الفصل الاول
الشريعة والانجيل في بشارة متّى
الشريعة (نوموس، الناموس) هي وحي إلهي دُوّن في التوراة، في العهد القديم. في القرن الأول، تسلّم المؤمنون في فلسطين الشريعة كمجموعة قانونيّة وأخلاقيّة. غير أن هذه الشريعة الموروثة من الآباء والعصور في فتاوى، والموسّعة في الأسفار الجليانيّة، قد أخذها يسوع خلال حياته العمليّة فأعاد تفسيرها وأبرز ما يدّل فيها على مشيئة الله تجاه البشر. ومع بولس الرسول أخذ مدلولُ الشريعة اتجاهاً آخر فأشار إلى أمرين مميّزين: الشريعة هي أولاً التعبير المقدس والصالح لمشيئة الله كما عبّر عنها تقليد الآباء. وهي ثانياً طريق الخلاص لدى اليهوديّ. هي طاعة للشريعة بها يعلن الانسان إيمانه بالله. وما نلاحظه هو أن بولس يتجاهل في رسائله تقليد تعليم يسوع حول الشريعة كما نجده في انجيل متّى. وهكذا حين نتكلّم عن الشريعة في العهد الجديد، يجب أن نحدّد: هناك الشريعة كما دونّت في العهد القديم، وإعادة تفسير الشريعة في فم يسوع، والنظرة التي يدافع عنها بولس.
ونفهم بلفظة "انجيل" (اونجيليون) في الرسائل البولسية إعلان موت يسوع وقيامته كالحدث الاسكاتولوجي الذي يؤسّس خلاص البشر. أخذ مرقس هذه اللفظة كمقولة تفسيرية لكي يصف رواية الاحداث المرتبطة بحياة يسوع العلنيّة (مر 1: 1). فهذه الاحداث التي قدّمها مر بشكل خبر صارت إعلانًا وكرازة. ونلاحظ أن صاحب الانجيل الثاني قد وسّع الحقل الذي "فلحه" بولس في رسائله: لا يذكر فقط موت يسوع وقيامته من أجل عطيّة الخلاص، بل كرازته وأعمال معجزاته قبل المحاكمة في أورشليم. وما فعله مرقس صار مدرسة في بداية القرن الثاني. فلم تعد لفظة "انجيل" تدلّ على تعبير أصيل عن الايمان بواسطة الكرازة، بل على فنّ أدبي يذكر مصير يسوع على الارض منذ مولده إلى حدث الفصح من موت وقيامة. استعمل بولس لفظة "انجيل" في المعنى القديم. أما متّى فانطلق من معناها في أواخر القرن الأولى المسيحي.
بعد أن حُدّدت "الشريعة" (أو الناموس) بشكل موجز في إطار العهد القديم، نتساءل عن علاقتها الواضحة بالعهد الجديد. هذا هو وضع بولس الذي صاغ جدليّة الشريعة والانجيل، الناموس والمسيح. ماذا يعني هذا؟ يرى بولس أن المسيح هو نهاية الشريعة كطريق خلاص. وفي الوقت عينه أن يسوع الذي نتقبّله في الايمان، يمكّننا من طاعة متجدّدة للشريعة. هذا النموذج الذي توسّع فيه الرسول، لا نجده بهذا الوضوع عينه ولا بذات الكلمات في انجيل متّى. لهذا نتساءل في أي معنى (وكيف) يظهر في السرد المتّاوي، اعلانُ مشيئة الله وإعلان الخلاص، كيف تظهر الشريعة والانجيل؟ هذا السؤال هو موضوع القسم الأول. وبعد أن نحدّد موقع الموضوع من الوجهة الادبيّة والتاريخيّة، نبرز الاشكاليّة المركزيّة المتّاوية التي هي فهمه للشريعة. ولكن إن كانت الشريعة في قلب كرستولوجية (مشروع) متّى، هل يبقى مكان للانجيل، لاعلان الخلاص؟ لهذا نحاول أن نحيط بالموضوع السوتيريولوجي (أي الخلاص) في القسم الثالث. ونقابل في النهاية بين نظرة بولس ونظرة متّى.
1- الشريعة والانجيل عند متّى على المستوى الادبي والتاريخي
هل نجد لفظتَي "الشريعة" و"الانجيل" في بشارة متّى؟ وإن كان الجواب نعم ماذا يعني وجودهما؟ كلُّ بحثنا يرتبط بالجواب على هذين السؤالين.
العنصر الأول من الجواب يقف على المستوى الاحصائي. فلفظة "نوموس" تحتلّ مكانة واسعة في متّى. فصاحبُ الانجيل الاول يستعمل مرارًا عبارة "الشريعة والانبياء" (5: 17؛ 12: 22، 40؛ 11: 12). ويستعمل أيضاً كلاً من اللفظتين وحدها. "إلى أن تزول السماء والارض، لا يزول من الناموس ياء" (5: 18؛ رج 12: 5؛ 22: 26؛ 23: 23). وهناك لفظة "انتولي" (وصيّة) في 19:5؛ 3:15؛ 17:19؛ 36:22، 28، 40). ونضمّ إلى "الناموس" (نوموس) عدداً من الألفاظ القريبة بمعناها:" صنع إرادة الآب (3 مرات). البرّ (7 مرا، ديكايوسيني). أمر (7 مرات، كالاوو). حفظ (6 مرات، تيريو). "اللاناموس" (4 مرات، انوميا). المُرائي (4 مرات، هيبوكريتيس). ونستطيع أن نقدّم الملاحظة الثانية في ما يخصّ الانجيل: انجيل الملكوت (3 مرات). هذا الانجيل (مرة واحدة). ويُستعمل فعل "انجل" (اونجليزوماي) مرّة واحدة في متّى.
وبعد الإحصاء يُطرح سؤال ثان: هل تحتل هاتان اللفظتان مكانة هامّة في انجيل متى؟ هل تشكّلان موضوعاً يُشرف على السرد المتّاويّ؟ والجواب هنا يكون أيضًا بالايجاب. إن إشكالية الشريعة هي إشكاليّة مركزيّة في بشارة متّى، وهي تعود إلى مرقس كما تعود إلى المعين. وما نجد في المعين قد قدّمه الانجيليّ في خمس خطب (5-7؛ 10؛ 13؛ 18؛ 24-25)، أكّد يسوع من خلالها أنه المعلّم والمفسّر الاسكاتولوجي لمشيئة الله. ومع هذه الخطب الكبرى نجد أخبار الجدالات: يبدو يسوع وتلاميذه أمناء في الحقيقة لشريعة الله بشكل جديد وجذريّ، و يبدو هو بنفسه ذاك الذي يعمل بها.
إذا كانت "الشريعة" موضوعًا مركزيًا في متّى، فما يكون من أمر الانجيل؟ هنا يجب أن نميّز: فلفظة "اونجليون" تدّل عند متّى على كرازة يسوع على الأرض، على مضمون تعليمه (4: 23؛ 9: 25؛ 24: 14؛ 26: 13). في هذا المعنى، هناك رباط بين الشريعة والانجيل: فإن كانت الشريعة هي مضمون إعلان يسوع خلال حياته على الارض، فالانجيل يدلّ على ملء تعليم المسيح. على تعليم المسيح في كماله. ولكننا لا نتوسّع الآن في هذا الموضوع. فالانجيل كفنّ أدبي اخترعه مرقس واستعاده متّى، يسترعي اهتمامنا. فعلى مستوى أساسيّ، يلاحظ القارئ أن موضوع الشريعة الذي هو في قلب الكرستولوجيا المتّاويّة، قد توسّع فيه متّى في إطار سرد منظّم حسب نموذج الانجيل. ففي هذه العلاقة الفريدة بين الشريعة التي هي موضوع لاهوتي مركزيّ في مت، والانجيل الذي هو نموذج أدبيّ ينظّم هذا الموضوع ويبنيه، يبرز الرباط الذي يشير إلى العلاقة بين الشريعة والانجيل في بشارة متّى.
تعرّفنا في هذه المقاربة الاولى إلى الطريقة التي بها تُطرح المسألة على المستوى النصوصيّ المحض. ولكن يجب أن نكمّلها بمقاربة ثانية تتطرّق إلى البُعد السياقي. السياق هو إدراج الانجيل في التاريخ. ونحن ندرس هذه المساحة التاريخيّة التي هي سياق متّى، في عمقها (المستوى التفصيليّ وتسلسل الافكار) وفي اتساعها (المستوى الاجمالي والبلاغي).
في الوجهة التفصيليّة (دياكرونيا)، نعرف أن انجيل متّى لم يكن على اتصال مباشر مع يسوع التاريخي (مسافة 50 سنة على الأقل. لغة الانجيل غير لغة المسيح). إنه لم يعرف الالفاظ التي بها تحدّث يسوع عن الشريعة (كل ما يملك هو الفكر). إذا كان الاتصال المباشر مرفوض لمتّى، فهناك الاتصال غير المباشر بواسطة التقليد الشفهيّ وهو مفتوح له. غير أن التقليد الذي عرفه متّى لم يكن اجماعاً، بل افترق في تقاليد متعدّدة. فورث من مر، أوّل مراجعه، تعليماً عن يسوع الذي يناوئ "الشريعة"، عن يسوع الذي يحرّر الانسان من "التوراة" كما كان العالم اليهوديّ يعيشها. والمرجع الثاني هو المعين (كويلي) الذي نجد آثاره في مت ولو. وتبقى المتاويات أي تقاليد خاصة بمتّى. هنا نجد يسوع أميناً للشريعة ومصدّقًا تفسير الرابينيّين لها. إذن التقليد الذي يستند إليه متّى هو متعدّد، بل تتضارب عناصره. وهكذا يبقى على الانجيلي أن يحدّد موقعه تجاه مواقف متنوّعة يقدّمها له التقليد.
إذا كان التقليد متنوّعًا، فليس الامر كذلك بالنسبة إلى حامليه. من هذا القبيل، نذكر بأنه إن دوّن الانجيلُ الاول في القسم الثاني من القرن الاول، في إحدى مدن سورية الطبيعية (أنطاكية، حمص...)، يبقى أن الارضيّة التاريخيّة التي دوّن فيها قد عرفت مواجهة حارّة حول مسألة الشريعة.
وها نحن نقدّم بعض الوقائع. إن الاضطهاد الأوّل الذي انصبّ على جماعة أورشليم، ضرب الهلينيين (يتكلّمون اليونانيّة) أي مجموعة المسيحيين التي قادها اسطفانس. فتحرّرت من الشريعة والهيكل والاعتقاد باختيار اسرائيل التاريخيّ كشعب الله. فبعد موت القائد، هرب هؤلاء المسيحيّون من اليهودية المعادية، وأقاموا في سورية الغربيّة حيث أسّسوا أولى الجماعات الهلنستية ونفحوها بعقيدتهم. وبين سنة 30 و50، تغذّت هذه الجماعة من فكر وعمل بولس (واستندت إليهما) ذاك اليهودي الشهير الذي قدّم تعليمًا لم يضاهه فيه أحد حول الحريّة المسيحيّة تجاه الشريعة. في هذه المنطقة من سورية الغربيّة انتشر الانجيل بحسب مرقس فدلّ على ارتباطه بالبراهين البولسية. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، وفي ذات المساحة الجغرافية والتاريخية والكنسيّة، قاد الحملة على الهلينيين، على بولس ومرقس، مسيحيّون متهودّون قريبون من يعقوب (أع 15: 1)، ومن وبطرس كما يظهر من حادثة أنطاكية (غل 2: 11-14)، ومن وبرنابا الذي قطع علاقاته مع بولس (أع 15: 36-40). وبمناسبة سقوط أورشليم سنة 70 م، انتقلت حلقة الانبياء واليهوداويّين الذين حملوا تقليد "المعين" نحو الجماعات السوريّة. هذا يعني أن كاتب الانجيل الاول دوّن كتابه في مناخ كنسي اهتمّ بمسألة الشريعة فتمزّق إلى "فرق" وتحمّس للشريعة أو ضدّها. قد أراد متّى في الجيل الذي تلا جيل بولس أن يقدّم نظرة شاملة حول العلاقة بين الشريعة والانجيل. من أجل هذا كتب ما كتب.
بعد أن ذكرنا الدينامية التاريخيّة والتفصيليّة (الدياكرونية) التي فيها يتسجّل متّى، نتطلّع إلى الاطار الاجمالي (السنكروني)، إلى الوضع الدقيق الذي كان فيه الانجيلي حين دوّن كتابه. في هذه النقطة ايضاً هناك اتفاق: السياق الذي فيه عُرف الانجيل الاول، يشرف عليه جدالٌ حول الشريعة مع هجومين اثنين.
الهجوم (أو: الحرب) الاول على الخارج. هي حرب على هؤلاء الاخوة الاعداء الذين هم المجمع الفريسي الذي يقوده المعلمون (الرابينيون)، ويرسمه الانجيل من خلال مختلف المجموعات اليهوديّة المناوئة ليسوع. الحرب الخارجية هي حرب الشرعيّة. الكنيسة هي منذ اليوم اسرائيل الجديد وشعب الله الحقيقيّ. لهذا، فالسؤال الذي يعالَج، ليس السؤال حول شرعيّة العهد القديم أو التوراة. فاليهود والمسيحيّون متّفقون على أن الشريعة هي تعبير عن مشيئة الله. السؤال هو: من الذي تسلّم بشكل شرعيّ إرث العهد القديم؟ من الذي يحمل التفسير الشامل للشريعة، المجمع أم الكنيسة؟ من الذي تسلّم تقليد الآباء، اليهودية أم المسيحية؟
هل العودة الى يسوع نفسه تُفسّر الوحي الذي منحه الله للآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب، أم تدلّ على صحته وتكمّله؟ واصطدمت الكنيسة في ما تقول بما يقوله المجمع. وكانت المواجهة قاسية. فيسوع الذي عاش على الأرض هو الذي يجمع الفئتين في احترام التوراة، ويفصل بينهما فصلاً لا رجوع عنه في تفسيرها. في هذا المناخ حمل متّى القلم ليدلّ على أن إله اسرائيل يتضامن مع الشعب الجديد، مع الكنيسة. أما اسرائيل التاريخيّ (أو: الشعب اليهوديّ) فقد حكم على نفسه حين رفض المسيح، والبرهان على ذلك هو دمار أورشليم والهيكل. والتوراة الحقيقيّة هي التوراة المسيحيّة.
ذاك هو التأكيد الذي لم يتّفق عليه المسيحيون في سورية الغربية. وهكذا تحوّلت الحرب من الخارج إلى الداخل. ففي كنيسة متّى شرائح لم تنضمّ إلى التيّار الذي جسّده الانجيليّ ودافع عنه. فهناك مسيحيّون (هذا ما يدل عليه الارشاد في عظة الجيل، 13:7-23) محوروا تقواهم على يسوع المرتفع في المجد (في الغمام)، فما عادوا يهتمّون بتعليم يسوع حين كان على الأرض، بهذا التعليم الذي يدور حول الشريعة، والذي أعاد له متّى كل اعتباره (28: 16-20).
وهكذا جاء انجيل متّى بشكل تحدٍّ مزدوج: تحدّ للمجمع اليهوديّ، للعالم اليهوديّ، وتحدّ للذين يرفضون الشريعة المسيحيّة، يرفضون أن يعملوا بمشيئة الله كما اعلنها يسوع في انجيله. ففي الحالتين، البرهان ضدّ الخصوم هو هو. تعليم يسوع على الأرض، تعليمه المركّز على الشريعة، هو السلطة التي تشكّل القاعدة الوحيدة للمسيحيّ. فإن كان الامر كذلك، يُطرح سؤال هام: ما هي الشريعة في نظر متّى؟ وما هي علاقة الشريعة بالكرستولوجيا، بالتعليم عن يسوع المسيح؟
2- مفهوم الشريعة عند متّى
لا نجد كلامًا واحدًا عن الشريعة عند متّى. أما نحن فنرى في الشريعة "التوراة" (في المعنى الحصري) التي تسلّمها اسرائيل. هنا نلاحظ تعابير متناقضة في هذا المجال: تعلن بعض النصوص قيمة الشريعة بجملتها. وهناك نصوص أخرى تقول إنه يجب أن نفسّرها أو نلغيها. والمثل الواضح في هذا الموضوع نجده في عظة الجبل: إن الاعلان البرنامج في 17:5-20 يقدّم يسوع كذاك الذي يتمّ الشريعة وبالتالي يؤكّد شرعيّتها. غير أن النقائض التي تتبع حالاً هذه الآيات ترينا في يسوع ذاك الذي يعيد تفسير الشريعة، وفي بعض الحالات يلغيها. فكيف نفسّر هذا التباين في الخطبة؟ كيف استطاع الانجيليّ أن يقدّم تأكيدات متقاربة يناقض الواحد الآخر؟ في هذه الحالة، أين هو التماسك المتّاوي؟ إذا أردنا أن نلقي ضوءًا على هذه الاشكالية نتساءل: في أي معنى يكون الناموس شرعيًا؟ وفي أي معنى يجب أن نعيد تفسيره أو نلغيه؟
أ- قيمة الشريعة
نبدأ فنقول إن الشريعة قيّمة بجملتها في نظر متّى. إذ أكّد بولس أن "المسيح هو نهاية الشريعة" (روم 10: 4)، شددّ متّى بشكل قاطع على أن المسيح لم يُلغ الشريعة بل يتمّها، أي يعطيها كامل قيمتها: لا جدال في أي تفصيل. في أي حرف. في "يوتا"، أي أصغر الحروف العبريّة (5: 18-19). إن الشريعة التوراتيّة كما تسلّمها اسرائيل على مدّ تاريخه، هي قاعدة حياة، وتبقى التعبير الصحيح عن مشيئة الله. حتّى الشريعة التي يعلّمها الكتبة تحافظ على قيمتها. فمهما يقولوا لكم لتفعلوا فافعلوا (3:23).
اذا كانت الشريعة قد ارتدت مثل هذه الاهميّة وهذه السلطة، فكيف تتعامل مع الكرستولوجيا؟ ما هي العلاقة بين الشريعة والمسيح المتّاوي؟ الجواب هنا أيضًا قاطع ومدهش: تشكّل التوراة المرجع الذي يتيح لنا من أن نثبت هوية المسيح كذلك "الماسيا" المنتظر، وأن نفهم مجمل رسالته على الأرض.
فالتوراة كوعد هي المجالس الذي يتيح الاعتراف بمسيحانيّة يسوع تجاه اسرائيل. وهذا ما تدلّ عليه الإيرادات العديدة التي تقول "لكي يتمّ" والتي تميّز الانجيل الأول: يسوع هو المسيح المنتظر بقدر ما يجعل من النبوءة القديمة حقيقة وواقعاً (يتمّها في شخصه وفي أعمال). كل أوقات حياته تدلّ على ذلك. من الولادة إلى الصليب مروراً بالمعجزات، يُتمّ يسوعُ الانتظار المسجّل في قلب التوراة. اذن هو يتمّ التوراة كوعد.
تلك هي الوجهة الأولى. وفي الوجهة الثانية نقول إن يسوع يتمّ التوراة كمتطلّبة تُفرض علينا وذلك على مستويين. من جهة، يتمّ يسوع التوراة كمتطلّبة على مستوى تعليمه. فكرازته تقدّم تعبيرًا جديدًا عن مشيئة الله كما وصلت في الأصل الى الآباء. ومن جهة ثانية، يتمّ يسوع التوراة كمتطلّبة على مستوى حياته. فكلّ ساعة من مصيره هي تثبيت لكلمة تفوّه بها. وهي تكشف الطاعة المثاليّة التي مارسها الابن. وهكذا يدل الحاش (أي الآلام) بشكل مميّز ونهائيّ على أن ذاك الذي يعلن برّ الله هو نفسه بارّ. إذن شخص يسوع هو المساحة التي فيها تبلغ التوراة (بالمعنى الحصري للكلمة، أي أسفار الشريعة الخمسة) كوعد ومتطلبة الى ملء تفتّحها وكمالها. هنا يتساءل البعض: هل يسوع هو فوق التوراة أم مرتبط بها؟ هو ينطلق من التوراة، شأنه شأن كل يهوديّ، ولكنه يتجاوزها إلى ما لا حدود.
ب- تفسير الشريعة
وندخل الآن في المحور الثاني: إعادة تفسير الشريعة. كيف يتم ذلك؟
أولاً: اخبار الجدال
نشير أولاً إلى اخبار الجدال، لأن مناخها هو الشريعة كموضوع خلاف بين يسوع وتلاميذه من جهة، وبين اليهود من جهة أخرى. فمسيح الجدالات المتّاوية هو مسيح يطالب بتفسير صحيح للتوراة تجاه خطبة الفريسيين وما فيها من انحراف. وهذا التفسر الصحيح للتوراة الذي ينادي به يسوع، يضح أمامنا على الاقل نموذجين اثنين.
النموذج الاول لتفسير الشريعة في الجدالات (خصوصًا 3:15-6؛ 19: 4-8) يقوم بالعودة إلى مشيئة الخالق الأصليّة ضدّ حرف الشريعة. وهكذا لن يعود للشريعة قيمة في ذاتها لأن موسى أعلنها، بل تصبح ذات قيمة بقدر ما توافق مشيئة الله في الابتداء. إذن خضعت الشريعة للتدقيق، واحتاجت إلى تفسير يقيّمها باسم الله. إن النظرة الكرستولوجيّة واضحة: وحده الذي يعيش في اتّحاد تام مع الله يستطيع أن يقدّم شهادة الله ضدّ التوراة. ولكن مجرَّد وجود هذه الامكانية يعني أن التوراة ليست الظهور الفريد والمباشر لله، بل واسطة من الوسطاء تحتاج إلى تفسير.
والنموذج الثاني لتفسير الشريعة في الجدالات نراه بشكل خاص في 12: 1-8. هو يدلّ على متطلّبتين مسجّلتين في التّوراة قد تدخلان في صراع مثل خدمة الهيكل وراحة السبت. هذا الصراع الذي ولّدته "التوراة" نفسها، يفرض قرارًا يدلّ على سموّ وصيّة على وصيّة أخرى أو على سائر الوصايا: ولكن حين نؤكّد في ظرف خاص أن وصيّة تسمو على أخرى، ندمّر من جهة سلطة الشريعة، كما يعبّر عنها (لم تعد الوصيّة ذات قيمة بمجرّد وجودها في أسفار الشريعة)، ونختار من جهة ثانية مبدأ آخر من التراتبية. لقد اكتشف المسيح في المحبة مبدأ التفسير هذا، حين أورد هو 6: 6 في 13:9 و17:12 (أُريد رحمة لا ذبيحة)؛ 23: 23. وهكذا تفتح أخبار الجدالات فجوة واسعة في النظرة اليهودية: لم نعد نأخذ بالشريعة ككل في جميع تفاصيلها. (هناك أمور لم يعُد لها قيمة اطلاقاً في التدبير الجديد). ثم لا قيمة للشريعة إلاّ بقدر ما توافق مشيئة الله منذ الابتداء (إذن، قبل موسى). إلاّ بقدر ما توافق الهدف الأول الذي لاجله وُضعت، وهو الحبّ. ونقول بشكل مفارقة: يحقّ لنا في نظر المسيح المتّاوي أن نتجاوز الشريعة باسم الشريعة لأنّ المحبة تسمو على الحرف. بل إن الحرف يقتل.
ثانيًا: النقائض في عظة الجيل
توخّينا أن نتعرّف إلى تفسير يسوع للتوراة، فدخلنا في حقل الجدالات. وها نحن ننتقل إلى حقل آخر هو نقائض عظة الجيل (5: 21-48). نبدأ فنلاحظ أن المسيح لا يهاجم هنا مجمع الفرّيسيين، بل يعلّم الكنيسة التي يمثّلها التلاميذُ (5: 1). والتعليم الذي يمنحه يدلّ على مشيئة الله تجاه الانسان. وهو تعليم أصيل: هو يعود بلا شكّ إلى تقليد الآباء، لكي يستبعد به عادات وتقاليد، ويعود إلى مشيئة الله في وجهها الجديد والجذري. وهكذا صار نموذج تفسير الشريعة جذريّة الانجيل. هنا نوضح فنقول إن العالم اليهوديّ في زمن المسيح، وفي مختلف تيّاراته، قد تطلّع هو أيضًا إلى جذريّة الشريعة. غير أن هذه الجذريّة ظلّت على مستوى الكميّة: العدد الكبير من المتطلّبات (613 وصيّة) التي سجّلتها "الهلكة" (أو الدروس السلوكية). وهكذا بلغت هذه الجذريّة إلى تشعّب علم الفتاوى.
لا شيء من كل هذا عند يسوع كما حدّثنا عنه متّى. فالجذريّة هي نوعيّة لا كمية بمعنى أنها تكثر عدد الفرائض. هي طاعة عميقة جداً لا تبقى على مستوى القشور والعمل الخارجي. الطاعة لا يمكن أن تكون جزئيّة، أن تعمل هذه وتترك تلك. ولا يمكنها أن تحدّد، لان الله يعطي بلا حساب. فهل نضع حدودًا لطاعتنا؟ متطلّبات الله لا حدود لها، لان يسوع يدّمر كل ما يمنع أمانتنا لله من أن تكون كاملة. لا تقتل. ليس هذا فقط، بل أيضًا لا تغضب. لا تزن. ليس هذا فقط، بل لا تنظر الى امرأة لكي تشتهيها. فالغضب، والنظرة الدنسة والطلاق "الشرعيّ" (إذا كان هناك من طلاق شرعي) والحلف البسيط، والمحبة التي تستبعد الاعداء... كل هذا يعارض مشيئة الله. مثلُ هذا الكلام يعني تجاوزًا للشريعة التقليديّة. وهذا ما نكتشفه حن نقرأ 5: 21-48. هناك ثلاث نقائض تطلب من الوصية اكثر مما طلبته التّوراة (القتل، الزّنى، الحلف). (5: 21- 30، 33-37) وثلاث أخرى تلغي وصيّة التّوراة: الطلاق (5: 31- 32)، الانتقام، محبّة الاعداء (5: 38-48).
إذا كان على حرف التّوراة أن يُمّحى هنا أيضاً، فما هو الهدف الاخير لهذا التفسير المركّز على الجذريّة؟ نحن هنا أمام الحبّ كما في أخبار الجدال. فحين نطلب من الانسان طاعة جذريّة، نطلب منه أن يستسلم بكليّته لما يطلبه منه الله، نطلب منه الانفتاح التام والجهوزيّة الكاملة. هذا ما تدلّ عليه هذه النقائض التي تتسجّل كلها في اللوحة الثانية من وصايا الله: انفتاح على القريب واستعداد للعمل من أجله. هنا نلامس نقطة حاسمة سنجدها في طرحنا في هذا المقال: المبدأ الذي أعطاه المسيح لتفسير الشّريعة والنظر إليها نظرة إجماليّة، هو وصيّتا المحبّة: محبّة الله ومحبّة القريب (22: 36-40). إن الشّريعة تعلن مشيئة الله كما في الابتداء حين تدعو الانسان لكي يتكرّس كلّه لله بحيث يصبح مكرّسًا بكليّته للقريب.
هنا نتوقّف بعض الشيء لنستعيد إشكاليّة العلاقة بين الشريعة والكروستولوجيا. لقد دللنا في مرحلة أولى على أن شخص يسوع هو المساحة التي فيها تصل الشريعة كوعد ومتطلّبة إلى ملئها وتمامها. وكان السؤال الذي طرحناه: أما تكون "التّوراة" في هذه الحالة مفتاح الكروستولوجيا المتّاويّة؟
إن أخبار الجدال ونقائض عظة الجيل قد قلبت الاشكاليّة رأساً على عقب. إذا كان المسيح هو الذي يُفصح عن إرادة الخالق كما في الابتداء، بجانب "التّوراة" بل في معارضته للتّوراة. اذا كان المسيح هو الذي يعيد ترتيب الوصايا بحسب أهمّيتها النسبيّة. اذا كان المسيح هو الذي يحدّد نقطة الثقل في التّوراة وأسفار الشريعة. إذا كان هو من يشدّد على خطورة وصيّة ويلغي وصيّة أخرى، فهذا يعني أنه سيّد الشريعة (وربّ السبت). ويدلّ على حريّته التامّة تجاه الشريعة. في هذا المعنى قال بعض الشرّاح إن النقائض في عظة الجبل هي نصوص تحطّم قدسيّة "الشريعة". فمسيح هذه النقائض يقابل نفسه (الأنا) مع التقليد الموسوي. (قيل لكم... أما أنا فأقول). هو لا يكتفي بأن يستبعد تقليدًا يعتبر نفسه وحده كفوءًا لان يعلن مشيئة الله، بل يرفض أيضًا أن يستعمل عبارة طالما استعملها الأنبياء (هذا ما يقول الرب) ليبدأ حديثه. بل هو أعلن مشيئة الله (وتلك هي النقطة الحاسمة)، متكلّمًا باسمه لا باسم يهوه. تكلّم مثل الله نفسه. جعل نفسه موضع الله. "قيل لكم... أما أنا فأقول لكم". إن المسيح يطالب في خطبة الجبل بسلطة مباشرة وغير مشروطة، سلطة مستقلّة عن التّوراة، بل تسمو على التّوراة وتعيد تفسيرها إن لم يكن إلغاءها.
ونطرح في النهاية سؤالاً حول تماسك الخطبة المتّاويّة حول الشريعة: كيف يستطيع المسيح أن يكون في الوقت عينه ذاك الذي يثبت شرعيّة "التّوراة" حتى في اقلّ التفاصيل، وأن يكون ذاك الذي ينقضها فيعيد تفسيرها؟ كيف يستطيع المسيح أن يكون ذاك الذي يخدم الشريعة، ويكون في الوقت عينه سيّدها (هو انسان وإله)؟ نجد حلاّ لهذا التعارض الظاهر حين نلاحظ أن محور رسالة المسيح المتّاويّ هو أن يقيم مشيئة الله على الارض. وهذه الإقامة تتمّ بقدر ما يتمّ المسيح التّوراة، أي يعطيها ملء شرعيتها: حين يثبّتها وحين يعيد تفسيرها. في هذا المنظار لا تكون نقائض عظة الجيل نقضًا للشريعة، بل ملء تتميمها. بل إعادتها إلى أصولها كما خرجت من يد الخالق. وهكذا تكون نقطة التماسك المتّاويّ في أن التفسير الذي قام به المسيح، لم يجعل الشريعة التي سلّمت إلى اسرائيل وكأنها لم تكن، بل أقامها في حقيقتها الاخيرة. إنّ ما يحرّك التفسير ليس قطيعة بين يسوع والشريعة، بل أمانة حقيقيّة تجاه الشريعة.
إذا كان محور رسالة المسيح المتّاويّ هو اعلان مشيئة الله بشكل جديد وجذريّ، فالموقف الذي يدعو اليه البشر بشكل عام وتلاميذَه بشكل خاص، هو البرّ أي العمل بمشيئة الله. البرّ في متّى غير ما هو في رسائل بولس. إنه يقوم بأن يجعل حياة التلاميذ توافق كل الموافقة الشريعة. بأن يعلّمنا الطاعة الأمينة لمشيئة الله. هذا ما تدلّ عليه أقوال حول ملكوت الله، والارشادات حول الدينونة، والبرّ الذي نفهمه استقامة على مستوى الاخلاق، وأمانة ملموسة. أجل، هذا البرّ هو شرط الخلاص.
عند ذاك نصطدم بمشكلة تبدو مفتاحًا في اللاهوت المتّاويّ: إذا كان محور رسالة المسيح هو إقامة مشيئة الله. وإذا كان محور حياة التلميذ (وشرط خلاصه) هو البرّ، أي الممارسة الامينة لمتطلّبة أعلنها المسيح، أما نجد نفوسنا أمام لاهوت شريعاني، لاهوت مسيحي مركّز على الشّريعة، لاهوت يجعلنا نخسر الانجيل؟ أما نجد نفوسنا أمام لاهوت اقتطعنا منه النظرة إلى الخلاص؟ وفي النهاية، هل يبقى العهد الجديد انجيلاً أو أنه صار كلامًا يتعلّق تعلّقًا مفرطًا بشريعة جديدة هي الشريعة المسيحية؟
3- نظرة متّى إلى الخلاص
إن المكانة التي تحتلّها الشريعة في متّى، تجعلنا نواجه سؤالاً صعبًا: أين وكيف تمّ اعلان الانجيل؟ وكيف يرتبط اعلان الانجيل هذا بالخطبة حول الشريعة؟ إذ اراد عدد من الشرّاح أن يعالجوا هذا السؤال، عادوا إلى الجدليّة البولسيّة بين صيغة الحاضر وصيغة الأمر. قالوا: اذا أردنا أن نقيّم اللاهوت المتّاوي، يجب أن نكتشف بعض النموذج البولسي في الانجيل الاوّل. مثلُ هذه المحاولة فشلت، بل لم تجد لها أساساً على مستوى نهجي لسببين.
أولاً: اصطدمت مثل هذه المحاولة بحاجز الألفاظ والكلمات. لا شكّ في ان هناك الفاظاً مشتركة بين متّى وبولس، ولكن مضمونها يختلف. مثلاً، اونجليون (الانجيل) يدلّ عند بولس على إعلان موت يسوع وقيامته كحدث خلاص. وعند متّى، على مضمون تعليم المسيح خلال حياته على الأرض. وقف بولس على مستوى التعليم. أمّا متّى فعلى مستوى الوصيّة والشريعة. والبرّ في بولس ليس "ديكايوسيني" (البرّ) المتّاويّ، بل ملكوت السماوات.
ثانيًا: إن الاختلاف على مستوى الفن الأدبيّ يفترض اختلافًا على مستوى التنظيم والعرض. فلاهوت بولس ببراهينه (الفلسفيّة) يساعد الفكر على التعبير عن مضمون الايمان. أما لاهوت متّى فهو لاهوت سرديّ ويتبع قواعد أخرى. لهذا يكون اسلوبنا صحيحًا حين نسأل متّى عن العلاقة بين الشريعة والانجيل من زاويته الخاصة. وهكذا ننطلق من الخبر المتّاويّ لنرى كيف يُبرز الموضوع السوتيريولوجي، موضوع الخلاص.
وأول ما يظهر الموضوع السوتيريولوجي في متّى، فهو يبدو بشكل مفارقة ظاهرة: فالموضوع هو إعادة تفسير الشريعة بالمسيح. فالمسيح في نظر متّى (وهو بذلك يتوافق مع التقليد التوراتي واليهودي) حين يعيد تكوين الشريعة، حين يعلن مشيئة الله الاسكاتولوجية، يتمّ عملاً مسيحانيًا حقيقيًا وسوتيريولوجيًا في جوهره. والظهور الواضح والاخير للتوراة هو أعظم عمل يدلّ على رضى الله ورحمته. فعطيّة الشريعة هي نعمة. والذي يحمل مثل هذه النعمة إلى البشر هو المخلص، يسوع المسيح.
ويتحدّد الظهور الثاني للموضوع السوتيريولوجيّ لدي متّى، في علاقة وثيقة بين إعلان الشريعة وشخص يسوع. فإعلان شريعة الله لا يمكن أن ينفصل عن ذاك الذي أعطاها. لقد أراد صاحب الانجيل الأولى أن يبيّن أنّ الشريعة لا يمكن أن تكون خطاباً مستقلاً في ذاته. فهي تأخذ معناها من الذي أعلنها، وترتبط به. وإذا كان المعين قد جمع أقوال يسوع وذكّر بتعاليمه، فمتّى لم يحتفظ بهذا النموذج. فقد ادخل التعليم في خبر. بل صار خبرًا. وُلد الخبر. ولا تأخذ الشريعة كل بُعدها إلاّ في كثافة مصير يسوع التاريخية. وبمختصر العبارة، إنّ الشريعة ترتبط بالكرستولوجيا. فإن كان الأمر هكذا، ينتقل الخلاص بالانجيل باعلان خبر يسوع على الأرض، لا بالشّريعة وحدها التي هي جزء من الانجيل.
وينتج الظهور الثالث للموضوع السوتيريولوجي عن ترتيب السّرد المتّاويّ. فالذي يقرأ النصّ متتبّعًا مسيرته، يلاحظ دومًا أنّ طرح موضوع الخلاص يسبق متطلّبة الطاعة. فعلى المستوى الكرستولوجيّ، يظهر بوضوح أن الخبر في صيغة الحاضر، يسبق الوصيّة "في صيغة الأمر". وإيراد العهد القديم الذي وُضع في بداية رسالة يسوع هو سوتيريولوجيّ: "أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر عبر الاردن جليل الأمم. الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا" (4: 15-16). والمضمون الأولى لكرازة يسوع كما في متّى، هو إعلان مجيء الملكوت الذي يسبق تعليم الشريعة. وتتكرّر البنية ذاتها مع عظة الجيل: فالتطويبات تفتتح الخطبة. وبعدها تأتي النقائض حول الشريعة (قيل لكم... أما أنا فأقول لكم). وما هو صحيح بالنسبة إلى المسيح، هو صحيح بالنسبة إلى التلاميذ: دعاهم يسوع ثمّ علّمهم. نالوا سلطة المسيح قبل أن يُبعثوا في رسالة.
ويتجسّد الظهور الرابع للموضوع السوتيريولوجي في الشموليّة المتّاوية (انطلق من العالم اليهودي فوصل إلى العالم كله). لا شكّ في أن تعليم يسوع تركّز على إعلان الشريعة. غير أن عطيّة الشريعة لم تعد مرتبطة بشعب خاص هو اسرائيل التاريخيّ. هذا ما يذكّرنا به خبر ضابط كفرناحوم (8: 5-13) وثلاثة أمثال هي مثل الابنين، مثل الكرّامين القتلة، ومثل وليمة العرس (21: 28-22: 14). بعد اليوم يُقدّم الخلاص إلى كل من يؤمن ويحمل ثمرًا، وليس من شرط مسبق غير هذا الشرط. فبشرى الملكوت تتوجّه إلى جميع الأمم، لا إلى أمّة واحدة. وجميع البشر هم مدعوّون إلى الخلاص. والدينونة الاخيرة وحدها تحدّد المختارين من بين مجموعة المدعوّين التي هي الكنيسة. وقصارى الكلام، إن شموليّة الدّعوة تعني نعمة مرتبطة بهذه الدّعوة، تعني حضورَ الخلاص.
والظهور الخامس والأخير لهذا الموضوع السوتيريولوجي الذي نوّد ان نشدّد عليه هو كرستولوجيّ. لقد أعلن عدد من الشّراح أن الكرستولوجيا المتّاويّة هي قبل كل شيء كرستولوجيا تعليميّة: فالمسيح ينقل بكلام تعليمه، قصدَ الله ويدشّنه. والبرهان على ذلك هو الخطب الخمس التي تتوزعّ انجيله. والبرهان أيضًا هو توافق بين كلمة ينقلها يسوع ومصيره الذي هو نموذج هذه الاخلاقيّة التي يعلنها. وهذا الدور المركزيّ، دور التعليم في الكرستولوجيا المتّاويّة، يجب أن لا ينسينا أن هذه الكرستولوجيا هي عمل المخلّص. هي كرستولوجيا سوتيريولوجيّة. ونقدّم ثلاث ملاحظات تدلّ على ذلك.
الملاحظة الاولى: إذا أردنا أن نكتشف الهدف الأخير للانجيل الأول، يجب أن نتنبّه إلى التضمين الذي يحيط بكل الخطبة المتّاويّة. فحالاً بعد سلسلة نسب المسيح التي تحدّد موقع يسوع في خط ابراهيم وداود، نجد ايرادًا يدلّ على أن العهد القديم قد تمّ بشكل إيراد يسبق المقطوعة الاخباريّة الاولى ويعطي مجيء المسيح معناه: "إن العذراء تحبل وتلد ابنًا يسمّى عمانوئيل الذي معناه إلهنا معنا" (1: 23). ويقابل هذا الايراد الاول (ليتمّ) الكلمة الأخيرة التي تلفّظ بها المسيح المتاوي في مجده الاسكاتولوجي: "ها أنا معكم جميع الايام حتى انقضاء الدّهر" (28: 20). إذًا المعنى الاساسي للانجيل، هو إعلان يقول الله فيه: "أنا معكم". الله أمين وقريب من أجل خلاص البشر وحماية المؤمنين.
الملاحظة الثانية: إن أخبار المعجزات المتّاويّة قد صارت نماذج تدّل على أن العلاقة بين المؤمن الحالي وربّه ما زالت ممكنة. وهناك جزء من هذه الاخبار ولا سيّما تلك التي تتحدّث عن اتّباع يسوع، تبيّن كيف أن المسيح يسبق تلاميذه إلى المحنة التي تضربهم ويعينهم فيها. وبعبارة أخرى لا يتبع التلميذُ المعلم بطاعته فقط. بل ساعة يفشل الايمان والطاعة، يخلق المسيح مساحة تتيح للتلميذ أن يظلّ تلميذًا، ولو ترك معلّمه. إذن، نعمة المسيح الحيّ تسبق المؤمن في طريق الايمان. أما هذا هو معنى ما فعله يسوع حين سبق السفينة التي تغالب الأمواج؟ هو يمشي أولاً. هو يهيّئ الطريق. وبعد ذلك يأتي التلاميذ في السفينة التي تدل على الكنيسة.
الملاحظة الثالثة: في هذا المجال، لا ينفصل البرّ الذي هو توافق مع مشيئة الله نعيشه في حياتنا اليوميّة، مع اتّباع يسوع. فالبرّ هو اتّباع يسوع. وليس من طاعة ممكنة بدون اتّباع المسيح (19: 16-22). ولكن حين نؤكّد ذلك نؤكّد في الوقت عينه أن المسيح يفتح الطريق، وأن التلميذ يضع خطاه في خطى المسيح. المسيح يسبق والتلميذ يتبع. وهكذا تُرسم مسبقًا أمامه مساحةُ طاعته. وإمكانية هذه الطاعة تُعطى كنعمة من العلاء.
4- بولس ومتّى
هنا نحاول أن نجمع نتائج ما اكتشفناه، فنتوقّف عند العلاقة بين بولس ومتّى في إطار الشريعة والانجيل.
وننطلق أولاً من الملاحظة التالية: من وجهة العهد الجديد، تبقى إشكاليّة الشريعة والانجيل إشكاليّة بولسيّة. إلاّ أن هذه الاشكاليّة قد عالجها متّى أيضًا. إذن المقابلة ممكنة. غير أن هذه المقابلة ترينا فجوة بين النظرتين، ونحن لا نحاول ان نردمها. كما لا نستطيع أن نحوّلها إلى تعارض يقف في خط واحد. في الحالة الاولى نقع في تجربة التوفيق التي تنسينا غنى بولس ومتّى وتدفعنا الى أن نجعلهما في أصغر قاسم مشترك. في الحالة الثانية نقع في تجربة التبسيط. إن هذه الفجوة تدلّنا على أن بولس ومتّى طرحا هذه المواضيع عينها، إنّما بطرق مختلفة. ولكن لماذا هذه الفجوة، وبمَ تقوم؟
لماذا هذه الفجوة؟ كتب بولس ومتّى في سياقين مختلفين جدًا. بولس هو مؤمن من الجيل الأول. كان فريسيًا قد ارتدّ إلى الايمان، فاهتمّ أول ما اهتمّ بأن يبيّن أن الاعتراف بالمسيح يشكّل خيارًا جذريًا تجاه طرح يهوديّ للخلاص في ظلّ الشريعة. واذ استعمل بولس نموذجًا معاكسًا للعالم اليهوديّ الذي يجد كماله في الشريعة، أعطى الايمان المسيحي هويّته الخاصة، وأتاح له هكذا أن يتجاوز حدوده الاصليّة (وهي العالم اليهوديّ) ليصل إلى الشموليّة، إلى اليهوديّ واليونانيّ، إلى جميع البشر. إذن بولس هو لاهوتي أرسل إلى "الخارج" (خارج العالم اليهوديّ)، وقد ركّز تعليمه على ما هو جديد وخاصّ بالايمان المسيحي. وصار الانجيلُ ذاك التعليم الذي يدلّ على أنّ الشريعة ليست طريق الخلاص. وبعد ذلك أعاد لها اعتبارها كموضوع من المواضيع الاخلاقيّة.
أما متّى فهو مسيحيّ من الجيل الثاني (بعد جيل الرسل). والهويّة المسيحيّة التي توسّعت فيها التقاليد المتعدّدة، تعبّر عن نفسها في كنيسة منظّمة. والاهتمام الأعظم للاهوتيّ الكنيسة هذا، ليس ارتداد الناس الى الايمان، بل ضرورة الايمان. وهذا يعني بالنسبة إلى متّى لاهوتيّ "الكنيسة" أن أهمّية العلم الاخلاقيّ تنمو (يجب أن يعيش المؤمنون إيمانهم في المدى الطويل الذي يفصلهم عن مجيء الربّ) في مساحة مسيحيّة متهوّدة. وهذا النموّ على المستوى الاخلاقي يحرّك تفكيرًا جديدًا حول الشريعة. في مثل هذا الوضع، صار فعلُ الايمان الكرستولوجيّ في "خلفيّة" المسرح بعد أن ترك المكان للشريعة والحياة الاخلاقيّة. حين نعيش حياة أخلاقيّة ندلّ بطريقة عمليّة على إيماننا بيسوع المسيح. أن نقول إيماننا، أن نعترف بايماننا، كلّ هذا قد يبقى كلامًا. ولكن حين نعمل مشيئة الآب السماوي، يتعرّف إلينا الله في الدينونة الاخيرة ويمجّد الناس الله بسببنا. إذن، ما يبعد بولس عن متّى هو سياق تاريخيّ وبلاغيّ. ولكن بمَ تقوم هذه الفجوة؟ ونتطرّق اولاً إلى مفهوم الشريعة.
ونبدأ بنقاط الاتفاق، فبولس ومتّى يريان في التوراة التي أوحيت إلى اسرائيل، إرادة الله المقدّسة والصالحة. إذن الشريعة هي في نظرهما كلمة الله. ثمّ إن الشريعة تفرض نفسها على المؤمنين لأنها كلمة الله. إذن، هي تضع الانسان أمام نداء إلى الطاعة بشكل جذري. ليست الشريعة شرعة لها سلطةٌ شكليّة، بل نقطة الثقل فيها ومبدأ تفسيرها يكونان في متطلّبة المحبّة.
وتبدأ نقاط الخلاف ساعة ننظر إلى مدى اتساع الشريعة التوراتيّة. فبولس، رسول الأمم، يعلن أن الشريعة في متطلّباتها التفصيليّة قد عفّاها الزمن، ولا سّيما على مستوى الطهارة الطقسية وفرائض الذبائح التي توسّعت جدًا في العالم اليهوديّ. قال بولس: "كل شيء يحلّ لي" (1 كور 6: 12؛ 23:10. ليس بعد من محرّمات على مستوى الطعام والشراب). فالمسيحيّ مدعوّ إلى الحريّة. والحدود الوحيدة التي تقف في وجهه هي محبّة القريب وبناء الاخوة. أما موقف متّى فجاء أقل جذريّة، بل جاء متحفّظًا: لا شكّ في أنّ الشّريعة وتعاليم الانبياء تتلخّص في وصيّة المحبّة، ولكن الفرائض اليهوديّة تحافظ على قيمتها إن عاشها المؤمن، انطلاقًا من هذه الوصيّة (مت 23: 23: كان عليكم أن تعملوا بهذه دون أدن تتركوا تلك). إذن عرف المسيحيون في كنيسة متّى "هلكة" (طريقة سلوك) مسيحيّة.
اتّفق متّى وبولس على الاصل الالهيّ للشريعة، كما اتّفقا على نقطة الثقل فيها. واتّفقا أيضًا على ارتباطها بالكرستولوجيا. الشريعة خاضعة للكرستولوجيا، خاضعة للملكوت كما دشّنه يسوع المسيح. هناك من أراد أن يدلىّ على الاختلاف بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، فقال إن الكرستولوجيا أخذت في المسيحيّة الفتيّة، المكانةَ التي احتلتها التّوراة في عالم يهوديّ يسيطر عليه الفريسيون. هي ملاحظة قيّمة لانها تدلّ على أن الكرستولوجيا هي المفتاح الذي يساعدنا على تنظيم اللاهوت المسيحيّ ولاسيّما موضوع الشريعة. في نظر بولس، وحده الحدث الحاسم، حدث وحي برّ الله على الصليب، يتيح لنا أن نشجب الشريعة لأنها صارت الطريق المميّز الذي يقود الانسان إلى برّه الخاص. وفي نظر بولس أيضًا، وحده البرّ الذي أوحي لنا في المسيح وبررّ الخاطىء، يفتح أمام الخاطىء طريق الطاعة الحقيقيّة المؤسَّسة على وصيّة المحبّة. إذن، كلام بولس في الشريعة ليس ممكنًا إلاّ اذا انطلقنا من الكرستولوجيا.
وفي نظر متّى، وحده المسيح الذي أسّس شريعة الآباء واتمّها وفسّرها، يفجّر إرادة الله (كما في الابتداء) التي هي إرادة محبّة. عند متّى قد تخفي التّوراة الله ولا تظهره من دون المسيح. إذن الكرستولوجيا هي أولى بالنسبة إلى الشّريعة. هذا مع العلم أننا نجد عند بولس كرستولوجية الصليب وعند متّى كرستولوجية التعليم. في كتابات بولس يسوع هو ذاك المصلوب. وفي إنجيل متّى هو المعلّم.
إن الاختلاف الجوهريّ بين بولس ومتّى في ما يخصّ الشريعة، يكمن في أن بولس يرى أن الطاعة الأمينة للتوراة قد تدلّ دلالة كاملة على هلاك الانسان، على الخطيئة، بقدر ما تصبح الأمانةُ الدينيّة الموضعَ الذي فيه يجعل الانسان الشريعة من أجل فائدته ويقيّم نفسه أمام الله (كالفريسيّ في مثل لوقا). ونأخذ مثلاً على ذلك بولس اليهودىّ الفريسيّ الذي لا لوم فيه من جهة الشريعة. والذي أحسّ بسبب ذلك انه هالك بشكل جذريّ (قل 3: 4-10). وبُعد الخطيئة هذا كتوق إلى البرّ الخاصّ، كطلب لاستقلاليّة بفضل الشّريعة وبالشّريعة، لم يدركه متّى. فصاحب الانجيل الأول لم يرَ أن الطاعة للشريعة تشكّل التباسًا ومشكلة، وأن الطاعة الأمينة في الخارج لا تستبعد الفساد الداخليّ على المستوى الدينيّ. في هذا المجال كانت الانتروبولوجيا عند متّى بسيطة ومتفائلة. كل ما فعله في هذا المضمار هو التنديد برياء الفرّيسيين في عظة الجبل. عند ذاك دلّ الانجيليّ الأول أن الطاعة للشريعة بشكل لا يلومنا فيها الذي من الخارج، قد تجعل الانسان يربح إكرام البشر، ولكنها ليست في أي حال علامة ارتباط بالله (6: 1-18).
ويتعمّق الخلاف بين بولس ومتّى حين يعالجان جدليّة الشريعة والنعمة، الشريعة والمسيح، الشريعة والانجيل. فعند بولس، الشريعة والانجيل يستبعد الواحد الآخر على مستوى البرّ. هذا ما لا نجده عند متّى. من جهة، الطاعة لمشيئة الله لا تُهلك الانسان بل تخلّصه. وخطيئة الفرّيسيين لم تكن برّهم الخاص، بل لابرّهم حين أخفوا مشيئة الله فما رأوها وما تركوا الآخرين يرونها. ومن جهة ثانية، الشريعة عند متّى هي نعمة. وهي متطلّبة. ونحن نستطيع أن نمارسها. فإذا أردنا أن نجد عند متّى ما يقابل الجدليّة البولسية، يجب أن نعود إلى كرستولوجية المخلّص وإلى ارتباط بين الشريعة واتّباع المسيح.
وأخيراً، ما يدلّ على أنّ متّى لم يستعد الخيار بين الشريعة والانجيل، نجده في نظرته إلى الخطيئة والنعمة. وهكذا اختلف عن بولس الذي يرى في استقلاليّة الانسان تجاه الله جوهرَ الخطيئة. نظرة متّى إلى الخطيئة أقل جذريّة، ولكنها نظرة كنسيّة لم يأخذ بها بولس. بما أنّ متّى يدخل في منظار حياة مسيحيّة تمتدّ في التاريخ، فالخطيئة هي على المستوى الخلقي تجاوز شريعة جماعيّة. وعلى مستوى أعمق، الخطيئة هي إيمان قليل (اوليغوبستيا)، أي قطع العلاقة مع المسيح، ورفض أن نحيا حياتنا عائدين إلى المسيح وواضعين فيه كل ثقتنا. أما فيما يتعلق بالنعمة، فإن بولس يصوّر عمل الله كالعمل السامي الذي يحرّر الانسان تحريرًا كليًا من خطيئته وضلاله، كالعمل السامي الذي يبرّر كل خليقة. وفي هذا المجال أيضًا تميّزت نظرة متّى عن نظرة بولس بالوجهة الرعائية. لا شكّ في أنّ الانجيليّ يعرف أن المسيح هو الذي يدعو الانسان إلى الايمان، الذي يحرّره لكي يتبعه. ولكن همّه الأول هو أن يشهد لواقع يقول إن المسيح يمنح نعمته لا ليدخلنا فقط إلى الحياة المسيحية، بل ليجعلنا نحيا هذه الحياة في المدى الذي يفصلنا عن المجيء. فالمؤمن هو "صغير"، هو إنسان قليل الايمان. ووحده المسيح الذي يسير أمامه ويعينه، يستطيع أن يعمل لأجله لئلا يصبح الفشل الذي يتربّص به أمرًا حتمياً. وبمختصر الكلام، يرى بولس أن النعمة تحرّر وتبرّر. ويرى متّى أنّها تساعد المؤمن وتبنيه.
خاتمة
وهكذا توقّفنا عند نظرة متّى إلى الشريعة والانجيل. فمنذ البداية، حدّثنا متّى عن يسوع الذي ما جاء لينقض الشريعة، بل ليتمّمها. ولكنه في الواقع، وعندما لا تصل بنا الشريعة إلى الانجيل ألغاها، إن لم يكن في تعبيرها الأوّل، ففي تطبيقها. وقابلنا ما يقوله بولس عن الشريعة وما يقوله متّى. جاء كلام بولس أكثر جذريّة، فتحدّث عن الشريعة في عمقها الوجوديّ في قالب المؤمن. أما متّى، فتوقَّف بشكل خاص عند الشريعة كما يمارسها المؤمنون في زمن يسوع وفي نهاية القرن الأول المسيحيّ. وفي النهاية، كانت نظرتهما تطلّع إلى الشريعة في أصلها الالهي وارتباطها بشخص المسيح. إذا كان يسوع هو مبدئ الخلاص ومكمّله في نظر بولس، فالانجيل هو الذي يجب أن تصبّ فيه الشريعة بحسب متّى. فهي تبقى ناقصة، ولا يكمّلها إلاّ الانجيل الذي فيه كمالها.