أحسن إليّ إكرامًا لاسمك
المزمور المئة والتاسع
1. المزمور المئة والتاسع هو مزمور توسّل فرديّ يشكو فيه المرتّل أمره إلى الله، ويستنزل على عدوِّه كل المصائب والضربات: لتكن أيامه قليلة.... ليكن بنوه يتامى وامرأته أرملة.... قاله شخص بريء اتّهمه الاعداء، فصار صلاة كل المضطهدين الطالبين في الهيكل ملجأ يحميهم من ملاحقة الاشرار الاقوياء الذين يطلبون نفوسهم.
2. متّهم بريء يشكو أمره إلى الرب ويستنزل على أعدائه العقاب.
آ 2- 5: صلاة توسّل يصوّر فيها المرتّل حاله أمام هجمات الاعداء، ويشكو إلى الرب أمره.
آ 6- 25: سلسلة من اللعنات يرسلها المرتّل إلى أعدائه، أو يردّدها كما سمعها من أعدائه.
آ 21- 27: صلاة وشكوى ثانية: لأن رحمتك صالحة أنقذني.
آ 28- 31: المرتّل يتأكّد أن خلاص الله قريب، وهو يستعدّ لذبيحة الشكر.
نحن أمام ضحيّة من ضحايا اتهامات كاذبة: مكر، كذب، وبغض. عاملهم بالخير فعاملوه بالشرّ. ثم يستنزل غضب الله عليهم بحسب رأي آخر. واللعنة لها مفعوله سحري على الأشخاص والاشياء. لا شكّ في أن دنّه الربط والحل، لهذا يسلم اللاعن تتميم ما في لعنته إلى الرب: تقصر أيامه، ويخسر مركزه، وثروته يأخذها المقرضون والغرباء، ويصبح أولاده يتامى وأرملته بحالة يرثى لها. لا يهتم به أحد من بعد، فينساه الناس والله (لا يغفر له)، ولا يعود له أمل في حياته. وهكذا يحصد ما زرع. وتبدأ الصلاة في آ 21: وأنت أيها الرب السيّد، أنظر إليّ أنا البائس لأجل اسمك. المرتّل بائس أحسّ حياته وصلت إلى التلاشي، وتائب متنسّك صار عرضة للسخرية بسبب وجهه الشاحب. ليتدخّل الله بسرعة، فيعرف العالم قدرة الرب، ويفرح المؤمن ويخزى الاعداء. وعندما يقف الرب بجانب المتهم وعن يمينه، فهذا يعني أنه أخذ قضيّته بيده وخلّصه من أيدي أعدائه. ولهذا يستعد المرتّل ليذبح ذبيحة الشكر.
3. أمام الله الساكت يهتف المرتّل ويرفع صوته، لأن أعداءه يرفعون الصوت عاليًا ويتّهمونه. أعداؤه اليوم كانوا أصحابه في الأمس، وقد صلّى من أجلهم كما فعل إرميا (18: 20): "أذكر أني وقفت أمامك لأتكلّم من أجلهم بالخير وأصرف عنهم غضبك". بعضهم أظهر عداوة خاصّة، لهذا طالب المرتّل أن يكون قصاصهم كبيرًا: سلِّم بنيهم إلى الجوع، وادفعهم إلى يد السيف. لتكن نساؤهم ثكالى وأرامل (إر 18: 21). هذا هو القصاص الذي وعد به الرب الذين يضيّقون على الضعفاء (خر 22: 23- 24)، وعليه سيزيد المرتّل أمورًا أخرى.
4. نحسّ بصدمة أمام هذه اللعنات نقرأها في هذا المزمور وفي سفر إرميا. فكيف نفهم هذه المقاطع في العهد القديم؟ نتصوّر حالة المرتّل وقد اتّهمه أصحابٌ قدامى، فالتفت في ضيقه إلى الله، الديّان الوحيد، وطلب منه أن ينزل بهم، حسب شريعة المثل، الضربات التي أرادوها له. هل نستطيع أن نقول إنه في معرض الدفاع عن النفس؟ أما استنزاله غضب الله بهذا العنف فهو يدلّ على شدّة الألم وقوّة العاطفة.
إن كلمات يسوع الني تدعونا إلى أن نحبّ أعداءنا تمنعنا من أن نصلي هذا المزمور بالمعنى الحرفي. قال القديس بولس: "لا تجازوا أحدًا شرًا بشر... لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل دعوا هذا لغضب الله" (روم 12: 17- 19). هذا فيما يتعلّق بالقسم الأول. أما القسم الثاني فلا مانع من تلاوته بلسان يسوع البار الذي اتّهم كذبًا فطلب من الآب أن يستجيبه. ولنتذكّر أن حالة الكنيسة لا تختلف عن حال معلمها وهو الذي قال: "إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه أبغضني قبل أن يبغضكم. لو كنتم من العالم لأحبَّ العالم من كان منه. ولكن أبغضكم العالم، لأنكم لستم منه" (يو 15: 18- 19).
5. تأمّل
حين نتلو المزمور 109 مع بعض الليتورجيات يوم جمعة الآلام، فلنفكّر بيسوع المسيح البار الذي اتَّهمه الشعب كذبًا، ولعنه مجلس الكهنة ولاحقوه ببغضهم أمام بيلاطس وحتى الصليب. ولنسمع بطريقة مسبقة: "ارفعه"، "اصلبه"، إنه مجدّف، إنه يستحق الموت. ولنسمع أيضًا: "الويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الانسان على يده" (لو 22: 22) أو "الذي سلّمني خطيئته أعظم" (يو 19: 11). إذًا نأخذ أمثولة الايمان والخشوع من أمثال وأقوال المعلّم في آلامه.
ونعي وعيًا أدق متطلّبات عدالة الله تجاه الاشرار المتصلِّبين، والنتائج الهائلة لخمر غضب الله (رؤ 14: 10). ونفكّر بالعقاب الذي أصاب الخادم الذي لا شفقة في قلبه. إن مَلكَ المثَل "أسلمه إلى المعذبين" (مت 18: 34). ونفكر بقساوة الحكم في الدينونة الاخيرة ضد الذين رفضوا أن يحترموا الآخرين ويخدموهم. "اذهبوا بعيدًا عني يا ملاعين إلى النار الابدية" (مت 25: 41). ولا ننسَ أبدًا الشريعة التي بحسبها ندان: "بالكيل الذين تكيلون به يكال لكم" (مت 7: 2). فرحمة الله لا تصل إلى القلوب التي لا تعرف الرحمة.
6 أ. "بدل المحبّة هزئوا بي". وزاد النبيّ: "أما أنا فصلّيت". لم يقل ما كانت صلاته. والمعقول أنه كان يصلّي من أجلهم. فعلى الصليب بشكل خاص هزئوا به حين عيّروه وكأنه قد هُزم. عند ذاك قال: "إغفر لهم يا أبت لأنهم لا يدرون ماذا يعملون" (لو 23: 34). ففي عمق شرّهم ردّوا على الخير بالشرّ. وهو في قمّة الصلاح ردّ على الشرّ بالخير. لا شكّ في أنه صلّى أيضًا من أجل تلاميذه، وهذا ما أعلنه قبل آلامه، لكي لا يضعف إيمانهم. وساعة كان معلّقًا على الصليب أعطاهم مثالاً عن الصلاح حين رفض أن يستعمل قدرته وسط التجاديف لكي يدمّر الذين يضحكون عليه. وحين أعطانا هذا الدرس في الصبر، أعطانا درسًا أفضل ممّا لو كان دمّر أعداءه: لكنا وجدنا فيه برهانًا لكي ننتقم بسرعة من الاشرار الذين يسيئون إلينا. مع أنه كُتب: "الصبر خير من القوّة" (أم 16: 32).
إن كلمات المزمور ومثال ربّنا تدلّنا على الطريق. "بدل المحبّة هزئوا بي. أما أنا فكنت أصلّي". حين نلتقي بناكري الجميل، بأولئك الذين لا يردّون الخير مقابل الخير، بل الشرّ، صلّى يسوع من أجل الآخرين، كما من أجل الذين يقسون على الآخرين، ومن أجل الذين يتألّمون وقد هُدِّدوا في إيمانهم. نصلّي أولاً من أجلنا لكي يعطينا عون الله أن نقهر قلبنا وهجمات البغض ضدّ الذين أساؤوا إلينا. ثم نتذكّر صبر المسيح: بعد أن نوقظ على البحيرة ذاك الذي نام في القارب وهدّأ عواصف ورياح قلبنا، نصلّي في هذا السلام المستعاد حتى لأجل أعدائنا. وهذا ما يجب علينا أن نفعل لنستطيع أن نقول: اغفر لنا كما نحن نغفر. ولكن الذي كان على الصليب لم يخطأ لكي نغفر له.
"حين يُدان ليُحكم عليه". أما هذه الكلمات فتطبق على يهوذا (يوضاس). ما أراد أن يكون ذاك الذي قيل له: "أدخل إلى فرح سيّدك". بل ذاك الذي قيل فيه: "إرموه في الظلمة البرّانيّة" (مت 25: 23- 30). "ولتُحسب صلاته خطيئة". فلا صلاة صادقة إلاّ بالمسيح. وهو قد باعه بجريمة نكراء. فالصلاة التي لا تمرّ بالمسيح لا تستطيع أن تمحو الخطيئة، بل تصبح هي نفسها خطيئة. ويمكننا أن نتساءل عن الوقت الذي فيه رفع يهوذا صلاة حُسبت له خطيئة. أظن قبل خيانته. فحين فكّر ببيع الربّ ما عاد يقدر أن يصلّي باسم المسيح. (أوغسطينس).
6 ب. نحتاج هنا إلى فطنة كبيرة، لأن هذه الكلمات ترمي بعض القلق في نفس الذين يسمعونها، إن اعتبروا فقط المعنى الناتج من مدلولها الأول والأدبي. فكل هذا المزمور مليء حتى نهايته باللعنات التي هي تعبير عن نفس تغلي وتشتعل غضبًا. نفس لا تكتفي بأن تنتقم، بل توسّع العقاب على الاولاد، على الأب وعلى الأمم. ماذا أقول؟ ضربة واحدة لا تكفي، بل هي تجمع الضربات بعضها فوق بعض.
انظروا تمنّيات الانتقام: "أعط الخاطئ أن يسيطر عليه، وليقف الشيطان عن يمينه". أي ليكن عرضة لكل الاتهامات، لكل المخطّطات الشريرة من قبل الناس الفاسدين، بحيث لا يستطيع أن ينتصر عليها. وإليك ما تعني هذه الكلمات: "حين يُدان فليُحكم عليه". ولكن هذا العقاب لا يكفيه. هو لا يكتفي بهذا الحكم فيطلب أن يليه حكم آخر في كرامته. "وليأخذ وظيفته آخر". هو لا يتوقّف هنا، بل يمنعه من الدخول إلى المرفأ الأمين الذي تُرك له، فيطلب من الله أن يغلق له أحشاء الرحمة، "بل لتصبح صلاته جريمة". ماذا أقول؟ بل هو يتمنّى له موتًا مبكرًا. "لتقصر أيامُه"...
هذه الشقاوات لا تُحتمل في حدّ ذاتها، ولكن غياب كل حماية تجعلها ثقيلة وثقيلة. "لا يرحم أحد أبناءه اليتامى". أيها الرب إلى أي حدّ وصل سخطه. فأبناؤه الذين صاروا يتامى، لن يجدوا نفسًا ترحمهم. بل هو يحدرهم إلى الموت الشنيع، يجعلهم للدمار. غضب كبير لا يعرف حدودًا...
هذا المزمور هو نبوءة في يهوذا (يوضاس). يعلن مسبقًا الشرور التي تصيبه. ويعني ثانيًا أولئك الذين يثورون على السلطة الكهنوتيّة. لقد توخّى أن يعرّفنا بالجرم الذي نقترفه حين نثور على سلطة الكهنوت الالهيّة، ونلجأ إلى الحيلة والشرّ... (يوحنا فم الذهب).