الفصل الحادي عشر: شخص يوحنا المعمدان

الفصل الحادي عشر
شخص يوحنا المعمدان
3: 1- 6

إن الأناجيل الأزائية الثلاثة (3: 1- 6= مر 1: 1- 6= لو 3: 1- 6) تلتقي مع يو 1: 6- 8، فتبدأ خبر رسالة يسوع بصورة مطوّلة عن رسالة يوحنا المعمدان (3: 1- 17= مر 1: 1- 11= لو 3: 1- 22). والطريقة التي يتّخذون تدلّ على أنهم لا يريدون أن يعلمونا عن المحيط والظروف التي فيها ظهر يسوع. فالاسلوب الاحتفالي، والاستشهاد المباشر بالعهد القديم، واستعمال ألفاظ مميّزة تشرف على كل الخبر الإنجيلي، دون أي انتقال، ودون محاولة تحديد الألفاظ المستعملة، كل هذا يبيّن (كما يقول مر 1: 1) أن إنجيل يسوع المسيح يبدأ مع ظهور يوحنا المعمدان. وهذا الأمر صحيح بنوع خاص في إنجيل متّى.
إن العلاقة بين عمل يوحنا المعمدان وعمل يسوع أمر مهتم في الإنجيل الرابع (1: 19- 51؛ 3: 22- 4: 3). ولكن الازائيين عامة، ومتّى بشكل خاص، يهتمّون بأن يعطوا المعمدان مكانته في مخطّط الله (3: 13 ي؛ 11: 7- 19؛ 14: 1- 2؛ 17: 9- 13). فالعلاقة بين الكنيسة الأولى وتبّاع يوحنا ظلّت مسألة ملحّة، وهذا ما نعرفه من أع 19: 1- 8.
تحدّث يوسيفوس المؤرخ عن نشاط يوحنا في القديميّات اليهوديّة (18/ 5: 2). وما قاله يتوافق مع المعلومات التي وصلت إلينا في الأناجيل. سمّي المعمّد والمعمدان، أعطى تعليماً حوله المعمودئة، وطلب من تلاميذه أن يمارسوا حياة أخلاقيّة. حكم عليه بالموت هيرودس انتيباس، لأنه خاف من أن تقود هذه الحركة إلى التمرّد والثورة بسبب طابعها المسيحانيّ.
هل انتمى المعمدان إلى جماعة قمران (أو: الاسيانيين)؟ ذاك سؤال ما زال موضع جدال: فالمجموعتان كانتا تمارسان العماد. وعماد قمران يرتبط بحركة توبة، بدخول إلى عهد جديد، استعداداً لدينونة الله القريبة. ولكنهم كانوا يكرّرون العماد كعمل طقسيّ. أما عماد يوحنا (شأنه شأن العماد المسيحيّ) فكان عملاً فريداً لا يتكرّر، ولم يكن له مدلول طقسيّ في العهد الجديد، بل مدلول أخلاقيّ وحسب.

1- في تلك الأيام (3: 1)
إن عبارة في تلك الأيام تجعلنا حالاً في منظار متّاوي. عبارة جدّ غامضة من الوجهة الكرونولوجيّة، وهي لا تحيلنا إلى أي زمن محدّد. كما أنها لا تلمّح إلى نهاية ف 2، ولا إلى أحداث معاصرة كما نجد في لو 3: 1- 2. هذا من جهة. ومن جهة ثانية إن ذكر الأيام يجعلنا ننتظر لا تعليماً فلسفياً أو باطنياً، بل خبراً ووقائع.
إن هذه العبارة تعني: هذا ما حدث في الأيام التي فيها بدأ يتمّ مع يوحنا المعمدان ما أعلن بواسطة الأنبياء. كان التاريخ المقدّس قد "توقّف" وها هو ينطلق انطلاقة جديدة. نجد هذه العبارة في العهد القديم كما عرفها سامعو متّى. فما تغرّبوا عن تراثهم الكتابيّ. نقرأ في بداية خبر زواج يهوذا من تامار: "وفي ذلك الزمان..." (تك 38: 1). وفي بداية تدخّل موسى من أجل أبناء شعبه: "وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى" (خر 2: 11؛ رج دا 10: 2... مت 24: 19، 38؛ مر 1: 9؛ 8: 1؛ 13: 17، 24...).
وعبارة "يوحنا المعمدان" أو "المعمّد" معروفة في الأناجيل (3: 1؛ 11: 11..) وعند يوسيفوس المؤرخ. وهكذا يستعمل الإنجيليّ ألفاظاً جاءت بعد الأحداث. ساعة ظهر يوحنا على شاطىء الأردن (آ 6)، كان فقط "ابن زكريا" (لو 3: 2). اختلف مت عن مر، فأشار أولاً إلى كرازة المعمدان، ثم إلى مضمون هذه الكرازة (آ 2) بعد أن أوضحها الإيرادُ الكتابي (آ 3). وفي آ 6، سيُذكر العماد نفسه. إن متّى رتّب خبره هنا كما في سائر المواضيع من إنجيله، وهذا الترتيب يستلهم الممارسة الكنسيّة في أيامه.
وفعل "وعظ، كرز، أعلن" هو ذاك الذي يُستعمل ليدلّ على نشاط يسوع التعليميّ. نقرأ في 4: 17: "طفق يسوع يعظ". وكذلك في آ 23؛ رج 9: 35. وبهذا الفعل أيضاً يدلّ الكتاب على نشاط الرسل (10: 7، 27؛ 24: 14؛ 26: 13؛ أع 10: 37). فكلمة المعمّد جزء لا يتجزّأ من الكرازة (كارغما)، من الإنجيل. وهذا الفعل "كاريسو" يدلّ على إعلان علنيّ لأحداث هامّة بالنسبة إلى البشر.
حين يأتي واعظ أو منادٍ (كاركس) لا يُطرح السؤال حول ذكائه أو حالته. بل: ما الذي حصل؟ ما الذي سيحصل؟ هذا ما قاله لوقا قبل أن يجعل في فم زكريا كلام النبوءة عن يوحنا المعمدان: "ما عساه يكون هذا الصبي" (1: 66)؟
لما ذكر مت "البرية"، زاد وحده "يهودا أو اليهوديّة"، فقال: "برية اليهوديّة"، فجاء في خطّ قض 1: 16 (صعدوا من مدينة النخل في برية يهوذا) ومز 63: 1 (مزمور لداود لما كان في برية يهوذا). فالبرية تدلّ على كل منطقة منعزلة. ولكنها ليست فرضاً رمليّة أو بعيدة عن الأماكن الآهلة، ليهرب "المصفون" من معاشرة الناس. لقد امتدّت "برية يهوذا" إلى الشرق من خطّ يربط أورشليم بحبرون. إذن، كانت منطقة واسعة جداً وغير محدّدة.
أعطى مت عبارة "برية اليهوديّة" المعنى البيبليّ والروحيّ، أكثر منه المعنى الجغرافيّ. هذا ما نفهمه حين نقرأ 4: 1: "اقتاد الروحُ يسوع إلى البرية". أي إلى عزلة روحيّة من الصلاة (رج 11: 7؛ 14: 13). إن الله يدعو شعبه إلى البرية لكي يكلّمه ويمتحنه. وبرية يهوذا هذه صارت معروفة اليوم بسبب المخطوطات التي اكتشفت فيها قرب البحر الميت.
كرز يوحنا في برية يهودا وقد يكون عرف الاسيانيين (أو: جماعة قمران) الذين أقاموا هناك وقد تحدّث عنهم بلينوس الأصغر بعد أن أعجب بهم (التاريخ الطبيعيّ 5/ 7: 4): "خلال آلاف الأجيال، يدوم شعب لا يُولد فيه أحد (بسبب البتوليّة). فتوبة الآخرين عن حياتهم الماضية تجعل هذا الشعب خصباً" (تجعل الشعب يأتي إلى البريّة).

2- توبوا (3: 2)
كان يوحنا يقول في كرازته: "توبوا، فإن ملكوت السماوات قريب". إختلف متّى عن مرقس ولوقا، فبدا ذاك المربيّ الذي بدأ فاجمل في بضع كلمات كرازة المعدان؛ فيوحنا لا يعلن معمودية التوبة كما قال لو 3: 3 (يكرز بعمودية التوبة لمغفرة الخطايا) ومر 1: 4 (يعمّد في البرية ويكرز). بل هو يكرز بالتوبة. أما المعمودية فتظهر في آ 6: "يعتمدون على يده".
يظهر موضوع التوبة أو الارتداد خمس مرّات فقط في مت بالنسبة إلى الفعل (ميتانويو) (3: 2؛ 4: 17؛ 11: 20، 21؛ 12: 41)، ومرتين بالنسبة إلى الاسم (ميتانويا) (3: 8، 11). والعدد هو نفسه تقريباً عند مرقس ولوقا. وهو لا يظهر أبداً عند يوحنا. ولكن هذه الكلمة (توبوا) ترتدي أهميّة رئيسية في بنية الإنجيل، فتصف كرازة المعمدان، ثم كرازة يسوع (4: 17).
في العهد القديم ارتبط فعل "ش وب" (ثاب، تاب في العربيّة) ارتباطاً حميماً بالعهد، فدلّ على عودة إسرائيل إلى الربّ. دلّ على العهد الذي أقيم بين الله وشعبه. فلا رجوع ممكناً إلا لأن هناك عهداً وميثاقاً، لأن هناك التزاماً سامياً وأولياً من قِبل الله تجاه شعبه. هي عودة على أساس اتفاق أوّل بين الله والإنسان، وهو اتفاق تعدّى عليه الإنسان وانتهكه. ثم إن هذه العودة (والتوبة) لا "تعود" بالإنسان إلى ذاته ولا إلى خطاياه، بل إلى شخص هو الله بالذات. وهذه العودة تختلف كل الاختلاف عن التأسّف والندم. هي أبعد منهما وإن كان من الممكن أن تبدأ معهما. العودة هي في أصل الخلاص. نشير هنا إلى أن التوبة هي موقف ضروريّ للاستعداد للزمن المسيحاني في العالم اليهوديّ.
"ملكوت السماوات". عبارة متّاوية تدلّ على "ملكوت الله". وهذا يحصل حين تقوم سلطة الله السامية على الأرض، لا في السماوات. هو ملكوت السماء (ملك الله) على الأرض. لا شكّ في أن الله يملك على الكون كله، غير أن هذا الملك ليس ملك شخص بعيد لا يبالي بالعالم. هذا الملك "يأتي" إلى "أرضه" بعد أن تذمّرت عليه. وجاءت تدخّلاته فكوّنت لحمة التاريخ. وقد أعلن يوحنا المعمدان التدخّل الحاسم الذي يُجمل كل التدخلات السابقة ويكمّلها.
تحدّث الإنجيليّ الأول عن إعلان الملكوت بفم يوحنا المعمدان ويسوع (ف 3- 4)، عن سّز الملكوت أو أمثال الملكوت (ف 13)، عن طريقة حياة أبناء الملكوت (ف 16- 18)، عن عبور من ملكوت خفيّ بدأ مع يسوع إلى ملكوت ظاهر في نهاية الأزمنة أو السهر من أجل الملكوت (ف 24- 25).
ما معنى هذا الكلام عن "اقتراب" ملكوت السموات؟ الملكوت قريب يعني: قد وصل. في السريانيّة نجد "ق رب" الذي يعني اقترب. لامس، وصل إلى الهدف. إذن، ليس الملكوت فقط واقعاً روحياً، لا زمنياً ولا متطوراً. وليس كارثة كونيّة قريبة. إنه حاضر في شخص يسوع ونشاطه، كما تدلّ عليه أعمال قدرة يسوع المنظورة، وإن عارضها الناس ولم تظهر بعد للكون كله. يكفي أن يكون يسوع هنا ليكون الملك قد اقترب، بل قد حلّ في العالم.
في أيام يسوع لم يكن مفهوم الملكوت روحانياً وباطنياً لدى الرابانيين. لم يكن واقعاً داخلياً. فالمباركات اليهوديّة تتحدّث عن مجد ملك الله "من ابراهيم وإلى الأبد" (حول سفر الخروج 13: 1). "مبارك اسم مجد ملكه من الأبد إلى الأبد" (حول سفر اللاويّين 16: 6). وينال الإنسان الملكوت حين يتلو صلاة "شماع" (اسمع يا إسرائيل): "حين تراه يضع يده على وجهه، فحينئذٍ ينال نير ملكوت السماء" (البركات 4 أ).
إن عبارة اقترب ملكوت السماوات التي ظهرت هنا، ستظهر أيضاً في 4: 17 على شفتَيْ يسوع (ملكوت السماوات قريب)، وفي 10: 7 حيث يتحدّث يسوع عن كرازة الرسل (بشِّروا قائلين: ملكوت السماوات قريب). ويرد هذا الفعل أيضاً في أماكن أخرى من الإنجيل الأول. "ولما قربوا من أورشليم" (21: 1؛ رج آ 34؛ 26: 45- 46؛ رج مر 1: 15؛ لو 7: 12؛ 10: 9؛ 21: 8؛ أع 7: 7). الفعل هو "اغيكان": صار في متناول اليد.
ما يرادف هذا الفعل هو ما نقرأه في 12: 28: "ملكوت الله قد انتهى إليكم"، أدرككم (رج لو 11: 20). من أجل هذا نفهم هذه الكلمات في معنى يقول: لقد اقترب ملكوت الله بحيث أدرككم ووصل إليكم، فوضعكم أمام إمكانيّة التوبة، بل أمام ضرورة التوبة، فلا مهرب لكم.

3- من هو يوحنا (3: 3- 6)
ويتوقّف الإنجيلي متّى عند شخص يوحنا في أربع آيات: ما يقول عنه أشعيا. ما يراه الناس ويسمعونه عن هذا النبيّ. وكيف يأتون إليه لكي يعتمدوا.
أوردت الأناجيل الإزائيّة الثلاثة وفي الألفاظ ذاتها نصّ أش 40: 3 كما في السبعينيّة اليونانيّة. وأحلّت الضمير محلّ لفظة "إلهنا". قالوا: "طرقه"، بدل "طرق إلهنا". هكذا تبسّط النص التوراتي من أجل حاجات تربويّة أو لاجتناب التكرار. أما يوستينوس (الحوار 5: 3) فقد عاد إلى النصّ الأصلي كما قرأه في السبعينيّة. يؤكّد هذا التحويل في النصّ أن ذلك الذي يُعلن ليس الله بل المسيح. فالرب (كيريوس) لم يعد يهوه، بل يسوع.
ويرد هذا النصّ في قاعدة قمران (8: 14) ولكن في معنى مختلف كل الاختلاف. فالطريق الذي يُفتح في البرّية هو "دراسة الشريعة... لكي نفعل بحسب ما كُشف وقتاً بعد وقت". كان قدّيسو قمران يعودون إلى الشريعة ليهيّئوا الوحي النهائي لله. أما القدّيسون المسيحيون فيستشهدون بأشعيا ليعلنوا أن هذا الوحي قد جاء في يسوع المسيح. ثم إن الاسيانيين استعملوا هذا النصّ ليدعوا الشعب اليهوديّ إلى البرية (قاعدة 9: 19؛ 20) في المعنى الحرفيّ للكلمة. يدعونهم لكي يتركوا أورشليم ويذهبوا إلى برية قمران. أما المعمدان فيتحدّث عن رب يقيم وقتاً قصيراً في البرية، ثم يجول في مدن وقرى فلسطين ليبشّر الجميع بملكوت الله.
وتحدّث متّى (آ 4) في لباس المعمدان. فاستعاد سمات وجه إيليا التقليديّ (2 مل 1: 8: متنطّق بمنطقة من جلد على حقويه) كما استلهمها يوحنا. فإيليا كان النبيّ الذي ينتظرون ظهوره "قبل أن يأتي يوم الربّ" (ملا 3: 23). إن العلاقة بين يوحنا وإيليا يلمّح عنها الآن تلميحاً. وفي 17: 10- 13 ستكون مقابلة تنتهي بالقول إن إيليا الجديد هو يوحنا المعمدان. فلا حاجة للبحث عن عودة إنسان قد مات منذ مئات السنين (رج مر 9: 11- 13). نشير هنا إلى أن سي 48: 10- 11 يتحدّث عن إيليا بهذه الكلمات: "جاء في الكتب المقدّسة أنك تأتي في الوقت المحدّد لتهدّىء غضب الرب قبل حدّته، وترّد عطف الأب إلى الإبن وتصلح أسباط بني يعقوب".
كان طعام يوحنا الجراد وعسل البرّ. فالاسيانيون كلوا الجراد المشوي. فهو يُطبخ مع الماء والملح مثل القريدس في أيامنا. أو كان يُجفّف في الشمس ويُمزج مع العسل أو الخلّ. أو كان يُسحق ويُدقّ ويُمزج بالطحين بشكل كعكة أو طلميّة. نذكر هنا أن العسل قد يكون من نتاج النحل أو من نتاج الخروب والعنب. تحدّث الابيونيون عن "كعكة" لا عن الجراد، لأنهم من النباتيين. وتحدّث تاتيانس السوري عن "الحليب" (أو: اللبن) ليتحاشى الكلام عن اللحم.
"كانت أورشيلم... يأتون إليه" (آ 5). شخّص الكاتب هذه المناطق، فكأنها شخص حيّ يأتي إلى يوحنا ليسمع تعليمه. واتفق مت، مر، لو، على القول بنجاح كرازة المعمدان. هذه الكرازة تتوجّه إلى الشعب كله، لا إلى "جماعة مقدّسة" تعيش في البرية مثل جماعة قمران، ولا إلى حزب صغير، إلى شيعة تكوّنت بعد موت يوحنا وعاشت طويلاً مع المسيحيّة. ذكر مت أورشليم، اليهوديّة، بقعة الأردن. ولكنه لم يذكر الجليل. فكرازة يوحنا المعمدان، شأنها شأن الكرازة القمرانيّة، انحصرت في أورشليم واستلهمت عالم الكهنة. لقد كانت أورشليمية في أصولها وفي المواضع التي انتشرت فيها.
يبدو الاختلاف واضحاً بين يوحنا والاسيانيين. سبق وتحدّثنا عن العماد عند الاثنين. لا يتكرّر العماد عند يوحنا، ولكنه يتكرّر عند الاسيانيين. بدا يوحنا مرسلاً من الله إلى جميع آل إسرائيل بمن فيهم العشارون والخطأة. ولكن هذا يتعارض كل المعارضة مع الطابع المغلق لجماعة الكهنة الأتقياء. كانوا لا يتقرّبون من الخطأة، شأنهم شأن الفريسيين. بل تجاوزوا الفريسيّين في هذا المضمار. مع يوحنا تبدأ حقبة أخيرة وحاسمة حيث المسيح قد وصل. أما جماعة قمران فما زالت تنتظر المسيح الذي سيكون ملكاً وكاهناً معاً.
"يعتمدون... معترفين بخطاياهم". هناك جدال حول طبيعة وأصول عماد يوحنا. قد نقرّبه من عماد المرتدّين الذي لا نعرفه جيّداً. ولكن يبقى أنه إذا كان هذا العماد يدلّ على طقس الدخول في الشعب المختار، فعماد يوحنا ليست كذلك. وقد نقرّبه من الغسل الطقسي لدى اللاويّيين أو الاسيانيين. غير أن هذا الاغتسال اختلف كل الاختلاف عن العماد الواحد الوحيد، عن هذا العماد الاسكاتولوجيّ لغفران الخطايا حسب مر 1: 4 ولو 3: 3. وقد نقرّبه من مواضيع نبويّة قديمة حول التطهير الذي وُعد به شعب إسرائيل في أزمنة الخلاص الأخيرة.
هنا نقرأ أش 1: 16: "اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شّر أعمالكم من أمام عينيّ وكفّوا عن الإساءة". و4: 4: "حين يغسل الرب قذارة بنت صهيون، يمحو الدماء من أورشليم". وحز 36: 25: "وأرشّ عليكم ماء طاهراً فأطهّركم من جميع أصناكم وما به تنجّستم". هذه النصوص النبويّة تشكّل الجذور التاريخيّة واللاهوتيّة لعماد يوحنا. احتفظ الغسل اللاوي والاسيانيّ بالطقس الخارجيّ. أما المعمدان فأعاد إلى هذه النصوص قوّتها الاسكاتولوجية فربطها بمجيء المسيح.
"معترفين". نحن هنا أمام اسم الفاعل (اكسومولوغومانوي) الذي عبّر عن عمل يرافق عمل المعموديّة. لا يُقال إن كان هذا الاعتراف هو شرط ضروريّ للمعموديّة. ولا إن كان نتيجة العماد. وشكل الفعل يعني أن اليهود حين كانوا يعتمدون، كانوا في اعتمادهم يقرّون بخطاياهم. ليس هناك من إقرار صحيح. ولكن فعل قبول العماد يدلّ على أن الإنسان هو خاطىء. هو بعماده يدلّ على خطيئته ويدخل في عداد الخاطئين. ويسوع لما اعتمد تضامن مع الخاطئين.
وهذا الاعتراف بالخطايا لم يكن فردياً وخاصاً بكل إنسان، بل جماعياً وعاماً. كانت هناك عبارات مقولبة نجدها بشكل خاص في المزامير وفي رتب التوبة كما في عز 9، نح 9. أما الفعل فهو "ي د ه" (رج في السريانية اودي) الذي يعني اعترف (بالله، بالخطيئة)، أقرّ. يستعمل نادراً في الحديث عن الاعتراف بالخطايا (دا 9: 20). هنا نتوقف عند الاقرر بالخطايا في العالم اليهوديّ القريب من المسيح. في يوم التكفير العظيم (يوم هاكببوريم) يذهب عظيم الكهنة إلى الثور بين الرواق والمذبح، ويجعل رأسه إلى الجنوب ووجهه إلى الغرب ساعة يقف الكاهن إلى الشرق ووجهه إلى الغرب. يضع يديه عليه ويقول في شكل اعتراف: "أيها الاسم، لقد كنت شريراً، تجاوزت، خطئت إليك أنا وبيتي. أيها الاسم (الالهي، أي: يا الله) اغفر الخطايا والتعدّيات والذنوب التي اقترفتها حين خطئت إليك وخنتك أنا وبيتي، بحسب ما كُتب في شريعة موسى خادمك: في هذا اليوم يُغفر له، ويأتي الجواب بعده: مبارك. اسم مجد ملكوته إلى الدهر وإلى الأبد".

خاتمة
"في تلك الأيام"، لسنا فقط أمام عبارة تافهة تنقلنا من مقطع إلى مقطع. بل إن هذه العبارة تقابل من جهة زمن تتمّة الكتب المقدّسة. ومن جهة ثانية مجيء ملكوت السماوات. وهكذا يكون زمن يوحنا المعمدان عند وصلة تربط النهاية بالبداية. فالنهاية هي نهاية نبوءة أشعيا التي تعلن مع العودة من سبي بابل، خروجاً جديداً، بل خليقة جديدة. لقد انتهى زمن الانتظار لأن هذه الخليقة قد تحقّقت في هذه البداية مع يوحنا المعمدان. البداية هي بدية المرحلة الأخيرة نحو ملكوت السماوات.
حين تحدّث لوقا المؤرخ عن زمن يوحنا المعمدان، عاد إلى تواريخ تتعلّق بالمدن كما تتعلّق بالامبراطورية. وعاد إلى تواريخ يهوديّة دينيّة وكهنوتيّة (3: 1- 2). غير أننا لا نجد شيئاً من كل هذا عند متّى. فالنقطة الوحيدة التي رجع إليها هي التاريخ المقدّس الذي وصل "في مثل تلك الأيام" إلى عتبة تكملته. وهذه الإشارة إلى البداية نجدها في عبارة مرقس المقابلة (بدء الإنجيل، مر 1: 1) لما في متّى والمنعزلة عن النهاية.
بين "هذه الأيام" والحدث الاسكاتولوجي للملكوت، توخّى النص دوماً أن يوجز الزمن إيجازاً كبيراً، وهكذا يصل الحديث حالاً عن إعلان احتفالي للنداء إلى التوبة في نهاية الزمن، كما اهمله مرقس، وصحّحه لوقا (3: 10- 14) الذي زاد الإشارة إلى الارتداد اليومي في الحياة الاجتماعيّة، والعائلية، والوظيفيّة. وما يجعل كل هذا خطيراً هو اقتراب الدينونة الأخيرة وحضور الديّان. بهذه الطريقة يبيّن لنا متّى أن ملكوت الله قريب، أنه على الباب، فلا يبقى علينا ألا أن نستعدّ له بالتوبة. هذا على مستوى الزمان.
وعلى مستوى المكان، نجد في صدر هذه الرسمة الأولى البرّية التي تحمل واقعين اثنين. هي برّية يهودا، برّية اليهوديّة التي ذكرتها آ 1، وهي برّية أشعيا (آ 3) بقدر ما يرى فيها الكاتب تأويناً آخر لما استشفّه النبيّ. فبالنسبة إلى النبيّ، ارتبطت البرّية ارتباطاً حميماً بإعلان الإنجيل والخبر الطيّب الذي هو التحرّر من بابل، والخروج الجديد. وهكذا يكون لبرّية يوحنا التي تماهت مع برية اليهوديّة، بُعد اسكاتولوجي يتيح لنا أن نقابله مع البيدر الذي سيتحدّث عنه النصّ في ما بعد. فمن الوجهة الكرونولوجيّة لا ينفصل البيدر عن البرّية إلا بحقبة قصيرة من الزمن. في البرّية نجد انطلاق المرحلة الأولى إلى الملكوت. وعلى البيدر نجد الوصول. وهكذا نستعدّ للفصل التالي مع كرازة يوحنا المعمدان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM