوجيّ (المسيح، ابن الله، ابن الانسان، عبد الله المتألم، موسى الجديد) الذي بحياته وموته وقيامته نجا الجنسُ البشريّ من عبوديّة الخطيئة. هو معطي شريعة (توراة) جديدة (مرتبطة بالقديمة، تفسّرها وتتمّها)، والاله الذي يدشّن ملكوت الله الآتي. معرفتنا له (من هو، ماذا قال، ماذا فعل، ماذا أراد أن يفعل ؟) وايماننا وتعلّقنا به (طاعة جذريّة لشريعته، اقتداء بأعماله وخدمته الـمُحبّة) ينتجان من قبول بواسطته في ملكوت السماوات الذي سيُقام في الحال.
وكانت محاولة ثالثة شدّدت على أن كرستولوجيّة ابن الله مسيطرة في متّى، وقد تحدّد مضمونُها بواسطة وصف الانجيل لأعمال يسوع.
سنة 1993، ظهر كتاب ((موسى الجديد: نمطيّة متّاوية )). فكان خطوة في اتجاه آخر رأيناه في عدد من المحاولات التي تتوقّف عند الالقاب الكرستولوجيّة. سبق هذا الكتاب عدّة محاولات لإبراز السمات الموسوية في وجه يسوع المتّاوي. غير أن هذا الكتاب صاغ الموضوع مبيّنا أن نمطيّة (تيبولوجيا) موسى قد انتشرت في الأدب اليهودي القديم الذي عرفه مدوّن الإنجيل الأول. نرى هذه النمطية الموسوية في خبر طفولة يسوع كما في سائر الانجيل. واللافت هو محاولة التركيز على أن أعمال يسوع هي تتمّة عطيّة الشريعة الموسويّة. ألَّف متّى كتابًا صار فيه موسى (مع أنه ظلّ معيارًا) رمزًا إلى من هو أكبر منه، وموعدًا ينتظر أن يتمّ، كتابًا صار فيه الخروج تاريخًا يستبق الاسكاتولوجيا. وهكذا صارت الكرستولوجيا جزءًا من فهم دور يسوع في الخلاص. صار دورُ الله هو الدور الأساسيّ. وصارت الشريعة المركز، على مثال ما يجب أن تكون الشريعة اليهودية. وصار يسوع ذاك الذي يعلن مشيئة الله بسلطة إلهيّة.
سبق هذا الكتاب محاولة جعْل الشريعة في قلب السوتيريولوجيا (الكلام عن الخلاص) المتّاويّة. فاعتبر الكاتب أن مضمون الكرستولوجيا المتّاوية هو الشريعة والخلاص والنعمة. (1) تأسّست السوتيويولوجيا على الشريعة. أما يسوع فهو الذي يحمل الخلاص حين يفسّر الشريعة، فتصبح الشريعة نفسها وسيلة فعاّلة للخلاص، لا نوعًا من التكفير البدلي. (2) إلا أن الخلاص ليس ((شريعيًا)) بمعنى أنه يرتبط بالشريعة، بل تُقابل وظيفتُه وظيفةَ النعمة كما في الرسائل البولسيّة.
وجاءت محاولة عن ((ابن الله الذي هو الشريعة المجسّدة في متّى)). فعرضتْ نمطيّة موسى التي طبّقت على التلاميذ، لا على يسوع. فيسوع الذي هو ابن الله الطائع كل الطاعة، هو آنيّة برّ الله. فليس في مت توراة في المعنى الحصري أو انجيل، ولا شريعة جديدة، ولا توراة تضاف إلى شريعة جديدة، بل هناك الخبر الطيّب (البشارة) بأن التوراة هي في يسوع، كطلب لبرّ الله، هي الآن حاضرة كلها وفاعلة، وأن في يسوع راحة لأن نيره ليّن وحمله خفيف (11: 30). وكان انطلاق من 11: 28- 30 للاشارة إلى الموازاة بين الحكمة والشريعة كما في سي 24: 23؛ با 4: 1: يسوع هو الشريعة التي صارت جسدًا. معه نصل إلى الحريّة الحقيقيّة.
وأخيرًا، اعتبر أحد الشرّاح أننا نرى في خبر يسوع المتاويّ خبر الجماعة المتأويّة، أي الكنيسة التي لها جذور تاريخيّة في حركة يسوع الفلسطينية، التي فشلت في رسالتها تجاه اسرائيل وخرجت (ربّما خلال الحرب اليهودية سنة 66-70) من فلسطين إلى سورية، والتي وجدت الآن واجبها الجديد المفروض عليها من قبل الله وهو الرسالة بين الأمم. لهذا يبدو فهم ((عمانوئيل)) أمرًا مهمًا. صارت ((تيولوجيا)) (دراسة الله) في انجيل متى ((كرستولوجيا)) (دراسة عن المسيح). فيسوع هو في انجيل متّى، الوجه الجديد والنهائي لله وسط شعبه. ان للكرستولوجيا المتاوية الطابع السرديّ، والالقاب الكرستولوجية تقول لنا من كان يسوع. مجيئه هو تكلمة وتحويل الانتظارات المسيحانيّة في اسرائيل. وعلى ضوء هذا الادراك اعتر هذا الكاتب أن لقب ابن الله (لا لقب ابن الانسان ولا لقب ابن داود) هو الأساسيّ في الدرجة الأولى، لأنه يتضمّن البُعدين الافقيّ والعموديّ. لن نتوقّف عند لقب واحد. فالكرستولوجيا هي الخبر كله.
نستطيع أن نقول في خلاصة أولى، إن ما قيل في الاناجيل حول يسوع يعطي معنى أساسيًا لمختلف الألقاب الكرستولوجيّة. لقد خضعت نوعًا ما لتفسير متّى لدور يسوع السوتيريولوجّي. لهذا نتوقّف عند الكرستولوجيا ((اللامباشرة)) التي عبَّر عنها الانجيليّ على مستوي الفكر اللاهوتي أو في الخبر نفسه. فالتفسير اللاهوتي ليسوع كما نجده في متى ، يمتد في كرستولوجيّا لاهوتيّة وفي كرستولوجيا سرديَّة.
قد تتحرّك الكرستولوجيا على مستوى الخط العموديّ (فل 2: 6-11؛ كو 1: 15-20: 1تم 3: 16). أما الخط الأفقي فيقدّم سمات نبويّة. ففي أقسام مت السردية، تبدو الكرستولوجيا شبيهة بما قيل عن ايليا وأليشاع في 1 و 2 مل. ويصوَّر يسوعُ في مت أيضًا بالعودة إلى النبيّ (21: 11؛ رج 13: 57). وموضوع الوحي يعبَّر عنه، لا في الالقاب الكرستولوجيّة وحسب، بل في ألفاط تشير إلى تأثير أسفار الحكمة (11: 25-30). هذا يتوافق أيضًا مع تشديد متّى على يسوع المعلّم. لهذا تنتمي الالقاب إلى سياق الاعتراف الايمانيّ، فتعلن الشخص أنه مثلاً ابن الله (14: 33؛ 16: 17؛ 27: 54). الخبر وحده يستطيع أن يشير إلى هذا الضمون. رج أيضًا اعترفات غير مباشرة لا تحمل ألقابًا في عدد من الاجمالات حول أعمال يسوع (4: 23)، ومديح الشعب لإله اسرائيل كجواب على نشاط يسوع الشفائي (15: 31؛ رج 9: 8؛ في 5: 16 يعكس التلاميذ دور يسوع). إن نشاط يسوع ينتمي إلى الكرستولوجيا الحيّة، فتصوّره عاملاً وكارزًا في سيبل الله. وهكذا صار الخبر كرستولوجيًا.

2 - خبر يسوع المتاوي
منذ البداية، تدلّ سلسلة الأنساب (1: 1-17) على ضمّ هذه الكرستولوجيا إلى الخبر، كأنها جزء من ((بيبليا تُكتب من جديد)) (1 أخ 1-9)، فتجعل من يسوع تتّمة الخبر الذي انطلق مع ابراهيم وكانت ذروته الثانية داود. إن هذا الجزء من تاريخ خلاص الله لشعبه، الذي ارتبط حصرًا باسرائيل، قد وصل إلى ذروته وبالتالي إلى نهايته. ويعبّر متّى عن هذا الوضع (جزئيًا) بواسطة قول يسوع اللافت على أنه أرسل فقط إلى خراف اسرائيل الضالّة (15: 24؛ رج 10: 6)، وهو قول لا يُفهم على أنه أثر من ماضٍ مضى، بل بالأحرى عودة إلى رسالة شاملة تأتي بعد رفض اسرائيل للبشارة. يجب أن نقرأه في ارتباط مع مثَل العمّال اللامؤمنين في الكرم، ومثل عرس ابن الملك (21: 33-22: 14). وهكذا تمّ الوعد لإبراهيم: ((بك تتبارك جميع عشائر الأرض)) (تك 12: 2؛رج 18: 18؛ 22: 18). ويعبَّر عن هذا المنظور أيضًا في تحوّل لقب ((إبن داود)) (22: 41-45) الذي حلّ في المركز الثاني بالنسبة إلى لقب الرب (كيريوس).
وخبر الحبل البتوليّ يعلن في هذا السياق أن مولد يسوع هو تعبير عن إرادة الله الأخيرة كي يخلّص الخطاة. وهذا واضح من شرح اسم يسوع في 1: 21: ((لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم)). وكما سيتّضح هذا الأمر فيما بعد، فهو سيتمّ حين يعطي حياته فدية عن الكثيرين (20: 28). ودمه سيُسفك من أجل الكثيرين كغفران الخطايا (26: 28). وكما في يشوع العبريّ، الله هو الموضوع الخاص في عمل الخلاص هذا. ويتّضح أيضًا أن هذه التسمية فسِّرت على أنها تتمة الكلمة في أش 7: 14. لسنا في هذا الايراد الكتابي أمام برهان من الكتاب المقدس، بل أمام حدث يعرض المعنى العميق لكلمة من كلمات الكتاب. في هذا الإطار، يكون ما يتضمّنه اش 7: 14 موضوعًا له معناه: ((تسمّيه عمانوئيل أي إلهنا معنا)). يجب أن ننظر إلى هذا القول على أنه اعتراف ايمانيّ. فهناك سمة مسيطرة في مت تقول إن يسوع قد صوِّر على أنه الاله الحاضر مع شعبه. وكما برز هذا مرارًا، فنحن نجده عبر الكرستولوجيا المتاويّة منذ 1: 23 عبر 18: 20 (اذا اجتمع اثنان أو ثلاثة فأنا أكون في وسطهم) حتى 28: 18-20 حيث يقول يسوع القائم من الموت: ((أنا معكم كل الأيام، حتّى انقضاء الدهر)). ما حصل هنا، ليس أن يسوع هو الذي تجلّى انطلاقًا من وضع كانه في الانجيل (قال: ((كل شيء دُفع إليّ من أبي)) في 11: 27، وهذا القول يميّز الزمن الحاضر) ولا هو ذاك الآتي في المستقبل: بل ما قيل هو أنه مع شعبه حتى انقضاء الدهر. لهذا لا يحتاج حتى إلى الحديث عن الصعود الذي يدلّ على انفصال، على غياب. فالدور الذي لعبه الروح القدس في أع، قد اتّخذه المسيح الممجَّد الذي يصوَّر من جهة الحاضر في كل الذين أرسلهم وفي ((الصغار)) (10: 40-42؛ 18: 5؛ 25: 40، 45)، ومن جهة ثانية كذلك الذي سيأتي ويدعو كنيسته للحساب (25: 1-46). نحن هنا أمام تفسير متّاويّ خاص للايمان بالقيامة .
ونلاحظ أيضًا أن وصف المعمودية حيث يتقبّل يسوع روح الله (في الظاهر، يصبح المسيح والممسوح في تلك الساعة) ويُعلَن كابن الله، يتبعه خبر التجربة الذي يتوخّى أن يعلن الطريقة التي لا يكون فيها يسوع إبن الله. لقد تحوّل الضعف إلى تجرّد من قوّة تضبط كل شيء. نقابل هذا مع كلامه حين قُبض عليه: يستطيع أن يسأل 12 فرقة من الملائكة (26: 53). كل هذا لا يتنافى مع وحدته بالله. لهذا السبب، وبالنسبة إلي القارئ، لا نستبق أيّة محاولة لفهم خاطئ للاعتراف بيسوع على أنه ((المسيح ابن الله الحيّ)) الذي أعطى الوحي الالهي إلى بطرس. في محاولة بطرس لابعاد يسوع عن الخطر، نرى الشيطان وهو يعمل (16: 23؛ رج 4: 10). يُفسَّر هذا على أنه طريقة تفكير بشرية تعارض ما يريده الله. فعمل يسوع ومصيره يحدّدهما سياق الاعتراف بالمسيح ابن الله، وليس طريقة أخرى.
وجواب يسوع إلى التلاميذ الذين أرسلهم يوحنا المعمدان سائلاً هل هو الآتي أم يجب أن ننتظر آخر، يريد أن يصحّح خطأ ما. فالفكرة الرئيسية في هذه المقطوعة، هي ((أعمال المسيح)) التي حدّدت ما قيل ليوحنا المعمدان فألهمت سؤاله (وهو سؤال يتوجّه إلى قرّاء مت في المستقبل) الذي يحتاج توضيحًا عن أعمال يسوع انطلاقًا من الكتب المقدّسة (نجده متضمَّنا في جواب يسوع). فالجواب هو مجموعة مواعيد نجدها في كتاب أشعيا، وقد تمّت في ما حدث حول يسوع. فزمن الخلاص قد جاء حقًا. وكما قال يسوع في تطويبة تجاه الذين لا يشكّون فيه، الموضوع موضوع إيمان. في هذا الإطار نلاحظ أن أعمال المسيح تضمّ كرازة الانجيل للفقراء. هي لا تضمّ فقط نشاط يسوع الشفائيّ، بل كرازته أيضًا وتعليمه. هذا يعني أن ((أعمال المسيح)) تضمّ عظة الجبل والمعجزات المذكورة في ف 8-9.
وتصحيحُ نظرة خاطئة إلى مسيح ممجّد، يبدو واضحًا في كروستولوجية الوداعة الخاصة بهذا الانجيلي. عاد متّى مرتين إلى يسوع ((الوديع)) (براوس)، وهذه اللفظة نجدها أيضًا مرّة أخرى في العهد الجديد، في التطويبة الثالثة (5: 5، طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض). المرة الأولى، نجد هذه الصفة في أقوال في صيغة المتكلّم (11: 29) تتوجّه لمن يريد أن يكون تلميذ يسوع: ((أنا وديع ومتواضع القلب)). وفي المرة الثانية نجدها في وصف ملك ابنة صهيون (في 21: 5، ملكك يأتيك وديعًا، راكبًا على جحش). هنا يصوَّر يسوع كذاك الذي لا يتوسّل القوّة، وهو موضوع نجده أيضًا في صلاته في الجسمانيّة (26: 39: 42) وفي الهزء بيسوع (على الصليب) الذي لا يستطيع أن يخلّص نفسه (27، 42). إن قدرته تحدّد كسلطة (اكسوسيا) يعترف بها فقط أولئك الذين لهم آذان للسماع. وكرستولوجية الوداعة تجد أيضًا عنها تعبيرًا في 12: 18-21، حيث يطبّق أش 42: 1-4 (أول أناشيد عبد يهوه) على يسوع الذي لم يرغب في أن يُعلن نشاطه الشفائي في كل مكان. ليس من قبيل الصدف أن يكون هذا الايراد الكتابي، وهو أطول إيراد نجده في مت، قد ارتبط بنصّ السبعينيّة ولا سيّما في آ4ب: ((وعلى اسمه تتّكل (تترجّى) الأمم)).
إن موضوع الضعف يُعتبر هامًا. وهذا يظهر من فكرة (يشدّد عليها مت تجاه مر) تقول إن مصير يسوع هو ذروة الاضطهاد الذي حدث لمرسلي الله الأولين، أي للانبياء. هذا واضح في مت 21: 33-45 وفي مر 12: 1-12، في مثَل الكرّامين القتلة. فالعلاقة المضطربة بين اسرائيل وأنبيائه، ظاهرة في نهاية ف 23 مع اتّهامات يسوع لرؤساء اليهود. غير أن هذا الموضوع نقرأه أيضًا في كلام اليهود حين يطلبون أن يكون دم يسوع عليهم وعلى أولادهم (رج إر 26: 11-19). إن تدوين المقطوعة حول حدث يوحنا المعمدان يشير إلى الشيء عينه، لا سيّما وأن الخبر صار أولاً خبر موت النبيّ (مت 14: 3-12؛ ق مر 6: 1-19). اختلف مت عن مر، فاستعمل الموضوع لكي يشرح لماذا يُوعظ الآن بالانجيل في شعوب العالم، بعد أن توجّه في الأصل إلى شعب إسرائيل وحده. فالاشارة إلى تسليم الملكوت لشعب يعطي ثمرًا (21: 43)، يتبعها مثل أعراس ابن الملك (22: 1-14)، حيث يُرسل الخدم في المرّة الثالثة ليدعوا الشعب في الطرقات العامة. نحن هنا أمام استباق لما سيفعله التلاميذ (الذين هم من أصل يهودي) الذين أرسلوا إلى العالم الوثنيّ (28: 18-20).
ونستشفّ صورة يسوع أيضًا في مقاطع تعود إلى يسوع الذي هو ((أعظم من)). فيقال في مت أن يسوع هو أعظم من الهيكل (12: 6)، أعظم من يونان (12: 41)، أعظم من سليمان (12: 42)، أعظم من داود (22: 41-46). رج أيضًا من قيل عن ابن الانسان الذي هو رب السبت (12: 8). يجب أن نقرأ هذه الكلمات في إطار نظرة إلى العالم بُنيت بناء تراتبيًا، ونرى محيطها الحياتيّ في قراءة للكتاب المقدس (العهد القديم) لإبراز ما يتعلّق بيسوع خلال الخدمة الليتورجيّة. فالقول بأن يسوع هو أعظم من الهيكل، يُقرأ مع شهادة شهود الزور في 26: 61 (رج 27: 40). وبحسبها قال يسوع: أقدر أن أدمّر هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام. ومع أن مدلول هذا القول غامض في مت، إلاّ أنه يبدو كنظرة روحيّة إلى الهيكل الجديد والمجيد، إلى الجماعة التي يقيم فيها يسوع.
وتوسّع مت في تفسير موت يسوع كتدشين للعهد الجديد. نجد هذا الموضوع أيضًا في مر. منذ البداية، بدت هذه الفكرة أساسيّة في تفسير علاقة يسوع بالخلاص الذي يصوَّر كتتمّة جديدة في تاريخ الخلاص، أنبأ بها إر 31: 32؛حز 11: 36 (ومواضع أخرى في العهد القديم). لقد صار موتُ يسوع الأساس التاريخيّ لكلام عن العهدين يجعل إرسال التلاميذ إلى الأمم ممكنًا، بعد أن تماهت هذه الأمم مع شعب الله. في هذا المجال، نلاحظ بشكل خاص أن تتمّة الشريعة صارت نتيجة الخلاص. فالروح الذي وحده يجعل الطاعة للشريعة ممكنة، يُعطى في المعموديّة، ومعها تحقيق البرّ الذي هو توافق مع إرادة الله، الذي يأتي من القلب (18: 35). في هذا السياق فقط نستطيع أن نفهم كرازة الشريعة في عظة الجبل كما هي في مت، لأن تتمة يسوع للشريعة والانبياء (في هذا الموضع) (5: 17) تدلّ على المضمون الحقيقيّ للشريعة.
ونتيجة هذا، إن مت 20: 28 قد أخذ قول مر 10: 45 الذي يقول إن ابن الانسان ما جاء ليخدم، بل ليُخدم ويبذل حياته فدية عن الآخرين. وفي الكلام حول تأسيس الافخارستيا، أبرز هذا الوضعَ حين قال إن دم يسوع يُهرق عن الكثيرين لغفران الخطايا. هذه الكلمات استعملها مر (بخلاف مت) وربطها بمعمودية يوحنا المعمدان وما عاد يكرّرها. في مت انضمّ القول عن الفدية إلى موضوع العهد الجديد الذي بحسبه صارت الطاعة الجديدة مرتبطة بخطيئة خسرت قوّتها. ذاك كان جزءًا من انتظارات العهد الجديد الذي فيه يزيل الله كل خطيئة (إر 31: 34؛ حز 11: 18؛ 18: 31؛ 26: 25؛ رج أش 59: 20؛ يوب 1: 22).

4 - المعلّم والتعليم
تبع مت مر فجعل من مفهوم السلطة (اكسوسيا) ذروة الصورة عن العلاقة بين يسوع وسامعيه (7: 29؛ 9: 6-8؛ 28: 18؛ رج 10: 1 حيث تنتقل السلطة إلي التلاميذ). فخبرة (أو عدم خبرة) سلطة يسوع هي التي تقرّر علاقتنا معه. وهذا واضح في 21: 23-27. فمع أن متّى تفرّد فجعل من القيامة حدثًا علنيًا (28: 11-15)، فهذا يشير إلى قساوة القلب لا إلى الايمان لدى السلطات اليهودية والرومانيّة. فهناك علاقة وثيقة بين سلطة يسوع والروح الذي هو ظاهر في هذا المقطع.
فتشديد متّى على تعليم يسوع يجب أن يُفهم في هذا السياق. فيسوع يظهر في مت كالمعلّم المعلّم (ديدسكالوس). ليس فقط بسبب خطبه. فهناك مقاطع أخرى تُبرز هذا الجزء من خدمة يسوع المسيحانيّة. والنتيجة تصوَّر في 11: 30 مع النير الليّن والحمل الخفيف. وفي 23: 10 يُقال السبب الذي لأجله لا يُسمّى التلاميذ معلّمين. فمعلّمهم واحد وهو المسيح (لفظة ((المسيح)) ترتبط بشكل مباشر مع تعليم يسوع). نحن نفهم بشكل ضمنيّ هذا ((الاحتكار)) في أن التلاميذ يكرّرون عمل يسوع في نشاطهم التعليمي (10: 40) الذي يتماهى مع القوة بالمنع والسماح، بالحلّ والربط (16: 19؛ 18: 18، سلطان المفاتيح).
وينعكس أيضًا التفسير اللاهوتيّ لوجه يسوع في الطريقة التي بها يتمثّل الانجيلُ دورَ التلاميذ في عمل الخلاص. هذا ينطبق بشكل خاص على أقوال حول التلاميذ الذين هم ملح الأرض ونور العالم (5: 13-16)، حول أبناء الملكوت الذين هم زرع صالح (13: 38)، حول إرسال التلاميذ (28: 18-20). في هذه المقاطع يعطى لهم دور يكونون فيه ممثّلين للمسيح. في 5: 13-16، يضيء نورهم أمام الناس، حين يرون أعمالهم الصالحة التي تمجّد الآب الذي في السماوات (5: 16). وحسب تفسير مثل الزؤان في الحنطة، يكون التلاميذ أكثر من حاملي شهادة لأعمال يسوع لدى البشر. فالزرع الطيّب يتوازى هنا مع أبناء الملكوت، لأن ابن الانسان الذي يزرع، ليس يسوع في دوره كحامل البشارة على هذه الأرض، بل الربّ الممجَّد كما نراه في 28: 18-20. في هذا المقطع الأخير يمثّل التلاميذ المسيح. وجوابًا على سؤال يقول كيف يكون الممجّد معهم حتى انقضاء الدهر، يقال أن ذاك يكون حين يحفظون ما أوصاهم به، أي حين يعيشون في الطاعة لسلطته .
هناك من قال إن كرستولوجيّة متّى مطبوعة بالطابع الخُلقيّ، وأن الأنجيلي الأول اهتمّ بالبعد الخلقيّ في سرّ يسوع. فالوجهة الخلقيّة حاضرة في أعمال يسوع من أجلنا كما عبَّر عنها في 5: 48: ((كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو)).
خاتمة
حين فسّر انجيلُ متّى وجه يسوع، بدا تفسيره لاهوتًا حقيقيًا. فإذا كان ((اللاهوت)) توضيحًا لما نعنيه حين نتحدث عن الله، فانجيل متّى هو لاهوت. فكل ما قيل فيه عن يسوع، قد قيل في الواقع عن الله وإرادته في خلاص الخطأة. وحين رسم الانجيل حياة يسوع ومصيره واستعاد كرازته وتعليمه، رأى في كل هذا وسمع إرادة الله. فيسوع هو رحمة الله المتجسّدة (رج فعل سبلنخنيزوماي، تحرّكت احشاؤه في 9: 36؛ 14: 14؛ 15: 32 ؛ 20: 34؛ رج 18: 27). وبالتالي، ما يطلبه الله هو الرحمة (9: 13؛ 12: 7). نحن في هذين الموضعين مع ايراد من هو 6: 6؛ نجد في 23: 32 إجمالة قصيرة (العدل والرحمة والأمانة). فاذا كانت الرحمة لا تولِّد الرحمة فهي لا تصل إلى القلب، فيجب أن تزول (18: 23-25؛ رج 6: 14-15).
في إطار هذه الكرستولوجيا تصبح التيولوجيا (درس عن الله) سوتيريولوجيا (درس عن الخلاص) تفسّر التشديد على واقع يقول بأن مضمون الشهادات النبوية يتحقّق عبر حياة يسوع. فنحن إنما نجد إرادة الله في حياة يسوع وفي أعماله. والاستشهادات الكتابية المرتبطة بالتتمّة لا مجال لها في برهان دفاعيّ مأخوذ من الكتب المقدسة. فما هو ظاهر معنا هو أن حياة يسوع صارت مثالاً من خلال ما تعنيه تتمّة الاقوال النبويّة. في هذا المجال نجد توازيًا مع معلّم البرّ في مخطوطات قمران الذي يصوَّر كذاك الذي أوحيت له أسرار الكتب المقدّسة، والذي تكوّنت جماعته بفضل معرفة هذه الاسرار والطاعة لها (تفسير حبقوق 7: 1-8). ولكن مع أن يسوع ظهر كذاك الذي يعظ (ويكشف في تعليمه) المعنى الحقيقيّ للكتب المقدّسة، فهو بنفسه ذاك الذي يحقّق هذا المدلول في حياته وفي مصيره. لقد صار في أعماله وفي مصيره واحدًا مع أقوال الله وأعماله. قد صار الله، وهو مع شعبه كل الأيام وحتى انقضاء الدهر .

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM