الفصل الثاني: التلاميذ والجمع، أبناء الملكوت وأبناء الشرير

الفصل الثاني
التلاميذ والجمع،
أبناء الملكوت وأبناء الشرير

يتميّز ف 13 من انجيل متّى بالمكانة التي يُفردها لمجموعتين متعارضتين: في المجموعة الأولى نجد التلاميذ تجاه الجمع. وفي المجموعة الثانية نجد "أبناء الملكوت" تجاه "ابناء الشرير". (آ 38) أو "الابرار" و"الاشرار" كما في آ 49.
أما النقيضة الأولى فتبرز بشكل خاص في القطعة التي تتحدّث عن السبب الذي لأجله أعطيت الامثال في آ 10-17 (+ 18 أ). ونحن لا نستطيع أن نفصلها عن تفسير المثل في آ 34- 35 (+ 36 آ) الذي يستعيد الموضوع عينه. هُيّئت هذه النقيضة بمقدمة ف 13 (آ 2-3 أ)، وتركت صداها في الملاحظة الأخيرة (تجاه الشعب): فهمَ التلاميذُ كل شيء (آ 51). ونزيد أن الانجيليّ أدخل هذه النقيضة في المقطوعة التي تسبق بشكل مباشر ف 13، وهي 12: 46- 50. ففي لمسة تدوينيّة، يحدّد الانجيلي بأن يسوع كان يعلّم الجموع. وجاءت لمسة أخرى فدلّت على التلاميذ الذين يعملون مشيئة الآب السماويّ.
وتظهر النقيضة الثانية بوضوح في تفسير مثل الزؤان (آ 37-42) وفي تطبيق مثل الشبكة (آ 49- 50: كذلك يكون في منتهى الدهر). هنا نرى في الدينونة الفصل بين "أبناء الشرير" (آ 38) وأهل "الشكوك وفعلة الاثم" (آ 41) و"الاشرار" من جهة، وبين "أبناء الملكوت" (آ 38) الذين هم "الأبرار" (آ 43، 49) من جهة ثانية. ولكننا نستشفّ النقيضة عينها في ما سبق من نصوص. فهي تُفترض موجودةً في مثل الزارع الذي يقابل بين السامعين الذين ظلّت عندهم الكلمة بلا ثمر (أكربوس) وبين الذين حملوا ثمرًا (آ 22-23، أثمروا). ونجد الألفاظ عينها في مثل الزؤان حيث أعلن متّى أن الزؤان لا يتميّز عن الحنطة إلا في أوان الثمر (آ 26): هي ملاحظة معلّم في الاخلاق، لا عبرة مزارع في أرض فلسطين. لا شكّ في أن هذه النقيضة "الاخلاقيّة" تلوّن بلونها النقيضة التي تقابل التلاميذ بالجمع: التلاميذ هم الذين يعملون مشيئة الآب السماوي (12: 50). لهم عيون ترى وآذان تسمع (13: 16). أما الجموع فلا تستطيع أن ترى ولا أن تسمع (آ 13). يُعطى التلاميذ لأن لهم، ويُؤخذ من الآخرين لأنه ليس لهم (آ 12).
إذن ليست المجموعتان المتعارضتان منغلقتين الواحدة على الأخرى. ولكن يبدو أنه يجب أن نحافظ على التمييز بينهما، لأن استعماله اللغة الامثاليّة توخّى التمييز بين التلاميذ والجمع. أما الفصل بين الاشرار والابرار فلا يتمّ إلا في الدينونة الاخيرة. في الحالة الأولى تمّ الفصل بين فئتين وانتهى. وفي الحالة الثانية سيتمّ الفصل في المستقبل.
فإذا أردنا أن ندرك هدف مت 13، فلا بدّ من طرح سؤال حول ما تمثّل في نظره هاتان المجموعتان المتعارضتان، ولماذا اعتبرهما مهمّتين ساعة دوّن انجيله. هذا السؤال ليس بجديد، غير أنه نالت أجوبة مختلفة جدًا لدى الشرّاح. نذكر هنا اثنين، وسنعود إلى الأجوبة الأخرى في معرض مقالنا.
هناك من يقول إن القسم الاول من مت 13 (آ 1-35) يدلّ على موضوع الفصل الذي تمّ بين الكنيسة (العالم المسيحيّ) والمجمع (العالم اليهوديّ). لقد أراد متّى ان يفسّر لماذا لم يتقبّل العالم اليهوديّ (الذي يمثّله المجمع) الوحيَ الذي نعم به المسيحيّون (الذين يمثّلهم التلاميذ). ويرتبط القسم الثاني (آ 36- 52) بمسألة حضور المسيحيين الاردياء داخل الكنيسة. لماذا ظهرت الجماعة المسيحيّة مزيجًا من الاشرار والابرار؟ فأجاب الانجيلي بأن الفرز سيتمّ في اليوم الاخير: حينئذ يُستبعد "أبناء الشرير" ويخلص الابرار وحدهم. واعتبر خطّ آخر أن قسمي ف 13 يقابلان مرحلتين في تاريخ الخلاص: الأولى تتعلّق بالفصل الذي تحقّق بين الكنيسة والمجمع. والثانية تعلن أن الفصل بين الكنيسة (أبناء الملكوت) والعالم الوثني (أبناء الشرير) حيث يعيش المسيحيون الآن، لا يتمّ إلا في يوم الدينونة.
اتّفق الخطّان على القول بأنّ التعارض بين التلاميذ والجمع يدلّ على الفصل بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ. وهو ما يقوله عدد كبير من المفسّرين. ولكن هل هذا التفسير يترجم حقًا هدف الانجيليّ؟ فلا نجد اتفاقًا حول معنى النقيضة "أبرار" "أشرار". ظنّ الخطّ الاول أن التعارض يعكس واقعًا داخل الكنيسة. والثاني رأى الفصل بين الكنيسة والعالم الوثني. هنا يختلف الشرّاح. أما نحن فنبدأ بالنقيضة الثانية.

1- أبناء الملكوت وأبناء الشرّير
نبدأ أولاً بالمعطيات الاساسيّة في تفسير مثل الزؤان. فتدوين هذه الآيات قد انطبع بطابع متّى وإن كنا لا نستبعد فرضيّة تقليد سابق لمتّى. هذا ما لا نتوقّف عنده، بل نعتبر أن النص هو من تأليف الانجيليّ. فهو يرى أن ابن الانسان والشرير زرعا زرعًا في الحقل عينه، في العالم. واحد زرع بني الملكوت، والآخر بني الشرير (آ 37-39). وفي نهاية العالم يرسل ابن الانسان ملائكته لينتزعوا من الملكوت كل الشكوك وفاعلي الشرّ (آ 41). "حينئذ يضيء الصدّيقون كالشمس في ملكوت أبيهم" (آ 43).
إذن نحن أمام مملكتين. مملكة ابن الانسان ومملكة الآب. فملكوت الآب، ملكوت الله، لا يدخله إلاّ الابرار. وبالنسبة إليه سُمّوا "أبناء الملكوت". وهذا الملكوت هو اسكاتولوجي بالمعنى الحصريّ للكلمة. أما ملكوت ابن الانسان فيوجد قبل الدينونة الأخيرة. هو يتضمّن الخطأة والابرار معًا، ويتماهى مع العالم في المعنى اليوحنّاويّ. ومسألة هوية فئتين من الناس تتعارضان في هذا الملكوت تعني في النهاية هوية هذا الملكوت "ملكوت ابن الانسان". وهكذا نجد نفوسنا أمام تفاسير تنطلق في ثلاثة اتجاهات رئيسية.
ماذا تقوله هذه الآراء؟ هناك رأي منتشر يتوقّف عند وجود المسيحيين الاردياء في الكنيسة التي هي "ملكوت ابن الانسان" والتي منها يُنتزع الخطأة في اليوم الأخير. عند ذاك فقط يبدأ ملكوت الآب. فالمسألة المطروحة إذن هي مسألة المزج بين الصالحين والاردياء في الكنيسة. فاذا كان حقل المثل هو ملكوت ابن الانسان وهو "العالم" (آ 38)، فهذا يعني أن العالم هو المساحة التي فيها تنتشر الكنيسة وتمدّ نشاطها.
وهناك أقليّة تعارض الرأي السابق الذي يماهي بين "أبناء الملكوت" وبين المسيحيين في صراعهم مع العالم الوثنيّ. فالمفسرون في هذه الفئة يشدّدون على النظرة العامة التي نجدها في تصوير متّى والتي تشبه ما في الدينونة الأخيرة (25: 31-46). فالدينونة تُمارَس في جميع البشر، ومعيارها الوحيد هو تصرّفهم بمعزل عن انتمائهم إلى الجماعة المسيحيّة. إذن حقل المثل يدلّ على العالم، أي على البشرية كلها. وهذا العالم هو أيضًا "مملكة ابن الانسان" بالنظر إلى السلطان الشامل الذي مُنح للمسيح القائم من الموت (28: 18). أعطي له كل سلطان (19:28)، فصار الدياّن السّامي (25: 32). فما زلنا في مسيرة التاريخ، يبقى الابرار والاشرار ممتزجين في العالم، داخل الكنيسة، وخارجها. ويتمّ الفصل في الدينونة (25: 32). إذن وجهة تفسير مثل الزؤان هي وجهة شاملة وأخلاقية: الشيء الوحيد الذي يُحسب حسابه في الدينونة، هو أن نعرف إن كنا أتممنا مشيئة الله. عند ذاك نستحق أن نسّمى "أبرارًا".
وهناك فئة ثالثة (بولتمان مثلاً) ترفض أن تماهي بين "ملكوت ابن الانسان" وبين الكنيسة، أو بين العالم. فهذا الملكوت هو اسكاتولوجيّ حصراً. نحن أمام ملكوت يبدأ مع مجيء ابن الانسان. يُنتزع منه الاشرار ويُستبعدون. لا يمكن أن يشاركوا فيه. هذا الرأي الثالث ينسى أن الملائكة يجمعون من مملكة الابن "فاعلي السوء" (آ 41). يجب أن يخرجهم الملائكة لا أن يمنعوهم من الدخول.
إذن، نتوقّف عند تفسيرين. ذاك الذي يماهي ملكوت ابن الانسان مع الكنيسة، وذاك الذي يماهيه مع البشرية كلها.
هناك من ينتقد الرأي الذي يماهي بين ملكوت ابن الانسان والكنيسة. ويقدّم ثلاث ملاحظات. الأولى، إن تماسك آ 36-43 يفترض تماهيًا بين "العالم" (آ 38) و"ملكوت ابن الانسان" (آ 41). فالعبارتان تقابلان الصورة عينها، صورة الحقل. فمن جعل من العالم المساحة التي فيها تمتدّ الكنيسة، يقدّم برهاناً اعتباطياً. الثانية، إن العمل الذي يُنسب إلى إبليس لا يُفهم إلا اذا كان الموضوع "العالم". فالشيطان ليس ذاك الذي يُدخل الاشرار في الكنيسة. عمله في الكنيسة يقوم بإفساد الزرع الجيّد. الثالثة، ليس السؤال المهمّ هو تواجد الأشرار والاخيار، بل المصير المحفوظ لكن من هاتين الفئتين في الدينونة الأخيرة. إذن، ليس الموضوع أن نقول لماذا يوجد الاشرار حيث لا يجب أن يوجدوا. بل أن ندعو القرّاء ليسألوا نفوسهم: هل هم من الابرار؟
ويأتي اعتباران إيجابيان في خطّ التفسير الشامل (أي على مستوى البشريّة كلها لا الكنيسة فقط). الاول يجب ان نفهم حقاً لقب "ابن الانسان". قال متّى في آ 37: "الذي يزرع الزرع الجيّد هو ابن البشر". يدلّ هذا اللقب هنا على يسوع، لا في مهمتّه على الأرض المحصورة في أرض فلسطين، بل في ممارسة سلطانه على الكون كما تسلّمه في قيامته من الموت (18:28) والذي بموجبه أرسل تلاميذه إلى العالم كله (آ 19). اذن نحن أمام لقب الرب الممجّد (64:26) في إطار دينونة تشمل البشريّة كلها (رج آ 41؛ 25: 31-46؛ 27:16).
والاعتبار الثاني. يتماهى الحقل الذي يُوضع فيه الزرع مع "العالم" (آ 38)، كما يبدو أيضًا الموضعَ الذي فيه يمارس يسوع سلطانه كديّان المسكونة. فهناك تمتدّ الرسالة المسيحيّة. وهناك أيضًا يحرّك إبليس الأشرار.
ماذا نستنتج من كل ذلك؟ إن المساحة التي فيها يمتزج "بنو الملكوت" مع "بني الشرير" هي ايضاً المساحة التي فيها تُتمّ الدينونة العامة فرزَ البشر. هذه المساحة هي العالم كله لا الكنيسة فقط. فما قلناه عن صورة حقل الذي تتواجد فيه الحنطة والزؤان، نقوله أيضاً عن صورة الشبكة التي يمتزج فيها الاشرار والابرار (47:13-50). ذاك هو الوضع الحالي للعالم (لا للكنيسة فقط) حيث يعيش الاشرار بجانب الابرار. والسؤال الجوهري في نظر الانجيلي، ليس معرفة المسيحيّ من اللامسيحيّ، ليس انتماءنا إلى الكنيسة أو لا، بل تتميمنا لمشيئة الآب السماوي حيث تسيطر "انوميا" اللاشريعة. إذن، ليست النظرة اكليزيولوجية (تشدّد على الكنيسة) بالمعنى الحصري للكلمة، بل اخلاقية. وحده الانسان الذي يتمّ "البرّ" يستطيع أن يكون "ابن الملكوت".
لا شكّ في أننا لا ننسى أنّ متّى يوجّه كتابه إلى قرّاء مسيحيين. والتنبيه الذي يعطيه يعنيهم بشكل مباشر. فيدعوهم ليسألوا أنفسهم: هل هم من أبناء الملكوت أم من أبناء الشرير؟ ويذكّرهم بأنه لا يكفي أن ينتموا إلى الجماعة المسيحيّة لكي يكونوا من بني الملكوت. هذا البعد المباشر للارشاد الانجيلي لا يعارض وجهته العامة والشاملة: كل انسان، مسيحيًا كان أو غير مسيحيّ، سيّدان بحسب أعماله (16: 27).

2- التلاميذ والجمع
ماذا عن نقيضة التلاميذ والجمع؟ يمثّل التلاميذ الجماعة المسيحيّة التي انفصلت، ساعة تدوين الانجيل الاول، عن العالم اليهوديّ الذي يمثّله الجمع هنا. إذن التعارض بين التلاميذ والجمع يوافق الوضع الذي وجدت فيه الكنيسة تجاه المجمع في نهاية القرن الأول المسيحي.
هنا نتوقّف عند بنية ف 13. وبما أن النقيضة موجودة عند مرقس أيضًا، نتساءل عن اللمسات التي قام بها متّى. وفي النهاية نجعل نقيضة الجمع والتلاميذ في مجمل انجيل متّى كما نقرأه اليوم.
أ- بنية ف 13
يقسم ف 13 قسمين كبيرين: آ ا-35، آ 36-52. قسمان متكاملان. يتميّز القسم الاول بنقيضة التلاميذ- الجمع. والقسم الثاني بنقيضة الاشرار والابرار. ولكن كانت قسمة أخرى تأخذ بعين الاعتبار مسيرة التوسيع. نجد في ف 13 قسمين (آ 1-23، آ 24-52) يتضمّن كل منهما عرضًا مثاليًا يتوجّه إلى الجمع (آ 3-9، 24-33)، وملاحظات حول سبب ضرب الامثال (آ 10- 17، 34-35)، وشروحًا للتلاميذ حول معنى الامثال (آ 18-23، 36-52). قد تبدو هذه القسمة الأخيرة أكثر أمانة لهدف الانجيليّ. فتدعو إلى البحث لا عن تسلسل موضوعين متكاملين، بل عن وجود توسّعين متوازيين. فالقسم الثاني يستعيد بشكل مختلف موضوع القسم الأول.
ثم إن تفسير ف 13 يجب أن يحسب حساب نهاية ف 13. إن هذه المقطوعة التي تحدّثت عن قرابة يسوع الحقيقية (12: 46-50)، ختمت الاخبار السابقة، وشكّلت في الوقت عينه انتقالة إلى ف 13. أدخل فيها متّى (ق مر 3: 31-35) "الجمع" (آ 46) و "التلاميذ" (آ 49)، فرأى في التلاميذ أولئك الذين يعملون مشيئة الآب السماوي (آ 50)، رأى فيهم أناسًا يمارسون البر، فيُسمّون "أبرارًا" (13: 43- 49).
ب- لمسات متّاويّة
حين قدّم متّى التعارض بين التلاميذ والجمع، استعاد معطية سابقة، استعاد نص مرقس بعد أن أعاد صياغته. فإن مر 4 هو صورة عن نظريّة "السرّ المسيحاني" التي تميّز وجهة خاصة في الانجيل الثاني. وفي خلفيّة هذه النظرية وتطبيقها على تعليم يسوع الامثالي، نستشفّ مشكلة طرحها على الوجدان المسيحي واقعُ الايمان الذي مارسه شعب اسرائيل تجاه يسوع. ففي نظر مرقس، لا يشكّل رفضُ اسرائيل فشلاً لكرازة يسوع ولا لمخطّط الله. بل إن هذا المخطّط يجد في هذا الرّفض تتَمّةً عمل من أجلها يسوعُ بالطريقة التي احتفظ بوحيه لمجموعة مميّزة. واستعمال الأمثال كان في خدمة تدبير خلاصيّ ظهر بوضوح مع الانفصال اللاحق الذي تمّ بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ.
لا يكفي أن نقول إنّ متّى يرتبط بما في مر لكي نستنتج أنه اهتمّ بالمسألة عينها وقدّم ذات الجواب. لا نستطيع فقط أن نتوقّف عند مواد مشتركة بين الانجليين، بل يجب أن نركّز انتباهنا على ما يميّز تدوين متّى ويعطي فكره توجيهًا جديدًا. إذن، نتفحّص التفاصيل حول التلاميذ والجموع، لنرى كيف عمل متّى لكي يلقي الضوء على فصل الكنيسة عن المجمع.
أولاً- الباعث على تعليم الامثال (آ 10- 17)
يظهر عمل متّى التدوينيّ بشكل خاص في آ 10-17. في مقدّمة ف 13، توافق متّى مع مر لكي يتكلّم عن خطبة "بأمثال" قدّمها يسوع إلى الجمع (مت 13: 1-3 أ؛ مر 4: 1-2). ولكن اللجوء إلى اللغة الامثاليّة يطرح سؤالاً. أورد مر في آ 10 ما يلي:" ولما كان على حدة، سأله عن الأمثال أولئك الذين كانوا حوله مع التلاميذ". نُسب هذا القول إلى جماعة غير محدّدة، فأشار السؤال لا إلى معنى المثل، بل إلى الاسلوب الامثاليّ. وكتب متّى في النص الموازي (13: 10): "ودنا التلاميذ اليه، وقالوا له: لماذا تكلّمهم بامثال"؟ جاء السؤال في الخطبة المباشرة بشكل أوضح. لماذا؟ ما هو السبب (دياتي). لم يُسأل عن اللغة الامثالية، بل لماذا وجّه هذا الكلام إلى الجمع؟ هنا يميّز متّى تمييزاً واضحاً بين هؤلاء الناس (الجمع) وبين "التلاميذ".
لم يعط متّى جواباً واحدًا كما فعل مر 4: 11-12، بل أعطى جوابين. جواب في آ 11 لأن (هوتي). وجواب في آ 13 يستعيد ألفاظ السؤال؟ "من أجل هذا أكلمهم بأمثال لأن". جاءت آ 11 بشكل مقدّمة. أما الجواب الحاسم فنقرأه في آ 13. ثم إن كلاٌ من الجوابين قد كمّله شرح إضافي: آ 12 مع الاداة "غار" (فإن من له يعطى). آ 14-15 اللتان توردان قول أشعيا الذي تستلهمه آ 13. هذان الجوابان يُتيحان لنا بأن نعرف أن الصعوبة التي نجدها وراء السؤال الأول هي بأن يسوع يستعمل عمدًا لغة لا يستطيع الشعب أن يفهمها. فلو توجّه المثل إلى التلاميذ وحدهم، لما طرحت الامثالُ أي تساؤلا.
إن الجواب الاول (آ 11) يبرّر طريقة يسوع حين يُبرز مبادرة الله. "لأن لكم أعطي (الله أعطاكم، المجهول الالهي) أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما أولئك فلم يُعطَ لهم" (من قبل الله). إذن تتوافق لغة يسوع الامثاليّة مع ترتيب العناية الالهية التي احتفظت للتلاميذ بمعرفة أسرار ملكوت الله، ورفضتها للجمع. في هذا الجواب، قدّم متّى بطريقته المعنى الذي ينسبه إلى القسم الأولى من جواب يسوع في مر 4: 11 (رج لو 10:8 أ) ولكننا لا نجد هنا وجهته الشخصية.
فهذه الوجهة تظهر في الشّرح الذي نقرأه في آ 12: "فإنّ من له يُعطى فيزداد. أما من ليس له، فحتى ما هو له يُنزع منه". يرد هذا القول بعد ذلك في مر 4: 25 في خاتمة متتالية (آ 21-25) حاولت أن تصحّح الاقوال حول عمى الشعب (آ 11-12). فالذين نعموا بالوحي، عليهم أن ينقلوه بكرازتهم. احتفظ متّى بالآية 12. وإذ أدرجها بعد آ 11 أعطاها معنى يختلف كل الاختلاف عمّا في مر: إذا كان الله يمنح البعض معرفة أسرار الملكوت، ويمنعها عن آخرين، فلأنّ الأولين يملكون شيئًا، أما الآخرون فلا يملكون. أي إن السّبب الذي فيه انفصل قسم عن آخر، لا نجده في الله بل في الانسان وفي طريقة تقبّله لكلام الله. وهكذا شدّد متّى على مسؤولية البشر. أما قرار الله حين يقرّب البعض ويبعد البعض الآخر، فيشكّل دينونة يحدّد ما لنا وما ليس لنا. ما نحن في أعماق قلوبنا. وسيظهر معنى هذا الشرح بوضوح في ما يلي من النص.
أجل، يتوضّح النصّ في آ 13: "لهذا أكلّمهم بأمثال، لأنهم يبصرون من غير أن يبصروا، ويسمعون من غير أن يسمعوا ولا يفهموا". ذكّرنا متّى أولاً بالسؤال كما ورد في آ 10، ثم استعاد جوهر ما في مر آ 12. ولكن جاء تبدّل حوّل معنى الجواب تحويلاً جذرياً. كتب مر: "لكي إذ رأوا يرون ولا يبصرون" (هينا في اليونانية). أما متّى فقال: "هوتي" لأن. إذن عمى الناس ليس الهدف الذي توّخاه يسوع في استعمال الخطبة الامثاليّة. بل هو السبب. لقد تكلّم يسوع بأمثال لأن الجمع لا يستطيع أن يرى ولا يفهم. وشدّد متّى على غياب كل إمكانيّة عندهم. عند مر، هم يرون ولا يميّزون. عند متّى، هم لا يرون شيئًا. لا معرفة عندهم إطلاقاً. واستحالةُ النظر والفهم تعتبر خطيئة. وخطبة الامثال صارت شجبًا وعقابًا.
تدعونا آ 14-15 إلى أن نرى في موقف يسوع (كما تدلّ عليه آ 13) تتمّة لقول أش 6: 9-10 بحسب السبعينية. مثل هذه الاعتبارات عزيزة على قلب متّى. وهو يبدأها بعبارة: "لكي يتمّ". ولكنه لم يورد هذه العبارة هنا لئلا يقع في غائية (لكي) حاول أن يستبعدها. إذن كتب: "لهم (أو: فيهم) تتمّ نبوءة أشعيا الذي يقول". فأمثال يسوع، شأنها شأن كرازة أشعيا في الماضي، تحكم على أناس لا يستطيعون أن يفهموا فكانوا مسؤولين عن عماهم.
وتعود آ 16-17 إلى امتياز التلاميذ. نجد هنا قولاً أخذه مت من سياق آخر (لو 10-23-24) وأعمل فيه لمسات لها معناها. حسب لو، أعلن يسوع لتلاميذه: "طوبى للأعين التي ترى ما أنتم ترون". وحسب مت: "وأما أنتم، فطوبى لعيونكم لأنها تُبصر ولآذانكم لأنها تسمع" (13: 16). ولكنه ترك الباقي دون أن يعمل فيه قلمه. "الحق أقول لكم إنّ كثيرين من الأنبياء والصدّيقين قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا". يرى يسوع أن امتياز التلاميذ يقوم بأنه قد أعطي لهم أن يروا بعيونهم تحقيق المواعيد. فسبب سعادتهم هو الحدث الذي يشاهدونه. غير أن آ 16 تتّخذ منحى مختلفاً بفضله يتعارض وضع التلاميذ مع وضع الجموع: لقد نسب متّى سعادة (طوبى) التلاميذ إلى أن عيونهم ترى، تستطيع أن ترى. فسبب هذه السعادة لا نجده في الحدث الذي يرون. بل في الاستعدادات الشخصيّة التي تتيح للتلاميذ أن يروا بقلوبهم، أي أن يفهموا. وهكذا يتميّزون عن الجمع المسؤول عن عماه بحيث لم يتمكّن من تقبّل وحي أسرار الملكوت.
في كل هذا التوسّع، ظلّ متّى منطقيًا مع نفسه: إذا كانت الامثال تحمل وحياً يُعطى للتلاميذ ويُرفض للشعب، فليس السبب قرارًا اعتباطيًا بل استعدادات نفسيّة يستطيع البعض بموجبها أن يقبلوا الوحي، ولا يستطيع البعض الآخر. وهكذا نستعيد سؤالنا: هل نرى في التلاميذ ممثّلي الجماعة المسيحيّة، وفي الجمع ممثِّلي شعب إسرائيل الذي لم يؤمن؟ كلا، لا نستطيع أن نجد مثل هذا الجواب في آ 10-17. فالجواب نجده في تفسير مثل الزارع الذي كانت له آ 10-17 مقدّمة تفتح لنا الطريق اليه.
ثانيًا: تفسير مثل الزارع (آ 18-23)
إن اللمسات التي قام بها متّى في آ 23 تتيح لنا بأن نجد حالاً الفئتين المتعارضتين اللتين تكلّمت عنهما الآيات السابقة. فإن آ 19 تقوله إن وضْع الزرع الذي سقط على قارعة الطريق يتحقّق في "كل انسان سمع كلمة الملكوت وما فهمها". وكلمة الملكوت هي بلا شكّ تلك التي تمنح معرفة اسرار الملكوت (آ 10). فالناس الذين قبلوها دون أن يفهموها، يشبه وضعُهم وضعَ الجمع. وفي آ 23 نرى وضع الانسان الذي تلقّى الزرع في أرض جيّدة: "هو ذاك الذي يسمع الكلمة ويفهمها. إنه يثمر فيعطي تارة مئة وأخرى خمسين وأخرى ثلاثين". هذا هو وضع التلاميذ الذين "أعطي لهم أن يعرفوا أسرار الملكوت". هم يفهمون ما يسمعون. ولكن ماذا يعني "فهم"؟ قال متّى: الذي يفهم هو الذي يثمر. إذن، لا فصل بين الفهم وحمل الثمار.
ولكن يبقى سؤال: هل نستطيع أن نماهي كل عضو في الجماعة المسيحيّة مع الذي يسمع الكلمة يفهمها ويحمل ثمرًا؟ كلا. فهناك من يسمع الكلمة ويتقبّلها بفرح، ويتركها تنمو فيه، ولكنها تبقى "بدون ثمر" (اكربوس) (آ 22). هذه الصورة تنطبق على المسيحيين المقسَّمين، الذين لا يثبتون. ونجد تجاههم أولئك الذين يمثّلون الأرض الجيّدة، أولئك المسيحيين الذين هم أمناء لمتطلّبات الانجيل. وإن وافق وضعُهم وضعَ التلاميذ في آ 10-17، فهؤلاء التلاميذ لا يمثّلون المسيحيين كلهم (هم مسيحيون بالاسم)، بل الجديرين بالاسم المسيحي. أولئك الذين يجعلون التعليم الذي تلقّوه يتجسّد في حياتهم وأعمالهم.
ثالثًا: قرابة يسوع الروحية (12: 46- 50)
هنا نعود إلى الوراء ونستعيد المقطوعة التي تشير إلى النقيضة التي تحدّثنا عنها في هذه الآيات. فخطبة الامثال يسبقها (كما في مر 3: 31-35) حدثٌ يشير إلى قرابة يسوع الروحيّة (12: 46-50). بدأ الحدث في مر بدون انتقالة: "وجاءت أمه واخوته، فوقفوا خارجًا وأرسلوا يدعونه". ولكن مت جعل انتقالة بين مقطوعة (آية يونان والروح النجس) ومقطوعة: "وفيما هو يكلّم أيضًا الجموع، إذا أمه واخوته قد وقفوا في الخارج طالبين أن يكلّموه". قد يدهشنا هذا التفصيل، لأن المقطوعة السابقة أوردت خطبة وجّهها يسوع إلى "بعض الكتبة والفريسيين" (12: 38-39). نبّهوا يسوع أن أمه واخوته يطلبونه. ماذا كانت ردّة فعل يسوع بحسب مر؟ "أجال نظره في المتحلّقين حوله وقال: ها أمي واخوتي". وعند متّى نقرأ: "ومدّ يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي واخوتي". نحن هنا أمام نقيضة التلاميذ- الجمع. وانتهت مقطوعة مر بإعلان عام: "فإن من يعمل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي". ولكن مت حدّد كلام يسوع: "لانّ كلّ من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي". فبعد أن دلّ يسوع على التلاميذ على أنّهم قرابته الحقيقية، شرح أنّ هذا اللقب يعود اليهم عن جدارة لانهم يعملون مشيئة الآب. في نظر مت، التلميذ هو ممن يتمّم مشيئة الله، هو من يثمر. هل نماهي بين هذا التلميذ وبين أي مسيحي؟ كلا.
لا شكّ في أن متّى يكتب الى قرّاء مسيحّيين. ويتّخذ إرشادُه اتجاهًا عامًا. واذ عاد إلى مراجعه فأخذ نقيضة التلاميذ- الجمع، لم يحاول أن يطبّقها على التعارض بين العالم المسيحيّ والعالم اليهودىّ. ولا بين التعارض الذي يميّز الأبرار عن الأشرار. بل بين الذين يعملون بمشيئة الله والذين لا يعملون بها. بين الذين يحملون ثمراً والذين يظلّون عقمًا بدون ثمر. فالمعيار الذي يميّز البشر والذي بحسبه يُدانون، هو ممارسة البرّ قبل أي انتماء إلى جماعة مسيحيّة.
3- النقيضة في الانجيل
إن النقيضة التي تقابل بين التلاميذ والجمع (مت 12: 46-13: 52) توجد في مواضع أخرى من انجيل متى.
أ- ليس ما يدخل الفم (15: 10-16)
نجد في ف 15 مقطعًا يشبه ما في خطبة الامثال في مت 13. وهو يتأثَّر بنظرة مر إلى الجمع. ففي مر 7: 14-15 عرض يسوع على الجمع قولاً ملغزًا: ما ينجّس الانسان ليس ما يدخل فيه، بل ما يخرج منه. ثم قال الانجيلي في آ 17: "حين دخل يسوع إلى البيت بعيدًا عن الجمع سأله تلاميذه". وبّخهم يسوع لأنهم كانوا هم أيضًا "بلا فهم". وفسّر لهم قوله (آ 18-23). استعاد مت 15: 10- 11 القول اللغز الذي قاله يسوع للجمع. وحالاً تدخّل التلاميذ (لم يذكر الدّخول إلى البيت) ونبّهوا يسوع: "أتدري أن الفريسيين تشكّكوا لما سمعوا هذا الكلام" (آ 12). شجب يسوع هؤلاء العميان (آ 13-14)، ثم لبّى طلب بطرس (آ 15)، فقدّم شرحه مع لوم في البداية: "أو أنتم أيضًا بلا فهم" (آ 16)؟ "أنتم أيضًا" يعني أنتم التلاميذ صرتم شبيهين بالجمع الذي لا يفهم، أو بالفريسيين الذين تشكّكوا بعد أن صاروا عميانًا. وهكذا نظنّ أن يسوع قابل التلاميذ بالفريسيين، القوّاد الروحيّين في الشعب اليهوديّ.
ب- موقف متّى من الجمع
يبدو أن نقيضة التلاميذ والشعب التي وجدناها في ف 13، نجدها أيضًا في ف 15. وهناك من أراد أن يجد النقيضة بين اليهود والوثنيين كما في حدث المجوس (2: 1: 18)، وقائد مئة كفرناحوم (8: 5-13)، والاعلان الذي يقابل مصير مدن الجليل مع مصير المدن الوثنية والخاطئة (11: 20-24)، والقول الذي يقابل "هذا الجيل" مع أهل نينوى وملكة سبأ (12: 41-42). نجد هنا موضوعًا بعيدًا بعض الشيء عن ف 13. ولكن يبدو أننا نجده في مثل المدعوّين إلى وليمة العرس (22: 1-14). غير أن مثل المدعوّين جاء في سياق يهاجم بشكل مباشر السلطات الدينية (15:21 عظماء الكهنة والكتبة؛ 22:21؛ عظماء الكهنة وشيوخ الشعب؛ 45:21 عظماء الكهنة والكتبة)، فقابل بين موقفهم وموقف الجمع (21: 8، 9، 11، 26، 46)، أو الخطأة (21: 31- 32).
ويذكر الشرّاح بعض الاعلانات التي بها يحكم يسوع على "هذا الجيل". هنا يرتبط متّى بالتقليد السابق. في 11: 16-19 أ (= لو 7: 31-35) يشبّه يسوع هذا الجيل بصبيان جالسين في الساحات. في 38:18-42، 43- 45 (لو 29-32، 24-26)، يتحدّث الانجيل عن آية يونان والروح النجس. في 16: 1-4 (مر 8: 11-13)، يتحدّث النصّ عن طلب آية من السماء. وفي 29:23-36 (لو 11: 47- 51) حيث يقابل تعليمه مع ما يفعله الكتبة والفريسيون. وأخيرًا، يعلن مت 23: 37-39 العقاب الذي يحلّ بأورشليم. في كل هذه النصوص لا نتحدّث بشكل من الأشكال عن الجمع، بل عن ممثليّ الجمع.
في بعض المرّات، نجد في مت موقفًا حياديًا وربما مؤاتيًا من قبل الجمع. هو يجتمع حول يسوع (13: 2؛ مر 4: 1). الجموع الغفيرة تأتي إلى يسوع (15: 30). وتحدّث الانجيل الأول ست مرات عن جماعة التّلاميذ التي تتبع (اكولوتيو) يسوع (4: 25؛ 8: 1؛ 14: 13؛ 19: 2؛ 20: 29؛ 21: 9؛ رج 10:8؛ 15:12).
وتبع مت مر في حواشيه. في 11:28 (مر 1: 21) حول دهشة الجموع أمام تعليم يسوع (7: 28؛ 22: 33). حول حيرة الجموع (12: 33) وإعجابها (33:9؛ رج 15: 31). تحدّث مر 22:2 عن دهشة الجموع، أما مت 8:9 فقال: "استولى على الجموع خوف، ومجّدوا الله الذي آتى الناس سلطانًا كهذا". وأوضح مت مر حين نسب إلى الجموع انتظار يسوع ساعة دخوله إلى أورشليم: فرشوا الأردية. هتفوا. قال: "هذا يسوع النبيّ الذي من الناصرة" (21: 8، 9، 11). في 33:9 قالت الجموع: "لم يُرَ مثل هذا قطّ". وفي 12: 23: "أما يكون هذا ابن داود"؟ وفي 21: 9 زادوا على "هوشعنا" عبارة "لابن داود"، أي العظمة والمجد لابن داود. اعتبر الجمع في مر 11: 32 أن يوحنا هو نبيّ. أما مت 26:21 فجعلهم يعتبرون يسوع أيضًا نبيًا. لا شكّ في أن هذا الايمان ظلّ ناقصًا، ولكننا لا نستطيع أن ننكر مضمونه الايجابيّ دون أن نخون فكر متّى.
حين تكلّم مت عن شفقة يسوع على الشعب (36:9؛ 15: 32؛ رج 14: 14) تبع مر 6: 34: 8: 2، ولكنه شدّد فقال: "تحنّن عليهم لأنهم كانوا منهوكين، منطرحين مثل غنم لا راعي لها". ويبدو متّى مبتكراً حين يقابل الجمع مع خصوم يسوع. ففي 33:9 رأى الجموع معجبة بشفاء المتشيطن.
هتفت: "لم يُرَ شيء مثلُ هذا في اسرائيل". وجعل مت تجاه الجموع الخصوم: "أما الفريسيون فقالوا: يخرج الشياطين برئيس الشياطين" (آ 34). ونجد الشيء عينه في 23:12-24. "فبُهت الجموع كلّهم وقالوا: أفلا يكون هذا ابن داود؟ ولكن حين سمعهم الفريسيون قالوا: هذا الانسان يطرد الشياطين ببعل زبول رئيس الشياطين". وخبر الدخول الى أورشليم يرينا مشهداً مماثلاً: الجموع التي تهتف ليسوع وتسمّيه "ابن داود"، "النبي" (21: 9, 11). وعظماء الكهنة والكتبة الذين "يسخطون" على هذا الموقف ويلومون يسوع (آ 15-17).
ولكن الوضع يتبدّل في خبر الحاش والآلام. لقد دخلت "الجموع" في لعبة خصوم يسوع (27: 20-25؛ رج 26: 47، 55). فمع النقيصة بين الجموع والتلاميذ، هناك نقيضة بين الجموع وخصوم يسوع. ولكن في النهاية ستصبح الجموع مع خصوم يسوع تجاه التلاميذ. سيصبحون من الخارج بينما كان التلاميذ من الداخل. سيصبحون بلا فهم وعميانًا على مثال قادتهم.
ج- فهم التلاميذ
توقّفنا عند نظرة مت إلى "الجمع" في كل انجيله. فما هو موقفه من "التلاميذ"؟ نتحدّث فقط عن "الفهم"، ونستنتج في النهاية أن مت يختلف عن مر الذي شدّد مرارًا على اللافهم عند التلاميذ.
ونبدأ في خطبة الامثال. في مر 4: 10، سأل الذين يحيطون بيسوع "حول الامثال". في مت 13: 10، التلاميذ هم الذين سألوا: "لماذا تكلّمهم بأمثال"؟ لماذا يستعمل هذه اللغة أمام أناس لا يستطيعون أن يدركوا معناها. هذا يعني أن التلاميذ فهموا كما تفترض آ 11، 16. يبدأ شرح مثل الزارع عند مر بملامة: "أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف إذن تفهمون سائر الامثال" (13:4)؟ غابت الملامة من مت: "أنتم إذن اسمعوا مثل الزارع" (18:13). أنتم الذين ترى عيونهم (آ 6، 2). أنتم تستطيعون أن تفهموا. وختم مر 4: 33-34 مقاله: "وبكثير من مثل هذه الامثال كان يلقي عليهم الكلمة على قدر ما كان في وسعهم أن يفهموا. ولم يكن يكلّمهم بغير مثل، إلاّ أنه في الخلوة كان يفسّر لتلاميذه الاخصّاء كل شيء". ترك مت "على قدر ما كان في وسعهم أن يفهموا". فهذا يعني أن الناس كانوا يستطيعون أن يفهموا بدون أمثال (13: 24). وفي النهاية سأل يسوع تلاميذه: "أفهمتم هذا كله"؟ أجابوا: "نعم" (آ 51). وهكذا قال متّى بوضوح إنّ التلاميذ فهموا.
وقال مرقس إنّ يسوع حذّر يومًا تلاميذَه من خمير الفريسيّين وخمير هيرودس. وتساءل التلاميذ. فوبّخهم يسوع: "لماذا تتجادلون على أن ليس معكم خبز؟ أفلا تعقلون بعد. أفلا تفهمون؟ أو تكون قلوبكم عمياء؟ لكم عيون ولا تبصرون، لكم آذان ولا تسمعون" (8: 17-18). أما متّى فاحتفظ من كل هذا الكلام بما يلي: "يا قليلي الايمان، لماذا تفكّرون في نفوسكم على أن لا خبز معكم؟ أما تفهمون بعد" (8:16-9)؟ قد نقوله إن التلاميذ لم يفهموا بسرعة، ولكن هناك مسافة بين البطء في الفهم والعمى الذي يتحدّث عنه مرقس. عند ذاك ذكّرهم يسوع بتكثير الأرغفة. أفلا تذكرون؟ أفلا تفهمون (8: 21)؟ أما متّى فترك صيغة الاستفهام. ذكر يسوعُ معجزاته ثم شرح: "كيف لا تفهمون أنني لم أكلّمكم عن الخبز بل من تعليم الفريسيّين والصادوقيّين" (16: 22)؟ ولم يقف متّى عندها السؤال، بل زاد: "عندئذ فهموا أنَّه لم يقل لهم أن يحذروا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيّين والصادوقيّين" (آ 13). ظلّ مر على مستوى لافهم التلاميذ. أما مت فقال إنهم فهموا، وأوضح التّعليم الذي فهموه.
بعد أول تكثير للأرغفة، انضمّ يسوع إلى تلاميذه ماشياً على المياه. وأورد مر 6: 51-52 ردّة فعل التلاميذ: "اضطربوا لأنهم لم يفهموا شيئًا في أمر الخبز. كانت قلوبهم عمياء".
أما مت 33:14 فقال: "الذين كانوا في السفينة سجدوا له قائلين: حقاً أنت ابن الله". لم نعد أمام لافهم التلاميذ، ولا أمام عمى قلوبهم. بل أمام فهم عميق دلّ عليه فعل إيمان عظيم.
وبعد التجلّي أوصى يسوع تلاميذه بألاّ يقولوا لأحد ما رأوا حتى قيامته من بين الأموات. ولاحظ مر 9: 10: "فحفظوا الوصيّة متسائلين في ما بينهم ما معنى متى قام من بين الأموات". ترك متّى هذه الحاشية التي تدّل على لافهم الرسل. وبعد أن جاءت شروح للغزه حول رجوع إيليا، شرح متّى: "حينئذ فهم التلاميذ أنه كلّمهم عن يوحنا المعمدان" (17-13). أجل، لقد فهم التلاميذ، وهذا أمر طبيعيّ.
وبعد الكلمة الملغزة عمّا ينجّس الانسان، سأل التلاميذ يسوع الذي بدأ يوبّخهم على عدم فهمهم: "أإلى هذا الحدّ أنتم أيضًا بلا فهم" (7: 18)؟ وقال مت 14-16:" أو أنتم أيضًا بلا فهم" (15-16)؟ لسنا أمام درجة اللافهم لدى التلاميذ، بل أمام البطء في التخلّص من هذا اللافهم الذي لا يمكن إلاّ ان يكون مؤقتاً.
نستطيع أن نقرّب هذه النصوص من تلك التي تتحدّث عن "قلّة الفهم" (اوليغوبسيتا) عند التلاميذ. مت 6: 30 (= لو 12-28)؛ 7: 27؛ 14: 31؛ 16: 8؛ 17: 20. وبّخ يسوع التلاميذ: "لماذا أنتم خائفون إلى هذا الحدّ؟ أليس عندكم إيمان" (مر 4: 4)؟ أما مت 8: 26 فقال: "لماذا أنتم خائفون يا قليلي الايمان"؟ اعتبر مر أنّ لا إيمان عندهم البتّة. واعتبر مت أن إيمانهم قليل. أن عندهم بعض الايمان. إن نقص إيمان لا يلغي الشكّ كله (14: 31)، بعيدٌ عن وضع تلاميذ يعيشون في اللاإيمان (ابستيا، 13: 58= مر 6: 6).
لا يكفي أن نلاحظ هذه اللمسات عند متّى، بل يجب ان نتسائل عن السبب الذي دفعه إلى مثل هذا الموقف. لا شكّ في أن متّى يفكّر في قرّائه حين يعلن في نهاية المقطوعة ما فهم الرسل من تعليم. هذا الاسلوب الأدبي يتيح للانجيليّ أن يعلمنا بمدلول كلام يسوع. فالاهتمام التربويّ عند متّى يترافق مع الفقاهة والارشاد: حين نسب إلى التلاميذ فهماً يستبق زمن الفصح، بيّن بوضوح ماذا ينتظر من القرّاء المسيحيّين. ثم هو راعى تلاميذ يسوع الأولين الذين صاروا للمسيحيّين شهود الايمان وأساس الكنيسة. فكلام مرقس قد يشكّك هؤلاء المسيحيّين. لهذا أخذ متّى بعين الاعتبار الاكرام الذي يحيط بذكرى هؤلاء الرسل الذين فهموا فأثمرت فيهم كلمة الملكوت.

خاتمة
وصلنا في القسم الأول من هذا المقال إلى نتيجة تقول إن التمييز بين "بني الملكوت" و"بني الشرير" يحمل بُعداً أخلاقياً في فكر الانجيليّ. فالأوّلون ليسوا أعضاء الجماعة المسيحية، وليسوا فقط المسيحيين الذين يمارسون البرّ. كما لا نستطيع أن نحدّد موقع بني الشرير خارج الكنيسة (أو فقط في الكنيسة). لا شكّ في أن مت أراد أن يدفع قرّاءه المسيحيين إلى إعمال الفكر في كلام الربّ، غير أن كلامه يتحدّد على المستوى الاخلاقي. فالدينونة الأخيرة التي يشير اليها لا تأخذ بعين الاعتبار إلا ممارسة البرّ وتتميم مشيئة الله.
ويُطرح سؤال حوله نقيضة التلاميذ والجمع: هل تعكس وجه الكنيسة تجاه المجمع؟ هنا نقدّم ثلاثة اعتبارات. الاول، الفكرة هي هي في هذه النقيضة كما في نقيضة الابرار والاشرار. ثم إن لمسات متّى التدوينية تدلّ على امتدادات أخلاقيّة بالدرجة الاولى واهتمامات إكليزيولوجية في الدرجة الثانية. فهذا الفصل التام بين الكنيسة والمجمع لم يحدث في زمن يسوع، بل حوالي سنة 80 وتدوين الانجيل الأول. وأخيرًا لاحظنا أن التعارض بين الجمع الذي لا يفهم والتلاميذ الذين يفهمون، لا يوافق دومًا وجهة الانجيلي الاول، بل وجهة الانجيلي الثاني. فالجمع لا يمكن أن يدلّ على العالم اليهوديّ في رفضه للانجيل. أما التلاميذ الذين قدّمهم الانجيليّ كمثالة للمؤمن في كنيسته، فلا نستطيع أن نرى فيهم فقط ممثّلي الجماعة المسيحية. هم مثال لأن معرفة أسرار الملكوت لا تنفصل عندهم عن تتميم مشيئة الله وعن حمل ثمر بعد أن سمعوا كلمة الملكوت. وهكذا نكتشف وجهة الفقاهة في انجيل متّى. لا شكّ في أنه رأى الفصل بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ في أيامه، ولكنه اهتمّ قبل كل شيء بالطاعة لله الذي سيدين كلّ واحد بحسب أعماله (16: 27).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM