الفصل الرابع والعشرون:الخيارالمسيحي

لفصل الرابع والعشرون
الخيار المسيحي
6: 25- 34

نحن هنا في توسّع ثالث يعمّق أبعاد البرّ المسيحي. مع مجموعتين. أما المجموعة الأولى فمخصّصة لالتزام التلميذ في خدمة الله. وهي تنقسم إلى وحدتين: القرار الذي يؤسّس هذا الالتزام (6: 19- 23). والثانية (6: 25- 34) تتوسّع في الموقف الذي يبحث عن جوهر الأمور: لا تهتمّوا، لا تقلقوا. الجوهر هو ملكوت الله وبرّه. فلماذا يترك المؤمن أمور الأرض تقلق باله؟ لماذا يحاول أن يعبد غير الله الواحد؟

1- الوجهة الأدبيّة
أ- السياق والمعنى العام
تنتمي هذه المقطوعة الانجيليّة إلى العظة على الجبل. وهذه العظة تصوّر (في مت) متطلّبات أخلاقيّة يفرضها على البشر مجيءُ ملكوت السماوات. منذ الكلمة الأولى يدوّي نداء إلى روح الفقر والتواضع والوداعة. أما النصّ الذي ندرس، فيتضمّن سلسلة من التحريضات علي التجرّد، التي تبدو صدى للتطويبة الأولى: "طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات" (5: 3).
بحضور المسيح نفسه صار الملكوت هنا. صار قريباً. وهو يقدّم نفسه للقلوب التي تنفتح على مجيئه. فيجب أن نختار من دون مساومة: نختار الله وملكوته في التجرّد من خيرات الأرض، ونرذل كل اهتمام وقلق بالنسبة إلى الضرورات الزمنية. إن تسامي الخلاص المقدّم لنا، وشهادة عناية الآب، يدعواننا إلى الإيمان المطلق وإلى المحبة التامة.
ب- بنية النصّ
نكتشف تصميم المقطوعة على الشكل التالي. إن الجمل الصغيرة الأربع في آ 24، تشكّل جزءاً أول قصيراً. ونقطة الانطلاق هي قول مأثور: "لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين". ويفسر هذا القول بإيجاز في عبارتين متوازيتين ومتعارضتين. وبعد هذا يأتي التطبيق حالاً: "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال".
وما تبقّى من العرض يشكل الجزء الثاني. يبدأ التوسيع بتوصية عامة مزدوجة: "لا تهتمّوا لأنفسكم... لا تهتمّوا لأجسادكم" (آ 25). ويقدّم البرهان في مثلين عن خلائق وضيعة تهتمّ بها عناية الله اهتماماً خاصاً وتمنحها الضروري: "أنظروا إلى طيور السماء... إلى زنابق الحقل" (آ 26- 30). وتنتهي كل مرحلة بتذكير بكرامة الإنسان في نظر الله. "أليست النفس (الحياة) أفضل من الطعام"؟ "أفلستم أنتم أفضل منها بكثير"؟ "فكم بالأحرى يلبسكم... أنتم" (آ 25، 26، 30)؟
وتستعيد الخاتمة التوصية التي وردت في البداية. ثم تعلن بشكل إيجابي وفي نقيضة، الوصيّة التي هيّأها كل هذا التوسّع: "إذن، لا تهتمّوا... أطلبوا ملكوت الله وبره" (آ 31- 33)! وتأتي الآية الأخيرة في ملحق، في مثل شعبي: "فلا تهتمّوا إذن للغد، فالغد له همومه. يكفي كل يوم همّه" (آ 34)!
إنّ هذا التعليم الأخلاقي الذي خضع لإعلان الملكوت النبويّ، استعمل موادَ وطرق تعبير من العالم الحكمي: أمثاله، تشابيه، أسئلة، نصائح مؤسّسة على الخبرة، وهي تعني الإنسان كل يوم، وتدلّه على السعادة. لكن الروح التي في هذا التعليم هي جديدة. فالسعادة التي يدلّنا عليها النصّ الانجيلي هي من نوع آخر. هي سعادة اسكاتولوجية، متعالية. حينذاك تفرض الخاتمة نفسها بشكل جذريّ: "أطلبوا ملكوت الله وبرّه"!

2- خدمة الله وحده (6: 24)
"لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين": استعاد يسوع هنا مثلاً معروفاً يقبل به الجميع. هذا المبدأ الذي لا يقبل جدالاً، سيقودنا بشكل مباشر إلى تطبيق دقيق.
إن اعتبر أحد أنه يستطيع أن يخدم سيّدين، فهو قد يجد نفسه أمام أوامر متعارضة يجب أن يختار بينها. ولكن يسوع يذهب أبعد من ذلك. فهو لا يهتمّ إلا بالموقف الشخصيّ، بالاستعدادات الداخليّة التي تحرّك الخادم. فالخدمة (والتعبّد) يدلُّ على تعلّق الخادم بسيّده ومحبته له.
نقرأ: "أحب، أبغض". هي طريقة تعبير سامية تدلّ على تفضيل شيء أو شخص آخر. نقول: يحبّ الواحد أكثر من الآخر. يفضّل الواحد على الآخر. غير أن الله لا يمكنه أن يكون موضوع تفضيل وحسب. في العهد القديم يعرف المؤمن أن الله الوحيد يطلب عبادة محصورة فيه، خدمة لا يقاسمه فيها أحد، محبّة تامة لا نُبقي منها شيئاً لذاتنا. هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى (تث 6: 4- 5، 13- 14؛ 10: 12، 20؛ 11: 13؛ 13: 5؛ يش 22: 5؛ أش 56: 6). إن هذه الوصيّة الأساسية في اسرائيل قد استعيدت هنا في سياق جديد، حيث نستبعد لا الآلهة الأخرى (هذا أمر مفروغ منه)، بل المال.
"مامون": هي لفظة أرامية تعني المال والغنى. في الأصل، ما يؤمّن لنا الحياة. ما هو ثابت ونستطيع أن نستند إليه. ما نضع فيه ثقتنا وعليه اتكالنا. إنه إله صار اسم علم. صار كأنه إله، لهذا يعبده الناس كما نعبد الله الواحد. قد تكون الكلمة، خرجت من فم ابن الله في لغة يفهمها الجميع ويعرف ما تعني.
التعارض بين الله والمال أمر مطلق لا يقبل مساومة. وهو يرتكز من جهة على تعالي الله الذي يطلب منا عطاء إرادتنا كاملاً. ويرتبط من جهة ثانية بضعفنا وسرعة عطبنا. فالمال يمارس علينا سحراً يجتاح حياتنا فلا نستطيع التخلّص منه (جا 5: 9 ي؛ أم 28: 22؛ أش 5: 8؛ 1 تم 6: 10). فكل من تعلّق بالخيرات الزمنيّة صار عبداً لها. سيطر عليه الاهتمام بأن يجمع ويكدّس (لو 12: 16- 21). تقيّدَ بكنزه (مت 6: 21) فأغلق قلبه على القريب وعلى الله نفسه.
ويتسجّل عدم التوافق هذا بين عبادة الله وحبّ المال، في سياق اسكاتولوجي يتضمّن النقائض عينها. إن هذا القول في مت، يرد حالاً بعد توصية بأن نكنز لا على الأرض، بل في السماوات (أي: بقرب الله): هناك فقط يتأمّن الغنى النهائي (مت 6: 19- 21). فالملكوت درّة ثمينة، وكنز مخفيّ. فإذا أردنا أن نمتلكه، نتحرّر من الباقي كله (مت 13: 44- 46). وإذا أردنا أن نتبع المسيح وندخل الملكوت، يجب أن نترك كل شيء، نتحرّر من كل رباط، نصير فقراء مع يسوع (5: 3؛ 8: 19- 20؛ 16: 24؛ 16: 29). نحن هنا أمام متطلّبة جذريّة، لأن الملكوت يمثّل خيراً لا يُقاس بخيرات الأرض: هو الله يعطي لنا ذاته في ابنه.
وخصم الله الأعظم، خصم المسيح في إقامة ملكوته هو الشيطان، السيّد الذي يستعبد العالم ويحاول أن يحلّ محلّ الله. إن يسوع يدلّ على حضور إبليس من خلال المال الذي هو شخص ملموس ومزاحم لله. اسمه "مامون" (هو يعمل في قلب حنانيا وسفيرة، أع 5: 2؛ وفي قلب يهوذا، لو 22: 3؛ يو 13: 2، 27).
مثل هذا التنبيه يحذّرنا من تجربة لا نزال نسقط فيها، وهي بأن نخدم سيّدين معاً. نحلم بأن نحبّ الله من كل نفسنا، ولكننا لا نتجرّد حقاً من منافع المال. لا شكّ في أن هناك طريقة ننعم فيها بخيرات الأرض التي خلقها الله، وهي صالحة وهي ضرورية للبشر، ومنها المال. ولكن لا نستطيع أن نعلّق قلبنا بها: حينئذ نستعبد له وبالتالي نتحرّر من "عبادة" الله. فيجب أن "نستعملها" وكأننا "لا نستعملها". فخدمة الله الحقيقيّة تتطلّب استقلاليّة تجاه الباقي، وحريّة داخليّة لا نحصل عليها إلا في تجرّد يتجدّد يوماً بعد يوم. ملكوت نهاية الأزمنة حاضر هنا. منذ الآن يبدأ مصيرنا النهائي. والله قد خلقنا من أجله هو، من أجل خدمته (والتعبّد له)، من أجل حبه.

3- الاهتمام بالملكوت أولاً
أ- الموضوع العام
يرتبط الجزء الثاني بالجزء الأول بشكل طبيعي. فمتطلّبة التجرّد تبقى هي هي حتى أمام أبسط الحاجات الزمنيّة، حتى أمام أكثر الخيرات ضرورة للإنسال كالطعام واللباس (أعطاهما يسوع مثلاً). يردان معاً في تك 28: 20؛ تث 8: 3- 4؛ أش 4: 21 سي 29: 21. فيسوع يدعونا بشكل ضمنيّ إلى أن نرذل كل همّ. فالاهتمام والقلق هما أول شكل من العبوديّة تقودنا إليها أموال الأرض (رج سي 31: 1). فعلى المسيحي أن يتحرّر من قبضة هذه الاهتمامات، لكي يكون جاهزاً للملكوت الآتي، لكي يعطي ذاته بكلّيتها لله.
هناك تشابه، لا تماثل. فالاهتمام بضرورات الحياة الملحّة، لا يتماهى مع السعي وراء الغنى الذي تحدّث عنه الجزء الأول (آ 24). فهذا التعليم الجديد يختلف عن الذي قبله لهجة وأسلوباً. وهو يتوسّع بشكل أطول وبطريقة حرّة. وهناك أسئلة أو أقوال تتوجّه بشكل مباشر إلى القارىء أو إلى السامع: "ألستم أنتم أفضل منها؟ يا قليلي الإيمان"! كل هذا يعطي المقطوعة طابعاً حياً ومألوفاً. والإشارة إلى طيور السماء وزهر الحقل يعطي كلام يسوع سحراً شعرياً. والنداء إلى التجرّد المستند إلى اهتمام الله بأصغر خلائقه، وخصوصاً بأولاده، يبدو مطبوعاً بالرقّة والحنان.
إذن الموضوع الذي يُميّز هذا التحريض هو الهمّ والقلق. وهذا ما يجب على المؤمن أن يستبعده. تكرّر آ 25- 34 ست مرات فعل "مريمنان" (اهتمّ، قلق، اضطرب). هذا الموضوع الذي لا يرتبط ارتباطاً واضحاً بالعهد القديم، يعود مراراً في العهد الجديد وأكثر من مرة في سياق اسكاتولوجي واضح. فكلمة الله التي هي بذار الملكوت، تُسمع الآن بشكل نهائيّ، ويجب أن تنمو بدون عائق في القلوب: "فهموم العالم وسحر الغنى" لا يمكن إلا أن تكون خانقة قاتلة. هذا ما أعلنه يسوع في مثل الزارع (13: 22 وز). وحدثُ مرتا ومريم يعطي صورة عن هذا الاهتمام الأول بكلام الله: مرتا تهتم وتقلق من أجل أمور كثيرة، ليست بضروريّة. أما مريم فجلست تسمع كلام المعلم: لقد اختارت النصيب الأفضل الذي لا يُنتزع منها (لو 10: 39- 42).
وكتب بولس في 1 كور 7: 29- 35: "إن الزمان قصير... يكون المشترون كأنهم لا يملكون، والمستعملون لهذا العالم كأنهم لا يستعملونه، لأن هيئة هذا العالم إلى زوال... أودّ أن تكونوا بلا همّ". ما يهمّ حقاً هو قرب مجيء الرب. نقرأ في فل 4: 5- 6: "الرب قريب. لا تهتمّوا بشيء".
ب- نرذل كل اهتمام (آ 25)
"لا تهتمّوا لنفوسكم" أي لحياتكم. لا تهتموا لأجسادكم. فالجسد يدلّ على الكائن البشري. إذن، لا نتوقّف عند تعارض بين النفس والجسد كما في الفلسفة اليونانية. فالإنسان هو كله نفس، وهو كله جسد. العنصر الروحي والعنصر الجسدي هما اللذان يكوّنان الشخص البشري في ما يميّزه عن كل إنسان آخر.
هل نستطيع أن نتبع هذا الكلام بشكل حرفي؟ هل نحن أمام استعارة؟ لنقرأ النصّ إلى النهاية كما هو أمامنا. فالوصية بعدم القلق لا تعني أنه لا يجب أن نعمل من أجلهما، بل أن لا نترك الاضطراب والخوف يسيطران علينا، بحيث ننسى محبّة الله وعنايته بنا. هذا ما يطلبه الإيمان. وهذا ما يفهمه الذوق السليم.
ذكّرنا يسوع أولاً بمعطية معروفة، ذكّرنا بتراتبيّة القيم. "أليست النفس أفضل من الطعام"؟ فالطعام واللباس، مهما كانا ضروريين، يبقيان خيرين من الدرجة الدنيا. يبقيان خاضعين لما هو أهم منهما. هما وسيلتان في خدمة الإنسان، لا هدف في حدّ ذاته. فالإنسان لم يخلق لخيرات الأرض (هي خلقت من أجله)، بل للملكوت، لله.
ج- عناية الآب (آ 26- 30)
إذا أردنا أن ندرك الدرس الذي تعطينا إياه طيور السماء وزنابق الحقل، نقرأ النصّ كله أيضاً. فطيور السماء لا تعمل (لا تزرع ولا تحصد)، ولا تجمع الكنوز (لا تكدّس في أهرائها، رج لو 12: 22 ي. الغنيّ الجاهل). وزنابق الحقل هي أيضاً لا تعمل شيئاً مما يعمله الإنسان لكي يؤمّن لنفسه الطعام واللباس (لا تتعب، لا تغزل). لا نجد حتى الآن شيئاً هنا يدعونا إلى الإعجاب والاقتداء. فالنصّ لا يطلب منا أن نقتدي بهذه الخلائق غير العاقلة التي لا تعرف أن تعمل ولا أن تخطّط.
ما هو عجيب هو أن الله يهتمّ كل الاهتمام بأصغر خلائقه. ويذكّرنا يسوع هنا بالتعليم البيبليّ عن العناية: فالله لا يهمل شيئاً خلقه. فالطيور الضعيفة تجد لديه طعامها في الوقت المناسب (رج أي 38؛ 39؛ 41؛ مز 104: 21- 28؛ 136: 25؛ 145: 15 ي؛ 147: 9). وزنابق الحقل السريعة العطب (تذبل سريعاً) تجد عنده لباساً لم يعرفه سليمان في كل مجده. مثل هذا السخاء (الفيض) الإلهي، يمنعنا من كل خوف تجاه حالنا في المستقبل. فأمام ما يصنعه الله في الكون، كيف نشكّ بلطفه وعنايته بنا؟
وهكذا نفهم الآن الدرس الذي تعطينا طيور السماء وزنابق الحقل. هي لا تقدّم لنا مثلاً نقتدي به، بل تفهمنا عناية الله وسخاءه، وهذا ما يجب أن يوقظ فينا الإيمان والثقة بالله. فعلى الإنسان أن يتيقّن من أن الله يحبّه حباً يفوق كل ما يكنّه لهذه المخلوقات الضعيفة. لهذا ذكر يسوع انتباه العناية إلى هذه المخلوقات، وعاد حالاً إلى الكرامة السامية التي للإنسان (آ 26، 30؛ رج 10: 29- 31؛ 12: 12).
الله يسهر على عمله. ويتدخَّل من أجل مختاريه، بواسطة المعجزة إذا لزم الأمر. من هنا الكلام القاسي: يا قليلي الإيمان (آ 30: إيمانكم غير كافٍ). هذه العبارة تستعمل عادة في سياق المعجزات (8: 26؛ 14: 31؛ 16: 8؛ رج 17: 20). هذا يعني أن عناية الله بنا هي معجزة دائمة.
لا يتضمّن هذا المقطع كلاماً يدعونا بأن نعفي نفوسنا من العمل اليوميّ. ولكنه يطلب منا أن نقوم به بقلب هادىء وبدون اضطراب. لسنا أمام دعوة إلى التخليّ عن العمل (2 تس 3: 6 ي)، إلى الاستهتار واللامبالاة (القريبة من الكسل والعودة إلى الطفولة في المعنى السيّىء)، بل أمام دعوة إلى الثقة بالله والإيمان بحضوره في حياتنا.
ودخل بين مثل الطيور ومثل الزنابق قولٌ (من منكم يستطيع، آ 27) يقدّم بشكل مثَل عدمَ جدوى اهتماماتنا. هي حاشية جاءت من تقليد آخر ووُضعت هنا، فجعلت الأسلوب ثقيلاً. دخلت هنا لأنها تشير إلى اهتمامات الحياة. فكل مجهوداتنا لكي نطيل حياتنا، تبقى عاجزة. وكل قلق يشغلنا يبقى باطلاً.
د- أطلبوا الملكوت (آ 31- 33)
حين تحدّث يسوع عن عناية الله بالطيور والزنابق، سقى الله "الآب" (آ 6)، فوجّه أفكارنا نحو ذلك الذي يمنح أبناءه ملكوته: إنه عطاء يسمو على كل عطاء، وخير لا يدانيه خير. إنه الخلاص المتعالي.
فمن اهتمّ بالأمور الزمنيّة، كان قليل الإيمان بالنسبة إلى عناية الآب. يتصرّف كما يتصرّف (الوثنيون) الذين "لا يعرفون الله" (إر 10: 25؛ مز 79: 6؛ 1 تس 4: 5). هم لا يعرفون قلب الله. ولا يخطر على بالهم حبّه وقصده الخلاصي: إن المثال الذي يتوقون إليه، لا يتجاوز خيرات الأرض.
ولكن يعود الاعتراض: لا نستطيع أن نتخلّى عن أمور ضروريّة مثل هذه. يجيبنا يسوع: الآب يعرف أفضل منّا ما نحن بحاجة إليه. وهو يسهر بعنايته. ثم يعدنا بأكثر بكثير. أما هذه الأمور الزمنية فتعطى لنا زيادة وإضافة (ترجيحة).
لا نجد عبارة "أطلبوا الملكوت" إلا هنا في الكتاب المقدّس. فمختلف العبارات التي تعني الملكوت تتحدّث عن "الدخول" إليه، عن تقبّله كميراث... أما هذه العبارة الجديدة التي تذكّرنا بعبارة: "أطلبوا الله"، فنفهمها بالنظر إلى السياق: لقد حلّ فعل "طلب" (زاتاين) محل "اهتم" (مارمنان). فعلى المؤمن أن يهتمّ قبل كلّ شيء بالملكوت.
فعلى تلميذ المسيح أن يطلب الملكوت، أي أن يحاول أن يحصل عليه بمجهود متواضع (ممارسة البرّ في الحياة اليومية، العيش بحسب وصايا الله ومشيئته)، بالصلاة (طلب= سأل، 7: 7؛ 16: 4؛ 1 كور 1: 22) فإن مت قد ذكّرنا في 6: 7- 11 بتعليم المسيح عما يجب أن تكونه صلاتنا: لا نكرّر الكلام مثل الوثنيين، لأن الآب يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نسأله. بل نطلب أولاً مجيء الملكوت (ليأت ملكوتك). نطلب أن تتمّ مشيئة الآب. ونطلب بعدها الخبز الذي نحتاج إليه كل يوم بيومه (فل 4: 5- 6).
"أطلبوا ملكوت الله وبرّه". يعني البرّ الذي يطلبه الله (يع 1: 20). وهكذا نلتقي بعبارة بيبلية: طلب البرّ أي طلب الله (صف 2: 3؛ 1 مك 2: 29؛ رج 1 أخ 28: 8؛ أش 1: 17؛ 51: 1؛ 55: 6؛ 58: 2؛ هو 10: 12؛ عا 5: 14- 15). تحدّث مت عن البرّ، وهو موضوع عزيز على قلبه: قداسة الأعمال، كمال خلقيّ كما في خطبة الجبل. برّ جديد يستعيد وصايا الشريعة القديمة لكي يكمّلها.
بعد هذه الخاتمة (آ 33)، زاد مت آية حكمية: "إذن، لا تهتموا بالغد. فالغد يهتم بنفسه. ويكفي كل يوم همه" (أو تعبه) (آ 34). فالاهتمام بالغد يسمّم اليوم الحاضر ولا يعطينا ضمانة للمستقبل. إن التوراة لا تستخفّ بهذه النصائح (أم 27: 1) ولكنها تدخلها في حكمة أسمى: نستسلم كلياً إلى عناية الله.

خاتمة
لا يمثل تجرّد المسيحي من خيرات الأرض إلا خياراً سلبياً تجاه الله وملكوته، وهو خيار يمليه عليه الإيمان. فالله يريد أن يجعل منا أبناء في ملكوت ابنه، يدعونا إلى حبّ كامل. أما ما تبقى فهو بلا أهمية. تجرّد لا من أجل التجرّد، بل من أجل العطاء والمشاركة. هنا نلتقي مع فكر لو الذي يدعو الغني إلى أن يبيع، إلى أن يتجرّد، ولكن لكي يعطي المساكين. لا نهتمّ بما يخصّنا فالله يعتني بنا. ونهتمّ بالآخرين ونعطيهم، فيكون لنا أصدقاء يستقبلوننا في المظال الأبديّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM