الفصل الثامن: المجوس والنجم العجيب

الفصل الثامن
المجوس والنجم العجيب
2: 1- 12

إذا وضعنا جانباً "نسب يسوع" (1: 1- 17) الذي يبدو بشكل مقدّمة، فإن إنجيل الطفولة يتضمّن في مت خمسة أحداث ترتبط بخمسة نصوص من العهد القديم: الحبل البتولي بالمسيح (أش 7: 14). سجود المجوس للطفل الألهي (مي 5: 1- 3). الهرب إلى مصر (هو 11: 1). مقتل أطفال بيت لحم (إر 31: 15). العودة إلى الناصرة (إيراد ملغز ينسب إلى الأنبياء: "يُدعى ناصرياً").
وفعلَ مت هنا كما فعل في أماكن أخرى: جمع أقوال يسوع في خمس خطب كبيرة تنتهي كلها بالخاتمة عينها: "وحصل أنه لما أتمّ يسوع هذه الخطب". واعتبر بعض الشرّاح أن الإنجيلي الأول أراد أن يقتدي بموسى فقدّم خمس خطب على مثال أسفار موسى الخمسة.
بل اعتبر البعض أنهم اكتشفوا تشابهات عديدة بين طفولة يسوع كما يرويها مت، وطفولة موسى في سفر الخروج والأدب المدراشي. فولادة "المخلّصَين" قد أعلن عنها في حلم ونبوءة. وإعلان هذه الولادة ملأت قلب هيرودس وبلاطه بالخوف، كما ملأت قلب فرعون وشعبه. وكما أن هيرودس استشار الكتبة، استشار فرعونُ المنجّمين، وكلا الطاغيتان أصدرا قرراً بقتل الأطفال. وفي كلا الخبرين أفلت الطفلان بصورة عجائبية وقد أراد الملكان أن يقتلاهما عند ولادتهما.
وفي الحالين، نبّهت السماء المحرّر المقبل، بعد أن هرب من بلاده، أن عليه أن يعود إلى أخصّائه، لأن أولئك الذين كانوا يطنبون الطفل قد ماتوا. في هذا السياق الأدبي بما فيه من اصطناع، وبما فيه أيضاً من عمق لاهوتيّ، نحدّد موقع سجود المجوس كما يرد في مت 2: 1- 12.

1- في بيت لحم اليهودية
تردّدُ أناجيل الطفولة مراراً (مت 1- 2/ لو 1- 2) أن المسيح هو من نسل داود، وأنه وُلد في بيت لحم.
أ- من نسل داود
مهما يكن من أمر نسب يسوع كما نقرأه في لو 3: 23- 28، فمدلوله واضح ولا سيما حين نقابله مع مت 1: 1 الذي يقول: "نسب يسوع المسيح، ابن داود، ابن ابراهيم". ولكن يجب أن نضيف الشهادات الواضحة. يقدَّم لنا يوسف على أنه "من بيت داود" (لو 1: 38). على أنه من "بيت داود وعائلته" (لو 2: 4). وعظّم زكريا، والد يوحنا المعمدان، قدرة الخلاص التي أقامها الربّ "في بيت داود" (لو 1: 69). وأخيراً، أعلن الملاك لمريم أن الرب يعطي الابن الذي يلد منها "عرش داود أبيه" (لو 1: 32).
وإن المسيح، خلال حياته العلنيّة قد دعي ابن داود. هكذا دعاه أعميا اريحا (20: 30؛ لو 18: 35). وهكذا نادته الكنعانية (15: 22). وهتفت له بهذا الاسم الجموعُ، يوم دخوله إلى أورشليم دخول الظافرين (21: 9، 15؛ مر 11: 10). وحين شفى يسوع الأخرس الذي فيه شيطان تساءلت الجموع: "أفلا يكون هذا ابن داود" (12: 23؛ رج أع 13: 23؛ روم 1: 3؛ 2 صم 2: 8؛ عب 7: 13 ي)؟
ب- الولادة في بيت لحم
إن واقع الولادة في بيت لحم يرتبط ارتباطاً حميماً بقرابة المسيح إلى داود. هكذا يفسّر لو 2 سفَر يوسف ومريم إلى بيت لحم من أجل الاحصاء في مدينتهما الأصلية. وإعلان الولادة للرعاة بفم الملائكة، يُبرز بعبارة واضحة أن المخلّص وُلد "في مدينة داود" (لو 2: 11). أما مت فاكتفى بأن يؤكّد على واقع يقوله إن عظماء الكهنة وكتبة الشعب عرفوا أن هذا ما أعلنه النبي ميخا (آ 5، 6).
ومع أننا لن نعود نجد في العهد الجديد تأكيداً آخر يتعلّق بولادة المسيح في بيت لحم، فلا نشكّ اطلاقاً باعتقاد الجماعة المسيحيّة الأولى في هذا المجال. والإنجيل الرابع يلخّص نتيجة كرازة يسوع في عيد المظال بهذه الكلمات. "وإذ سمع بعض الجمع هذا الكلام، قالوا: لا جرم أن هذا هو النبيّ. وقال آخرون: بل هو المسيح، وقال آخرون: أمِنَ الجليل يأتي المسيح؟ أفلم يقل الكتاب: إنه من نسل داود، ومن بيت لحم بلدة داود، يأتي المسيح" (يو 7: 40- 42)؟
فليس من المعقول أن يورد يوحنا دون أي تدقيق، هذه التأويلات التي تبدو متجاهلة أن المسيح هو حقاً من بيت داود، وأنه وُلد في بيت لحم. فهو ما كان ليوردها، لو أن هناك تردداً بسيطاً في هذا المجال بين المسيحيّين.

2- نبوءة ميخا
ويتبع حدثُ سجود المجوس الفنَّ الأدبي الخاص بإنجيل الطفولة. فيبدو كله مرتباً حول نبوءة مي 5: 1. إن النبي الذي عاصر أشعيا، قد صوّر في 4: 11- 13 مخطّطات الأمم (هنا أشورية) الباطلة ضدّ صهيون. وفي 4: 14- 5: 23 أنشد النبي المجد المقبل لسلالة داود. وعارض بين عظمة حصن صهيون (بيت جادر 4: 14) وحقارة أفراتة الظاهرة التي منها يخرج داود الجديد. "وأنت يا بيت لحم افراتة، أصغر عشائر يهوذا، منك يُولد ذاك الذي يملك على إسرائيل. مخارجه تعود إلى الأزمنة الماضية والأيام الغابرة. لهذا يتركهم الرب إلى اليوم الذي فيه تلد الوالدة. حينئذٍ يعود باقي اخوته إلى أبناء إسرائيل. وينتصب ويرعى قطيعه بقدرة الرب وبمهابة اسم إلهه. يقيمون هناك، لأنه يمدّ سلطانه إلى أقاصي الأرض" (مي 5: 1- 3).
إن ذكر "الوالدة التي تلد" والتقارب الواضح مع نبوءة عمانوئيل (أش 7: 14)، يحدّدان موقع نبوءة ميخا هذه في منظار واضح من الاسكاتولوجيا المسيحانية. فتجاه التهديد الأشوري، يعزّي النبي شعبه، ويدعوه إلى رجاء بمحرّر مقبل، بنسل داود، ويصوّر ملكه وما يحمل من سلام وقوة، ملكه الذي يعمّ الكون.
نسب مت التفسير المسيحاني والجغرافي في نص ميخا، إلى عظماء الكهنة والكتبة: إستشارهم هيرودس فدلّوا على المدينة. فالترجوم يعني بوضوح المسيح وبيت لحم. نقرأ: "منك، يا بيت لحم أفراته، التي هي أصغر من أن تعدّ بين مدن الألف ساكن في يهوذا، يخرج المسيح ليمارس سلطانه على إسرائيل. هو الذي عيّن اسمه منذ البدء وقبل الأيام الدهرية".
وفي بيت لحم يهوذا تقوله الأخبار الرابانية (تلمود أورشليم)، سيُولد المسيح. أدخل مت اختلافات مهمة في نصّ ميخا (آ 6). افراته (بيت لحم افراته) صارت يهوذا (بيت لحم أرض يهوذا). لقد دلّ هذا القول دلالة فضلى على المدينة، وميّزها من بيت لحم الجليل في قبيلة زبولون. وترك الإنجيلي عمداً لفظة "صغيرة". وهكذا تضمّن ايرادُ مت حاشية تفسّر ميخا حيث لا يبدو تشابه النصّين تاماً.
كان ميخا قد قال إن بيت لحم كانت "أصغر من أن تعدّ بين مدن الألف ساكن". غير أنه أضاف: منها يخرج المسيح. فسّر مت تفسيراً دقيقاً هذا المعنى النبوي، فقال: "لست أبداً أصغر عشائر يهوذا. فمنك يخرج". ثم شدّدت نهاية الإيراد (الذي يكون راعي شعبي إسرائيل) المأخوذ من 2 صم 7: 5- 12، على طابع داود الثاني الذي يوافق كل الموافقة ما يكون عليه المسيح المنتظر.

3- في أيام هيرودس الملك
إن زمن ميلاد يسوع الذي لا نستطيع أن نحدّده بدقّة على أساس ما نقرأ في لو 2: 1، بحسب التردّد المتعلّق باحصاء كيرينيوس، يمكن أن نعيّنه على ضوء الإشارات التي نجدها في مت.
نعرف من خلال يوسيفودس معرفة اليقين الذي نرغب فيه، أن هيرودس توفيّ حوالي عيد الفصح، سنة 750 على تأسيس مدينة رومة (أي سنة 4 ق. م.). وفي هذه السنة، وقع الفصح في 12 نيسان. إذن، كانت ولادة يسوع قبل هذا التاريخ، قبل سنة 4 ق. م. هل نستطيع أن نحدّد هذا "القَبل"؟
هذا يرتبط بالمدى الذي امتدّ بين ميلاد يسوع ووصول المجوس من جهة، وبين وصولهم وموت الملك من جهة ثانية.
أصيب هيرودس بمرض خطير، وترك أورشليم (ولم يعد إليها). وذهب إلى أريحا في أيلول أو تشرين الأول سنة 749. وكما أن هيرودس لم يكن مريضاً، على ما يبدو، ساعة وصل المجوس إلى أورشليم حيث كان يقيم، يجب أن نقول إن المجوس جاؤوا إلى المدينة المقدّسة قبل تشرين الأول سنة 749. هذا كل ما نستطيع أن نحدّده.
بالإضافة إلى ذلك، لا نستطيع أن نجعل بين ميلاد يسوع ومجيء المجوس فسحة من الزمن تتعدّى السنتين (2: 16) ولا تكون أقلّ من 40 يوماً. فبعد أربعين يوماً، تقدّمت مريم والطفل إلى الهيكل من أجل تطهيرهما (لو 2: 22؛ لا 12: 2- 8). فلم يكن من الفطنة في شيء أن تذهب إلى أورشليم (هذا إذا استطاعت) من أجل هذا التطهير بعد الأمر الذي تلقّاه يوسف بالهرب إلى مصر. ثم، لا نستطيع أن نجعل التطهير يتمّ بعد العودة من مصر، لأنه مرّت ستة أو سبعة أشهر بين موت هيرودس وبداية حكم ارخيلاوس.
إذن، وُلد الرب على أبعد تقدير في آب 749، أو قبل ذلك الوقت بقليل. في التاريخ المسيحي الذي أدخله ديونيسيوس الصغير الذي جعل سنة 754 هي السنة الأولى في المسيحية، هناك خطأ يمتد على 4 أو 5 سنوات. أما عيد الميلاد في 25 كانون الأول، فقد تأسّس في رومة ليحلّ محلّ عيد الشمس. في بداية انقلاب الشمس الشتائي. ووصل العيد إلى الشرق في نهاية القرن الرابع، بعد أن عيّد الشرق والغرب لميلاد يسوع في 6 كانون الثاني.

4- مجوس جاؤوا من المشرق
هذه الإشارة الموجزة التي اعتبرها متّى كافية لقرّائه، فتحت الطريق واسعة أمام التقليد المسيحي اللاحق. فقد تحدّثت الشهادات القديمة عن عدد المجوس. قالوا: اثنان (رسمة في مدفن بطرس ومرسلينوس). ثم: ثلاثة (في ناووس محفوظ في متحف اللتران). أو: أربعة (مقبرة القديسة دوميتيلة في رومة). أو: ثمانية (على إناء في متحف كرشارينافو). وعدّت التقاليد السريانيّة والأرمنية حتى 12 مجوساً. ولكن العدد "ثلاثة" سيطر وذلك بالنظر إلى عدد الهدايا المقدّمة: الذهب واللبان والمرّ. أو بالنظر إلى ممثّلي أمم الأرض الثلاثة: سام، حام، يافث. ولا ننسَ اهتمام متّى بالرقم ثلاثة.
وأعطي هؤلاء المجوس أسماء في التقليد الغربي. وقد وصلت هذه الاسماء إلى الشرق: ملكيور، غسبار، بلشصر. نجد هذه الأسماء للمرة الأولى في مخطوط إيطالي مغفّل يعود إلى القرن التاسع، وفي مخطوط باريسي يعود إلى القرن السابع مع أسماء: بتيساريا، مليكيور، نموتسفة. وكانت أسماء مختلفة في أماكن مختلفة من العالم.
وقالوا عنهم إنهم كانوا "ملوكاً". هذا ما لا نجده في النصّ. ولا أساس تاريخياً له. قد نكون هنا أمام تفسير حرفيّ للمزمور 72: 10: "ملوك ترشيش والجزائر يؤدّون له الجزية، ملوك سبأ وشبأ يقدّمون له الهدايا". يبدو أن هذا التقليد يعود إلى ترتليانس الذي قال عنهم إنهم "كانوا مثل الملوك". وإن الفنّ المسيحي القديم لا يصوّرهم أبداً في اللباس الملوكي، بل في قبعة على مثال وجهاء بلاد فارس.
وتتنوّع الشهادات عن موضع ولادتهم. بعضهم جاء بهم من فارس وآخرون من بابلونية، من الجزيرة العربية، من مصر، من الحبشة. ولكن هناك إشارة اركيولوجية ثمينة تعود إلى زمن قسطنطين وتعتبر أن المجوس جاؤوا من فارس. وتورد رسالة سينودسية من مجمع أورشليم سنة 836، أنه لما دمّر جنود كسرى الثاني الفارسي كل معابد فلسطين سنة 614، عفوا عن بازليك بيت لحم التي بناها قسطنطين: حين رأوا رسمة الفسيفساء التي تمثل سجود المجوس، ظنوا أنهم من بلادهم، وذلك بسبب ثيابهم.
وما هو وضع المجوس الاجتماعي؟ لسنا أمام سحرة مصر (كما في سفر الخروج)، ولا أمام منجّمي بابل (كما في دانيال). ففي الكتب المقدّسة في المزدوية، "ماغوان" و"ماغو" هما: المشاركان في الهدية. هذا ما يدلّ على أشخاص يتبعون تعليم زراتسترا. يقول هيرودوتس المؤرخ اليوناني، إنهم كانوا يقيمون في ماداي قبل أي يصبحوا فرقة كهنوتية منغلقة على ذاتها ومحافظة على نقاوة عبادة مزدا. لم يكن المجوس كلهم كهنة. ولكن جميع الكهنة كانوا من هذه القبيلة. إذن، نحن أمام فرقة من الحكماء أثّروا تأثيراً كبيراً على الأشوريين والكلدانيين والمادايين. وبين الضباط الذي رافقوا نبوكد نصر حين احتلّ أورشليم سنة 587 ق. م. نجد شراصر الذي هو "رب مج" أي رئيس المجوس (إر 39: 3، 13).
دلّت ديانة زراتسترا على نقاط اتصال مع المعتقدات الموسوية ولا سيما الرجاء المسيحاني كما نجده في العهد القديم. كان قد علّم زراتسترا بوجود مبدأين ازليين، مبدأ الخير ومبدأ الشّر. وكانت بينهما حرب متواصلة من أجل السيطرة على العالم. وهذه الحرب تنتهي أخيراً بانتصار الخير على الشر. ويعود هذا الانتصار إلى معاونة حليف هو "الحقيقة المجسّدة" والذي يلد من عذراء، لم يقرب إليها رجل.
إن فكرة "الحليف" التي جاءت بعد زراتسترا الذي عاش في القرن السادس ق. م.، هي نتيجة الآمال والأفكار الدينية التي حملها الشعب اليهودي في منفاه...

5- ملك اليهود
"أين هو ملك اليهود الذي وُلد منذ زمن قريب" (آ 2)؟ هذا السؤال الذي طرحه مجوس الشرق في شوارع أورشليم الضيّقة، رنّ في آذان اليهود الذين اعتبروه تهكّماً وسخرية. ولكن هيرودس الذي يرتاب في جميع الناس، رأى في هذا الكلام سبباً للقلق والاضطراب.
ومع ذلك فما أعلنوه يقع في قلب رجاء الشعب العبراني الذي توزّع خارج حدود فلسطين الجغرافية. فالأسفار المقدّسة التي ترجمت إلى الآرامية واليونانية، نشرت في العالم كله الرجاء بملك يأتي من اليهوديّة. وقد أشار المؤرّخون الرومان إلى أن السبب الرئيسي للتعصّب اليهودي لدى المقاتلين، هو إيمانهم الأعمى بهذه النبوءات. لقد أمن الرومان أنفسهم بهذه النبوءات، ولكنهم اعتبروا أنها تمت على يد وسباسيانس وتيطس.
كتب تاقيتوس في تاريخه (5: 13): "تيقّن عدد كبير من الناس ممّا قيل في كتب الكهنة القديمة. وهو أنه في هذا الوقت، سيمارس الشرق سلطانه. وأن أناساً جاؤوا من اليهوديّة لكي يسودوا العالم. هذه الأقوال دلّت على وسباسيانس وتيطس. ولكن الشعب تبع كعادته رغبته البشرية، ففسّر هذه السعادة الموعود بها في صالحه، ولم يقتنع بالحقيقة، لم يقتنع ببرهان قدّمه خصومه".
وقال سواتانيوس من جهته: "إنتشر في الشرق كله معتقد قديم، بحسبه يأتي أناس من المشرق، يسودون على العالم. فسّر اليهود في صالحهم هذا القول النبويّ الذي يعود بالأحرى إلى الامبراطور الروماني (وسباسيانس) وثاروا" (انتهت ثورتهم سنة 70 بدمار أورشليم مع هيكلها).
إن سؤال المجوس يقف في خطّ هذ الاعتقاد الذي انتشر في الشرق كله.

6- النجم العجيب
هذا هو عنصر المعجزة في الخبر. تحرّك المجوس وانطلقوا في الطريق لأنه "رأوا نجمه يشرق". "لأنهم رأوا نجمه في المشرق" (آ 2).
يجب أن لا نماهي بين هذا النجم (أو: الكوكب)، وأية ظاهرة طبيعيّة. قال أحدهم: التقاء جوبتر وزحل. وقال آخر: ظهور نيزك. هذا ما لا يتوافق مع خبر متّى. هي نجمة رأوها في المشرق. لم تعد تظهر حتى أورشليم. هي نجمة تحرّكت أمامهم من أورشليم إلى بيت لحم. وفي النهاية توقّفت فوق الموضع الذي كان فيه الصبي (آ 9). إذا أخذنا بتاريخيّة دقيقة لهذا النص المتاوي مع تفاصيله، نكون على مستوى يتجاوز الطبيعة كما نعرفها.
ولكن إن اعتبرنا أننا أمام عنصر مدراشي (خبر تقوي ينطلق من أمور تاريخية، فيقدّم درساً دينياً) مع هدف تعليمي، وجب علينا أن نعرف هدف الكاتب لندرك التفسير اللاهوتي للنصّ. وفي أي حال، تبقى دراسة هذا العنصر من الخبر مهمّة جداً.
يجب أن نقول أولاً إن لا علاقة بين نجم المجوس والصورة الأدبية، صورة النور الذي يشّع في بيتٍ وُلد فيه أحدُ الأبطال. إذن، لسنا أمام ذات الظاهرة التي رافقت ولادة موسى، كما تقول التقاليد الرابانية. ولا نقرّب هذا الواقع من ثمانٍ وأربعين زيادة ضوئية لاحظها التلمود يوم وُلد اسحق. ولسنا أمام ظواهر نورانية ترافق عادة الظهورات الملائكية والتيوفانيات. وأخيراً، لا نستطيع أن نفكّر هنا في البشائر الفلكيّة التي كانت اساساً في قرارات قاسية ضد أبناء رومة، كما يقول المؤرخ سواتانيوس.
وقد قابل بعضهم نجم المجوس مع النور المسيحاني الذي أعلنه أشعيا: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، وعلى سكان بلاد الظلمة شعّ نور... لأنه وُلد لنا ولد. أعطي لنا ابن ونال السلطان على كتفيه" (أش 9: 1- 5؛ رج 60: 1- 6).
من الواضح في هذا النصّ أننا أمام حديث استعاري عن النور. فالموضوع المسيحاني عن النور يملأ التوراة والأدب اللابيبلي. ويلعب دوراً هاماً في الأخبار الإنجيلية في طفولة يسوع. وهذا النور يتماهى دوماً مع المسيح.
وفي عبارة أخرى، إن نجم (كوكب) يعقوب الذي أنبأ به بلعام يبدو دوماً وكأنه شخص حيّ. ليس أبداً ظاهرة جوّية وحسب كما هو الوضع في خبر المجوس. إن رابي عقيبة طبّق نص عد 24: 17 على ابن الكوكب (بركوخبا). ورأت "وصيّات الآباء الاثني عشر"، على دفعتين، في هذا النجم، شخص المسيح نفسه. نقرأ في وصيّة لاوي (18: 3): "حين يقيم الله الكاهنَ الجديد، يشرق نجمه في السماء كالملك، فيضيء نور المعرفة في شمس الله ويتعظّم في الأرض المأهولة...". وفي وصية يهوذا: "وبعد هذا يشرق لنا نجم من يعقوب في السلام، ويقوم رجل من زرعه كشمس البرّ السائر مع أبناء البشر في الوداعة. حينئذٍ يشّع صولجان ملكه". أما بالنسبة إلى قمران، فمعلّم البرّ هو الذي يُتمّ نبوءة بلعام. نقرأ في وثيقة دمشق ما يلي: "إن النجم الذي يدرس الشريعة الآتية من دمشق حسب ما كتب: يخرج من يعقوب نجم، يقوم صولجان من إسرائيل، فالصولجان هو مبدأ كل الجماعة. وفي ساعة ظهوره يحطّم كل أبناء الدمار". يتميّز النجم عن الصولجان. ويبدو أن الصولجان هو مسيح إسرائيل. أما في وصيّات الآباء فالنجم سيصبح شمساً.
هكذا نكون أمام علاقة بين نجم المجوس ونبوءة بلعام. فالنبوءات التي اشتهر بها هذا العرّاف الآتي من الشرق، والذي دعاه ملك موآب ليلعن اسرائيل (عد 22: 1- 24: 25)، لا يمكن أن تُفهم إلا إن أخذنا بعين الاعتبار الفن الأدبي الخاص بهذه الأقوال: هناك تصوّر الأحداث المقبلة في ألفاظ فلكيّة مأخوذة من عالم الأبراج. والقرابة واضحة بينها وبين بركات يعقوب (تك 49) التي تنتمي هي أيضاً إلى أدب العرافة المرتبط بعالم الأفلاك.
إن اللعنة التي وجّهها يعقوب إلى رأوبين تبدأ بألفاظ تدلّ على "برميل" ماء تخرج منه نافورتان: "تكون بكر وثمرة رجولتي، قمّة كرامتي وقوتي. تغلي كالماء" (تك 49: 3- 4). ومباركة يوسف مع تلميحاتها إلى الثور، إلى القوس والسهام وسلطان راعي إسرائيل، تجعلنا نفكّر في ابراج الئور والثريا وأوريون. وهناك خصوصاً مباركة يهوذا. في قسمها الأول، تذكّرنا ببرج الأسد: "يهوذا أسد صغير، خرجت يا ابني من الفريسة. اقتعد، نام مثل الأسد، مثل اللبوءة: فمن يجعله يقوم. لا يبتعد الصولجان عن يهوذا ولا عصا القيادة من بين رجليه حتى يأتي ذلك الذي هو له، وله تخضع الشعوب" (تك 49: 9- 10).
لا شكّ في أن هذه الأقوال تعِدُ نسل يهوذا بالكرامة الملكيّة. ولكنها صوّرت في شكل برج الأسد. عرف علم الأبراج الأشوري هذا البرج: الأسد، وبجانبه أسد صغير. والوضع الذي يظهر فيه الحيوان قد ألهم العبارة: جلست كالأسد أو اللبوءة. ثم: يهوذا، صغير الأسد، تفلت من الشباك يا ابني. وكان على صدر الأسد نجم سمّي الملك. وهذا ما يلمّح إليه عصا الملك الذي جعله يهوذا بين رجليه.
نجد في نبوءات بلعام الانباءات الثلاثة التي تفوّه بها يعقوب لرأوبين ويوسف ويهوذا، مع ما يقابلها في عالم الفلك: الملك، الصولجان، الثور، الأسد، براميل الماء، السهام. "الرب إلهه معه. عنده يدوّي الهتاف الملكي. أخرجه الرب من مصر. وهو له كقرون الثور. ها شعب يقوم كاللبوءة، ينتصب كالأسد، لا ينام قبل أن يلتهم فريسته ويشرب دم الذين قتلهم" (عد 23: 21- 24). "قعد، نظام، مثل أسند، مثل لبوءة، من يجعله يقوم" (عد 24: 9). "أراه، ولكن ليس الآن. أبصره ولكن لا عن قريب. يخرج كوكب من يعقوب ويصير رئيساً. يقوم صولجان من إسرائيل، يضرب صدغَي موآب" (عد 24: 17).
ينتج من كل ما قيل أن مباركات يعقوب وتنبؤات بلعام تنتمي إلى ذات الفنّ الأدبي الذي في الفكر الفلكي الشرقي. يترافق الملك مع النجم في برج الأسد، وخصوصاً النجم الذي يضيء على صدر الأسد. هذا ما يفسرّ لنا أن المجوس (قد يكونون عرفوا انباءات يعقوب وبلعام) تكلّموا عن نجم ملك اليهود وكأنه أمر طبيعي.
إن حدث المجوس يقدّم لنا برهاناً على تنازل عناية الله الذي يتكيّف والاستعدادات الخاصة بالذين جاء يخلّصهم. فإلى الرعاة البسطاء أرسل ملائكة يعلنون لهم ميلاد يسوع. ودعا الرابانيين في أورشليم، وهم المتعلّقون بحرف الشريعة، إلى أن يتمعّنوا في نبوءات تتحدّث عن مجيئه، وذلك بمناسبة سؤال طرحه هؤلاء المجوس. وحرّك وجدان هيرودس الذي لا يهتمّ بالأمور الدينيّة. بل يتأثر بما يهدّد عرشه، فيسمعه خبراً يقلقه عن ولادة ملك اليهود خارج قصره. وأخيراً، قدّم للمجوس هذه الظاهرة الغريبة التي يبحث العلماء عن طبيعتها بدون جدوى. هؤلاء المجوس انتظروا مجيء مسيح حليف ارتبطت حياته في فكرهم بمسيرة نجم. ليس هذا النجم وليد نواميس الأفلاك. إنه يرتبط بشريعة الله وحبه الذي يتنازل نحو البشر.

7- الذهب، اللبان، المرّ
وانتهى حدث المجوس بإكرام أدّوه للطفل: "رأوا الطفل مع مريم أمه" (آ 11). إن نصوص الكتب المقدّسة (تك 3: 15؛ اش 7:؛ مي 5) المتعلّقة بميلاد المسيح تتوقّف عند أمّ الطفل، لا عند أبيه. هل نستطيع أن نتحدّث عن ولادة بحسب البتولية؟ يبقى الأمر صعباً. ولكن العالم اليهودي ما استطاع أن يسمّي "أب" المسيح. لهذا جعله في ظلّ أمه التي يبدو نسبها أقلّ أهميّة.
"فخرّوا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا من الذهب واللبان والمرّ" (آ 11).
هنا نتذكّر زيارة ملكة سبأ للملك سليمان، كما نتذكّر فخامة هداياها. "حملت إلى أورشليم غنى كثيراً جداً: الجمال المحملة بالأطياب والذهب والحجارة الكريمة.... أعطت الملك 120 وزنة من الذهب وكميّة كبيرة من الأطياب والحجارة الكريمة. أجل، حملت ملك سبأ إلى الملك سليمان كثيراً من الأطياب لم ينل مثله" (1 مل 10: 2، 10؛ 2 أخ 9: 1- 9).
إن هذه العظمة السابقة قد بدت بشيراً للعهد المسيحاني. فأورشليم المسيحانية سوف تتفوّق على أورشليم سليمان فيفيض فيها غنى الأمم ولا سيما بلاد سبأ: "كل الذين من سبأ يأتون. يحملون الذهب والبخور ويعلنون أمجاد الرب" (أش 60: 6). تتوجّه هذه الثروات إلى أورشليم كإكرام للملك المسيحاني، الذي هو سليمان الجديد، والذي يتجاوز بشكل لا محدود مجد سلفه. "ملوك ترشيش والجزائر يقدّمون له الهدايا. ملوك سبأ وشبأ يحملون إليه العطايا. كل الملوك يسجدون أمامه، وجميع الأمم تخدمه... يحيا ويُعطى ذهب سبأ" (مز 72: 10- 11، 15).
لا شكّ في أن متّى رأى مع لاهوته التلميحي، في تقدمة المجوس، تتمّة النبوءات المسيحانية. من هذا القبيل يبدو بُعد التقادم أهم بكثير من تفاصيلها. تحدّث كتاب الملوك عن الأطياب والذهب والحجارة الكريمة. وأشعيا عن الذهب والبخور (أو: اللبان). ومت عن الذهب والبخور والمرّ. هذا المرّ يذكّرنا بذاك الذي استعمله نيقوديمس ليحنّط جسد يسوع (يو 19: 39). من هنا جاء التفسير التقليدي الرمزي الذي نجده عند ايريناوس: اللبان (البخور) والذهب والمرّ للملك والإنسان والإله.
نحن ورثة هؤلاء الوثنيين الأولين، نُدعى لأن نعبد المسيح الذي وُلد جديداً. لا نكتفي بأن نعلنه مسيحاً. بل يرافق سجودنا تقدمة ذواتنا بسخاء ما بعده سخاء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM