صلاة البائس في ضيقه

صلاة البائس في ضيقه
المزمور المئة والثاني

1. المزمور المئة والثاني هو مزمور توسّل ينشده المرتّل ليعبّر فيه عن ألمه العميق عندما يرى الضيق الذي يلمُّ به وبشعبه. يحمل المرتّل في قلبه ألم شعبه، ويجعل من ألمه الخاص نموذجًا لألم شعبه. ولهذا اعتبر المفسّرون هذا المزمور صلاة إنسان مريض يطلب الشفاء والخلاص، وهو يعرف أن خلاصه جزء من خلاص شعبه الذي يعيش في المنفى ويتهيَّأ للرجوع إلى بلاده. ولهذا يمكننا القول إن هذا المزمور كان صلاة فرديّة ثمّ اتّخذ طابعًا جماعيًا. من صلاة المؤمن الذي يعبِّر عن ألمه نصل إلى الشعب الذي يعيش ضيق المنفى وعذاب البعد عن الأرض.

2. الرب ملجأ البائسين والمتروكين.
آ 2- 3: توسّل ودعاء: يا رب استمع صلاتي.
آ 4- 12: شكوى مسكين مريض يطلب الشفاء من مرضه والخلاص من حالته.
آ 13- 23: شكوى الشعب المضطهد الذي يطلب الخلاص لصهيون ليرجع إليها.
آ 24- 29: توسّل جديد إلى الاله الازلي الذي سنوه لا تفنى: خلّص عبدك، خلّص شعبك.
نجد في هذا المزمور شكوى فرديّة ونشيدًا لاعادة بناء صهيون في إطار مزمور واحد.
- شكوى التائب: بعد المقدمة (آ 2- 3) يذكر التائب حالته قبل أن يعرض مشكلته على الرب. نحن أمام مريض أحرقته الحمى حتى العظام، فأخذ منه الضعف كل فأخذ، وتبخرت حياته كالدخان. يبس قلبه فنسي الطعام، ولكنه لم ينس الصراخ وقد بقي له الجلد والعظم. مريض يعيش وحده، وصوته يذهب في الفراغ كصوت البوم. ذهب عنه النوم فصار كالدوري المنفرد على السطح، ولا أصحاب له. أما أعداؤه فيعيِّرونه ويشتمونه. والمرتّل إذ يأكل الرماد ويشرب دموعه، يحس بأن قوّة سريّة ترميه إلى البعيد. زالت حياته كالمساء وكعشب الحقل. حياته قصيرة، أما حياة الله فلا حدود لها. ويفهم حينذاك أن إله العهد وحده يبقى، وكل شيء عابر والعالم كله ينهار. الرب وحده لا يزول، وهو لم يقل بعد كلمته الاخيرة: إنه سيبني أورشليم من جديد ويعيد إليها أبناءها.
- نشيد لبناء أورشليم: ينشد المزمور حدثًا يحسّ به المرتّل قريبًا. لقد أتت ساعة مخطّط إله العهد، وجاء الوقت الذي فيه يبيّن الله رأفته من أجل شعبه ومن أجل مدينته المقدسة. يحكي المرتّل عن صهيون، وكأن قضية الهيكل قد سوّيت والبناء قد تم. ويذكر تعلّق الاسرائيليين بحجارة صهيون، لأنه يرى عبر الخرائب المبنيّة من جديد، تجمّع الأمم الآتية لانشاد الله وخدمته، كما يخدم العبد سيّده والتابع مولاه. ويتوقّف النشيد (آ 16- 21) على عمل الله لمجد اسرائيل فتأخذ الأمم الدهشة. ويعلن المرتّل يقينًا لا يُزعزع: هذا مكتوب، وإن تأخَّر تحقيقه. يكفي أن الله سمع صراخ الاسرى، وأنه لن يترك أولاده بيد الموت. أما وقد بدأ الله فنجّى بعض الأفراد، فيكون خلاص كل شخص من المؤمنين مقدمة لخلاص الشعب كله ومجده.

3. يبدأ المرتّل بالتوسّل إلى الله، فيذكر الضيق الملمّ به، وكيف أن حياته تزول كالدخان، وعظامه تحترق كالنار، وجسمه ييبس كالعشب. وانطلاقًا من آ 13 لا يعود يذكر شقاءه، بل يتطلّع إلى شقاء صهيون وينتظر خلاصها من الرب. وفي آ 24 يعود إلى شقائه، ولكن الرجاء الواثق الذي في قلبه يحوّل شكواه إلى مديح لله وأزليّته. الرب لا يتغيّر حتى ولو انهارت السماوات. وسيكون الخلاص لشعبه ولكل أحبّائه.
الله سيبني صهيون. لقد جاءت ساعة النعمة، لأن الصلاة تجعل زمن النعمة قريبًا.
ويعلن المرتّل محبته لحجارة صهيون. وإعادةُ بناء صهيون تعني نهاية شقاء شعب وتجديد عهده. إن الرب هو السيّد، وهو يعطي الخلاص لشعبه ويعيد إليه الفرح. وكما كتب الله في الماضي خبر خلاص الشعب من مصر، سيكتب للأجيال الآتية خلاص أورشليم لتأتي إليه جميع الأمم فتخدمه وتعبده فيها.

4. نرى في هذا المزمور تعلّق المرتّل بشعبه ومدينته، وإيمانه الذي ينتظر الله أن يغمر صهيون بخيراته. هذه هي نفسيّته وعواطفه بالنسبة إلى شعبه وإلى مدينته التي بكاها عندما نظر إلى ما ستصير إليه من خراب. من جهة ثانية هذا المزمور هو أحد مزامير التوبة، وهو يشجّعنا في جهادنا ضد الخطيئة، ويعلّمنا أن نحتمل الحياة والموت مثل صاحب المزامير ومع يسوع، بالاتحاد مع شعب الله، ونتطلع إلى مستقبل الخلاص، الذي بدأ بنبوءات العهد القديم، وتمّ بشخص يسوع المسيح، بانتظار أن يظهر لعيوننا في نهاية الازمنة.

5 أ. قراءة إيمانيّة
هناك التشكّي الفرديّ والنشيد من أجل بناء أورشليم. قطعتان مستقلّتان ولكنهما جُمعتا بعد المنفى في إطار مسيرة من التوبة، فضمّتا الوجه الشخصيّ والوجه الوطنيّ.
لا نجد في هذا النصّ لفظتي "الخطيئة" و"الغفران". ومع ذلك، فالمصلّي هو مريض يلاحقه "الغضب" الالهيّ. يحسّ أن الله يعاقبه لخطيئة اقترفها. في الواقع، الله لا يعاقب بشكل مباشر، ولكن المؤمن يرى ما يحصل له من ظروف عقابًا من لدن الربّ.
نحن أمام مريض تحرقه الحمى حتى العظام. خسرت حياته كل قرار لها، فتبخّرت كالدخان. يبس قلبه في داخله فنسي الطعام، ولكنه ما نسي الصراخ. لهذا فهو يصرخ طالبًا النجدة بعد أن بقي له فقط الجلد والعظام.
مريض يعيش وحده. هو معزول. ابتعد عنه الأقارب والأصحاب. ويَضيع صراخُه في الفراغ مثل صراخ البوم والغراب. ما عاد يعرف النوم، فشبّه نفسه بعصفور متروك على سطح البيت. لا أصدقاء له، ولكن أعداء يعيّرونه ويلعنونه.
لا يتكلّم هذا المرتّل عن خطيئته، ولكنه يتحدّث عن نفسه وهو يأكل الخبز كالرماد، وهو يشرب دموعه كالماء. أحسّ أن قوّة سريّة لا تقاوم، قد أخذت به ورمته في البعيد. مالت حياته كالظلّ عند المساء، وذبل شبابه كالعشب في البريّة. وكل ما يطلبه في هذه الساعة: "أقول: إلهي لا تنتزعني وأنا في عزّ أيامي" (آ 25).
مرتّل يصلّي لا باسمه فحسب، بل باسم الجماعة. فخلاص كل فرد في داخل الجماعة هو استباق لخلاص الشعب والمجد الذي ينتظره ينتظر الأمّة كلّها. لا شكّ في أن هناك أسوارًا يعاد بناؤها. ولكن هناك تجمّع الأمم التي تأتي لتنشد الرب، تأتي لكي تخدمه كالسيّد الذي انتصر عليها. وهكذا نكون في خط زك 14: 16 ي: "ويجيء كلّ الباقين من جميع الأمم ويصعدون إلى أورشليم ليسجدوا للملك الربّ القدير".

5 ب. تأمّل
كيف لا نفكّر حين نقرأ هذا المزمور بذلك الذي صار البائس حبًا بالبشر؟ بذلك الذي لم يكن له بيت (لطيور السماء أعشاش أما ابن الانسان فليس له موضع يسند إليه رأسه. رج لو 9: 58)، فأحسّ منذ بداية حياته ببغض أعدائه وبالوحدة المفروضة عليه لأن تلاميذه لا يفهمونه (مت 16: 21- 23). بذلك الذي عرف أن مصير المدينة المقدسة يرتبط بمصره فأحسّ لذلك بألم عميق (لو 19: 14- 27، 41: 44)، والذي توسّل إلى الآب أن يبعد عنه الكأس (مر 14: 36). ولكنه سلّم أمره إلى أبيه، سلمه مصيره ومصير كنيسته.
العزلة وقصر الحياة واقعان من الوجود البشري يضاف إليهما كل شقاء الاجساد وكل تعاسة النفس فيزداد الالم ألمًا. هذه هي البوتقة للأفراد والجماعات (وللكنيسة أيضًا) فيعون أن لا خلاص في المحن إلاّ في العودة إلى الله. حين ينقصنا كل شيء فالله يبقى حاضرًا وهو يأتي إلى معونتنا. قال يسوع: "الزارع غير الحاصد. أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه. فغيركم تعب وأنتم تجنون ثمر تعبه" (يو 4: 37).
هي رؤية مهمّة أمام المسيحي الذي يطلب ضوءًا ليرى مصيره ويوجّه حياته. فيقول: أنعمْ علي يا رب أن لا أتصرّف مثل الوثني. بل أتعرّف فيك كمسيحي حقيقي إلى أبي والهي في أية حالة وُجدتُ. فتبديل حالي لا يغيّر حالك. فأنت أنت هو وأنا عرضة للتبدّل. وحين تحزن أو تعاقب فأنت لا تزال الله، وحين تعزّي وترحم فأنت الله أيضًا.

6. "التفت إلى صلاة المتواضعين وما احتقر توسّلاتهم". هذا ما يحدث الآن ساعة نبني صهيون: فالذين يشيّدونها يبكون وينتحبون. وهذا المسكين الذي يكلّم في المزمور، يفعل ما يفعله عدد من الفقراء. فهو وحده يمثّل الآلاف الذين جاؤوا من الأمم. إنه وحده سلام الكنيسة. إنه الوحيد الذي لا نستطيع أن نسمّيه. هو وحيد بوحدة المحبّة، ولا يُسمّى لأنه يرتبط بالجميع.
والآن نصلّي ونلحّ. فمن كانت له عواطف أخرى، فليأكل الرماد كالخبز وليمزج بالدموع شرابه. فما زال الوقت حاضرًا لأننا ما زلنا نبني. والحجارة تجد موضعها في بنية صهيون. حين يتمّ البناء، حين يدشَّن المسكن، فماذا تنفع السرعة؟ جاءت طلبتك متأخّرة، ما عاد لسلوكك من موضوع، وأنت تقرع الباب عبثًا. ستبقى خارجًا مع العذارى الخمس الجاهلات، إذن، أسرع الآن. (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM