الفصل الثالث عشر: عماد المسيح

 

الفصل الثالث عشر
عماد المسيح   3: 13- 17

يورد هذا النصّ عماد المسيح، ويَسبقه إعلانٌ ليوحنا المعمدان يشير إلى المسيح الذي جاء يعمّد في الروح. سندرس النصوص الإزائية الثلاثة (3: 13- 17؛ مر 1: 6- 11؛ لو 3: 15- 21)، فنبدأ بالإشارات الجامعة ثم نعود إلى كلّ إنجيل بمفرده مشدّدين على إنجيل متّى.

1- التقليد السابق للتدوين الإزائي
أ- إعلان يوحنا المعمدان
كان يوحنا المعمدان يكرز ويعمّد. يقول "المعين" القديم الذي استعمله مت ولو، إنه أعلن اقتراب الدينونة الاسكاتولوجيّة: "الغضب الآتي سيصيب الخطأة". هذه الدينونة هي محطّة سابقة لإقامة الملكوت من أجل الأبرار. لهذا دعا يوحنا سامعيه إلى الارتداد والتوبة. والجواب الملموس على هذا التعليم يكون في تقبّل العماد: غطسٌ في مياه الأردن بحضور يوحنا، بشكل يشبه بعض الشيء ما كان يفعله العالم اليهودي من أجل تطهيره. وهذا الغطس الخارجي كان يدلّ "أمام الناس" على إرادة تطهير داخلي بانتظار مجيء الرب.
في هذا السياق يرد إعلان مر ولو، وفيه يجعلنا السابق نستشفّ المسيح الآتي وكرامته السامية ونشاطه "العمادي" الخاص.
"إنه يأتي". هو مرسل الله الأخير، هو أقوى من المعمدان بشكل لا محدود. هو "يتصرّف" بالروح القدس. يعني (حسب العقلية البيبلية المعروفة) قدرة الله بالذات. نجد هنا لفظة "اسخيروتيروس": الأقوى. أفعل التفضيل (اسخيروس). اللفظة المستعملة هنا غير التي نجدها في معرض حديثنا عن المعجزات (ديناميس)، حيث أعمال يسوع تدلّ على قوّة الله. نجد لفظة "اسخيروس" في 12: 29 وز، لتدلّ على حرب يسوع وانتصاره على إبليس وملكه. يسوع هو الأقوى. إنه يطرد الشياطين بروح الله: هذه هي علامة مجيء ملكوت الله.
وعماد يسوع يتجاوز عماد يوحنا، مثل ما يتجاوز عمل الله نشاط البشر، مثلما يتجاوز الروح القدس عنصراً مادياً هو الماء.
وكرامة هذا الشخص السامية، وسمّوه المطلق، يرسمهما الإنجيلي في صورة شعبيّة: فالسابق لا يشعر تجاهه أنه يستحقّ أن يقوم بعمل عبد وضيع، أن ينحني عند قدَمي سيده ليحلّ له سيور نعليه.
"هو يعمّد". لا تستعمل هذه اللفظة هنا (كما في مت ولو، مع سياق اكساتولوجي أولاني) إلا عن طريق الاستعارة: فالذي يأتي يمارس نشاطاً يشبه نوعاً ما نشاط السابق. فكما أن العماد الغسلي يطهّر الأجساد ويلغي الأوساخ المادية، كذلك يأتي المسيح فيطهّر شعب الله ويزيل منه الأوساخ الأدبية. وبشكل لعملي، هو يهلك الخطأة. وهكذا يحقّق الدينونة الاسكاتولوجية التي يشير إليها السياق كله.
إنه يعمل "بالروح القدس"، بالقوة المقدّسة التي في يده. هكذا يكون فاعلاً أكثر من السابق مع طقسه الرمزي (أنا أعمدكم بالماء).
"وبالنار". غابت هذه اللفظة عن مر، فانتمت بشكل أكيد إلى المضمون الأول لإعلان المعمدان. إن الإشارة إلى النار ستعود أيضاً مرتين في السياق المباشر (في مت ولو): نار تحرق التبن على البيدر (3: 12؛ لو 3: 17). نار تحرق كل شجرة لا تعطي ثمراً صالحاً (3: 10؛ لو 3: 9). صورٌ متقابلة ذات أصل نبويّ، تدلّ على العقاب التام الذي يفني الخطأة الذين يرفضون أن يتوبوا. "معمودية الروح والنار". تعني في هذا السياق القديم: دينونة قدرة الله وعقابه.
إذن، لا يعلن المعمدان عماد المسيح (ولا العماد المسيحي إلا في قراءة ثانية). ما يعلنه في الدرجة الأولى هو طقس ماديّ محض، طقس رمزيّ، هو عماده. وتقابله دينونة هائلة سيمارسها المسيح الآتي بكل قدرته الإلهيّة.
إن التعارض بين "عماد الماء" و"عماد الروح" الذي نقرأه هنا (مت، لو) في سياق مسيحيّ أصليّ، يعلن موضوعاً تقليدياً جداً. نجده في عدة مقاطع من العهد الجديد، وفي قرائن مختلفة مع تطبيقات متنوّعة: مت 3: 11؛ مر 1: 8؛ لو 3: 16؛ يو 1: 26، 33؛ أع 1: 5؛ 11: 16. في الأناجيل، تَصدر العبارة عن يوحنا المعمدن. في أع، يلتفّظ بها يسوع. عند مت ولو، يشير عماد الروح إلى الدينونة الاسكاتولوجية. أما في مر ويو، فهو يعني الطقس الاسراري للعماد المسيحي. وفي أع، نحن أمام فيض الروح القدس (فيض مباشر لا أسراري) إما في حدث العنصرة (2: 5)، وإما في ارتداد كورنيليوس، الضابط الروماني (11: 16). إذن، استُعمل الموضوع بحرّية تامة. وفي قمران أيضاً، انتظر الناس "معمودية" اسكاتولوجية، معمودية روح النقاوة والحقيقة والقداسة، مقابل الاغتسال الطقسي اليومي على مستوى الشيعة.
ب- عماد المسيح
في الأصل، صوّر الخبر المشهد بشكل بسيط جداً، وفي مرحلتين. الأولى: مسعى يسوع الذي جاء إلى السابق واقتبل صنه الطقس العمادي. الثانية: التيوفانيا أو ظهور الله. وهو يتضمّن حلول الروح على يسوع. أقوال وجّهها الآب لابنه. ويبدو أن مر احتفظ بالمضمون الأولاني للمعطى التقليدي أفضل من مت ولو.
أولاً: مسعى يسوع
يقول الإزائيون الثلاثة إن كرازة يوحنا المعمدان اجتذبت عدداً كبيراً من السامعين. فاليهود الذين جاؤوا يقتبلون عماده كانوا كثيرين. ويسوع نفسه جاء يتقبّل هذا الطقس الذي أعلن الحقبة الاسكاتولوجية. وسنرى يسوع مرات عديدة مهتماً بأن يدلّ على أن رسالته تواصل رسالة السابق (4: 12- وز؛ 11: 11 ي وز؛ 17: 12- 13 وز؛ 21: 25 ي وز).
بعد هذا، سوف ترى التقوى المسيحية في فعلة المخلّص الآتي إلى "عماد التوبة" كما يمنحه يوحنا، عملاً يدلّ على تضامن يسوع مع الخاطئين. لا شكّ في أن النصوص التي بين أيدينا لا تصل إلى هذه الدرجة. هي لا توضح نيّة المسيح في ذلك الوقت. إنها تورد مسعى يسوع في بضع كلمات. وهذا المسعى يُذكر فقط بالنسبة إلى التيوفانيا التي ستعطي هذا المسعى بُعداً مختلفاً كلّ الاختلاف، ومعنى جديداً بالنسبة إلى كل عماد آخر تقبّله الناس حتى ذلك الوقت.
ثانياً: التيوفانيا
تمت التيوفانيا ساعةَ صعد يسوع من الماء (مت، مر). قد تستلهم هذه الكلمات يش 4: 19: "صعد الشعب من الاردن" ساعة الدخول إلى أرض الموعد (وهو حدث يوازي عبور البحر الأحمر، يش 4: 23). جاء المسيح إلى الأردن (مت، مر) فنال الروح القدس، وأعلن ابن الله. وهكذا بدا كممثّل لشعب الله الحقيقي. بعد هذا الحدث، تأتي تجربة يسوع التي تُروى على خلفيّة تجربة الشعب في البرية. والعلاقة التي توحي بها نصوصنا بين عماد يسوع والعماد المسيحي تتضمّن أيضاً هذه النظرة إلى المسيح الذي يُمثّل شعب الله.
إن النصوص التي تتحدّث عن المعموديّة، تحتفظ بسمات تميّز الاسلوب الجلياني، بسمات قد تعود إلى الخبر الأولاني للحدث: انفتاح السماوات، حلول الروح القدس بشكل ملموس. "رؤية" (أي: ما رآه يسوع) يسوع، عودة إلى إنشاء محفوظ للاتصالات السماويّة. في الواقع، إذا عدنا إلى المضمون، ترتبط التيوفانيا بهذا النوع من مشاهد "الوحي" (أو: الكشف) التي تكشف بشكل احتفالي مخطّط الله السري حول تحقيق الخلاص في نهاية الأزمنة. ويتضمّن هذا الفن الأدبي بشكل عادي أموراً مدهشة، وصوراً مصطنعة تمثّل بشكل ملموس وجهة متعالية من تدخّل الله.
وإذ رجعنا إلى التفاصيل، توقفنا عند "الرؤية" برنتها الجليانية (دا 7: 1- 2؛ 8: 1- 2؛ لو 1: 11، 22؛ أع 7: 55؛ 11: 5؛ 26: 13- 16؛ رؤ 1: 12، 17، 19). ثم عند انفتاح السماء "والرؤية" (حز 1: 1؛ يو 1: 51؛ أع 7: 56؛ 10: 11؛ رؤ 4: 11؛ 19: 11. هذا عدا عن النصوص المنحولة). وهناك نزول الله أو نزول كائن سماويّ في نصوص ذات لون جلياني (عد 11: 25؛ ودا 4: 10: 20 حسب تيودوسيون؛ مت 28: 2؛ 1 تس 4: 16؛ رؤ 3: 12؛ 10: 1؛ 18: 1؛ 20: 1؛ 21: 2، 10). وهناك "صوت" من السماء في حز 1: 28؛ دا 4: 28؛ مت 17: 5 وز؛ يو 12: 28؛ أع 11: 9؛ رؤ 10: 4، 8؛ 14: 13. وأخيراً "رضى" الله في إطار "وحي". مت 11: 26 وز؛ غل 1: 15؛ رج دا 9: 23؛ 10: 11، 19؛ مت 13: 11؛ 16: 17؛ لو 1: 28، 30؛ 2: 14؛ 12: 32. و"ابن الله" هو موضوع وحي (مت 16: 16- 17؛ غل 1: 15؛ رج مت 11: 25 ي وز؛ 17: 5 وز؛ 1 تس 1: 10).
في الشكل الأصلي للخبر، توجّه هذا الوحيُ إلى يسوع شخصياً: فهو الذي رأى السماء تنفتح والروح ينزل عليه (مت، مر)، وهو الذي يناديه صوت الآب (انت ابني، مت ولو).
* مجيء الروح
يعني الروحُ لأناس تغذوا من التوراة، حضورَ الله نفسه يجتاح بشكل خارق أحد المختارين فيملأه بالقوة والحكمة وكمال العطايا السامية من أجل رسالة خارقة ومهمّة. وفي خط أش 42: 1 (في خلفيّة النصّ الذي ندرس)؛ 61: 1 (يرد في لو 4: 18 مع عودة إلى المعمودية على ما يبدو)، يرى يسوع قبضة الله وعونه القدير يحلاّن عليه ويرسلانه الآن ليعلن البشارة وينشر علامات الخلاص. إنه ينال رسالته بشكل احتفالي، ينال تولية مسيحانيّة.
* القول السماوي
يتضمّن القول الآتي من السماء اختلافات بين إنجيل وأخر. استعمل مر ولو صيغة المخاطب المفرد (أنت). أما مت فلجأ إلى صيغة الغائب المفرد (هذا هو). جاء نصّ مت ومر قريباً بعض القرب من أش 42: 1. أما لو (حسب أفضل الشهود) فأورد مز 2: 7: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك". ثم إن هذا القول نفسه يُستعمل في حدث التجليّ بشكل مقولب تقريباً. كل هذه الإشارات تجعلنا نعتقد بأن هذا القول لا يستعيد حرفياً كلمات الله كما وصلت إلى أذن الحاضرين، بل هو تعبير أعيدت صياغته فجاء مرتبطاً بأول تفكير مسيحي (مع عودة منظّمة إلى الكتاب المقدّس)، وهكذا عبّر عن المدلول الذي اكتشفته الكنيسة الأولى في تدخل الله ساعة دخل يسوع على مسرح الأحداث، ساعة بدأ حياته العلنيّة.
إذا عدنا إلى شكل القول الأساسي المعقول (أنت هو ابني الحبيب، عنك رضيت، مر) نرى أنه يدمج ثلاثة نصوص من العهد القديم. يرتبط مع أش 42: 1 الذي هو أول اناشيد عبد الله المتألم. في هذا المقطع الاشعيائي، يدلّ الرب على "عبده" (عابده، المتعبّد له، خادمه): لقد اختاره بمحبّة. وجد فيه مسرّته. منحه روحه ليحمل إلى جميع البشر "إنجيل" الخلاص. وفي المقطوعة الإنجيلية التي ندرس، يشير هذا الاستشهاد الكتابي في بداية حياة يسوع العلنيّة إلى برنامج مسيحانيّ خاصّ سيفرض نفسه عليه حسب مخطّط الله كما أوصت به الكتب المقدّسة: إن يسوع سيكون المسيح، ولكن بشكل عبد الله المتألم. الآن، بدأ الاعلان عن هذا البرنامج. والالحاح على رضى الله ومحبته يدلّ على أن الله هو كافل عبده حتى يسلّمه رسالته.
وهناك نص ثانٍ يذكرنا بهذا القول: أنت ابني الحبيب. إنه المزمور الثاني الذي هو مزمور ملكيّ فسرّه العالم اليهودي تفسيراً مسيحانياً. وإن آ 7 من هذا المزمور تعلن عبارة معروفة عن التبني: في اليوم الذي يولي فيه الله الملكَ وظيفتَه ويجعله ممثّلاً له، فهو يعلنه ابناً خاصاً له (أنت ابني: أنا اليوم ولدتك). وإذ يمسحه بالزيت يعبّر له عن حبّه وعن العون الذي يكفله له والحماية الخاصة التي يؤمّنها له. وفي تطبيق هذه الآية على عماد يسوع، تختفي العلامة الملكية. ولكننا ما زلنا أمام تفويض (تكريس لمهمة سامية، انتداب إلهي) وتفويض مسيحاني (في معنى عام: مهمة خلاص). امتزج هذا النصّ مع أش 42: 1، فأنتقلت الجملة إلى صيغة المخاطب المفرد، وصارت اللهجة حميمة. وحل لقب ابن الله محل لقب عبد الله. لا يُوضح معنى هذا اللقب، ولكنه يُجعل هنا بشكل بارز في إطار احتفالي في ساعة مهمة جداً. وهكذا نستشفّ أن اللقب يشمل سراً. منذ الآن، هو يعبّر عن علاقة حميمة بين يسوع والله ابيه، عن علاقة انتماء يسوع إلى الله الآب.
وهناك نص يترك بصماته على القول الإلهي: تك 22: 2، 12، 16 (حسب السبعينية): إن الصوت الالهي يعلن على ثلاث دفعات تسمية "الابن الحبيب". قد تبدو العبارة طبيعية جداً. فهي تعود في إر 38 (31): 20، كما نجدها في الأدب اليوناني الكلاسيكي. ولكننا لا نشك في أن الإنجيل عاد إلى نص تك 22. فالله طلب من ابراهيم أن يضحيّ له بابنه. وإذا أراد النصّ أن يدلّ على عمق التضحية التي طلبها الله وقبل بها ابراهيم، شدّد على محبة ابراهيم وحنانه تجاه ابن عزيز على قلبه، تجاه ابن وحيد. وفي عماد يسوع ظلّت ذبيحة يسوع في الظل. وكما في المرجعين السابقين، دلّ الالحاح على تعلّق الآب بابنه الحبيب وعلى محبته له، وسيتخذ هذا الالحاح كل قيمته في تفكير أكثر توسعاً. فالله اسلم ابنه عن الخاطئين. هذا هو الوضع في مثل الكرّامين القتلة (مر 12: 6؛ لو 20: 13؛ رج روم 8: 32؛ يو 3: 16؛ 1 يو 4: 9- 10).
إذن، يبدو على المستوى السابق للتدوين الإزائي، أنه يجب أن نفهم الحدث كمشهد تفويض أو تكريس مسيحاني (مع توجيه خاص نحو المسيحانية الاشعيائية). مشهد تفويض مع تشديد على حضور (حميم وقوي) الله على يسوع في رسالته. وامتلأ يسوع من الروح. وهو ابن الله بشكل مميّز. وفي عمل الخلاص الذي بدأ يقوم به، فد طُبع برباط وثيق يوحّده بالله (بالروح، بالآب). إنه ينتمي إلى نظام متسامٍ.
المسيح، ابن الله، صاحب الروح: مثل هذه النظرة إلى يسوع تستبق ولا شك المعرفة التي بها نعرفه بعد أحداث القيامة والعنصرة. ولا نستطيع أن نستبعد كلياً أن هذه المعرفة اللاحقة قد أثّرت على إعادة تفسير حدث المعمودية في الكنيسة الأولى (اختيار العناصر وترتيبها).
ومشهد التجلّي الذي رُوي ولا شك على ضوء الفصح والقيامة، يتّصل اتصالاً واضحاً بمشهد العماد. هو مشهد وحي أيضاً. أعطي هذه المّرة لشهود مميّزين. وتدخّل فيه الآب بكلمات تشبه كلمات العماد فدلّ على يسوع الذي هو المسيح وعبد الله الذي هو النبي وابن الله الحبيب. وذلك في منعطف هام من رسالة يسوع، وهو وقت بدأ الانتباه فيه يتّجه نحو الحاش والآلام.
2- نصّ متّى (3: 13- 17)
عرض مت على التوالي (1) مسعى يسوع الذاهب إلى السابق لينال منه العماد. (2) حواراً بين يوحنا المعمدان والمسيح. (3) التيوفانيا العمادية. إن النقطة الأولى والنقطة الثالثة قد درسناهما وهما تقليديتان. أما الحوار فقد أضيف فيما بعد وهو من تدوين الإنجيلي.
أ- مجيء يسوع
"حينئذٍ ظهر يسوع: أقبل من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه" (آ 13).
جاء يسوع من الجليل حيث عاش في الخفاء حتى الآن. والآن "ظهر" (باراغيناتاي، جاء فجأة، أقبل، دخل على المسرح). كان الإنجيلي قد استعمل الفعل عينه في آ 1: "في تلك الأيام ظهر يوحنا المعمدان". هذا الاسلوب يحاكي اسلوب العهد القديم: إن العهد القديم يستعيد مسيرته. والخلاص سوف يتمّ.
"ليعتمد". شدّد مت على نيّة يسوع. فهي ستحرِّك احتجاج السابق، ثم جواب المسيح. هي ستحرّك الحوار في آ 14- 15.
ب- الحوار
"فأخذ يوحنا يمانعه قائلاً: أنا المحتاج أن اعتمد منك... وأنت تأتي إلّى. فأجابه يسوع وقال: دعني الآن أفعل: هكذا يليق بنا أن نكمّل كل برّ (ما ينطوي عليه التصميم الألهي). حينئذٍ تركه" (آ 14- 15).
لا نقرأ هذا الحوار إلا في قط. ونلاحظ بسهولة أنه أضيف على النصّ الاولاني. ونستطيع أن نلغيه دون أن يكون هناك فجوة في النصّ. بل هو يقطع مسيرة الخبر. ونجد في هذا الحوار اللغة الخاصة بمتّى مع فعل "أتمّ"، واسم "برّ". كل هذا يعكس اهتمامات تعليمية خاصة بالإنجيل الأول.
حين أدرج متّى هذا الحوار توخّى هدفين: أولاً: أراد أن يحمي قرّاءه من بعض المآخذ الصادرة عن تلاميذ يوحنا المعمدان: حين. طلب يسوع العماد (عماد التوبة لغفران الخطايا، مر 1: 4؛ لو 3: 3؛ رج مت 3: 6، 11)، أما دلّ وهو من يعتبر مسيحاً، على أنه خاطىء؟ أما برهن أنه أدنى من المعمدان؟ أجاب متّى: كلا، فالسابق أعلن أن يسوع بريء من كل خطيئة فلا يحتاج إلى مثل هذا العماد. كما أعلن أن يسوع هو أقوى منه.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أدخل الإنجيلي منذ هذا المقطع إعلاناً (خفياً) عن العماد المسيحي، كما تحدّث عن "تتمة" القيم الروحية اليهوديّة بواسطة المسيح: هذا موضوع يميّز الإنجيل الأول.
أراد يوحنا أن يبعد يسوع عن هذه الممارسة. أراد أن يمنعه. تدلّ اللفظة على تأثير العماد المسيحي حيث اتخذت هذه اللفظة قيمة خاصة فدّلت على مانع قانوني، على اعتراض يقود إلى منع العماد عمّن يطلبه (أع 8: 36؛ 10: 47؛ 11: 17).
"أنا الذي يجب أن اعتمد منك". تشدّد الجملة على الاشخاص: أنا... أنت. إن طلبَ يسوع قلبَ الوضع رأساً على عقب. ولهذا تهرّب السابق واحتج لأنه أدنى، لأنه لا يستحق. إن كلمات يوحنا المعمدان لا تتضمّن بالضرورة أنه رأى في يسوع ذاك الذي هو المسيح. ذاك الذي يجب أن يعمّد في الروح (11: 3 وز؛ يو 1: 31، 33).
"دع الأمور، إفعل". إن جواب يسوع يقبل بأساس ردّة فعل يوحنا. وهو يشير إلى الطابع اللاعادي والموقت في انقلاب الوضع. في هذه المرة، لا تعارض، إفعل.
"يليق بنا". عبارة احتفالية. هي لا تدلّ على لباقة بشرية، بل على توافق مع مخطّط الله. فهذا المخطّط يعني السابق كما يعني المسيح. "يليق بنا" كلينا.
"أن نتمّ كل برّ". عبارة متاوية. يدلّ فعل "أتمّ" في الإنجيل الأول على المحافظة (احتفظ، استعاد) وعلى التكملة (أوصل إلى كمال جديد، إلى نجاز سامٍ). فكرة فيها التواصل والتجاوز. إذن، تتمة الكتب التي يتحدّث عنها مت مراراً، تعني تحقيقها على مستوى أسمى. فالإنجيلي يرى أنه يجب أن نشدّد على هذه اللفظة في الجملة التي ندرس.
"البرّ". يدلّ البرّ في اللغة المتاوية (5: 6، 10، 20؛ 6: 1، 33) وبشكل أساسي، على توافق مع قاعدة أخلاقية من الكمال (تعبير عن إرادة الله). حين يمارس الإنسان مثل هذه القاعدة يُسمّى "باراً". وجواب المسيح الآن يرى في عماد يوحنا، مثل هذه القاعدة العمليّة من القداسة. طقس تطهّر نادى به آخر الانبياء وأعظمهم. ولكن هذا الطقس اليوحناوي يجب أن يستعيده يسوع ويرفعه. يجب أن يصبح عماد الماء في الوقت عينه عماد الروح ونقطة انطلاق للعماد المسيحاوي.
إن اتساع جواب يسوع يتجاوز هذه الحالة الخاصّة: "هكذا (بطريقة العمل هذه، وبما يشببها) يليق بنا أن نتمّ كل برّ". إذا أردنا أن ندرك كل ما مثّله "البرّ" في نظر الإنجيلي الأول، نعود إلى النص الرئيسي في 5: 17، 20، في خطبة الجبل. أدخل المعلم هنا سلسلة من التكملات على فرائضه الديانة اليهوديّة. وهكذا أراد أن "يكمّل" الشريعة والأنبياء (آ 17). وهكذ يتفوّق "برّ" (آ 20) المسيحيين على برّ الكتبة والفريسيين. من زاوية البرّ، تطلّع مت هنا إلى مجمل التدبير الديني (اليهودي أو المسيحي) المؤسَّس على ممارسة الشريعة (القديمة أو الجديدة). وحين ألّف إنجيله، أراد أن يدشّن تعليم الربّ ببرنامج واسع من الكمال المسيحي، من برّ الملكوت (5- 7). وعلى عتبة حياة يسوع العلنيّة (كما في النصّ الذي ندرس)، أدرج هذه العبارة البرنامج التي فيها يعلن يسوع انطلاقاً من وضع نموذجي، الهدف الأوّلي لرسالته: إقامة تدبير الخلاص حيث تؤخذ القيم القديمة وتتجلّى بنور العهد الجديد.
"حينئذٍ تركه يفعل". إحتجَّ المعمدان على عدم أهليّته. ولكنه حين عمّد يسوع، خضع لأمره. "تركه يفعل". أي فعل له كما أراد.
وهكذا نرى أن الحوار الذي أدرجه مت في المعطى الأولاني وضمّخه بنظرته اللاهوتيّة، أدرك في الواقع هدفين اثنين: شدّد على سموّ يسوع، وأبرز معنى عمله مستبقاً ما سوف نقرأه في الإنجيل.
ج- التيوفانيا
"فلما اعتمد يسوع، خرج على الفور من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت. رأى روح الله ينزل بشكل حمامة ويحلّ عليه. وإذا صوت من السماء يقول: هذا هو ابني الحبيب، الذي به سررت" (آ 16- 17).
مع أن مت يعتبر يسوع موضوع الرؤية (رأى) والناعم بمجيء الروح، فهو يقدّم القول السماوي في صيغة الغائب المفرد (هذا هو ابني). قد يكون أراد أن يقترب من حرفيّة نصّ أش 42: 1. ولكن في هذه الحالة لا يتوجّه صوت الآب إلى المسيح، بل يدلّ على الشهود. حينئذٍ يغتني المشهد إلى حدّ ما في خطّ إعلان علني وظهور إلهي (يوازي ما في التجلّي). تدخّل الله ليدل البشر منذ الآن على يسوع الذي يحمل الروح، على يسوع المسيح وعبد يهوه، على ابن الآب الحبيب. والوحي على إيجازه يتوجّه إلى شهود الحدث، ومن خلالهم إلى السامعين المقبلين للكرازة الرسولية، وإلى قرّاء الإنجيل. يتوجّه لكي يحرّك انتباههم ويوقظهم إلى كل ما يلقي ضوءاً على المعنى الحقيقي لمسيحانيّة المسيح وبنوّته الإلهية.
نحسّ في تصوير الحدث والتصوير "الملموس" للواقع السماوي الذي يرتبط بالأرض، نحس بإعجاب الراوي (وها إن... وها إن... إذ.. إذ..): انفتحت السموات. نزل الروح منها. فالراوي هو لاهوتيّ أيضاً: فمع عطيّة الروح ودخول ابن الله على مسرح العالم، صار ملكوت السماوات حاضراً على الأرض.

خاتمة
في نهاية الإنجيل يأتي. أمر يسوع بتعويد جميع الأمم مقابلاً لهذا المشهد الأول، مشهد عماد يسوع. وقد يدعو هذا الترتيب القارىء المسيحي ليعود إلى عماد يسوع لكي يفهم على ضوئه العماد "باسم الآب والابن والروح القدس". نحن هنا أمام عبارة قد صيغت بشكل ليتورجي فعكست ممارسة العماد المسيحي مع عودة لاهوتيّة إلى عماد الربّ.
وهكذا، حين أورد مت عماد المسيح، احتفظ بجوهر الحدث الاولاني. ولكنه جعل منه ظهوراً إلهياً على البشر وأرانا فيه أساس العماد المسيحي.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM