الفصل الثاني عشر: كرازة يوحنا المعمدان

 

الفصل الثاني عشر
كرازة يوحنا المعمدان   3: 7- 12

تبدأ كرازة يوحنا بالتنديد بالفريسيّين والصادوقيين (لو 3: 7- 9). التقى متّى ولوقا في إيراد هذه الكلمات القاسية. أما مرقس فتجاهلها. في مت، وجّهها يوحنا إلى الفريسيين والصادوقيين، في لو إلى الجموع التي تزاحمت لتتقبّل معموديّته. ونلاحظ هذا الاختلاف في أماكن أخرى مشتركة بين مت ولو. في مت انتهت القطعتان (آ 7- 10، آ 11- 12) بتهديد بنار الدينونة. مثل هذه التكرارات أو هذه التوازنات تجعلنا نكتشف الأسلوب التربويّ في الفقاهة الأولى. فبنية التنديد المتاوي تحيرّنا: هجوم مباشر على رؤساء الشعب. تساؤل حول صدقهم. نزع القناع عن اكتفائهم الدينيّ. كل هذا نقرأه في بداية الانجيل، ومتّى قد تألّم كثيراً في كنيسته من هؤلاء اليهود. كان بالإمكان أن نقرأ ما كتب هنا في نهاية الانجيل، كنتيجة لمقاومة اليهود لنداءات يسوع نفسه.

1- يا نسل الأفاعي (3: 7- 10)
ترد كلمات يوحنا في مت كما في لو: هناك "نسل الأفاعي" (غاناماتا). فالأفاعي لا تعطي إلا الموت. فالمقابلة تشير بدون شكّ إلى خطيئة محاوري يوحنا بعد أن تأصّلت فيهم وعشّشت (12: 34؛ 23: 33). الأفعى هي اسم عام يدلّ على الحية السامّة. والفريسيون والصادوقيون الذين يختلفون في نقاط رئيسيّة، يلتقون مع ذلك في هذا العماد الذي يقدّمه يوحنا. هذا أمر خاص بالشريعانيّة الدينيّة التي ترتجف أمام دينونة الله، فتحاول أن تكدّس الأعمال الأخلاقيّة والدينيّة، تحاول أن تَجمع الممارسات لكي تؤمّن خلاصها. لقد نسيت أن الخلاص عطيّة مجانيّة نجيب عليها. الخلاص يُقدّم لنا قبل أن تبدر منا أية عاطفة. فلماذا لا نسلّم أمرنا إلى الله في الإيمان؟
"من أرشدكم إلى الهرب"؟ تساؤل بلاغيّ يتوجّه إلى الفريسيين والصادوقين، ويستطيع أن يتوجّه إلينا. فيوحنا المعمدان لا يلمّح إلى شخص محدّد أرسله إليه الفريسيّون والصادوقيّون. هو يدعو أصحاب الشريعة والعاملين بالوصايا لكي يكونوا صادقين مع نفوسهم ومع الربّ.
"الغضب الآتي". هذا الغضب هو غضب الدينونة الأخيرة. نقرأ مثلاً في روم 5: 9: "قد برّرنا الآن بدمه (بدم المسيح) فنخلص به من الغضب". وفي أف 1: 10: "تنتظرون من السماوات ابنه الذي أنهضه من بين الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" (رج 2: 16؛ 5: 9؛ رؤ 6: 16). لقد صارت الدينونة قريبة جداً بمجيء المسيح. ففي كرازة المعمدان، قد افتتح المسيح يسوع زمن الدينونة.
"أثمروا ثمراً" (آ 8). يتحدّث متّى عن الثمرة في صيغة المفرد (أما لوقا فعن الثمر في صيغة الجمع) فيدلّ على تصرّف الإنسان كله، على أنه نتيجة إرادة مرتدّة وقلب تائب. لا يطلب يوحنا من هؤلاء المتقدّمين إلى العماد أعمالاً صالحة، بل اتجاه حياة جديداً يجعل من عمادهم أمراً جدياً. فإن فُقدت هذه الجدية، صار عمادهم احتراساً دينياً يذكّرنا بمظاهر التوبة الكاذبة التي ندّد بها الأنبياء مراراً في العهد القديم.
نجد هنا فعل "بويايو": صنع، عمل، أنتج، أثمر. هذا الفعل يلعب دوراً كبيراً في مت. نقرأه في 5: 19: "من يعمل ويعلّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات". وفي 5: 46: "إن أحببتم من يحبّكم، أليس العشّارون يفعلون ذلك"؟ وفي 7: 12، 24: "ما تريدون أن يفعل الناس لكم... كل من يسمع أقوالي ويعمل بها" (رج 12: 33). فيوحنا لا يطلب عواطف داخليّة، كما لا يطلب "ممارسات" خارجيّة، بل أعمالاً ملموسة تجنّد الإنسان كله قلباً ويداً وعاطفة وجسداً. يجتمع الإنسان في ثمرة تميّز كل تصرّفه المنظور والباطنيّ (7: 15: ثياب الحملان، وفي الباطن ذئاب خاطفة).
إذن، ليست هذه الثمرة نتيجة سيكولوجيّة لاستعداد حميم، بل إرادة نعبرّ عنها في أعمال منظورة، في الطاعة لوصايا الله. "ألا أثمروا". هذا الأمر يصوّر التصرّف الجديد الذي صار ملحّاً وممكناً بعد أن جاء العهد المسيحانيّ بقوّة.
"إن أبانا ابراهيم". كانت استحقاقات ابراهيم محسوبة لاسرائيل حسب التعليم اليهوديّ الجاري. قال الشرح عن خر 14: 5: "باستحقاق ابراهيم أبيهم شقّ لهم البحر". وفي شرح 14: 31: "نال ابراهيم امتلاك هذا العالم والعالم الآتي فقط باستحقاق الإيمان". فالبرهان على أن السامعين لم يتوبوا حقاً، هو أنهم ما زالوا يستندون إلى امتيازاتهم الدينيّة. فالإنسان التائب يسلّم نفسه إلى الله بدون أي سند.
من الخطأ أن نفهم هذه الامتيازات في معنى العرقيّة الدينيّة. فأبناء ابراهيم ينالون هذه الامتيازات بانتمائهم إلى الشعب المختار، وهو انتماء يدلّ عليه الختان. فالمرتدّون ينتمون مراراً إلى عرق آخر، ومع ذلك فهم يتمتّعون بهذه الامتيازات، شأنهم شأن المتحدّرين من أم يهوديّة.
نقرأ "يقيم من" (اغايراي إك) الذي يعني: "ولّد، أعطى نسلاً". يعود هذا الفعل إلى أش 51: 1- 2: كما أن الله أقام بشكل عجائبيّ أولاداً لابراهيم، فهو يستطيع اليوم أن يقيم أولاداً يكونون أعضاء حقيقيّين في الشعب المختار. فالله لا يرتبط بامتيازات نسل ابراهيم بحسب الجسد. وكلمة "حجارة" لا تعني فقط شيئاً لا قيمة له. بل هناك إشارة إلى أبراهيم الصخرة التي منها خرج شعب اسرائيل بقدرة الله الخلاّقة. "أنظروا إلى الصخر الذي نحتُّم منه، وإلى المقلع الذي منه اقتلعتم! أنظروا إلى ابراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم".
"كل شجرة لا تثمر ثمراً جيّداً" (آ 10). إن صورة الشجرة الجيّدة أو الرديئة هي معروفة في العالم القديم. نقرأ في 7: 16 ي: "كل شجرة جيدة تثمر ثمراً جيداً، وكل شجرة رديئة تثمر ثمراً رديئاً. لا تستطيع شجرة جيدة أن تثمر ثمراً رديئاً...". وفي 15: 13 قال يسوع: "كل غرسة لم يغرسها أبي السماويّ تُقلع". وتدلّ النار والفأس على الدينونة الأخيرة، على حكم لا استئناف فيه. ويشدّد النصّ على لفظة "إدي" منذ الآن. "منذ الآن الفأس على أصلِ الشجرة". مع يوحنا المعمدان ومجيء المسيح القريب، تتمّ الدينونة "منذ الآن" ضد أبناء اسرائيل. وهنا أيضاً لا يمثّل الثمر الجيّد ممارسات خاصّة يرضى عنها الله، بل تصرّفاً إجمالياً لدى الإنسان الذي عاد إلى ربّه تائباً توبة لا غشّ فيها.

2- أنا أعمّدكم بالماء (3: 11- 12)
هذا هو القسم الثاني من كرازة يوحنا المعمدان (رج مر 1: 7- 8؛ لو 3: 15- 18؛ يو 1: 24- 28). فيه نجد تدرّجاً واضحاً من مر إلى مت، ثم إلى لو ويو، في طريقة التمييز بين عماد يوحنا وعماد يسوع. في مر أعلن المعمدان المسيح وعماد الروح القدس. أما مت فشدّد بشكل بارز على خضوع يوحنا ليسوع. وطرح لو السؤال بشكل واضح: أما يكون يوحنا المسيح (آ 15)؟ وراح الانجيل الرابع أبعد من لو، فأطال الكلام على هذا التمييز. وإذ تحدّثت الأناجيل الثلاثة عن المسيح على أنه ذاك الذي "يأتي" (ارخوماي)، قال يوحنا: "يقف في وسطكم" (1: 24- 28).
إن هذا التطوّر في النصوص هو ولا شكّ صدى لجدالات حصلت بين التفسير المسيحيّ لخدمة يوحنا والتفسير المسيحاني في فم المتشيّعين للمعمدان. ففي بنية مت، يجب أن نفهم هذه المقطوعة كتصحيح جدالي لما قيل في المقطوعات السابقة: أعلن يوحنا الملكوت وعمّد، ولكنه لم يكن المسيح. ويبقى العبور من آ 7- 10 إلى آ 11 غير واضح. إن يوحنا يعمّد الآن أولئك الذين بدوا من قبل وكأنهم يرفضون العماد. من يعمد يوحنا؟
"أعمّدكم بالماء للتوبة" (آ 11). تبدو آ 11- 12 مطبوعتين بطابع نشيد شعري. ونحن نستطيع أن نكتبهما في بيتين، وكل بيت يتضمّن أربعة أشعار يشتمل كل منها توازياً نقائضياً. "إغو من" (أنا فأعمّدكم)... "هو دي" (أما ذاك الذي يأتي بعدي) (آ 11). "كاي (وينقّي بيدره)... "كاي" (ويجمع قمحه) (آ 12). هل نحن أمام نشيد مسيحيّ قديم؟ بل نحن أمام نهج تعليميّ عرفه التقليد الشفهيّ.
نقرأ "هيماس" (أنتم- أنا أعمّدكم أنتم) في بداية آ 11، فنرى أنه لا يتوافق مع آ 7- 10، حيث بدا يوحنا يرفض العماد للفريسيّين والصادوقيّين. لا شكّ في أن هذا الضمير يدلّ على حلقة أوسع من هاتين الفئتين. يدلّ على معمّدين لا نعرف هويّتهم. فإن مت ما توخّى أن يعدّد عدد المعمّدين على يد يوحنا، ولا نوعيّتهم، بل أن يحدّد على مستوى التعليم موقع هذا العماد بالنسبة إلى يسوع.
لا نعود إلى ما قلناه في الفصل السابق عن عماد يوحنا وارتباطاته بالمؤثّرات التي حوله (3: 1- 6). ولكننا نفهم أن مت يذكر بوضوح الماء والروح بواسطة حرف الجرّ "إن" (في). يعمّدكم في الروح وبالروح (الذي يصبح أداة). يعمّدكم في الماء فتُغسلون بالماء التي تغرقكم في الموت لتقوموا بعدها إلى الحياة. ويحدّد الإشارة إلى الماء بذكر التوبة أو الارتداد (ميتانويا). عماده هو عماد استعدادي، وهو يفرغ الإنسان من كل اعتداد دينيّ (نحسب نفوسنا أهلاً لهذه الهبة. ولكنها مجانيّة). وهكذا تصبح موهبة الروح ممكنة. ليست التوبة هدف العماد. فالعماد يشكّل الختم، وبالتالي البرهان على التوبة.
إن عبارة "يأتي بعدي" معروفة في العهد القديمة والعالم اليهوديّ: فهي لا تشير فقط إلى تسلسل كرونولوجيّ (واحد قبل الآخر)، بل تتحدّث عن تبعيّة وخضوع كما في الوفود الرسميّة (هناك أول وثانٍ). الذي يأتي (ارخومانوس) ليس فقط شخصاً وُعدّ به الناس. إنه آتٍ. قد بدأ مسيرته إلينا. ارتدت هذه اللفظة رنّة مسيحانيّة (11: 3: أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر، آ 14: المزمع أن يأتي). ونحن نجدها أيضاً في الهرماسية والمندعيّة في حديثهما عن المخلّص المنتظر. وفي العهد الجديد، المسيح هو ذلك الذي يأتي، الذي أتى (يو 10: 10: أنا أتيت لتكون لهم الحياة).
إذن، تتضمّن هذه الآية مفارقة واضحة. فعكس ما اعتاد الناس أن يروا، ذلك الذي يأتي بعد يوحنا هو أقوى من يوحنا. ويوحنا هو المنادي، هو السابق فقط. نجد كلمة "اسخيروتيروس" (أقوى، أفعل التفضيل) في الأناجيل الإزائية الثلاثة (رج 12: 29؛ اكور 1: 25)، كما نجدها مراراً في السبعينيّة. تطبّق على الألوهيّة وترتدي معنى "مهيب، رهيب"، "ما يقرّر مصير الإنسان". هذا ما نقرأه بشكل خاصّ في عبارة "الله عظيم رهيب" (دا 9: 4؛ إر 32: 18). وفي مزامير سليمان (ف 17) تطبّق هذا اللفظة بشكل دائم على الملك الداوديّ المنتظر: "أنظر أيها الربّ، وأقم لهم ملكهم، ابن داود، في الزمن الذي تعرفه أنت يا الله ليملك على اسرائيل عبدك، ومنطقه بالقوّة (اسخيس) ليحطّم الأمراء الظالمين... يكون نقياً من الخطيئة ليحكم الشعوب الكثيرة، ويوبّخ الرؤساء ويدمّر الخطأة بقوّة كلمته... بقوّة وعدالة".
امتلك ابن داود كما تحدّثت عنه مزامير سليمان، القوّة. أما مسيح الأناجيل فامتلك السلطان: "لست أهلاً". تأتي الصفة "هيكانوس" (أهل، كاف، مستحقّ) دوماً مع النفي في العهد الجديد (8: 8: لست بأهل؛ 1 كور 15: 9؛ لست أهلاً لأن أدعى رسولاً؛ 2 كور 2: 16؛ 3: 5). عبرّت هذه الصفة في العهد القديم عن مخافة الإنسان أمام الله الذي يكشف عن ذاته (أش 40: 16). وهكذا، يصبح يوحنا بالنسبة إلى المسيح، لا ذاك السابق المستقلّ، ولا رفيق العمل، بل الخادم الذي يرتبط بسيده ارتباطاً حميماً، لأنه يفتتح زمن التوبة والغفران الذي هو زمن المسيح (11: 11- 12).
إن العبد يحلّ سيور حذاء سيّده (مر، لو)، عمل نعلَي سيّده (مت)، بل يأخذهما بعد أن يخلعهما السيّد (كما يقول يوسيفوس). عُرفت العبارة والصورة في العالم القديم فدلّت على علاقة السيّد بالعبد. ولكن العبد هنا يشارك في عمل سيّده.
يوحنا يعمّد ويسوع يعمّد. كلاهما ينتميان إلى ذات الزمن الحاسم في تاريخ الخلاص. ولكننا لا نجد المعنى الواحد في عماد كل منهما. نلاحظ أن مت لم يعطِ يوحنا العماد لمغفرة الخطايا كما فعل مر 1: 4 ولو 3: 3 ب. فعماد النار والروح هذا ليس عماد الغطس الذي يرافقه الروح والنار، بل العماد الذي هو موهبة الروح. أما هذه النار فرأى فيها الشرّاح تلميحاً إلى نهر النار (دا 7: 10) الذي فيه ألقي "الحيوان". بل نحن بالأحرى أمام النار المنقّية التي تحدّث عنها الأنبياء. قال ملا 3: 2: "من ترى يحتمل يوم مجيئه، ومن يثبت عند ظهوره؟ فهو مثل نار الممحّص وكصابون القصّار". وقال زك 13: 9: "أدخل هذا الثلث في النار، واصهره صهر الفضّة، وامتحنه امتحان الذهب". إذن، نعطي حرف العطف (الواو) المعنى التفسيريّ، لا المعنى العاطف. فنقول: بالروح أي النار. ولا نقول: بالروح ثم بالنار، فالروح هو نار محرقة.
"بيده المذرى" (آ 12). نجد هذه الآية في مت ولو، ولا نجدها في مر. فموضوع التنقية والدينونة يتوضّح ويتوسّع، فلا يترك مجالاً لطمأنينة أو تعزية. فبعد الفأس في آ 10، تأتي المذرى. وهناك "المسبّق" "ديا" (دياكاتاريزو)، الذي يفهمنا أن العمل سيعمل حتى النهاية. وأن ما على البيدر سيذرّى كله، ويفصل القمح كله عن التبن. يُرمى القمح في الهواء، يُجمع الحبّ في الأهراء، ويُحرق التبن حالاً.
تعود بنا النار التي لا تنطفىء (اسبستوس) إلى أش 34: 10 (لا تنطفىء ليلاً ولا نهاراً، ودخانها يصعد مدى الأيام) وإر 7: 20 (ينصبّ غضبي... فيتقد ولا ينطفىء). هي النار الأبديّة كما نقرأ مثلاً في مت 25: 41 (إذهبوا يا ملاعين إلى النار الأبديّة). هذه النار هي نار جهنّم، لا النار المنقيّة التي تصهر الفضة والذهب. وقد لا يكون لها دور المنقّي في العالم الآخر من أجل خلاص يشمل جميع البشر في مجيء المسيح الثاني.
حين نقابل هذه التهديدات المظلمة مع تلك التي نجدها في نصوص الاسيانيين، نلاحظ أولاً أنها تتوجّه إلى الجميع. أما في قمران فتتوجّه فقط إلى أعداء شيعة قمران. فالجماعة المقدّسة هي بمنأى عن الدينونة. ونلاحظ ثانياً أن المعمدان لا يجمع حوله فرقة صغيرة من المخلّصين. بل هو يرسل تلاميذه إلى المسيح. نلاحظ ثالثاً أن المعمدان يتحدّث عن نار منقيّة، لا عن نار تهلك الخطأة كما في قمران.
3- قراءة إجمالية للنصّ الانجيليّ
نتوقّف هنا عند التنظيم الأدبي، عند العمل الأساسيّ، عند الوجهة التاريخيّة.
أ- التنظيم الأدبي
الوضع الأساسيّ للمعمدان ووضع الديّان الآتي يختلفان اختلافاً جذرياً: فالأول لا يستحقّ أن يكون عبد الآخر. والثاني هو أقوى من الأول. ومع ذلك، فيوحنا المعمدان ليس نبياً وحسب بنوع الحياة التي يعيشها (اللباس، الطعام). بل هو أيضاً النبيّ الذي دلّ عليه أشعيا ليعلن الحقبة النهائيّة، حقبة التحرير والخروج والخلق. وهو أخيراًَ قريب جداً من إيليا الذي ينتظر الناس عودته من أجل تدشين ملكوت السماوات. والكاتب يماهي بين يوحنا المعمدان وإيليا الذي سوف يأتي (11: 14).
وهذا التدرّج في الألقاب النبويّة الذي يحمل كل الانتظار الاسكاتولوجي للعهد القديم، يجعل من شخص "رجل البرية" حامل كل هذا الانتظار، بحيث لم يخرج في تاريخ الخلاص من هو أعظم منه بين أبناء النساء (11: 11). ولكنه هو لا يرى نفسه أهلاً بما فيه الكفاية لكي يكون عبداً لذلك الآتي. هل هذا إعلان تواضع؟ مثل هذه الفضيلة ليست غريبة عند مثل هذا الرجل. ولكن يجب أن نرى في هذا الكلام إعلاناً من النوع اللاهوتيّ الذي يشدّد عليه الانجيلي، بانتظار أن يكتب في ما بعد: الصغير في ملكوت الله أعظم من يوحنا المعمدان (11: 11).
الديّان الذي يأتي هو أقوى، هو الأقوى، لأنه الله. وتنفيذ الدينونة الأخيرة يعود إلى الله وحده. نحن هنا في خطّ النصوص النبويّة التي ترسم خلفيّة غنيّة للخبر الانجيلي. إن مجيء هذا الديّان الذي يمتلك قدرة إلهيّة يترافق مع مجيء ملكوت السماوات، ومع مجيء الغضب أو الدينونة في بعدها السلبيّ. هو يأتي إلى بيدره الذي يخصّه، كما جاء يوحنا إلى برية يهوذا التي لا تخصه. كل شيء يخصّ الديّان: هذه الحجارة والطريق والروح القدس والنار، أبناء ابراهيم والقمح.
مهما عظمت ألقاب يوحنا المعمدان، فهو يبقى إنساناً. أما قدرة ذلك الذي يأتي فتدفعنا إلى أن نرى فيه لا شخصاً اسكاتولوجياً وحسب، بل كائناً إلهياً أيضاً. وهذا الديّان هو يسوع المسيح.
بدا وضعُ يوحنا مختلفاً عن وضع يسوع، ولكن الوضعين لا يتعارضان. أما التعارض التام فهو مع الفريسيين والصادوقيين. هاتان الفئتان اللتان انفصلتا الواحدة عن الأخرى، في الحياة اليوميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، قد صارتا في نظر يوحنا مجموعة واحدة مميّزة عن الجموع: فالجموع تتقبّل بشكل خاص النبيّ ونشاطه في الدعوة إلى التوبة، تتقبّل كلامه والطقس الذي يمارسه فتدلّ على أنها تائبة. أما الفريسيون والصادوقيون فلا يدلّون في موقفها على قبول للمعمدان ولا لكرازته: هم لا يأتون إليه بل إلى معموديّته (وكأنها حرز يقيهم من الشّر). تأثّروا بتعليم آخر يدعوهم إلى التهرّب من الدينونة لأنهم أبناء الشعب المختار، أبناء ابراهيم. فما وصلوا إلى مرحلة التوبة.
لا شكّ في أن الفريسيين والصادوقيين هم أبناء أب هو ابراهيم. ولكنهم أبناؤه بصورة جسديّة: لهذا يسمّون نسل الأفاعي أي الكفّار الجاحدين (مز 140: 48). فأبناء إبراهيم الحقيقيون ليسوا أولئك الذين أعطوا له بالجسد، بل أولئك الذين أعطاهم الله له. وأبوّة ابراهيم ليست عنصراً مطلقاً يستقلّ كل الاستقلال عن الله. هي أبوّة نالها من الآب السماويّ. والفريسيون والصادوقيون، مهما كان تفكيرهم، لا ينتمون إلى هذه البنوّة التي يتقبّلها المؤمن من الله. بل هم تحت تأثير أب آخر هو إبليس كما يقول يو 8: 37- 44.
إذا كان هناك أبناء وأبناء لابراهيم، فهناك شجرة وشجرة. فكلها لا تثمر ثمراً جيداً. وكل شجرة عقيمة تصيبها اللعنة مثل تلك التينة على طريق أورشليم (21: 18- 19). وهذه الأوضاع المغايرة تجد صورة عنها في الحنطة والتبن اللذين لا يجتمعان أبداً معاً.
نحن ننتقل من التبن الذي يُحرق في النار، إلى الشجرة التي لا تحمل ثمراً فتُقطع وتُلقى في النار. وننتقل كذلك من حبّة الحنطة إلى ثمرة صالحة في الشجرة. وننتقل من ثمرة التوبة إلى الجموع التي تعترف بخطاياها لأنها تشكل الأبناء الذين أعطاهم الله لابراهيم. وقد نستطيع أن نقرّب بين الشجرة التي تقطع وتُحرق ومجموعة الفريسيين والصادوقيين. فوضعهم الأخلاقيّ الحاليّ الذي يرفض الاعتراف بالخطايا، يهيّئهم ليكونوا مثل هذه الشجرة الرديئة، بعد أن صار انتماؤهم إلى ابراهيم موضوع تساؤل.
ب- العمل الأساسيّ
ما قلناه حتى الآن يساعدنا على إدراك العمل الأساسيّ في هذا المقطع. كما يُبرز دور يوحنا المعمدان الذي يحاول أن يداوي عدم التوبة فيلتقي بمعارض سّري، بشخص يعمل في الخفاء. هذا "الشخص" يبعد الناس كما يبعد الفريسيين والصادوقيّين عن الاقرار بالخطايا لكي ينجوا من الغضب الآتي، من دينونة النار والهلاك. "من أرشدكم، من علمكم" لكي تهربوا؟
إن عمل يوحنا المعمدان يجد ما يعارضه، لا في مواجهة مكشوفة، بل بشكل خفيّ وغير مباشر في القلوب. هو يدعو الناس لكي يرفضوا التوبة ساعة وصلت الفأس إلى أصل الشجرة. هنا نتذكر أول مأساة في البشريّة: دلّت الحية حوّاء أن لا خوف عليها إن هي أكلت من الثمرة المحرّمة. فالذين تبعوا مشورتها صاروا من "نسل الحيّة" (تك 3: 15)، صاروا "نسل الأفاعي". وجاءت وسيلة أخرى تعارض التوبة: بنوّة ابراهيم كضمانة مطلقة للتهرّب من الغضب. هذه الطريقة في تفسير نعمة الاختيار، تشبه طريقة إبليس حين استعمل الكتب المقدّسة ليوقع يسوع في التجربة (4: 1- 11).
تجاه هذا التعارض، ما الذي يسند عمل يوحنا المعمدان؟ أولاً، ختمُ الله لرسالته ووعيه لهذه الرسالة. ثانياً، قوة شهادة حياته، قدرته النبويّة ليقرأ في القلوب، ولا سيّما في قلوب الفريسيّين والصادوقيّين. ثالثاً، قدرته في أن يقرأ "في تلك الأيام" الاستعدادات الإلهيّة بالنسبة إلى نهاية الأزمنة، إلى "أسرار" الملكوت، إلى مجيء "الأقوى" الذي يعمّد بالروح القدس والنار. رابعاً، البرية التي هي الموضع الأخير لتجمّع يقود المؤمنين إلى انطلاق في خروج نهائيّ نحو مياه الأردن من أجل معموديّة التوبة. حين استند عمل المعمدان إلى كل هذا، قاد الجموع للاعتراف بخطاياها، وأدخلها في تهيئة طريق الربّ الذي يأتي مع ملكوته، وساعدها على أن تثمر ثمراً جيداً، هو الحنطة التي تدخل في أهراء ربّ البيت.
ج- الوجهة التاريخيّة
إذا تطلّعنا إلى الأمور من الوجهة التاريخيّة، فالإعلان عن العماد المسيحيّ بالروح القدس في فم المعمدان، يبدو سابقاً لأوانه. ولكن حين ذكره الانجيلي، فهو لم يخلق شيئاً جديداً لأنه وجده في تقليد الإزائيين والتقليد اليوحناوي. إن التقليد العمادي ينتمي ولا شك إلى ما قبل الإزائيين. ومهما يكن من أمر، فنحن هنا أمام تضمين. بدأت رسالة يسوع في الحديث عن العماد وانتهت بنداء القائم من الموت: "عمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (28: 19).
نجد صفة "القدس" التي تُعطى للروح (آ 11) الذي هو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس. يرى الشرّاح أن هذه الصفة لم تكن موجودة في التقليد القبل إزائي. وهناك مخطوطات عديدة تغفلها. في الأصل نحن أمام معمودية "في الروح والنار". والروح يدلّ على النسمة أيضاً. وهكذا فالعماد في الروح والنار. لم يكن يلمّح في البداية إلى العماد المسيحيّ، بل إلى عمل الديّان الاسكاتولوجيّ الذي يخضع اللاتائبين لهاتين المحنتين (كما في العهد القديم).
محنة الروح معروفة ونحن نجدها في أش 11: 4: "يميت الأشرار بنفخة (بروح) من شفتيه". ويقابله مز 33: 6: "بكلمته صُنعت السماوات، وبنسمة من فمه كل أفلاكها". ونقرأ كلام بولس في 2 تس 2: 8: "ينكشف رجل المعصية فيقضي عليه الربّ بنَفَس من فمه ويبيده بضياء مجيئه". أما هنا في مت فنسمة العقاب الاسكاتولوجيّ تفصل بين التبن الذي يذهب إلى البعيد والحنطة التي تبقى على أرض البيدر.
ومحنة النار معروفة مثل محنة الروح. لمّح مت إليها مراراً في 13: 40 (يُجمع الزؤان ويحرق بالنار)، 42 (يلقونهم في أتون النار)، 50 (يلقونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان)؛ 25: 41 (إذهبوا يا ملاعين إلى النار الأبديّة). أما هنا، فالنار الاسكاتولوجيّة تحرق الشجرة التي لا تعطي ثمراً جيداً (ثمر التوبة) والتبن الذي لا نفع منه تجاه الحنطة.
نلاحظ أن يوحنا المعمدان لا يعلن إلا للفريسيين والصادوقيّين هذا العماد المحفوظ لهم: "هو يعمّدكم بالروح القدس والنار". فالنار تُحفظ فقط للاتائبين. والتماهي بين اللاتائبين والفريسيين والصادوقيين (في مت) يطرح سؤالاً على مستوى النقد التاريخيّ. ففي نظر الانجيلي، تمثّل هاتان الفئتان الرؤساء الدينيّين في اسرائيل وخصوم يسوع وخصوم كنيسته الأولى (16: 1، 6، 11، 12؛ 22: 34). هذان المعطيان يجدان أساساً قوياً في التقليد الانجيلي، ولذلك لم يستنبطهما الانجيلي بل قرأ بداية الانجيل على ضوء حياة يسوع وخصوصاً مع هؤلاء الخصوم، كما على ضوء حياة كنيسته التي تألّمت كثيراً منهم فكانت لها هذه الصرخة المؤلمة: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون"!
منذ بداية الحقبة الاسكاتولوجيّة، رفض اسرائيل القديم في شخص رؤسائه، الفرصة الأخيرة للتوبة التي قدّمت لهم في عماد يوحنا. فعماد الماء هذا اختلف عن عماد اليهود وعماد جماعة قمران، فدلّ على النداء الأخير إلى التوبة قبل إقامة ملكوت الله الذي اعتبر قريباً. فمن رفض هذا العماد، رفض أن يقرّ بخطاياه، فنال عقاب الروح والنار.
في هذا المنظار، لا مكان لزمن الكنيسة الذي هو ملكوت الابن والتدبير المسيحي للخلاص. وشكُّ يوحنا حول هويّة يسوع المسيحانيّة والاسكاتولوجيّة (11: 3). صار مفهوماً في نظرته هو. والكنيسة الأولى ستحوّل هذا الاتجاه فتجعل من الروح النسمة، الروح القدس. وهكذا يأتي الأقوى فينقّي (ولا يعاقب) الإنسان تنقية جذرية في ديناميّة سرّ المعمودية الذي هو أول أسرار الكنيسة.

خاتمة
ماذا نقول عن وضعنا المسيحي؟ هو يختلف من الخارج عن وضع سامعي يوحنا المعمدان. فالأقوى، يسوع، قد أتى، مات وقام، وهو معنا كل الأيام، وقد عمّدنا في الروح القدس. ولهذا، فأصغر واحد منا أعظم من السابق.
وإذا عدنا إلى الداخل، نجد أن وضعنا قريب من وضع الناس الذاهبين إلى البريّة في موقف تائب. نعترف بخطايانا لا في عماد الماء، كما في أيام يوحنا، بل في امتداد عماد الروح الذي يرافقنا كل أيام حياتنا وحتى ساعة موتنا.
وإذا بدت الدينونة الأخيرة بعيدة عنا، فنحن نعرف أن يومنا، أن حياتنا اليوميّة وعملنا اليوم، كل هذا يدخلنا في عالم الدينونة: إن اعترفنا بخطيئتنا أم لم نعترف. إن كنا أبناء حقيقيّين لابراهيم أم لا. إن أثمرنا ثمراً أو كنا عقيمين. إن كنا حنطة جيّدة أو تبناً خفيفاً تذرّيه الروح في كل مكان. كل هذا يهيّئنا كل يوم للدينونة الآتية، لملكوت الله الذي بدأ مع يسوع وسوف يمتدّ ليجمع في شخص يسوع كل ما في السماء وما على الأرض.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM