يغفر ذنوبي ويشفى أمراضي

يغفر ذنوبي ويشفى أمراضي
المزمور المئة والثالث

1. المزمور المئة والثالث هو مزمور البركة الذي يجمع في نشيد واحد المرتّل وجماعة شعب الله، وقوات الأرض وقوات السماء، ليعلنوا حنان الله الآب وعطفه على الساجدين له. هو مزمور شكر يتلوه المرتّل بعد أن استعاد صحة النفس والجسد. يتلوه أمام الجماعة العظيمة، فيشرك شكره بشكرها، ويدخل تاريخ حياته في تاريخها، ويدعو المؤمنين الحاضرين بعبارات مستوحاة من سفر أشعيا إلى أن يوجّهوا قلوبهم إلى الله المحب والرحوم على شعبه رغم الخطايا التي يرتكبها.

2. رحمة الله ومحبته للبشر.
آ 1- 2: بداية يدعو فيها المرتّل نفسه إلى نشيد الشكر وعرفان الجميل: لا ننسى جميع مكافآته.
آ 3- 5: الخبر: الله أعطى المرتّل عطايا متعدّدة تعبيرًا عن حبّه له: غفران، شفاء، خير...
آ 6- 9: عندما يُجري الرب العدل فهو رحيم رؤوف.
آ 10- 14: الخبر: الرب يعامل الشعب بالمحبّة كما يعامل الأب بنيه: كرأفة أب ببنيه رئف الرب بخائفيه.
آ 15- 19: ما قيمة الانسان لولا محبة الله له: الانسان أيامه كالعشب... ورحمة الرب منذ الأزل وإلى الأبد على الذين يخافونه.
آ 20- 22: الخاتمة: نشيد يدعو الحاضرين إلى مشاركة المرتّل في شكره لله: باركو الرب.

3. عادة ينسى الانسان الرب ويهمل مديحه. ولهذا نرى المرتّل يدعو نفسه إلى رفع آيات الشكر لله: باركي يا نفسي الرب. هذه النفس تمثّل الانسان ككل وهي المسؤولة عن أعمال الشخص، شرًا كانت أو خيرًا: هو الذي يغفر جميع آثامك. الانسان الخاطئ فيّ يدفعني إلى أن أنسى. والانسان الخيّر فيّ يجعلني أتَّكل على الاله الغافر فأتذكّر مراحمه وحنانه.
ويتذكّر المرتّل موسى ليربط بين تاريخ حياته وتاريخ الخلاص العظيم الذي يوجّهه الله من أجل البشر. فإن حصل صاحب المزامير على النعمة، فالسبب يعود إلى عهد النعمة الذي قطعه الله مع موسى. ولسنا أمام عهد جديد، بل أمام عهد قديم يتجدّد كل يوم. ولسنا أمام تاريخ خلاص جديد، بل أمام ذلك التاريخ العظيم الذي هو حاضر دائمًا في حياة البشر.
ونجد في هذا المزمور تلميحًا إلى الضعف البشري كما نقرأه في أشعيا (40: 6): "كل بشر عشب، وكل مجده كزهر الصحراء". فالمسافة لا محدودة بين الله والانسان، كتلك التي تفصل السماء عن الأرض، والمشرق عن المغرب. ولكن الله بنعمته يملأ تلك المسافة، وبرحمته ينحني على الخاطئ الذي يضع في قلبه خوف الرب ويحفظ عهده ويعمل بشرائعه وأوامره ووصاياه.

4. تعوّد الناس أن يميّزوا بين إله العهد القديم، الاله العادل القاسي، وبين إله العهد الجديد، الإله الرحوم والمحب. ولكن المزمور 103 يدلّنا إلى اله رحيم رؤوف، محبته كمحبّة أمّ (الرحمة مصدرها الرحم)، يرضى أن ينسى جلاله ليتصرّف بطريقة مميّزة عن البشر (أش 55: 8). فالاله الرفيع السامي يحنو على الذين يتطلعون إليه رغم أنه يعرف تفاهة الانسان وضعفه.
وهكذا نستعد بعد قراءة هذا المزمور أن نسمع كلمات القديس بولس في رسالته إلى تلميذه تيطس (3: 4): "فلما ظهر حنان الله مخلّصنا ومحبته للبشر، خلّصنا لا لأي عمل صالح عملناه، بل لأنه شاء برحمته أن يخلّصنا. وفي رسالته إلى أهل أفسس (2: 4- 7) قال بولس أيضًا: "ولكن الله بواسع رحمته وفائق محبته لنا أحيانًا مع المسيح بعدما كنّا أمواتًا بزلاتنا... ليُظهر في الأجيال الآتية غنى نعمته الفائقة في الرأفة التي أبداها لنا في يسوع المسيح".

5 أ. تأمّل
يتوقّف المرتّل عند اختباره الشخصي وعند حالة شعبه، فيلاحظ الشيء ذاته. فأمام الخطيئة التي تستحقّ العقوبة يتأخّر الرب ولا يعاقب ويغدق نعمًا عديدة. ينتزع الانسان من الموت ويمنحه خيراته. هذه هي طريقته في العمل. ثم يرتفع المرتّل من الخاصّ إلى العام، فيكتشف أن الله يتّخذ بالنسبة إلى أخصّائه الذين يخطأون مرارًا ويغيظونه، موقفًا من الرأفة والسخاء والعطف الابوي. الله ينسى كليًا الخطايا ليقدر أن يحب أبناءه بحرية تامّة.
ويتعجب المرتّل من الله الذي لا يشعر بالاحتقار والقرف تجاه الانسان صاحب الاصل الوضيع والسلوك الخاطئ. فالله يجعل مجده في أن ينحني بحبّ على خليقته المتقلّبة والساقطة شرط أن تحترم عهده. فأيام الانسان كالعشب والله يكنُّ له حبًا أبديًا. فما أعمق هذا السر!
وهذا التأمّل يبدأ بنشيد مديح: باركي يا نفسي الرب. وينتهي بالنشيد عينه: باركي يا نفسي الرب. يبدأ المرتّل وحده بشكر الرب، ثم يشرك الخليقة في فعل الشكر. وتذهب الخليقة ويبقى المؤمن وحده مع ربه.


5 ب. قراءة روحيّة
سمّى بعضُ الفلاسفة هذا المزمور "كتاب العدالة الالهية". وشجب خطأ هؤلاء المسيحيين الذين عارضوا إله العهد القديم الذي يعاقب باله العهد الجديد الذي يحبّ. ففي هذه الافكار التي تبشّر بإنجيل الرحمة سيرتاح المسيحي الذي عرف نعمة الفداء، لأنه يجد تاريخ إلهه كما يبدو في حياته وفي كنيسته في هذا النشيد الانساني والالهي معًا.
تقول إحدى الصلوات إن الله يدلّ على قدرته حين يغفر ويرحم. واستنتجت إحدى القديسات: أرجو عدالة الله كما أرجو رحمته. فهو العادل، لذلك هو شفوق وحنون، بطيء عن العقاب فائض بالمراحم، وهو يعرف أننا سريعو العطب، ويتذكّر أننا تراب. وهو كأب يحنّ علينا كما على أولاده. وقالت قديسة أخرى: إن غور عظمة الله يلتقي بغور عدم الخليقة، ولكن الله يضمّ إلى صدره هذا العدم. وهل نتعجّب إن تكلّم القديسون هكذا حين نتذكّر أن القديس يوحنا حدّد الله أنه المحبّة.
إن المقابلات البشرية لا تعبّر كل التعبير عمّا هو الله وعن حدود غفرانه، لهذا حدّد أحدهم الله كأب كلّه أمومة. وزاد: يجب أن أفكّر بأمي حين أفكّر بالله. وأنسب إليه عواطف أمي واستعداداتها نحوي... وأرفع هذه الاستعدادات بالقياس إلى القمّة. وقالت القديسة تريزيا: أجل، الله أحنّ من أم. وكم نحن جاهلون هذا الصلاح وهذا الحب الرؤوف. أعطاني رحمته الحميمة ومن خلال هذه المرآة اللامدركة أتأمل سائر صفاته فأجدها مشعّة بالحب. فحتى عدالته تبدو لي لابسة المحبة. فأي فرح أن نفكر أن الله عادل أي أنه يحسب حسابًا لضعفنا وأنه يعرف طبيعتنا السريعة العطب. فمن أي شيء أخاف؟ فأنت يا من عرفت أن تخلق قلب الامهات، فأنا أجد فيك أحنّ الآباء.

6. "باركي يا نفسي الرب، ويا كل ما في داخلي اسمه القدوس". من الواضح أننا لسنا أمام أعضاء جسدنا. من الواضح أن المرتّل لا يريد أن يقول إن رئتينا وكبدنا وأحشاءنا سوف تمتدح الربّ. لا شكّ في أن الرئتين تستنشقان الهواء وتحوّله إلى صوت حين ننظّم كلماتنا. ولكن ليس هذا ما يعنيه المزمور، لأن كل هذا يشير إلى آذان بشريّة. الله له أذن أيضًا، والقلب له صوت أيضًا. فالانسان يدعو باطنه لكي يبارك الله فيقول: "وكل ما في داخلي يبارك اسمه القدوس". ما الذي هو في داخلك؟ نفسك. فإن عبارة "باركي يا نفسي الربّ" تتكرّر في عبارة "وكل ما في داخلي اسمه القدوس".
إرفع الصوت إذا كانت هناك أذن بشريّة تسمع. أسكته إن لم يكن هناك مَن يسمع. ولكن هناك شخصًا يسمع دومًا أعماق قلبك. لهذا فجَّر فمُنا المباركة فأنشدنا هذه الكلمات: "باركي يا نفسي الرب...".
أخذنا كل وقتنا لكي ننشد. ثم صمتنا. ولكن هل تتوقّف أعماقنا عن مباركة الرب؟ قد تتوقّف ضجّة أصواتنا. ولكن يجب أن لا يتوقّف ما يخرج من أعماق كياننا. حين تأتي إلى الكنيسة لكي تشارك الكنيسة في المديح، يُنشد صوتك مدائح الله: رنّمت المزامير قدر ما استطعت وتوقّفت. ولكن نفسك تواصل الترنيم. أنت تتابع أعمالك اليوميّة. لتمدح نفسُك الربّ. أنت تأخذ طعامك فاسمع ما يقول الرسول: "إن أكلتم أو شربتم فاعملوا كل شيء لمجد الله" (1 كور 10: 31). وكدت أقول: حين تنام، لتبارك نفسك الربّ. لا تترك الكسل يسيطر عليك أو أية تجربة. وبرارتك خلال نومك هي صوت نفسك. "باركي يا نفسي الرب". (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM