الفصل السادس: نسب يسوع

الفصل السادس
نسب يسوع
1: 1- 17

تبدأ حياة يسوع العلنيّة بمقدّمة سابقة في متّى (4: 17: عندئذ طفق يسوع يعظ) وفي لوقا (3: 23 لما باشر يسوع رسالته). روى لوقا الأحداث السابقة: الحبل، الولادة والطفولة. وفعل متّى مثل يو 1: 1- 18 ولكن بشكل إخباري، فجعل قبل خبر الحياة العلنيّة مطلعاً لاهوتياً يعرض الموضوع الأساسيّ وهو: رذل الشعبُ المسيح، واستقبله عدد قليل من الناس. هذا السرّ قد صوّره متّى في درفتين مركبتين تركيباً "علمياً": يسوع ابن داود قد استقبله الأبرار (1: 1- 25). ولكنه سيُضطهد من قبل اليهود. وذاك الذي سيجتذب إليه الوثنيّون، أجبر على الذهاب إلى المنفى في مجيئه الأول (2: 1- 23).
ونتوقّف هنا عند بداية متّى، عند نسب يسوع، تاركين إلى فصل لاحق البشارة إلى يوسف البار الذي دخل في مخطّط الله وقبِل أن يكون زوج مريم دون أن يعرفها، وأباً للصبيّ الذي حُبل به من الروح القدس.

1- الفن الأدبيّ في الأنساب
أ- بداية احتفاليّة
"كتاب نسب يسوع المسيح". لقد اعتدنا أن نعتبر أن تجسّد ابن الله يعني أنه أخذ جسداً بشرياً. وتُنسب هذه النظرة اللاهوتيّة إلى يو 1: 14: "والكلمة صار بشراً". نحن هنا أمام تعبير يونانيّ عن العقيدة المسيحيّة، يهتمّ بشكل خاصّ بالشخص البشري في بُعده "الروحي" ثم في بعده "التجسّديّ"، قبل أن يهتمّ بارتباطه بالجماعة. أما نحن الساميّون، فننظر إلى الشخص على أنه "كلٌّ واحد"، على أنه موجود. ولكننا لا نستطيع أن نتخيّله فرداً منعزلاً. فدخوله في قلب شعب هو أمر أوليّ. لهذا تحدّث بولس الرسول عن يسوع "الذي وُلد من امرأة" وعاش في حكم الشريعة (غل 4: 4). هو في الوقت عينه "ابن داود" و"ابن الله" (روم 1: 3- 4).
لم يصوّر المسيحيّون الأوّلون مجيء يسوع على الأرض على أنه "تجسُّد" كائن روحيّ لبس جسداً. إنهم يرون يسوع داخلاً في تاريخ البشر، في تاريخ شعب الله. ومتّى يحدّثنا هنا عن تجذّر يسوع في شعبه. وهدفه واضح من خلال النظرة العامة كما نكتشفها في انجيله. عاد إلى التقليد الأقدم الذي رأى في يسوع من هو ابن داود، فبيّن أن المسيح الذي عبدته الجماعة ينتمي إلى الشعب المختار (اختاره الربّ من أجل رسالة). ويسوع، هذا الذي صار رباً بالقيامة، هو المسيح المنتظر، وابن داود الحقيقيّ، ووارث المواعيد المعطاة لابراهيم.
هذا الإيمان الكرستولوجيّ قد نشرته النصوص الأولى في مدائح يسوع المسيح. "هو القائم في صورة الله... أخذ صورة عبد وصار شبيهاً بالبشر" (فل 2: 6- 7). "هو صورة الله غير المنظور، المولود قبل كل خلق، الذي هو رأس الكنيسة" (كو 1: 15- 18). وأسند بولس هذا الإيمان إلى تفكير ينطلق من تاريخ شعبه، فدلّ على أن بركة ابراهيم انتقلت إلى المسيحيّين عبر يسوع وبعد أن تجاوزت شريعة موسى (غل 3: 6- 29). وحين كتب متّى انجيله، أراد أن يقدّم لنا تاريخ يسوع.
غير أن هناك طرائق عديدة لكتابة التاريخ. نستطيع أن نرويه بدقّة الشاهد العيان. ونستطيع أن نكتفي بجوهر الأمور حسب نظرة محدّدة. نستطيع أن نتأمّل في الحبل البتوليّ من وجهة مريم، كما فعل لوقا، أو من وجهة يوسف كما فعل متّى. ويستطيع الانجيليّ أيضاً أن يقدّم الوضع المدنيّ (الولادة...) ليسوع على مثال أصحاب الأرشيف. هذا ما فعله لوقا ومتّى حين أوردا نسب (تولدوت أي مواليد... الولادات التي سبقت يسوع) يسوع أو بالأحرى نسب يوسف والد يسوع بحسب الشريعة.
ب- تعداد مملّ
حين نبدأ قراءة مت، نتردّد في قراءة لائحة الآباء الذين سبقوا المسيح. نودّ أن نصل حالاً إلى ولادة مخلّص العالم ولادة بتوليّة، دون أن نقول: ابراهيم ولد اسحق، اسحق ولد يعقوب...
ولكن حين نقابل هذه اللائحة مع المراجع البيبلية تطالعنا أكثر من دهشة. نستعدّ أن نقبل هذا التقطيع المصطنع للتاريخ في ثلاث قطعات من أربعة عشر جيلاً، فنسمع متّى يستنتج: "فجميع الأجيال إذن: من ابراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى جلاء بابل أربعة عشر جيلاً، ومن جلاء بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً".
في الواقع، تعدّد السلسلة الثانية 14 اسماً. فإذا أردنا أن نجد 14 في اللائحة الأولى يجب أن نعدّ ابراهيم بين نسل ابراهيم. وأخيراً لا تذكر اللائحة الثالثة إلا 13 اسماً. لأن الأخير قد ذُكر في اللائحة السابقة.
تلك دهشة أولى. وهناك دهشة ثانية. إذا قابلنا لائحة متّى مع لائحة لوقا (3: 23- 38) نجد الاختلافات العديدة. لا نجد توافقاً إلا في السلسلة الأولى، من ابراهيم إلى داود. في اللائحتين التاليتين لا توافق إلا مع شألتئيل وزربابل. نجد في نصّ لوقا 77 اسماً وفي نصّ متّى 41 اسماً. والد شالتئيل ووالد يوسف لا يحملان ذات الاسم.
مثل هذه الاختلافات أحدثت بلبلة، فحاول المدافعون التوفيق بين الأسماء. مثلاً، رأوا في مت نسب يسوع من يوسف، وفي لو نسبه من مريم التي لا يُذكر اسمها. وعاد بعضهم إلى فرضيّات لا يمكن التحقّق منها مثل زواجين... أما يجب بالأحرى أن نعود إلى العهد القديم حيث نجد سلسلتين لشخص واحد.. مثلاً يهوذا (1 أخ 2: 3- 3: 4. ثم 4: 1- 23). وبنيامين (7: 6- 12. ثم 8: 1- 40). والتقليد المسيحي احتفظ أيضاً بسلسلتين مختلفتين: واحدة استرعى انتباهها أسماء شهيرة، أولئك الذين تعاقبوا على العرش (مت) والثانية قد تكون أقرب إلى الواقع.
وتبقى صعوبة بالنسبة إلى متّى. كيف ألغى ثلاثة ملوك بين يورام وعزيا، وجعل من آسا الملك آساف مرتل المزامير ومن أمون النبي عاموس؟ هل يكفي أن نتحدّث عن وثائق من الأرشيف؟ ما هو بالضبط الفنّ الأدبي الذي مارسه متّى؟
ج- سلسلة الأنساب
عرف الشرق وما زال يحبّ سلسلة الأنساب، أو ما يسقى اليوم شجرة العائلة. والكتاب المقدّس يذكر عدداً كبيراً منها في سفر التكوين وكتاب الأخبار وبعض الكتب التاريخيّة. مثلاً، المغنّون الذين أقامهم داود يُذكرون مع جدودهم: "هيمان المغنّي ابن يوئيل بن شموئيل (أو صموئيل) بن ألقانة... بن لاوي بن اسرائيل، وأخوه آساف الواقف عن يمينه... بن لاوي" (1 أخ 6: 18- 32).
ففي نظر اليهوديّ العائد من المنفى، كان من الضروري تبيان أصله ولا سيّما إذا كان من اللاويّين. وهكذا أورد نحميا سجلّ الأنساب (7: 5). ولكن البعض "لم يقدروا أن يبرهنوا على أن عشائرهم ينتسبون إلى بني اسرائيل" (نح 7: 61؛ عز 2: 59). "وآخرون بحثوا عن سجلّ أنسابهم فلم يجدوه، فحُرموا من الكهنوت" (نح 7: 64؛ عز 2: 62). ورأى الأشخاص الرئيسيّون أن أصحاب الحوليات أوردوا أسماء آبائهم: "عزرا بن سرايا بن عزريا... بن العازار بن هارون رئيس الكهنة" (عز 7: 1- 5؛ 8: 2). ولوقا الانجيليّ قدّم بعض التفاصيل حول النساء القديسات: انتمت أليصابات إلى بنات هارون (1: 5). وكانت حنة ابنة فنوئيل (2: 36).
وإذا حلّلنا الأنساب البيبلية وجدنا أنماطاً ثلاثة. النمط المعروف (كلاسيكي) بشكل لوائح بسيطة. "بنو لاوي: جرشوم وقهات ومراري. وبنو قهات: عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل. وبنو عمرام: هارون وموسى ومريم. وبنو هارون: ناداب وأبيهو وألعازار وايتامار (1 أخ 5: 27- 29).
يرتبط بهذا النمط لوائح تُدرج فعل "ولد" (را 4: 18- 22: فارص ولد حصرون، وحصرون ولد رام)، كمالا سلسلة نسب متّى والسلاسل التي تفصّل أحد الفروع، لا سيّما في سلسلة التقليد الكهنوتي كما نجده في تك 5 و11.
الخط الثاني هو السلاسل المتفرّعة. لا نجد سلسلة متواصلة، بل نسلاً يتفرّع في كل الجهات. مثلاً، نسل نوح (تك 10) لم يلد فقط ثلاثة أبناء، بل استطاع بهم أن يملأ الأرض كلها (تك 9: 19). وهكذا نشهد انتشار بذار الحياة. وفعل "ولد" (أنجب) لا يعني فقط الأبوّة بحسب الجسد، بل تكوين جماعة تألّبت حول شخص عظيم. وهكذا ولد الرجالُ الشعوبَ. والشعوب لا يجدون أصلهم في الولادات فقط بل في الهجرات والزواجات والعهود والاحتلالات. والنسل يستطيع أن يتوسّع أيضاً على الصعيد الروحيّ. ففي نسل ابراهيم انضمّ المرتدون إلى العشيرة المميّزة. ونسب متّى لا يرتبط بهذا النمط الذي نجده في "لائحة الشعوب". ولكننا نفهمه مع معنى واسع لفعل "ولد". وُلد فلان، أي نقل إليه البركة الإلهيّة: بواسطة اللحم والدم (سلسلة خطوطيّة)، أو بالتبني (سلسلة متفرّعة).
الخط الثالث: السلسلة التي هي عنوان خبر. ونجد أخيراً "توليدوت" أو المواليد التي تبدأ الأخبار. لم نعد أمام لائحة من الأسماء تتدافع أمامنا، بل أمام حدث رئيسيّ يدلّ على شخصية من الشخصيّات. مثلاً، نوح ذاك الانسان (تك 6: 9) الذي لم يمت بالطوفان، فحافظ على الحياة على الأرض. وهكذا يصبح النسب "خبراً". يروي خبر إنسان يعيش في أبنائه: تارح يعيش في ابراهيم (تك 11: 27، 31- 32). اسحق المائت يعيش في يعقوب (تك 25: 19- 35: 29). ويعقوب هو الذي أسّس الأسباط الاثني عشر (تك 37: 2- 49: 33). سنعود في ما بعد إلى تك 5: 1 (كتاب مواليد آدم) وإلى 2: 4 (مولد السماء والأرض) حين نتحدّث عن عنوان مت 1: "كتاب مواليد (تكوين) يسوع المسيح".
إذا عدنا إلى مت، لا نجد عنده ما يوازي النمط الثاني. ولكننا نجد ما بقابل النمطين الآخرين اللذين يساعداننا على تفسير النصّ الانجيلّي. فحين يعلن متّى أن يسوع هو ابن داود ابن ابراهيم (1: 1) فهو يذهب صعداً في سلسلة الأنساب كما في النمط الثالث. وحين يعدّد نسل ابراهيم (1: 2- 17) فهو يستعيد النمط الأول. ينزل في سلسلة النسب فيبيّن أن يسوع هو نهاية التاريخ المقدّس، بل هو هدف التاريخ كلّه.

2- تاريخ مقدّس
إذا أردنا أن نكتشف المعنى الذي أراد متّى أن يعطيه لنسب يسوع، نستطيع أن نرى كيف لجأ إلى النمط الأول (الكلاسيكي المعروف) وابتعد عنه في بعض النقاط.
أ- الولادات
من الواضح أن المعنى الأول لفعل "ولد" (أنجب) عند متّى هو معنى بيبليّ تدلّ عليه السلاسل المتفرّعة. فهو لا ينحصر في ولادة بحسب الجسد. فإذا كانت عطيّة الحياة تؤسس الأبوّة، فهي لا تستنفد معناها، لأن البركة لا تنتقل فقط برباطات الدم. بعد هذا لن تعود الشواذات التي لاحظناها صعبة. فيقال مثلاً إن ملكاً "ولد" ابن حفيده لأنه نقل إليه البركة الإلهيّة.
ما استعاد متّى فقط لفظة "ولد"، بل كيّف سلسلته مع النمط الخطوطيّ الذي نجده في سفر راعوت، في تك 5 و11، وفي كتاب الأخبار. هذا ما يتيح لنا أن نفهم معنى "ولادة" (إنجاب). نجد في تك عبارة مقولبة تحيط بخبر كل شخص فتعطي: الزمن الذي جرى قبل أن يلد بكره. مدّة حياته التي كان له فيها بنون وبنات. مجمل السنوات التي عاشها. مثلاً: عاش شيت 105 سنين، وولد أنوش. وعاش شيت بعد ما ولد أنوش 807 سنين، ولد فيها بنين وبنات. فكانت كل أيام شيت 912 سنة ومات (تك 5: 6- 8).
وإذا جعلنا جانباً بعض الدقائق حول آدم واخنوخ ونوح، تكون العبارة هي هي. إنها مواليد تتوزّع التاريخ. أو بالأحرى هناك حدث يُذكر: ولادة البكر الذي يستطيع بدوره أن ينقل إلى أبنائه الحياة، ومع الحياة البركة الإلهية التي ترافق الوصيّة: "إنموا واكثروا". أجل، التاريخ في المعنى البيبلّي تتوزّعه "ولادات" طُلب منها أن تنقل عطيّة الحياة الأولى والكرامة الإلهيّة في صورة الله وشبهه.
ب- أربعة عشر جيلاً، أربعة عشر جيلاً...
استعاد متّى الفن الأدبي الخاص بالسلاسل الانسانيّة، ولكنه بدا أصيلاً أقلّه في نقطتين اثنتين: قسم اللحمة العامة إلى ثلاثة أجزاء، وجعل كل جزء في 14 جيلاً. ثم، أدخل في هذه اللائحة الرسميّة اسم أربع نساء.
لماذا هذا الرقم 14؟ هنا نعود إلى علم الأعداد كما تدلّ عليه الحروف الأبجديّة (جامتريا). فالرقم 14 يساوي عدد الحروف التي منها يتألّف اسم داود (د= 4، و= 6، د= 4. المجموع: 14). هذا شرح لا بأس به، ولكنه يعطي الأهميّة لاسم داود وينسى اسم ابراهيم.
14 يساوي 2 × 7، والرقم 7 هو رقم الكمال. وهكذا يكون مجمل الشعوب (من اليهود والوثنيين) قد دخلوا في سلالة المسيح. وقد يكون متّى فكر بمدّة أسبوعين (2 × 7). هنا نتذكّر قيمة الأسبوع في الحسابات الجليانيّة التي تتقاسم حقبات التاريخ البشري (دا 9: 1- 27). فإذا عدنا إلى سفر اخنوخ (كتاب منحول من القرن الثاني ق م) نجد أن تاريخ العالم قُسم إلى عشرة أسابيع من السنين موزّعة كما يلي: ثلاثة قبل اسرائيل. اثنان من اسحاق إلى سليمان، اثنان من سليمان إلى المنفى. اثنان من المنفى إلى زمن يسمّيه الكاتب "زمن السيف". وفي بداية الاسبوع العاشر للعالم، وهو الأسبوع السابع لاسرائيل، يظهر المسيح. حسب متّى، يأتي يسوع في نهاية الاسبوع السادس (3 × 14= 6 × 7)، يأتي في هذا التاريخ المقدّس الذي يبدأ مع نداء ابراهيم، مفتتحاً الاسبوع الكامل، اسبوع المسيح. أما لوقا الذي يورد 77 اسبوعاً، فهو يتبع رسمة حقبات العالم الاثنتي عشرة. بدأ يسوع الحقبة الثانية عشرة بعد 11 × 7 من الحقبات الاسبوعيّة.
في اخنوخ، الاسبوع السابع هو أسبوع المسيح. أما في متّى، فالمسيح هو آخر الاسبوع السادس. وهو الذي سيكمّله. الله هو الذي يقود التاريخ. وفي نهاية هذا التاريخ، "في ملء الأزمنة" (غل 4: 4) يأتي يسوع. وهكذا نكتشف عبرة من خلال هذا التعداد الناشف: المسيح هو حقاً الابن المنتظر، ذاك الذي جعل ابراهيم يبتهج في يوم مولده.
هل تبع متّى هذه "الروزنامة الجليانيّة"؟ ربما. ولكن يبدو أنه نظر إلى الأمور ببساطة. استعاد حرفياً را 4: 18- 22، استعاد سلسلة داود كما هي في 1 أخ 2: 10- 13: من فارص إلى داود. ولكنه زاد راحاب وراعوت. وتوافق مع لوقا في كل الأسماء. مع عدا في واحد (لو 3: 31- 34). وهذا المقطع هو الوحيد الذي فيه يتوافق متّى مع المعطيات البيبليّة العامّة.
فإذا عدّدنا الأسماء في هذه السلسلة التي نجدها في را، نجد عشرة أسماء: خمسة للإقامة في مصر. وخمسة حتى داود. وإذا زدنا اسم يهوذا والد فارص، وأسماء الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب، نصل إلى الرقم 14. إذن، يتضمّن الجزء الأول 14 اسماً. انطلق متى من هذه الرسمة الأولى، فقسم التاريخ المقدّس إلى ثلاث حقبات. والرقم 3 مهمّ جداً لأنه رقم الألوهة. أجل، بعد الحقبة الثالثة، نزل الإله على الأرض في شخص يسوع الذي يُدعى المسيح.
ج- نساء أربع
إذا كان يسوع حقاً ابن داود ووارث ابراهيم، فهو كذلك في مخطّط الله. والزيادات التي أضافها الانجيلي على إطار السلسلة لها معناها. قال: "يعقوب ولد يهوذا واخوته" (آ 2). لم يكن يهوذا البكر، بل الرابع بين اخوته. فوجب ذكرُ أولئك الذين لم يكن لهم شرف ولادة الملك داود (تك 49: 3- 8؛ 1 أخ 2: 1). ليست اهتمامات متّى اهتمامات المؤرّخ، بل اهتمامات اللاهوتي: فالله كليّ الحرية وهو السيّد حين يختار. لا يُفرض عليه البكرُ ولا غيره. أما هكذا اختار داود الذي كان آخر اخوته؟
ونقرأ في آ 11: "يكنيا واخوته". هناك من يصحّح "يوياكيم". قد يكون هذا التصحيح معقولاً، حينئذ تتألّف اللائحة الثالثة من 14 اسماً.
وزاد متى أسماء أربع نساء. اعتدنا أن نتوقّف عند شخص مريم العذراء أم يسوع الممتلئة نعمة، فلا نتوقّف عند أسماء نساء تتوزّع نسب المخلّص. فما الذي دفع متّى إلى اختيار هذه الأسماء؟ فهناك نساء شهيرات في التوراة: سارة، رفقة، راحيل، دبّورة... لقد أراد متّى أن يبيِّن أن المسيح لم يرث عظمة اسرائيل، بل ورث الحياة المرتبطة بالبركة لا باستحقاق اللحم والدم.
أربعة أسماء: تامار، راحاب، راعوت، امرأة أوريا (آ 3- 6). نلاحظ أن هذه النسوة عشن في منعطفات هامة من تاريخ الشعب المختار. ونندهش أمام حدثين لهما معناهما العميق.
أخذ متّى اسم تامار من التقليد البيبليّ. يذكر را 4: 12 و1 أخ 2: 4 زواجاً خرج عن القاعدة بين يهوذا وكنّته. ما لفت انتباه الانجيليّ (وقبله العهد القديم) ليس زنى الأقارب، بل بطولة هذه المرأة التي أرادت أن تشارك في البركة الإلهيّة التي حُرمت منها. ولقد كرّمها التقليد الراباني كبطلة حقيقيّة.
غير أن متّى أبرز ثلاثة أسماء نساء غريبات عن شعب اسرائيل: راحاب. كانت كنعانيّة ولكنها كانت مثال الإيمان (يش 2: 11:؛ عب 11: 31). راعوت: كانت موآبيّة ولكنها آمنت (را 1: 16- 17؛ 2: 12). بتشابع التي كانت مثل زوجها حثيّة وقد جاءت من آسية الصغرى (تركيا الحاليّة). وهكذا عمّ الخلاصُ المسكونة. فلماذا نحصر بركة الله في نسل واحد، في شعب واحد؟
وهناك خاصيّة أخرى تميّز حياة هذه النساء الأربع. ولدت تامار وراعوت في ظروف تخرج عن القاعدة. وكانت حياة راحاب وبتشابع حياة النساء الخاطئات. كانت راحاب "زانية" تستقبل كل من يأتي إليها. وسمّيت بتشابع باسم يدلّ على ماضيها: "كانت امرأة أوريّا". هذا ما تفعله نعمة الله الذي يبقى أميناً رغم ضعف البشر وخياناتهم.
لقد وجد يسوعُ، زهرة شعب اسرائيل، في لائحة أجداده، أناساً لم يكونوا يهوداً وآخرين خطأة. إنه يتضامن مع جميع البشر، هذا مع العلم أن المرأة تمثّل الشعب والمدينة. وهكذا دخل في سلالة يسوع الكنعانيون بواسطة تامار، والحثيون بواسطة بتشابع، والموآبيون بواسطة راعوت، وجميع الخطأة (وكانا خطأة) في شخص راحاب الزانية. أما هكذا دخل في نسل ابراهيم أبناء سارة (اسحق) وهاجر (اسماعيل) وقطورة (مديان، تك 25: 1 ي)؟
وحين نقرأ 1: 18- 25 سنكتشف وجهاً آخر يتقابل مع هذا الوجه الأول من الخطيئة و"الفوضى". هو وجه الطهارة والبرارة. فيوسف هو البار الذي دخل في مخطّط الله. ومريم هي الممتلئة نعمة. ثم إننا نجد تجاه هذا النسل الجسديّ (على مستوى اللحم والدم) النسل الإلهي. فالعذراء لم تحبل بفعل اللحم والدم كما تفعل سائر النساء، بل حبلت من الروح القدس.
ماذا نستنتج من كل هذا؟ إن تاريخ يسوع لا ينفصل عن تاريخ شعبه ولا عن تاريخ سائر الشعوب. ونحن نقرأ التاريخ البيبلي على أنه استعداد للمسيح، وارث البركات التي وُعد بها ابراهيم. وهذه البركة ليست كرامة وحسب. إنها تنقل الحياة التي هي أثمن خير في الدنيا. وتنتشر الحياة لتعمّ الأرض كلها. انطلقت من آدم الأول فوصلت إلى آدم الثاني لتنتشر منه من جديد حياة إلهيّة لكل إنسان في هذا العالم.
وجاء يسوع في النهاية كآخر ثمرة في نبتة الحياة هذه، ووارث الأجيال السابقة. إليه يتوجّه الماضي وفيه يتكثّف التاريخ وهو سيعطيه كامل معناه. لا التاريخ المقدس وحسب، بل كل تاريخ البشر.

3- التاريخ البشريّ
طرح متى السؤال منذ البداية على المؤمنين الذين جاؤوا من العالم اليهودي فاعتمدوا وصاروا أعضاء في الكنيسة: "من هو هذا الرجل"؟ وقدّم الجواب: يسوع المسيح هو ابن داود. ابن ابراهيم.
حين بدأ متّى انجيله بهذه الآية (كتاب ميلاد يسوع المسيح) عاد إلى النمط الثالث في دراسة سلسلة الأنساب: المواليد التي هي عنوان خبر. فهو لا يتوخّى فقط أن يذكر أهم أجداد يسوع، داود، ابراهيم... بل أن يبيِّن أن يسوع هو آدم الجديد.
فعبارة "بيبلوس غاناسيوس" (كتاب ميلاد، مواليد) لا توجد في كل التوراة إلا في تك 2: 4 (مولد السماء والأرض) وفي 5: 1 (هكذا كانت مواليد آدم). إن تك 5 هو تكرار للخلق. فإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فها هو آدم يلد إنساناً على صورته ومثاله (تك 5: 3؛ رج 1: 26). مع الولادة (والإنجاب)، تتواصل الخليقة انطلاقاً من الدفع الأوّل. فمن ولد ولداً نقل إليه الكرامة الإنسانية. التاريخ كتاب مفتوح وفيه تتسجّل لائحة طويلة تتضمّن أسماء البشر. واللائحة ما انتهت بعد. ستنتهي في نهاية العالم.
وكما فتح آدم كتاب مواليد البشر، كذلك فتح يسوع المسيح كتاب المواليد الجدد. أخذ مكان آدم. دلّ لوقا على أن يسوع هو إنسان حقيقيّ فعاد به إلى آدم (3: 38). وقال متّى الشيء عينه ولكن بطريقته: لم يسمِّ بشكل واضح الإنسان الأول، ولكنّه بيّن أن يسوع، آدم الجديد، هو رأس أبناء الله. هذا ما نستنتجه حين نقابل العنوان في إنجيل متّى (كتاب مواليد يسوع المسيح) مع عناوين في التوراة تبدأ خبراً من الأخبار.
إن خبر نوح واسحق ويعقوب لا يتوقف عند الشخص المذكور، بل عند ابنه. فسلسلة آدم هي لائحة نسله، وسلسلة المسيح هي لائحة نسله. في العهد القديم، يتمّ تاريخ الإنسان في نسله وكل التاريخ يتوجّه إلى المستقبل حيث يتمّ الوعد. والرغبة بنسل تعبرّ بطريقتها عن غريزة الخلود. هذا الخلود يصل إليه الإنسان بأعماله، ولكن بأهم عمل من أعماله وهو إعطاء الحياة التي هي عربون بركة الله.
ولكن يسوع لا يتطلّع إلى كائن (ابن) سيأتي بعده. فالحركة قد انعكست. هي لا تصل إلى نسل المسيح، بل تصعد من المسيح لتصل إلى أجداده. فيسوع له نسل بحسب الجسد، بل له آباء وأجداد. إنه ذاك الذي انتظره البشر، وجاء المستقبل في ذلك الذي جاء في ملء الزمن. فيه وجد الماضي معناه، لأنه ليس فقط في نهاية التاريخ، بل هو نهاية التاريخ وهدفه.
والموازاة بين آدم ويسوع تستنير بنور الانجيل كلّه. كان لآدم نسك. ولكن لا نسل للمسيح. فهو "بتول" بحسب الجسد. ولكن، على مستوى آخر كانت بتوليّة خصبة. ما جاء ليلغي، بل ليكمّل. لقد أتمّ نقل بركة الله على الأرض. ومنذ الآن، بعد أن وجدت الولادة معناها وهدفها في يسوع، فقد صارت كلها روحيّة. كان شعب اسرائيل ينمو بولادة أبناء جدد من لحم ودم. أما جسد المسيح فينمو بولادة أبناء الله ولادة روحيّة.
نسند هذه الاعتبارات بمقطع تك 2: 4 حسب السبعينيّة "كتاب البداية، التكوين، الولادة". هنا تذكر "مواليد السماء والأرض". هل هذا العنوان هو خاتمة نشيد الخلق (1: 1- 2: 4) أم بداية خبر الخلق (2: 4 ي)؟ إنه بالأحرى جسر بين الاثنين. في الأول علّمنا الكاتب الملهم كيف خُلقت السماء والأرض. وبيَّن لنا الخبر الثاني العلاقة بين الإنسان والأرض: أخذ الإنسان (آدم) من الأرض (آدمه). وهكذا يأتي آدم بعد "السماء والأرض".
وكما أن الإنسان لا يجد ملء معناه إلا في نسله، كذلك لم تخلق السماء والأرض إلاّ من أجل الإنسان. وهكذا ترتبط الطبيعة بالتاريخ ارتباطاً عضوياً. فمن الأرض ينبت الإنسان. وتاريخ الشعوب هو قطع من أجيال وأجيال. إن نشيد الخلق (1: 1 ي) هو المقدّمة الضروريّة لهذه المواليد، من آدم حتى آخر إنسان في البشريّة.
وإذا كان الكاتب الملهم قد ربط مواليد (تولدوت) السماء والأرض بمواليد البشر، فلأنه أراد أن يبرز أصل البشرية بوجهيها: هي إلهيّة وهي أيضاً أرضيّة، لأن الله خلق مرّة واحدة. وهذا العمل الأولاني لا يسمح بأن يصوّر مطوّلاً، بل هو ينتهي منذ الآية الأولى في الكتاب حيث "يُسجن" كل شيء. وما سيأتي بعده هو محاولة "صبيانيّة" لكي نعبرّ عن حقيقة لا يعبرَّ عنها.
أُدرج مت 1 في تاريخ بدأ مع آدم فذكّرنا بأصل يسوع الأرضّي. ولكن الحياة الأرضيّة التي تسير عبر الأجيال تتوقّف فجأة فيه. فإن 1: 16 ب يقطع سلسلة الأنساب، وتبدو الحياة وكأنها نضبت وتوقّفت. في الواقع، هي ارتفعت إلى مستوى آخر بعد أن صارت على مستوى قامة الله.
تدشّن كتاب المواليد مع آدم الجديد، فصار بعد اليوم كتاباً مفتوحاً. اختتم تطوّر الخليقة على مستوى الجسد، أو بالأحرى استعادها ورفعها إلى مستوى آخر. لقد بدأ الخلق الجديد بفعل الروح. وهذه الولادة من الروح يوردها مشهد الظهور ليوسف الذي يبدأ هو أيضاً: "هذه مواليد يسوع المسيح". إن لائحة الأنساب ربطت يسوع بالأرض وبالإنسان الأوّل وجذّرته في شعب ابراهيم. وإذ ذكّرنا الخبر بأصله السماويّ كشف لنا كيف دخل ابن الله في سلالة داود.
كان يسوع آدم الجديد لأن لا أب له إلا الله، فدلّ على أن انتقال الحياة البشّرية لا يجد ملء معناه إلا بانتقال كرامة أبناء الله إلى البشر. ولكن هذه الكرامة هي من مستوى آخر، والله وحده يرفعنا إلى هذا المستوى. فعلى كل كائن أن يتوجّه إلى هذا الحدث الماضي الذي يُشرف على الأجيال، أن يتطلّع إلى ذلك اليوم الذي فيه دخل الله نفسه في الزمن حين أخذ جسداً من مريم العذراء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM