الفصل الخامس عشر: كرازة يسوع الأولى

 

الفصل الخامس عشر
كرازة يسوع الأولى في الجليل  4: 12- 25

إن اختفاء يوحنا المعمدان يدلّ في نظر متّى على نهاية حقبة، هي حقبة "الشريعة والأنبياء" التي تأتي بعدها رسالةُ ابن الله. وهكذا يحدّثنا الإنجيل الأول عن عمل يسوع في الجليل، وحول كفرناحوم. بدأ يسوع فاعتزل، أي ذهب إلى مكان آخر بعيد عن الأردن، هو الجليل. واعتزل أي تراجع أمام عداوة هيرودس انتيباس المسؤول عن موت المعمدان.
أما السبب العميق لهذا التحوّل، فهو مخطّط الله كما نقرأه في سفر أشعيا. هذا المخطّط يتحدّث عن النور الذي يشرق على الضائعين كما أشرق على المجوس الذين تعرّفوا إلى عمانوئيل في تواضع "بيت لحم". وهكذا اختار يسوع منطقة "الجليل" لأنها ترمز إلى العالم الوثنيّ. "زبولون ونفتالي" يدلاّن على المنفى والتشتّت والضياع. وبالتالي يلوح الأمل بتجمّع شعب الله كله على جبل في الجليل (28: 16). هناك يتعلّمون ويتتلمذون ويتعمّدون.
بعد الحديث عن كرازة يسوع الأولى (4: 12- 17) نقرأ عن نداء التلاميذ الأوّلين (4: 18- 22). ثم نجد اجمالة حول كرازة يسوع وأشفية اجترحها (آ 23- 24)، فاجتذب إليه الجموع (آ 25). وبعد هذا التدرّج الذي يقودنا إلى جبل التطويبات حيث نسمع عظة الجبل، نستعيد المواضيع نفسها في شكل معاكس. الجماهير (7: 28- 8: 1)، أخبار الأشفية (8: 12- 17). ونداءان يقابلان نداء التلاميذ الأربعة الذين تجاوبوا مع الكرازة بملكوت الله، فتركوا كل شيء وتبعوه.

1- عودة يسوع إلى الجليل (4: 12- 17)
تشكّل هذه الآيات (رج مر 1: 14- 15؛ لو 4: 14- 15) أول خبر لرسالة يسوع في المعنى الحصري للكلمة. لقد بدأت هنا الحقبة الجليليّة في حياة يسوع (ف 3- 18= مر 1- 9= لو 3: 1- 9: 50). نحن نعرف اليوم أنه يجب أن تُستعمل هذه التسمية ببعض الفطنة. وحالاً تتزاحم الاسئلة في فكرنا: لماذا الجليل، أية علاقات دقيقة نتخيّل بين يسوع والمعمدان؟ لماذا ترك يسوع الناصرة وذهب إلى كفرناحوم؟ لماذا لا يذكر لوقا القبض على يوحنا المعدان؟ ما هو بُعد الإيراد الكتابة الذي أخذه مت من أش 9: 1- 2؟ وهناك سؤال مهمّ: هل فهم يسوع كرازته بالتوبة والملكوت مثل يوحنا، أو هل أعطاها معنى آخر؟ ولماذا أعطانا لوقا صورة مختلفة كل الاختلاف عن نشاط يسوع الأوّل؟
لا نستطيع أن نقدّم أجوبة على هذه الأسئلة على مستوى سيرة يسوع. بل نحن سنحاول أن نتفحّص فكر متّى في هذا الشأن. فإن كانت هذه الآيات تعالج موضوعاً آخر يختلف عن المقطوعة السابقة، إلا أن أصالة مت بالنسبة إلى مر هي هي: إكتفى مرقس بأن يشير إشارة سريعة إلى واقعين رئيسيين. ذهب يسوع إلى الجليل، وبدأ يبشّر. استعاد متّى هذين العنصرين وحسّن اللغة اليونانية وأوضحها. ثم ألقى ضوءاً على معنى ما روح بواسطة إيراد كتابيّ طويل. لقد توخّت التحديدات الجغرافية في آ 13- 14 أن تكون مدخلاً إلى الاستشهاد بالعهد القديم.
منذ هذا الخبر الأول، نحن أمام أساليب أدبيّة وتربويّة يستعملها متّى في إنجيله. وإذ شدّد متّى ومرقس، كل بطريقته، على المضمون الرئيسي لكرازة يسوع، أشار لوقا فقط إلى أن يسوع علّم في المجامع فمجّده الجميع (لو 4: 15). أجل، يهتمّ لوقا منذ البداية بشخص يسوع وتأثيره، كما يهتمّ بالسلطة الاسكاتولوجيّة التي يعلنها. هكذا نفهم أن لا يكون الإنجيل الثالث قد أشار أية إشارة إلى الملكوت حين بدأ خبر رسالة يسوع العلنيّة.
"ولما سمع أن يوحنا" (آ 12). في 3: 13 كان متّى قد أشار إشارة سريعة إلى وصول يسوع ساعة كان يوحنا يعمّد. "حينئذٍ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا لكي يعمّد على يده". هذه الكلمات لا تكفي لتحدّد تسلسل الأحداث بالنسبة إلى إقامة يسوع في الأردن وفي "البرية" (آ 1). وذكرُ الاربعين يوماً يبدو لاهوتياً أكثر منه كرونولوجياً. من الواضح أن متّى لا يهتمّ بتحديدات تتطلّبها عقولنا. وفي المعنى عينه لا يتوخّى ذكر توقيف يوحنا أن يحدّد الزمن الذي فيه بدأت رسالة يسوع، ولا أن يفسّر تفسيراً سيكولوجياً صعوده إلى الجليل، على أنه كان بدافع الخوف. توقّف متّى، كما يقول فعل "باراديدومي" (أسلم، قبُض على، رج 10: 4؛ 26: 15 ي)، عند ما يوحّد رسالتي السابق والمسيح في مخطّط الله: إن يسوع يبدأ نشاطه العلني ساعة وضع الرب حداً لنشاط يوحنا (سيعود مت في ما بعد إلى سجن يوحنا، 14: 3 ي؛ رج مر 6: 17، 29).
وفعل عاد، انطلق (اناخوراين) الذي يميّز السرد المتّاوي (9: 24؛ 12: 15؛ 15: 2...) نفهمه بمعنى ابتعد، اعتزل وربّما لجأ كما في 2: 14، 22؛ 12: 15. ولكنه يعني أيضاً أن يسوع عاد إلى منطقته كما في 2: 12. المهمّ هو الرباط مع يوحنا المعمدان. ولفظة "جليل" تدلّ على أية مقاطعة في البلاد. ثم انطبقت بشكل خاص على القسم الشمالي من فلسطين (يش 20: 7؛ 21: 32).
في أيام يسوع كان سكان الجليل مزيجاً من الشعوب. والمنطقة مقاطعة في مملكة يوحنا حركانس (العاصمة: صفورية). ثم في مملكة هيرودس. وشكّلت مع بيريه تترارخية (ربع مملكة) هيرودس انتيباس (4 ق. م.- 27 ب. م.). ثم ضمّت إلى مملكة هيرودس أغريبا الأول (39- 44). وفي النهاية حكمَها والٍ روماني يقيم في قيصريّة. لا شكّ في أنه كان للجليل تأثير على يسوع وعلى تكوين تلاميذه الأولين. ولكن نلاحظ أن الإزائيين بسّطوا الأمور فحصروا يسوع في الجليل في القسم الأول من بشارته، ثم نقلوه إلى أورشليم لكي يموت هناك. ولكن إذا قرأنا يو 2: 12؛ 4: 1، 3، 43، نرى أن الأمور متشعّبة وأن نشاط يسوع توزّع في فلسطين كلها، حتى في السامرة. وأنه ذهب أكثر ما ذهب إلى أورشليم في الأعياد حيث تكون الجموع كثيرة.
"ثم ترك الناصرة" (آ 13). هنا يبدأ المضمون الخاص بمتّى في هذه المقطوعة. وسوف يمتد حتى آ 16. توخّت آ 13 أن تهيّىء الطريق لاستشهاد أش 8: 23- 9: 1. يفترض النصّ، ولا يقول بصريح العبارة، أن يسوع ذهب أولاً إلى الناصرة (نازارا كما في لو 4: 16؛ رج مت 2: 23؛ 21: 11؛ يو 1: 45، 46) حيث أقام يوسف ومريم حسب 2: 23.
في أيام يسوع، لم تكن الناصرة سوى قرية جليليّة صغيرة. وهذا ما يفسّر لماذا تركها يسوع (كاتاليبو، رج 16: 4؛ 21: 17) ليبدأ (اركساتو، آ 17) رسالته في مناطق كثيرة السكان. غير أن يسوع دُعي -على ما يبدو- "نبيّ الناصرة" (21: 11؛ أع 10: 38).
أما كفرناحوم، المدينة الحدوديّة، الواقعة على الشاطىء الشماليّ الغربي لبحيرة جنسارت، بين مملكة فيلبس ومملكة هيرودس انتيباس (9: 9)، فقد كان فيها حامية رومانيّة (8: 5- 13؛ لو 7: 1- 10). سمّيت مدينة يسوع، "مدينته"، في 9: 1. ويبدو أن نتيجة نشاط يسوع فيها كانت مخيّبة للآمال (11: 23 وز).
حين ذكر مت "تخوم" (هوريويس) زبولون ونفتالي، عاد إلى ماضٍ له معناه العميق في تاريخ الشعب اليهوديّ: قبيلتان في مملكة إسرائيل (مملكة الشمال بعاصمتها السامرة) قد ضمّتهما أشورية سنة 734. فأعلن لهما النبيّ الخلاص. ولكن هذا الخلاص تحقّق في رسالة يسوع. لم يتحدّث أشعيا فقط عن خلاص عسكريّ وسياسيّ. بل عن "الظلمة" و"الضيق" اللذين حلاّ بهذه المنطقة بعد أن دخلت عليها شعوب وثنيّة آتية من البعيد فطبعتها بطابعها. يرى مت أنه من الأهمّية بمكان أن يبدأ يسوع رسالته في هذه المناطق من سورية ولبنان وفلسطين حيث دُوّن الإنجيل الأوّل.
"الشعب الجالس في الظلمة" (آ 14). هنا يبدأ الايراد الأشعيائي. لا ينسخ مت النصّ الماسوريّ ولا نصّ السبعينية. ماذا يقول النصّ الماسوريّ؟ "كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي، يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت (أو: الظلمات) أشرق عليهم نور". هناك مقابلة بين وضعين. الأول، يوم الاحتلال الأشوري لهذه المنطقة. حلّت الظلمة مكان النور بسبب الموت والدمار الذي حلّ بالبلاد. الثاني، يوم الخلاص الذي يراه الربّ منيراً.
ويبدو النصّ اليوناني مختلفاً عن النصّ الماسوريّ. "وينظرون إلى الأرض السفلى، فإذا الضيق والظلمة والحزن والقلق والظلام بحيث لا يستطيع أحد أن يرى شيئاً. وتلك التي كانت في الضيق لن تُضايق بعدُ إلى زمن بعيد. اشربي أولاً. تصرّفي بسرعة، يا أرض زبولون وأرض نفتالي وسائر سكان ساحل البحر وأرض عبر الأردن. جليل الأمم". نلاحظ أن مت حوّل النصّ تحويلاً كبيراً. فدلّ على أن نور المسيح وصل إلى كل هذه المناطق بعد أن سيطرت عليها ظلمة الوثنيّة. هو لم يحتقرها كما فعل اليهود. هو لم يهرب منها كما فعل الاسيانيون حين انعزلوا في البرية. هو لم يحصر نشاطه في أورشليم، بل ذهب إلى جليل الأمم الذي سيحتل مركزاً هاماً في إنجيل متّى (2: 22؛ 3: 13؛ 4: 23، 25؛ 28: 16). هنا نشير إلى أن البحر لا يعني البحر المتوسط كما في أش. بل بحر الجليل. وأن موضوع النور يرتبط بالرجاء المسيحاني (أش 58: 8). وأن الظلمات جُمعت مع ظلال الموت في لو 1: 78.
أدخل مت في هذا النص الأشعيائي "الجالس في الظلمة" فتذكّر الاشوريين وما فعلوا بالبلاد. ولكنه ترك الإطار السياسيّ والعسكريّ. وتطلّع إلى وضع اليهود الروحيّ في أيام يسوع وفي أيام متّى. إن رسالة يسوع تتوجّه إلى الخراف الضالّة في آل إسرائيل (10: 6؛ 15: 24). هلاّ عرف اليهود أنهم خطأة وأنهم بحاجة إلى الخلاص مثل الوثنيّين؟ هنا نلتقي بما قاله بولس في الرسالة إلى أهل رومة. وإذ رأى يسوع حالة شعبه التعيسة، لم ينسَ حالة الوثنيين. والجليل هو الموضع المميّز للقاء اليهوديّة والوثنية بعد أن امتزجت هاتان الفئتان امتزاجاً كبيراً على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
"ومنذئذٍ طفق يسوع يقول" (آ 17). نجد لفظة "منذئذٍ" (ابو توتي) في 16: 21، وهي تدلّ على أن يسوع بدأ رسالته بالكرازة والتبشير كما بالعمل. الملكوت قريب وقريب جداً. الملكوت حاضر وقد تدشّن في شخص يسوع ونشاطه، وهو سيتجلّى قريباً. وما يطلبه منا هو التوبة.

2- التلاميذ الاولون (4: 18- 22)
ودعا يسوع تلاميذه الأوّلين (مر 1: 16- 20؛ لو 5: 1- 11؛ يو 1: 35- 42). نقصتنا المعلومات الكرونولوجيّة. لهذا لا نعرف حقبة الزمن التي مرّت بين بداية نشاط يسوع ونداء التلاميذ الأوّلين. غير أننا إذا تفحّصنا بنية مت ومر، نجد أن هذين الخبرين يتلاصقان. ما إن بدأ يسوع رسالته حتى أحاط نفسه بمشاركين في العمل: الأخوان سمعان وانداروس. الأخوان يعقوب ويوحنا. أما لوقا البعيد عن فلسطين فلم يقدّم لنا شيئا من هذا وإن أورد كلمة يسوع كما نقرأها في مت 4: 19 ب (إتبعاني فاجعلكما صيادي بشر) في 5: 10 مع ألفاظ مختلفة (لا تخف، إنك منذ الآن صيّاد للناس).
وهناك نقطة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها. بدأ يسوع فأحاط نفسه لا بتلاميذ متنبّهين وسامعين فقط مثل معلّم البرّ في قمران، لا بتلاميذ يشبهون تلاميذ الرابانيين، بل بأناس يشاركونه في الرسالة، بصيّادي بشر. نشير هنا إلى أن "لفظة" تلميذ غير موجودة في النصّ. ولكننا سنعود إليها كما نعود إلى عبارة "صيّادي بشر".
سنجد بطرس واندراوس، يعقوب ويوحنا في بداية ف 10، حيث سيُدعون "تلاميذ" (آ 1) ثم "رسلاً" (آ 2). هذا الخبر هو نتيجة تفكير طويل في إطار تربويّ وتعليمي. وهو ينطلق من حياة يسوع فيبدو لنا "وثيقة" أساسيّة للتعرّف إلى بدايات الإنجيل. هذا لا يعني أنه لم يُكتب على ضوء القيامة، وعلى ضوء حياة كنيسة متّى سنة 85. هذا الخبر يشدّد على المعلم الذي يدعو، لا على موقف المدعوّ. هو يشدّد على كلمة يسوع التي تجاوبَ معها التلاميذ الأوّلون تجاوباً تاماً.
كان ماشياً على شاطىء بحر الجليل" (آ 18). بحر الجليل أو بحيرة جنسارت (13: 47). سمعان بن يونا (16: 17) أو يوحنا (يو 1: 42؛ 21: 15). هو أخو اندراوس (10: 2)، وقد كان صيّاد سمك مثل أخيه (4: 18؛ مر 1: 16). وُلد في بيت صيدا (1: 44) وسكن كفرناحوم حين التقاه يسوع (مر 1: 29؛ لو 4: 38)، مع حماته (مر 1: 30 ي). إن لو 5: 1- 11 يجعلنا نفكّر أنه لم يترك مهنته كصيّاد حالاً بعد أن دعاه يسوع. "بطرس" هو اسم مذكّر في اليونانيّة، يقابل "كيفا" في الاراميّة. وكان اندراوس أيضاً من بيت صيدا (يو 1: 14)، وقد أقام في كفرناحوم (مر 1: 29). كان على ما يبدو تلميذ يوحنا المعمدان (يو 1: 40).
"فقال لهما: اتبعاني" (9 آ). قدّم مت ومر الكلمة الأساسيّة ليسوع في عبارة واحدة (رج لو 5: 10). لا نفهم فعل "غينوماي" (صار) عند مرقس في معنى دوامي، أي بدأ يصير وما زال. هذا غريب عن مرقس. ولهذا حذف كما هذا الفعل كما وجده في نصّ مرقس. هذا لا يعني أن متّ يشدّد على العنصر اللحظي (يدوم لحظة) ومر على العنصر الدواميّ. كلا، فالإنجيليان يتحدّثان عن دعوة التلاميذ الأربع الأوائل في اللغة ذاتها.
ارتبط يسوع بهؤلاء الرجال، وأراد (الآن وفي المستقبل) أن يجعل منهم صيّادي بشر. والعلاقة بين عنصَريْ الآية (قال لهما اتبعاني- فأجعلكما صيادي بشر) قد فُهمت في معانٍ مختلفة بسبب وجود حرف العطف "كاي" (الواو). قد نجد عملين متعاقبين (تبع التلاميذ يسوع، وهو سيجعل منهم صيادي بشر). وقد نكون أمام نتيجة لسبب سابق (إذا تبعتماني سأجعل منكما صيادي بشر). وهناك المعنى التفسيريّ (اتبعاني، وهذا يعني لكما بأنكما ستصبحان صياديّ بشر). كل تفسير لا ينفي الآخر، وإن كنا نفضّل التفسير الأول. فالنداء إلى اتباع يسوع لا يرافقه دوماً مشاركة من قبل "التابع" الذي يقف بجانب المعلّم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن عبارة "صيّاديّ بشر" على ما يبدو، تلمّح إلى واقع وهو أن هؤلاء الرسل الأربعة سيكونون قريباً من رسل المسيح. ويُطلب منهم بصريح العبارة أن يبشروا بالملكوت ويشفوا المرضى (10: 1- 2). لا يكون جميع التلاميذ صيّادي بشر، أما هم فيكونون.
ولكن إذا كانت عبارة "صياديّ بشر" تعني المبشرين وشهود الملكوت الذي دشّنه يسوع، على أي عنصر من هذه الدعوة تشدّد صورة الشبكة التي ألقيت في البحر ثم استُعيدت؟ أعطى بعض الشرّاح لهذه الشبكة المعنى الذي لها في 13: 47 (شبكة كبيرة ألقيت في البحر فجمعت سمكاً من كل صنف)، فرأوا هنا تلميحاً إلى الدينونة الأخيرة. فحسب قرائن 13: 47، يكون المعنى حينذاك أن التلاميذ (الذين صاروا رسلاً) سيجمعون البشر الذين سيدينهم "الملائكة" في ما بعد. ولكننا في الواقع أمام شبكة من نوع آخر في 13: 47. ورأى البعض الآخر في الشبكة صورة عن سرعة كلمة يسوع وسلطانها، سرعة كلمة الرسل التي ستجمع البشر من أجل الملكوت.
أما مرمى الحدث فهو: ستكونون بارعين وفاعلين في صيد البشر كما كنتم في صيد السمك. وهناك إمكانية أخرى: تشدّد الصورة على واقع يقول بأن السمك الذي يؤخذ يموت. فنشاط الرسل يُميت البشر موت التوبة (موت مع المسيح كما في روم 8). أو موت الدينونة المباشرة التي تمارسها كلمتهم لدى الناس. وما يُسند هذا التفسير الأخير هو أن التوراة والعالم اليهوديّ يستعملان هذه الصورة في بمعنى سلبيّ ومنتقص. نقرأ مثلاً في إر 16: 16: "ها أنا أرسل صيّادين كثيرين فيصطادونهم، وبعد ذلك أرسل قنّاصين كثيرين فيقنصونهم عن كل جبل وعن كل تلّ ومن نخاريب الصخر". هذا ما سيفعله الرب بالخطأة فلا يفلتون. ونقرأ في حب 1: 14- 17: "تعامل البشر كسمك البحر، كدبّابات لا قائد لها. إنه يصعدهم جميعاً بشصّه، ويصطادهم. بشركه، ويجمعهم في شبكته، فلذلك يفرح ويبتهج...". هذا ما يفعله الأشوريّ المنتصر بشعب الله.
إن السياق المباشر (آ 12- 17) والعودة إلى مت 10: 1 ي، يدفعاننا إلى الأخذ بالفرضيّة الثانية: سأجعل منكم شهوداً فاعلين في الملكوت. وتبع هؤلاء الرجال يسوع بدون تردّد. فسلطة يسوع تفعل قبل كل شيء فعلها في أولئك الذين دعاهم وطلب منهم أن يمارسوا السلطة التي مارسها هو.
"وجاء من هناك فرأى اخوين آخرين" (آ 21). إن آ 21- 22 لا تتوازيان توازياً تاماً مع آ 19- 20. فالنصّ يشدّد على نداء يسوع السامي، دون التلميح إلى وظيفة مبشّر أو رسول. فما فعله يعقوب ويوحنا على مستوى الوظيفة؟ أما يعقوب فقد مات شهيداً على أيام هيرودس أغريبا الأول (أع 12: 2). كان يوحنا ابن زبدى وسالومه (27: 56). وُلد مثل أخيه في بيت صيدا، ومثله كان صيّاد سمك (4: 21 وز؛ يو 21: 1- 14).

3- الجموع حول يسوع (4: 23- 25)
هنا نرى بداية نشاط يسوع في الجليل وردّة فعل الجموع على هذا النشاط (مر 1: 39؛ 3: 7- 10؛ لو 4: 44؛ 6: 17- 19). قدّمت لنا المقطوعة السابقة (4: 18- 22) وجهة شخصيّة عن نشاط يسوع، عن نداء التلاميذ الأولين بأسمائهم. وهذه المقطوعة تحدّثنا عن هذا النشاط على مستوى الجموع، بل على مستوى مناطق عديدة هي "الجليل والمدن العشر وأورشليم واليهوديّة وعبر الأردن".
بنية هذه الآيات واضحة: تصوّر آ 23 العناصر الثلاثة التي تكوّن رسالة يسوع في الجليل. يعلّم (ديدسكو)، يبشّر، يكرز (كاريسو)، يشفي (تيرابيوو)، وتورد آ 24- 25 نتيجة هذه الخدمة (ما سمعه الناس، اكوو) في كل المناطق المجاورة، وأول بلد يُذكر هو سورية. وهو لم يُذكر من قبيل الصدف. فسورية الطبيعية، هي على ما يبدو موطن الإنجيل الأوّل.
نجد مضمون آ 23 بشكل شبه حرفيّ، في 9: 35، أي في نهاية القسم الأول من الإنجيل. في ف 5- 7 نجد أولى خطب يسوع الخمس. وبعد تعليم يسوع نقرأ الأخبار (ف 8- 9) التي تدلّ على نشاط يسوع الشفائي. إذن، يجب أن نفهم هذه المقطوعة (آ 23- 25) كإجمالة عن نشاط يسوع قبل عظة الجبل (ف 5- 7) وخبر الأشفية (ف 8- 9). لقد جمع مت حواشي فرّقها مر ولو، فجعلها في بداية نشاط يسوع كلّه. ونلاحظ في النصوص المقابلة لمتى في مر، أن نشاطَيْ يسوع (الكرازة والشفاء) يُذكران، ولكن لا يُذكر النشاط التعليميّ العزيز على قلب متّى (8: 19؛ 22: 36؛ 23: 8). غير أن مرقس يعرف جيداً نشاط يسوع التعليمي (1: 22؛ 6: 2؛ 14: 49). إلاّ أنه لا يشير إليه إلا في إجمالاته. ونستطيع أن نسوق الملاحظة نفسها بالنسبة إلى عناصر لوقا الموازية لهذا النصّ.
"وكان يطوف في الجليل" (آ 23). شدّد مت ومر على القول بأن نشاط يسوع جعله يجول (باريأغاين؛ 9: 35؛ 23: 15) في كل أنحاء الجليل. ومسيرة يسوع هذه توافق وجهة هامّة من رسالته. هو لا يتوخّى أن يمشي بضع خطوات مع مجموعة من التلاميذ، كما يفعل الرابانيون. ولا أن يجمع أناساً أنقياء في البرية، كما يفعل الاسيانيون، بل يريد أن يوجّه كلامه إلى كل الشعب في كل بلد، في الجليل، في المدن العشر.
نُدهش بعض المرات حين نرى مت يتحدّث هنا عن تعليم (ديدسكو) يسوع، قبل أن يتحدّث عن كرازته (كاريسو، البشارة الأولى، الإعلان الأول). فالتعليم، كما نعرف، يتوجّه إلى أولئك الذين جمعتهم الكرازة (رج مت 28: 16 ي: تلمذوا، عمّدوا، علّموا). تلك هي القاعدة العامة (8: 19؛ 22: 36؛ 23: 8). ولكن التعليم هنا يعني كرازة يسوع في المجامع، ومضمونها نجده في ما يعلنه يسوع من أقوال على الجموع (لو 4: 16 ي). ثم قد نرى مت يستبق "التاريخ" والواقع، فيرى من خلال نشاط يسوع نشاط كنيسته التي تعلّم المؤمنين مقتفية خطى معلّمها.
لماذا يذهب يسوع إلى المجامع؟ هناك سبب عمليّ. ففي السبت يجتمع اليهود فيسمعون كلام الله ويصلّون معاً. إذن، هي مناسبة لإيصال التعليم. هذا ما فعله الرسل سواء في فلسطين أم في كل المدن التي حوت مجامع. وقد ذهب يسوع أيضاً إلى المجامع ليقرأ مع شعبه الكتب المقدسة ويفسّرها. سيتساءل الناس في ما بعد عن تعاليم يسوع، عن المدرسة التي درس فيها. لقد تعلّم التوراة، شأنه شأن اترابه، في المجامع.
غير أن يسوع لم يحصر نشاطه في المجامع. فإعلان الكلمة يتوجّه إلى الفئات التي لا تجيء إلى اجتماعات الجماعة. لهذا وجب أن يذهب إليهم، أن يذهب في طلبهم كالراعي وراء الخراف الضالة. وسيتبع الرسل يسوع في هذا المجال، فيتوجّهون إلى الوثنيين حيث يكونون: في الساحة العامة في اثينة (أع 17: 22). على شاطىء النهر في فيلبي (أع 16: 13). في مدرسة تيرانولس في أفسس (أع 19: 19). بل في سجن قيصرية ورومة وأفسس.
"يبشّر بإنجيل الملكوت". إنجيل الملكوت عبارة خاصة بكنيسة متّى. هو الكرازة التي موضوعها ملكوت الله كما كشفه المسيح ودشّنه (4: 17). وهو لا يُلمّح إلى إنجيل آخر. نحن نجد هذه العبارة في 9: 35 (يكرز بإنجيل الملكوت)؛ 24: 14 (سيبشّر بإنجيل الملكوت). ورد ما يقابلها في لو 4: 43 (أبشّر المدن الأخرى بملكوت الله) و8: 1 (يعظ ويبشر بملكوت الله). أما مر فتحدّث بالأحرى عن إنجيل يسوع المسيح، عن إنجيل الله، عن الإنجيل (1: 1، 14، 15؛ 8: 35؛ 10: 29؛ 13: 10). إن العبارة المتّاوية (إنجيل الملكوت) توافق كل الموافقة مجمل هذا الإنجيل الذي هو مبنيّ كله حول فكرة الملكوت.
والكلام عن يسوع كالشافي يأتي في الدرجة الثالثة. هذا أمر مهمّ في إجمالة تتحدّث عن نشاط يسوع في نظرة شاملة. فالأشفية تأتي بعد الكرازة والتعليم. وإن أشفية يسوع تدلّ حقاً على سلطانه في إعلان ملكوت السماوات وتدشينه (9: 6؛ 11: 2- 6؛ 21: 23؛ لو 11: 20).
ويوضح النصّ هنا أنه يشفي كلّ المرضى (رج 12: 25، شفاهم جميعاً). لا نأخذ هذا التفصيل بالمعنى الدقيق، لأن مجمل الخبر الإنجيلي يدل على أن يسوع لم يشفِ جميع المرضى، ولا هو أخرج جميع الشياطين. يتحدّث مرقس في النص الموازي عن يسوع الذي يشفي المرضى، أي بعض المرضى. وهكذا يدلّ على ملكوته وسلطته الخاصة في هذا الملكوت.
يتحدّث مت عن الشعب، أي شعب إسرائيل. فموضوع الشعب عزيز على قلب الإنجيليّ الأول. وقد ذكره في 1: 21 (يخلّص شعبه من خطاياهم)؛ 2: 6 (زعيم يرعى شعبي)؛ 4: 16 (الشعب الجالس في الظلمة). هذا ما عدا النصوص العديدة. أما هنا فيبدو المعنى كما يلي: حين شفى يسوع مرضى هذا الشعب، فكأني به شفى كل هذا الشعب، وحمل إليه الخلاص "من خطاياه" (1: 21).
"وذاع خبره في سورية كلها" (آ 24). نجد لفظة "اكوي" (خبر، شهرة) في العهد الجديد مع ثلاثة معانٍ رئيسية: ما نسمعه بالأذن (13: 14؛ لو 7: 1). الكرازة (10: 16- 17؛ غل 3: 2). الشهرة، والسمعة، الصيت (14: 1؛ 24: 6 وهنا). لا يريد النصّ أن يقول إن الجماعة بدأت تستمع إلى كرازة يسوع، بل إنها تأثرت بالأشفية التي يجترحها.
في العهد الجديد دلّت "سورية" بشكل عام على مقاطعة سورية الرومانيّة (لو 2: 2؛ أع 15: 23، 41؛ 18: 18؛ غل 1: 21). قد يكون هذا المعنى ممكناً إذا جعلنا متّى يفكّر بالمكان الذي تقيم فيه الكنائس التي يكتب إليها. وفي معنى أدقّ، تدلّ "سورية" على البلاد القريبة من الجليل، وذلك بحسب الإستعمال اليهوديّ. في مر 7: 26، السورية الفنيقيّة هي فينيقيّة من مقاطعة سورية الرومانيّة. كان بومبيوس قد احتلّ سنة 65 ق. م. سورية التي صارت حينئذاك مقاطعة رومانيّة (رج لو 2: 2).
وترد أسماء الأمراض. نحن هنا في إطار بلاغيّ وتربويّ. فيسوع لا يقف أمامه مرض ولا سقم. والعبارة التي نقرأها في مر هي أكثر إيجازاً (14: 35) ولكن لها المعنى عينه. والمرض كما يقول الرابانيون يكفّر عن الخطيئة. إذن، هي علامة عن الخطيئة وعقاب فرديّ لما اقترفه الإنسان في حياته. وغفران الخطايا كان يرافق الشفاء من الأمراض. مز 103: 3: "هو الذي يغفر جميع آثامك، ويشفي جميع أمراضك". "من خطىء أمام صانعه، فليقع في يدي الطبيب" (سي 38: 15، أي ليمرض). لهذا كان يتشكّك خصوم يسوع حين يرونه يشفي المرضى. يكفي أن يشفي بعضهم ليدلّ على قرب ملكوت الله، ليدلّ على عمل الله في العالم. وإن شفاهم كلّهم، كما قال مت، فهذا يعني أنه الله الذي جاء يحمل إلينا غفران جميع خطايانا والشفاء من جميع أمراضنا. ولكن هذا أمر غير معقول في يسوع الذي بدا أمامهم إنساناً وحسب.
"فتبعته جموع كثيرة" (آ 25). تشكّل هذه الآية وحدها "إجمالة" بحصر المعنى. وهي تقابل مضمون مر 3: 7- 8 ولو 6: 17، ولكنها ليست في محلّها هنا. إنها تقدّم صورة عامّة عن نشاط يسوع، وقد زادها الإنجيليّ بعد آ 24. سنجد بعض عناصرها في 12: 15: "فعلم يسوع، فانصرّف من هناك، وتبعه كثيرون فشفاهم جميعاً".
ذكرَ الجليل والمدن العشر وأورشليم واليهوديّة وعبر الأردن. هذا يعني أنهم كانوا يأتون إلى يسوع من كل مكان. وسمّى مر صور وصيدا، ولكن مت ألغاهما لأنه ذكر سورية في آ 24. وقال لو 6: 17 في بعض غموض: "المنطقة الساحليّة. منطقة صور وصيدا". المدن العشر (دكابوليس) كانت تقع في عبر الأردن. شرقيّ الاردن. كانت مجموعة من المدن الهلنستيّة (ثقافة يونانيّة، عوائد يونانية) التي ضمّها اسكندر يناي إلى يهوذا أو اليهوديّة، ثم جعلها بومبيوس في مقاطعة سورية الرومانيّة. أما أهم هذه المدن فهي: بلا، فيلدلفية (عمّان اليوم) سيتوبوليس (أو: بيت شان)، جراسة (أو: جداره). يركما اليهود أن هذه المدن هي أرض غريبة، وقد أقام فيها أهل اليونان وأهل سورية، كما أقام فيها عدد كبير من اليهود.
لقد أراد الكاتب الإنجيليّ أن يشدّد على تمازج الناس الذين يتبعون يسوع. إليهم تتوجّه تعاليم ف 5- 7. وسوف نراهم من جديد في 7: 28: "ولما فرغ يسوع من كلامه، بُهتت الجموع من تعليمه".

خاتمة
وهكذا نجد القرار الذي اتخذه يسوع بأن ينطلق إلى الأمم الوثنيّة. ترك البرية حيث تكوّن شعب إسرائيل، وتوجّه إلى شاطىء البحيرة، إلى "جليل الأمم". هذا الجليل الذي يعيش فيه اليهود والوثنيّون. بل ذهب إلى المدن العشر حيث وُجدت أقليّة يهوديّة مع السوريّين واليونانيّين. وهكذا بدأ يسوع يبني إسرائيل الجديد، يبني ملكوت السماوات من جميع الشعوب، لا من شعب واحد. وهكذا لم تعد أرض الموعد محصورة في فلسطين أو في قسم صغير في فلسطين، بل صارت سورية كلها بل العالم الروماني والعالم كله بعد أن أرسل إليه يسوع تلاميذه وأوصاهم أن يصلوا إلى أقاصي الأرض.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM