المَرحَلَة الأولى: سِرُّ يَسُوع

المَرحَلَة الأولى
سِرُّ يَسُوع

أخبار الطفولة هي في الواقع خطبة عن "سرّ يسوع"، عن شخصيته كإله وإنسان، عن رسالته كالمسيح المخلّص. هكذا يبدأ إنجيل متّى. وهذه الأخبار هي قبل كل شيء تفكير لاهوتيّ في من هو ابن الله منذ ولادته.
أما فصول هذه المرحلة فتبدو كما يلي:
1- كمال التاريخ في يسوع المسيح، ف 1- 2
2- نسب يسوع، 1: 1- 17
3- تسمية يسوع، 1: 18- 25
4- المجوس والنجم العجيب، 2: 1- 12
5- الهرب إلى مصر والعودة إلى الجليل، 2: 13- 23.

الفصل الخامس
كمال التاريخ في يسوع المسيح
ف 1- 2

1- موقع هذين الفصلين
دُوّن إنجيل متّى، شأنه شأن سائر أسفار العهد الجديد، بعد حدث الخلاص الذي يشكّل قلب التاريخ البشري. عنيت به موت يسوع المسيح وقيامته. وهذا الحدث الرئيسي يشرف على الكرازة المسيحية الأولى كما نقرأها في خطب سفر الأعمال (2: 22- 36؛ 3: 11- 21...). كان المؤمنون يحتفلون بهذا الحدث في "الجماعات الإفخارستية" (أع 2: 42- 46؛ رج 20: 7- 11) حيث يتجسّد إيمان تلاميذ المسيح، ويستنير بنور الروح القدس بواسطة الفقاهة، بواسطة تعليم حول أقوال المسيح وأعماله.
وهكذا تكوّنت شيئاً فشيئاً تقاليدُ شفهية ومجموعات ستصير الإنجيل، البشرى والخبر الطيّب. وعادت هذه التقاليد تدريجياً إلى أصول يسوع البشريّة والإلهيّة. ابتعدت الجماعة عن أورشليم وزاد ابتعادها، فوجب عليها أن تتكلم وتكتب لأشخاص لم يعرفوا يسوع الناصري.
إذن، حين روى مت تاريخ بداية يسوع المسيح، ولادته وطفولته، في ف 1- 2، وضع نصب عينيه الحدث المركزي الذي يُعطي الأحداث المذكورة معناها. لهذا يجب علينا أن نكتشف في النصّ الذي يقدّمه لنا، الهدف اللاهوتي الذي يعطي التاريخ معناه التام الشامل. وساعة تثبّتَ التدوين المتاوي، بعد عشر سنوات على تدمير أورشليم بيد تيطس، الامبراطور الروماني، احتاجت الجماعات المسيحيّة المتهوّدة (الآتية من العالم اليهوديّ) إلى أن تؤكد على إيمانها صراحة تجاه العالم اليهودي المتصلّب. أعادت قراءة التاريخ المقدّس كله، فأقرّت أن ابن داود المنتظر وموضوع الوعد المعطى لابراهيم هما يسوع الناصري ابن مريم ويوسف.
كان على الكتب المقدّسة أن تقود اليهود ليروا في يسوع تتمّة المواعيد، والمسيح الذي تحدّثت عنه الأنبياء. ولكن هؤلاء اليهود رذلوا يسوع واضطهدوا جماعته بسببه، ودخل الوثنيون إلى الكنيسة. فكان لا بدّ من إلقاء الضوء على هذه المفارقة التي توسّعَ فيها بولس الرسول في روم 9- 11 فدلّ على أن هذا الرفض يدخل في قصد الله.
ذاك كان هدف متّى اللاهوتي حين دوّن انجيل الطفولة هذا: هو مقدمة إنجيله. هو جزء لا يتجزّأ من إنجيله. إنه كالبذار الذي يحمل الشجرة بورقها وأزهارها وأثمارها. وهنا يتميّز مشروع متّى عن مشروع لوقا. فالإنجيل الثالث تحدّث عن طفولة يسوع ليدلّ قرَّاءه الآتين من العالم الوثني اليوناني، على أن يسوع هو حقاً ابن الله، وعلى أن العالم اليهودي الذي منه خرج يكشف للبشر معنى التاريخ.
2- البنية الإجمالية
نكتشف البعد اللاهوتي لهذا الخبر بفضل إيرادات العهد القديم وتذكّراته، بفضل الردّات والتكرارات... كل هذا يدلّ على البنية الأدبية والهدف العميق للنصّ الإنجيلي.
أ- البداية (ف 1)
يقدّم لنا مت 1 وحدتين محدودتين تحديداً واضحاً: بداية المسيح ابن داود، إبن ابراهيم. هذا ما نسميه نسب يسوع أو سلسلة أجداده (1: 1- 17). وفي الوحدة الثانية نتعرّف إلى رسالة يوسف في نهاية هذه الأجيال العديدة التي هيّأت الطريق لمجيء يسوع (1: 18- 25). أبرزت الوحدة الأولى البداية التاريخيّة لشخص انتظره الشعب اليهوديّ. ودلّت الوحدة الثانية على الوجود الخاص لهذا الشخص الالهيّ الذي دخل في تاريخ البشر. دلّت على يسوع الذي سيعطيه يوسف اسماً ويدخله في مسيرة الأجيال فيكون خاتمتها وذروتها.
ضمّ مت إلى اسم يسوع لقب المسيح. ولجأ إلى التضمين والاحتواء، فكان "المسيح" في بداية الوحدة الأولى وفي نهايتها (آ 1، 16). وإذ توسّع في تاريخ المواعيد المسيحانية أكّد أن يسوع دخل في سلالة داود الملكية، وتسلّم الوعد الذي أعطي لابراهيم (آ 2). هذا الوعد الذي تجدّد مع الملك داود (آ 6)، وظل حياً بعد محنة المنفى في بابل (آ 11- 12)، تحقّق أخيراً في المسيح وبالمسيح (آ 16).
وتختتم آ 17 توسّع الأجيال وتفسّره. هي فكرة تدوينية استنتجها الكاتب: أشار إلى مراحل ثلاث من أربعة عشر جيلاً لكل مرحلة: من ابراهيم إلى داود. من داود إلى سبي بابل. من سبي بابل إلى المسيح. وكان لهذا التقسيم هدفه.
أما آ 18- 25 فتتحدّث عن رسالة يوسف. نحن ما زلنا في الكلام عن بداية يسوع، عن ولادة يسوع. هنا نجد ألفاظاً عديدة تتحدّث عن هذه الولادة (آ 18، ولادة؛ آ 20، ما وُلد منها؛ آ 21، تلد؛ آ 23، تلد؛ آ 25، إلى أن ولدت ابناً). ما يبرز في هذا المقطع هو اسم يسوع. يظهر في البداية (آ 18: ميلاد يسوع) وفي النهاية (آ 25: سماه يسوع). وتبرز أهمية دور يوسف (يُذكر اسمه خمس مرات: آ 18، 19، 20، 24، 25: أهمية الرقم خمسة) في أن الرب طلب منه أن يُدخل ابنه في سلسلة الآباء.
ب- من بيت لحم إلى الناصرة (ف 2)
ويأتي مت 2 فينقلنا من بيت لحم إلى الناصرة. هناك لوحتان متوازيتان بعض الشيء. تصوّر الأولى طريقتين في استقبال الطفل يسوع (آ 1- 12): المجوس من جهة، هيرودس ورؤساء اليهود من جهة ثانية. واللوحة الثانية ترسم لنا مسيرة يسوع بشكل خروج جديد (آ 13- 23): "من مصر دعوت ابني".
في آ 1- 12، يسوع هو داود الجديد (آ 2، 6) الذي يتمّ نبوءة عمانوئيل الواردة في آ 23 (أش 7: 14؛ 1 صم 7: 5- 16). عليه يشرق كالنور (رج أش 9: 1) النجم (الكوكب) المسيحاني (24: 17) فيكون راعي اسرائيل الموحّد (ي 5: 1؛ 2 صم 5: 2). ويسوع هو أيضاً "سليمان الجديد" (آ 11) الذي تجتذب حكمته حكماء الشرق (1 مل 10: 1- 13؛ مز 72؛ أش 9: 5؛ 11: 1- 5).
في آ 13- 23، يبدو يسوع "يعقوب (إسرائيل) الجديد" (آ 13- 18) الذي نزل إلى مصر، ثم عاد منها بعد أن صار شعباً كبيراً جداً (تك 46: 1- 4؛ 50: 24). وهو "موسى الجديد" (آ 13- 23) الذي أفلت من الموت، ودُعي من مصر ليُعبر شعبه إلى أرض الموعد عبر خروج نهائي (خز 1: 22؛ 2: 1 ي؛ 3: 1 ي؛ 4: 19؛ هو 11: 1؛ عد 23: 22؛ إر 31: 15).
وهكذا نرى أن يسوع هو تتمّة التاريخ البشري. إنه يجمع من جهة مسيرة إسرائيل كما دوّنت في الأسفار المقدّسة. كما يجعل المسيرة الوثنية تصل إلى غايتها في شخص هؤلاء المجوس الذين أتوا من المشرق. إن هذه التتمة النهائية تتضمّن في الوقت عينه قطعاً وانفصالاً، كما تتضمّن تواصلاً واستمرارية. ولكن لا ننسى أننا أمام جديد ينكشف للبشر بشكل جذريّ. هو مبادرة الله المطلقة والبعد الشامل لملكوت السماوت.

3- تحليل النصوص
أ- تتمة التاريخ بواسطة المسيح عمانوئيل (ف 1)
أولاً: المسيح ابن داود، ابن إبراهيم (1: 1- 17)
للآية الأولى معناها العميق: كتاب نسب يسوع (الذي هو) المسيح (الذي هو) ابن داود (إذن، ملك)، وابن ابراهيم (مواعيد الله في الإيمان). إنها تقدّم لنا سلسلة موجزة ومتصاعدة من يسوع إلى ابراهيم عبر الحلقات الجوهرية: تاريخ الوعد الذي أعطي لإبراهيم (تك 22: 16- 18؛ رج سي 44: 19- 21). و"أبو الجماعة الكثيرة" (تك 17: 5) يمرّ عبر ملكيّة داود (2 صم 5: 2؛ 7: 8- 16؛ سي 47: 11) وعهد الله مع إسرائيل (مز 89: 4- 5، 20- 38؛ 132: 1- 12). إن اليهودي يعبرّ عن التاريخ بلفظة "ولادة" (في العبرانية: تولدوت، بداية، تكوين، جناسيس). إذا عدنا إلى بداية التوراة، نقرأ "بداية السماء والأرض" (تك 2: 4). "بداية آدم" (تك 5: 1). وهكذا يعود نسب يسوع إلى بداية الخلق والتاريخ البشريّ.
في الواقع، إنّ مت، بل إنجيل متّى كله، سوف يتوسّع مطوّلاً في هذه البداية التي تبدو كعنوان للكتاب. ليس هناك إلا تاريخ واحد هو تاريخ وعد أعطي في الماضي لإبراهيم، أبي المؤمنين (أش 51: 1- 2)، وامتدّ إلى داود (أش 9: 6؛ 11: 1- 9)، وتمّ في يسوع (غل 3: 28- 29). إن ربط لقب "يسوع" مع لقب المسيح الذي يرد خمس مرات في الإنجيل المتّاوي (1: 1، 16، 18؛ 16: 20؛ 27: 17)، يدلّ على أهمية هذه الآية الأولى التي تبدو كاعتراف إيمان بمسيحانيّة يسوع المرتبطة ارتباطاً تاريخياً بالبنوّة الداودية حسب نبوءة ناتان، وبوعد الله لابراهيم (تك 12: 2- 7). وبما أن يسوع هو المسيح، أي غاية تاريخ طويل من الوعد، فهو الكلمة الأخيرة في هذا الوعد. في هذا المعنى، يكون مجيء يسوع المسيح إلى العالم الحدث الوحيد الذي تتخذ كل الأحداث التاريخية، ولا سيما أحداث العهد القديم، معناها الأخير والتام بالنسبة إليه.
لهذا، فالخط النازل في آ 2- 16 يبدو عند مت برهاناً عن هذا الإعلان الإيماني الذي قرأناه في آ 1. واكتشاف يسوع كغاية تاريخ إسرائيل كان حياً وجوهرياً بالنسبة إلى الجماعات المسيحية الأولى، بحيث إن مدوّن الإنجيل أعاد قراءة المراجع التوراتيّة، ولا سيما كتاب الأخبار وسفر راعوت، في خط إيمانه. ونلاحظ ثلاثة تصحيحات لها معناها.
* في آ 6، زاد مت على اسم داود لقب ملك الذي لا يرد في مراجعه (را 4: 22؛ 1 أخ 2: 15؛ 3: 1). إذن، بدا هذا الطابع الملوكي مهماً للكاتب: فهو يتيح له أن يشير إلى اثنين: إلى انتماء يسوع الحقيقي إلى سلالة داود الملكية. وإلى التجاوز الذي يشكّله "ملكوت السماوات" بالنسبة إلى النظرات الضيّقة التي عرفتها هذه السلالة. ملكوت السماوات يتجاوز بلا حدود مملكة داود الأرضية.
* يرد اسم خمس نساء في هذه السلسلة:
الأولى: تامار (آ 3): تجعلها التقاليد اليهوديّة نموذج الأمانة بعد أن أمَّنت استمرارية نسل يهوذا، جدّ المسيح (تك 38: 1 ي؛ 49: 8- 12؛ را 4: 12؛ 1 أخ 2: 4).
الثانية: راحاب (آ 5): هي الغريبة وزانية اريحا التي استقبلت الجاسوسين ساعة الدخول إلى أرض الموعد. امتُدحت كمرتدَّة بعد أن أعلنت إيمانها بالربّ. يقول التقليد المدراشّي إن الروح حلّ عليها (يش 2: 1- 21؛ 6: 17؛ 22: 23؛ عب 11: 31؛ يع 2: 25). اعتبرها مت زوجة يشوع فذكرها كأم بوعز، وشدّد بذلك على البُعد المسيحاني لتدخّلها في تاريخ إسرائيل.
الثالثة: راعوت (آ 5): هي الموآبية التي تزوّجت بوعز، فخضعت، وإن غريبة، لشريعة السِلفية (المرأة تأخذ سلفها أي شقيق زوجها ليكون لزوجها بأخيه نسل). لقد هيّأت الطريق لداود بالنظر إلى أمانتها لقرابتها اليهوديّة (را 1- 4؛ أخ 2: 5). وفي بيت لحم، مدينة داود، سوف تلد ولداً (را 4: 11؛ 1 صم 16: 1).
الرابعة: امرأة أوريا (آ 6): تُذكر بالنسبة إلى زوجها، ولا يذكر اسمها الذي هو بتشابع (2 صم 11- 12). ساعدت ناتان فصار ابنها سليمان ملكاً على شعبه.
الخامسة: مريم (آ 16). قد ولدت المسيح خاتمة الأجيال.
تدخّلت هذه النسوة في سلالة مت بالنسبة إلى دعوتهن الأمومية. إنهن في خدمة الحياة. وهكذا يؤمَّن تواصلُ التاريخ وبالتالي قصد الله. لا شك في أن أمومة النسوة الأربعة، تمرّ في وضع شاذ. ولكنّ هذا الشواذ يدل على ما في مخطّط الله من أمور لا نتوقّعها. أطعْنَ نداء الحياة، فخضعنَ طوعاً لعمل الروح النبوي، كما تقول عدّة نصوص من العالم اليهودي. وهكذا صوّرت دعوتهن مسبقاً دعوة مريم، آخر امرأة ذكرت في هذه السلسلة: هي "التي منها وُلد يسوع الذي يُدعى المسيح" (آ 16). نحن هنا أيضاً أمام أمر شاذ، لا يسير حسب القاعدة، ولكنه شواذ، من نوع آخر. لقد أخذت مريم محلّ يوسف، محل الأب الذي ينجب. هذا ما تفسّره آ 18- 25.
يدلّ وجود هذه النسوة في سلالة يسوع، على أن طريق المسيح يمرّ عبر السلالة الداودية الصحيحة، لا في سلالة أخركما. كانت النسوة الأولى غريبات ولكن لم يكنّ عابدات أوثان. آمنّ بالله، وخضعن لمخطّطه عبر دعوتهن إلى الأمومة فشاركن في تواصل بيت دود حتى كماله في يسوع. وإيمانهن في الأوضاع الحرجة، هو الذي جعل الناس يدعوهنَّ "بارات"، ونسلهن يمتدحهن، وجميع الأجيال تعلن سعادتهن (تك 38: 26؛ را 3: 10؛ 4: 12؛ مز 127: 1 ي؛ لو 1: 48؛ 11: 27؛ عب 31:11؛ يع 2: 25).
* حذف مت ثلاثة أسماء ملوك هم: أحزيا، يوآش، أمصيا. وُجدوا، لو دخلوا في اللائحة، بين يورام وعزيا (آ 8) (رج 2 مل 8- 14؛ 2 أخ 22- 25). استبعد الكاتب هذه الأسماء ليكون له مجموع أربعة عشر جليلاً. وخصوصاً لأنهم ماتوا بعد أن "ضربهم" الله (2 أخ 22: 9؛ 24: 25؛ 25: 27)، فتركوا وراءهم اثراً سيّئاً. إن ملوك يهوذا هؤلاء قد ارتبطوا بعثليا، زوجة يورام، الملكة الكافرة التي انتظرنا أن نجد اسمها في لائحة أجداد المسيح (2 مل 11؛ 2 أخ 22- 23). فهي قد سعت إلى إفناء السلالة الملكية في بيت يهوذا (جد داود) وبالتالي إفشال تحقيق الوعد المسيحاني الذي جدّد لداود ونسله. استُبعدت من اللائحة مع ابنها احزيا، وحفيدها يوآش، وابن حفيدها أمصيا، فأصابتها اللعنة التي اعلنتها الوصايا العشر (خر 20: 5؛ تث 5: 9) ضد عبدة الأوثان "حتى الجيل الثالث والرابع" (خر 34: 7).
حين نقرأ في التوراة خبر هؤلاء الرجال والنساء، خبر هؤلاء الملوك الخطأة، مع ما فيه من عبادة أوثان وطلب للثأر وسلوك رديء وخيانة، ندهش حين نرى كيف أن هذه السلسلة في مت تعبّر بشكل ملموس عن وحدة حياة ومصير أخذها يسوع وأتمّها بشكل نهائي. فيسوع يعني: الله يخلّص، وهو الذي "يخلّص شعبه من خطاياهم" (1: 21) حسب مخطّط الله الأزلي.
وتشكّل آ 17 خاتمة وانتقالة. كما تدلّ على اهتمام لاهوتي واضح. أخذ رقم دواد (في العبرية: دود= 4 + 6 + 4= 14) وأورده ثلاث مرات. وهكذا شدّد مت على داود وتواصل سلالته. وهناك من عاد إلى دا 9: 1- 27 والحسابات الجليانيّة التي تقسم التاريخ إلى عشرة أسابيع من السنين. ولكن مت يستعمل الرقم 14 لا الرقم 7. ثم، إذا حسبنا الأسماء التي نقرأها في اللائحة لا نجد 42 (14 × 3) بل 40 اسماً. ولكن تعداد 14 × 3 يبقى صحيحاً. فاسم يكنيا لا يحسب في آ 11. فسبي بابل هو الذي يحتلّ بين المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة، الموضع الذي احتله داود بين المرحلة الأولى والمرحلة الثانية. وهكذا يحسب يكنيا في المرحلة الثالثة التي اختتمها "يسوع الذي يُدعى المسيح" (آ 16). فكما انتهت الأولى مع داود، انتهت الثانية مع سبي بابل.
ثانياً: مهمة يوسف، يسوع عمانوئيل (1: 18- 25)
"وهذه هي بداية يسوع" (آ 18). استعادت هذه الآية كلمات آ 1 وذكّرتنا بما في آ 16 التي سوف تشرحها. لقد تحقّق نسبُ يسوع بشكل ملموس في إطار عائلي من العلاقات بين يوسف ومريم. بعد الآن سنتحدّث عن ولادة الإنسان الذي اسمه يسوع.
في "السلسلة" (آ 1- 17) أعطى مت رؤيته اللاهوتية حول توالي الأجيال. وها هو الآن يتابع نظرته. هو لا يتوخّى تحليل المسائل السيكولوجية المتعلّقة بيوسف ومريم، بل يحاول أن يكتشف دور يوسف ورسالته في مخطّط الله. وهناك إشارات عديدة تجعلنا في هذا الخط.
* الفن الأدبي
عوّدتنا التوراة على الفن الأدبي الذي يروي "البشارة بولادةِ" طفلٍ عجيب. مولد اسحق (تك 18: 9- 15). مولد شمشون (1 صم 9- 18). وفي كل مرة نجد العناصر التالية مرتّبة تارة بشكل، وطوراً بشكل آخر.
- تدخلُ الله. يدلّ عليه مراراً الملاك (آ 20).
- تسمية الشخص الذي يُزار ولقبه: يوسف "ابن داود" (آ 20).
- عائق لا بدّ من تجاوزه. عادة عقم المرأة. هنا، على يوسف أن يأخذ مريم (آ 18، 20) وهي عذراء حبلى من الروح القدس.
- علامة تُعطى كدلالة على تتمة البشارة (الولد العجيب، آ 21).
- توضيحات حول اسم الولد ومستقبله. اسمه يسوع. لأنه يخلِّص شعبه (آ 21).
أما الظهور النموذجي فيكون: ظهور، اضطراب، بلاغ (البشارة، اسم الولد، معنى الاسم، مستقبل الولد، النظام الذي يسري عليه الإنسان)، سؤال، علامة.
نلاحظ أولاً في وضع مت أن الحبل بالولد بفعل الروح القدس هو معطية عرفناها منذ آ 18. وهذا ما قد يشير إلى أن يوسف عرف هذه المعطية. وهذا الحبل يقع في خط الأمومات التي ذكرتها السلسلة السابقة. كل أمومة قد دلّت على خضوع لروح الله، وعلى مشاركة نبويّة في قصده الخلاصي بالنسبة إلى البشريّة.
لا نتوقّف عند موضوع حبل امرأة بفعل إله كما في العالم المصري واليوناني والفينيقي. ولكن إسرائيل، روح الله يُشرف على الخليقة (تك 1: 2). هو الذي يلد من جديد شعب إسرائيل الذي صيّره المنفى عظاماً يابسة (حز 37: 1- 14). كما أنه يحرّك قوة حياة جديدة كل الجدّة (أش 44: 3- 4). ومع ملكوت الله الذي ظهر في شخص المسيح، ظهرت هذه القوة الخلاّقة في ملئها. وفي هذا العمق يتّخذ التاريخ البشري معناه الحقيقي.
* دور يوسف
ويُطرح سؤال: ما هو دور يوسف؟ تعلمنا آ 19 أنه كان رجلاً "باراً". قلقَ لا من "سلوك" مريم (لم يظن فيها شراً)، بل من علاقته الخاصة بهذا الطفل، وبالمهمة الملقاة على عاتقه في هذا الإطار. دُعي "باراً" في مستوى أول بالنظر إلى الموقف الذي اتخذه تجاه مريم، موقف الحكمة وضبط النفس. وفي مستوى ثانٍ، هو مستوى الجماعات المسيحية الأولى، كان باراً لأنه جمع في شخصه موقف الأبرار في العهد القديم. كان على مثال نوح الذي "سلك مع الله" (تك 6: 9). وعلى مثال ابراهيم "الذي أمن بالرب فحسب له إيمانه براً" (تك 15: 4- 6).
إذن، لسنا أمام هذا "البر" بحسب الشريعة، الذي يتيح له أن يطلّق امرأته. لا سيما وأنه ليس من شريعة تفرض على الزوج أن يطلق امرأته حين يظنّها "زانية". فما في تث 22: 13- 21 و22: 23- 27، لا ينطبق على ما نقرأ في مت. فالطلاق في تث يعني الزواج الذي قد تمّ (تث 24: 1) بانتقال المرأة إلى بيت الرجل الذي تزوّجته، أما الموضوع هنا فهو "البر" الديني الذي يطلب من يوسف أن يحترم عمل الله وروحه، ويمنعه أن ينسب إلى نفسه استحقاق عمل الله. فيوسف يظن أنه يستطيع بسلطانه الخاص أن يأخذ إلى بيته شخصاً وضع الله يده عليه، أراده مكرّساً له. لا شكّ في أن للزوج سلطة على زوجته. ولكن يوسف امَّحى أمام الله، فتخلّى عن أن يكون زوج مريم ووالد الصبيّ. لهذا عزم على أن يترك امرأته بدون ضجة وبدون علم الناس. خطبة وانتهت. إن يوسف هو بارّ بـ "برارة"، يجب أن نكتشفها شيئاً فشيئاً في انجيل متى، ولا سيّما في العظة على الجبل: هذا العيش بحسب مخطّط الله وقصده.
في هذا الوقت من الخبر (آ 20)، تراءى "ملاك الرب" (يدل على الله نفسه كما في 28: 2؛ رج تك 16: 7، 13؛ خر 3: 2). الملاك هو رسول الله، والتعبير عن علاقة الانسان مع الله عبر الوساطات المخلوقة. تراءى الملاك ليوسف في الحلم. لا ننسى هنا أن يوسفي بن يعقوب، قد حدّثه الله في الأحلام (تك 17: 5- 9، 19). لقد دلّ الله يوسف على أنه بحاجة إليه. "يا يوسف، ابن داود، لا تخف من أن تأخذ إلى بيتك مريم امرأتك. ففي الحقيقة ما وُلد منها هو عمل الروح القدس، ولكنها ستلد ابناً تسميه يسوع، فهو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (آ 20- 21).
وهكذا مُنح يوسف سلطة إعطاء "الاسم"، وإدخال الطفل إدخالاً شرعياً في سلالة داود. لهذا سمي "ابن داود" (يا يوسف ابن داود، رج 1: 1). ولكن "للاسم" في العالم اليهودي بعداً هاماً جداً: فهو يدلّ على واقع الشخص بالذات. إذن، ها هو يوسف الذي يدلّ اسمه على النموّ، نموّ شعب الله عبر تاريخه. ها هو يعطي يسوع "اسمه" الخاص، أي وجوده الملموس كإنسان في المجتمع (آ 21- 25). وسيرى فيه الناس عمانوئيل أي إلهنا معنا (أش 7: 14). أعاد مت صياغة هذا الاستشهاد من أشعيا، لأن صيغة الجمع "يدعونه" (يُدعى) لا توجد في النصّ العبري ولا في النص اليونانيّ. فهذا الطفل الذي يتّخذ "قامته" البشريّة، سينكشف على أنه المخلّص الحاضر في شعبه. وهكذا يعيدنا الكاتب إلى تضمين كبير في نهاية إنجيله. هذا العمانوئيل يقول لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأجيال حتى انقضاء الدهر" (28: 20).
في ف 1، هو ملاك الرب يورد النصّ النبويّ ويعطيه معناه. ولكن بواسطة صيغة الجمع (معنا) والفعل في الجمع (يسمّونه). كل الشعوب معنيّة بالوعد الذي أعطي لابراهيم: "بك تتبارك جميع أمم الأرض" (تك 12: 3). ثم إن الاسم الذي أعطاه يوسف لابن مريم هو يسوع، لا عمانوئيل.
* ومريم
أين موقع مريم في خبر مت؟ استعاد الكاتب أش 7: 14 كما في السبعينية، فتحدّث عنها كـ "العذراء" (بارتانوس). هذه اللفظة التي تعود إلى العبريّة ع ل م ه (مؤنث غلام في العربية) تعني "المرأة الصبية". غير أن هناك مفهوماً خاصاً تشير إليه آ 16- 18، 25. هنا نستطيع أن نقابل مع أخبار الولادات العجيبة في العالم القديم ولا سيّما في التوراة والتقليد اليهودي. هكذا ندرك الطابع الفريد، والجديد كل الجدّة، لحبل يسوع البتولي. عاد الإنجيلي إلى عبارة من العالم الوثني وصفّاها عبر التقليد التوراتي قبل أن يستعملها ويحمّلها المعنى الجديد الذي هو ميلاد يسوع من مريم العذراء.
لا يقف مت على المستوى الفيزيولوجي ولا على المستوى الطبي، بل على مستوى الواقع الأعمق والأكمل الذي لا يصل إليه العلم، بل يتحدّد موقعه في مناخ الإيمان. إن مت يتكلّم عن بتولية مريم على أنها الظهور الفريد والساطع لقدرة حبّ الله في قلب الواقع البشري، في عمق اللحم والدم. والبتوليّة في الإنسان، هي مسيرة طويلة، مسيرة ابن الله المتجسّد الذي بالروح صنع كل شيء جديداً، الذي معه اقترب ملكوت الله؛ 3: 2: 14: 17).
فبدل أن ننطلق من خبرتنا البشرية في الحبل والولادة لكي نفسّر ظاهرة "الولادة البتولية"، علينا بالأحرى أن نعيد قراءة خبرة الولادة عندنا على ضوء ولادة يسوع الذي حُبل من الروح القدس. فالبنوّة الإلهية التي عبرّت عن ملئها ولادةُ يسوع، تكشف عن المعنى العميق لكل ولادة بشرية، وتجعلنا ندرك ما تعنيه الولادة الروحية.
إذن، دخول يسوع إلى العالم هو دخول فريد، ولا يفسّره إلا تدخّل الروح القدس، هذا الروح عينه يستطيع وحده أن يعطي المعنى الأخير لحدث "يسوع" في ملئه: إنه حقاً ابن الله، إنه حقاً ابن البشر.
ب- حضور يسوع في العالم اليهودي والعالم الوثني (ف 2)
وُلد يسوع في بيت لحم. إنه هنا في قلب البشرية. ماذا يعني حضوره؟ وكيف نحدّد موقعنا بالنسبة إليه؟ ما هو تأثير مجيئه في تاريخ إسرائيل وفي الأمم؟ هذه الأسئلة تجمل مقال متّى في فصله الثاني.
أولاً: استقبال الطفل يسوع (2: 1- 12)
كان الوثنيون أول المهتمين بولادة "ملك اليهود"، فذهبوا يبحثون عنه، وقادهم بحثُهم بشكل طبيعي إلى أورشليم (أش 60: 3- 6). سأل المجوس: "أين هو ملك اليهود" (آ 2)؟ هكذا سمّاه بيلاطس أيضاً. وبهذه التسمية هزىء به الجنود في الحاش (27: 11، 26، 27). وحين نقل هيرودس السؤال إلى عظماء الكهنة والكتبة، ترجم الكلام الوثني إلى لغة يهوديّة: "أين يولد المسيح" (آ 4)؟
كان المجوس في طريق تنطلق من المشرق، فترافق الشمس. التقوا اليهود وسألوهم عمّا في تاريخهم المقدّس، فاعترف هؤلاء من عظماء كهنة وكتبة وهيرودس وكل أورشليم، أن الكتب المقدّسة أنبأت بالمسيح. ولكنهم لا يعرفوا ظهوره في بيت لحم. نحن هنا في نظر مت أمام قراءة للكتاب المقدّس لم تصل بعد إلى كمالها.
وسار في هذا الخبر تحرّكان متعارضان: واحد يشير إلى رفض اليهود ليسوع. وأخر يشير إلى استقبال الوثنيّين له. وسنجد هذا التعارض عينه في كل الإنجيل الأول حتى الحاش (27: 39- 44، 54) والقيامة (28: 11- 15 و16- 20). في هذه الآيات (آ 1- 12) سيقف هيرودس تجاه اليهود، وهكذا نجد المواجهة الجغرافية بين أورشليم وبيت لحم. ولكن سينتهي الصراع بوحي عن المسيح، ملك اليهود، يصل إلى الوثنيين عبر علامة النجم (آ 9- 10) ثم بواسطة حلم (آ 12). إن تعرّفَ الوثنيين إلى يسوع قد أشار إليه أش 49: 23؛ 60: 3- 6؛ مز 72: 10- 15. وقد دلّ مت على تحقيق هذه النبوءات في ارتداد الوثنيين كما تقول التقاليد اليهودية.
إن موضوع خلاص الوثنيين هو موضوع حاضر في العهد القديم والتقليد اليهودي (تك 12: 3؛ أش 2: 2- 5؛ 19: 16- 25؛ 45: 14- 17، 20- 25؛ 66: 18- 21؛ مز 47: 1 ي). إن إسرائيل اكتشف الله عبر تاريخه، أما الأمم فعادت إلى جمالات الكون (تث 4: 15- 20). فالكواكب تنشد مجد الله الواحد (مز 19: 2- 7) وتكشف عن قدرة الخالق (هك 13: 1- 9). هنا نحسّ وكأننا في بداية الخليقة مع النور الذي ظهر في البداية (تك 1: 1- 3). هذا النور يدلّ من خلال النجم على عالم جديد يبدأ مع يسوع المسيح.
إن علم الفلك رغم التباسه وانحرافاته الوثنيّة، قد قاد الأمم إلى النور الكامل، قاد المجوس إلى يسوع المسيح. ولنا صورة عن ذلك في عد 22- 24 الذي يتوسّع فيه مت على مثال ما في الترجوم الفلسطيني. أراد الملك بالاق أن يلعن شعب الله (عد 22: 11؛ 23: 7). وأراد هيرودس أن يقتل ملك اليهود (مت 2: 8). رفض بلعام أن يلعن بل بارك الشعب (عد 22: 18؛ 23: 8- 9). وسجد المجوس للطفل الالهي (مت 2: 11). تحدّث بلعام عن كوكب يخرج من يعقوب (عد 24: 27) ورأى المجوس النجم (الكوكب) العجيب (مت 2: 2). وعاد بلعام (عد 24: 25) كما عاد المجوس (مت 2: 12) إلى بلادهم بأمان.
أراد مت بهذا المدارش (درس وتأمل) الجديد أن يشرك الوثنيين منذ بداية حياة يسوع، في إقامة ملكوت الله الشامل. لهذا، لا نحصر النصّ الإنجيلي في ظاهرة طبيعية هي ظاهرة نجم في السماء. فيسوع هو النور المسيحاني الذي ينير الشعوب (أش 9: 1- 5؛ 60: 1- 6). إنه اسد يهوذا الحقيقي كما قال يعقوب حين بارك ابناءه (تك 49: 9- 10). إنه الحكمة التي تتجاوز منذ ظهورها حكمة سليمان، فتجتذب إليها كل ملوك الأرض (1 مل 10: 1- 13؛ رج 4: 14).
وجاء مي 5: 1 أيضاً يثبت هذا التفسير. في الواقع حوّله مت بعد أن دمجه مع 2 صم 5: 2 (توارد ألفاظ). ذكر تكريس داود في حبرون، وأشار إلى بيت لحم، مهد الملك داود. فدلّ على يسوع كالمسيح الداودي المنتظر، وراعي إسرائيل الحقيقيّ (حز 34: 32؛ 37: 24). وحين تأمّلت الجماعات المسيحية الأولى في هذا النصّ، وعت أنها تقرأ تاريخ كنيستها: إكتشف الوثنيون في يسوع النورَ النهائي، والخلاص الذي بحثوا عنه طويلاً. أما اليهود فوُضعوا على المحك بواسطة هذا الرجل الذي قلب نظرتهم رأساً على عقب، فما اكتشفوا فيه تتمة الكتب المقدّسة، وصاروا مضطهدين لاخوتهم.
فرح الاولون (آ 10: فرحوا فرحاً عظيماً جداً) ودخلوا إلى "البيت" الذي صار الكنيسة (آ 11). وقدّموا كنوزهم (1 مل 10: 2- 10؛ أش 60: 6؛ مز 72: 10- 11، 15). أما اليهود فخافوا، وتحوّل خوفهم إلى عنف قاتل (آ 13، 16، 22). وفي النهاية كان بكاء لا عزاء فيه (آ 18). كان البكاء وصرير الأسنان (8: 12).
ثانياً: خروج جديد للطفل يسوع (2: 13- 23)
* نظرة عامة
تتوالى ثلاث مقطوعات في هذه المجموعة الأخيرة من المطلع المتاوي. بُنيت الأولى (آ 13- 15) والثالثة (آ 19- 23) حسب البناء عينه، فأحاطت بالمقطع المركزي الذي هو "مقتل الأطفال" (آ 18- 25). بُنيتا حسب المقطع المتعلّق بمهمّة يوسف (1: 18- 25). وهكذا ترد قصة يوسف في ثلاث مقطوعات متوازية كردّات في نشيد نكتشفه في ف 1- 2: "يدعى اسمه يسوع" (1: 23). "من مصر دعوت ابني" (2: 15). إنه "يدعى ناصرياً" (2: 23).
عبر النصوص التوراتية الواردة هنا أو الملمّح إليها، يبدو يسوع على أنه يعقوب الجديد النازل إلى مصر. وموسى الجديد التارك أرض مصر والمتوجّه إلى أرض الموعد. لن يدخل موسى أرض الموعد، بل يشوع. أما يسوع فسيدخل أرض الميعاد. وهكذا نكون أمام خروج طويل ينطلق من بيت لحم إلى مصر، ومن مصر إلى الناصرة.
* هيرودس وفرعون
إن وجه هيرودس يُشرف على المشهد كله (آ 13، 15، 16، 19، 22): فهو يملأ اليهوديّة حتى في شخص ابنه ارخيلاوس (آ 22). فهذا الملك (آ 1) الظالم أمر بقتل أطفال أبرياء من أجل أمن الدولة. إنه يذكّرنا بفرعون ملك مصر، الذي أمر بقتل جميع الذكور المولودين للعبرانيين (خر 1: 25- 22). وكما نجا موسى من الموت بطريقة سرّية (خر 2: 1- 10) ولجأ إلى الخارج ليهرب من فرعون (خر 2: 11- 15)، وكما واجهه فيما بعد حين ملأه الله بروح النبوءة (خر 3: 1- 12)، هكذا أفلت يسوع من الموت وهرب من الطاغية (آ 13- 15) ثم اعتزل في الناصرة (آ 23) ليظهر من جديد ويكرز في العلن بعد اعلانه مسيحاً في العماد (ف 3- 4).
وأعطانا مت المفتاح لفهم هذا التوازي: أورد في آ 20 عبارة من خر 4: 19: "لقد مات الذين يريدون قتلك". هكذا دُعي موسى ويسوع في العبارة عينها للعودة من المنفى من أجل خلاص شعب الله. وصيغة الجمع "ماتوا" تضمّ الآن كل المضطهدين منذ فرعون حتى نهاية العالم. ورأى مت في يسوع، ذاك الذي يعيش معنا (عمانوئيل) الخروجَ النهائي، فينتصر على الموت والخطيئة بآلامه وقيامته، ويعطينا الشريعة الجديدة التي تُتمّ شريعةَ موسى. أما السلطات اليهوديّة فقد حقّقت مسبقاً رفضَها ليسوع. الآن، قُتل الأطفال الأبرياء، وفيما بعد سيُقتل يسوع البار الذي لم يقترف ذنباً ولا وُجد في فمه غشّ.
* يسوع ويعقوب أبو الآباء
شُبّه يسوع بموسى. ويُشبّه أيضاً بيعقوب (تك 46: 2- 5). كما نزل يعقوب من مصر، وصعد منها بعد أن صار شعباً كبيراً، هكذا فعل يسوع، فدلّ في عمله على نزوله إلى العالم قبل عودته إلى الآب. وعبارة هو 11: 1 التي استعادها مت في آ 15 تماهي بين يسوع والشعب كله. تورد التقاليد اليهوديّة أن يعقوب هرب من معاملات لابان السيّئة، فالتجأ إلى مصر وصار هناك شعباً كبيراً. وانتظر هناك ظهور نجم الخلاص. أما راحيل زوجته فاندفنت في كنعان (تك 35: 19) وبكت حتى عودة أبنائها (إر 31: 15).
في يسوع تجسّدت وتمت دعوة النبي إلى راحيل: "توقفّي عن البكاء، إمسحي دموعك... سيعودون من أرض الأعداء. هناك أمل من أجل نسلك: سيعود أبناؤك إلى أرضهم" (إر 31: 16- 17). إن هرب المسيح إلى مصر، وهو يعقوب الجديد، وعودته إلى إسرائيل على رأس الجموع التي تتبعه (مت 4: 25) والتي تدل على باكورة شعب جديد لا يُحصى، يمثّلان منذ الآن ما يحقّقه السر الفصحي (موت يسوع وقيامته) بشكل نهائي.
وأخيراً، إن إيراد "الأنبياء" (آ 23) الذي نجده في الأسفار المقدّسة يدعونا إلى التفكير أننا ننصدم بواقع غير منتظر: وجود يسوع في الناصرة. هذه القرية الصغيرة في الجليل لم تذكرها التوراة. ومع ذلك، فهناك انتهى "خروج" يسوع بعد عودته من المنفى. الجليل مهمّ في إنجيل متّى الذي يورد أش 8: 32- 9: 1: "أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر، عبر الأردن، جليل الأمم" (مت 4: 15). الجليل هو "جليل الأمم". فهو يمثّل باكورة الشعوب العائدة إلى الله.
كان جدال حول معنى "ناصرياً" (مع الصاد أو الزين: نازارانوس). وجدال حول لفظة "الأنبياء". لهذا نقول: في خطّ الأنبياء مع حياة خفيّة. هناك عنصران يلتقيان: من جهة، إيمان بشخص يسوع كذاك الذي يتمّ الكتب. ومن جهة ثانية، واقع الناصرة التاريخي. فدينامية الأحداث التاريخية ندركها كأحداث إيمان، وهي تفرض قراءة العهد القديم في هذا الخطّ. في هذا المعنى، لا تبرهن الكتب عن يسوع. بل العكس هو الذي يحصل: فالكتب تجد آنيّتها وحضورها الحالي في يسوع الذي يكمّلها.
أن يعيش يسوع في الناصرة: هذا ما لم تنبىء به الكتب. ولكن الواقع تاريخي. ويسوع هو الذي يتمّ الكتب، لهذا يجب أن يكون العهد القديم حاضراً. حياةُ يسوع كتبت جملة جديدة فتعدّت أسفار التوراة. كل هذا يتيح لنا أن نوضح النمط التاريخي الذي يتوسّع فيه مت في إنجيل الطفولة فندرك المحطات اللاهوتيّة عبر البنية المزدوجة التي اكتشفناها في النصوص.

3- اللاهوت المتاوي في إنجيل الطفولة
إن البناء المدارشي للمجموعة قد يجعلنا نظنّ أننا أمام تقديم أدبي يودّ أن يجعل أمامنا تعليماً لاهوتياً وفقاهة. حينئذٍ نسقط في تجربة رفض هذه الصياغة على أنها عارية من كل أساس تاريخي. في الواقع، إن مت يقدّم لنا قراءة حقيقيّة للتاريخ كما حدث في أيام يعقوب وموسى، في أيام يسوع، في أيامنا. لسنا أمام قراءة ظاهرية للتاريخ على مستوى الأحداث التفصيليّة كما في "تقرير صحافي". بل أمام قراءة حقيقيّة تأخذ بعين الاعتبار كل أبعاد التاريخ.
حين بدأ الإنجيلي كتابه بلائحة الأجيال الطويلة، إستعاد مسيرة تاريخيّة ملموسة، هي مسيرة التاريخ البشريّ. لا كما يفعل كاتبُ تاريخ حديث، بل كما يفعل مؤمن مقتنع أن التاريخ الحقيقيّ بدأ مع ابراهيم: تحوّل هذا الرجل فصار شخصاً مميّزاً ودخل في إطار من المسؤولية. تحرّك تحرّكاً لا رجوع عنه. ولكن صار هذا الانسان كائناً يسير في طريق. طُرح إلى الأمام في "خروج" متواصل حتى كمال هو المسيح.
وتثبّت هذا التاريخ في أرض البشر. مرّ في قلب الشعوب فأخذ معه ولاداتهم وأعمالهم، حبّهم وألمهم وموتهم. جعل من الإنسان مَلك الخليقة. اختار داود، راعي إسرائيل، وامتحنه في صمت المنفى، ثم أعاده إلى أرضه لكي يتابع مسيرته. وفي النهاية جاء المسيح الذي هو غاية التاريخ وانفتاحه على أبعاد الله. إنه عمانوئيل، "الله معنا". ذاك الذي له اسم أرضي هو يسوع. اسم قد تسلّمه من ابيه يوسف ابن داود.
أما علّة وجود يوسف فتجذير هذا المسيح في أرض السلالات البشرية، وتحديد موقعه في المجتمع بإعطائه اسماً وبمساعدته على النموّ. ودعوة مريم امرأته، هي أن تعطي جسداً للروح القدس فيكوّن هذا البشر الضعيف الذي صار فيه ملكوت السموات قريباً. لهذا لا نستطيع أن نرى في يوسف ومريم زوجين عاديّين كسائر الأزواج. فمغامرتهما فريدة لأنهما يمثّلان جماعة البشر التي تحوّلت إلى خليقة جديدة علامتها المحسوسة هي البتوليّة التي تعبرّ عن علاقات بشرية تجلّت بحضور الله.
إن ملكوت السموات يجد نفسه منذ ظهوره على الأرض في حالة خروج وعبور: فالروح لا يمكن أن يغرق في الطين. بل هو يحوّل الطين ويحييه. ويسوع الإنسان الذي أخذ على عاتقه كل واقع التاريخ البشري لأنه "الله معنا"، يحرّكه نداء يأتيه من الآب عبر البشر. وتتّخذ دعوتُه جسماً بالأسماء التي أعطيت له: يسوع، عمانوئيل، الابن الذي دُعي من مصر. الناصري الذي يقيم في جماعة معروفة. هذا هو واقع المسيح ابن البشر وابن الله.
وحين أراد مت لهذا الواقع الذي يعطي ثباتاً لتاريخ البشر (هم أيضاً يحملون اسماً بشرياً واسما إلهياً، ودُعوا إلى دعوة شاملة) أن لا يصبح تجريداً مطلقاً، جعلَنا مع يسوع في قلب التاريخ والجغرافيا كما في أيام يسوع. بيت لحم، أورشليم، اليهوديّة، أرض إسرائيل، الجليل، الناصرة. هذا ما نجده على الخريطة. وما نجده في تاريخ الشعوب هو هيرودس الكبير (37- 4 ق م)، أرخيلاوس (4 ق. م- 6 ب م). وتصرّف هيرودس الطاغية العنيف، الذي قتل عدداً من نسائه وأولاده. الذي خاف دوماً على عرشه فلجأ إلى المنجّمين ودعاهم إلى قصره. كل هذا قد أخبرنا به المؤرّخون ولا سيّما فلافيوس يوسيفوس.
استعمل مت كل هذه العناصر ولكنه لم يجعلها جوهر تاريخه. قرأ الحدث يسوع في حقيقته العميقة لا في واقعه الخارجي اليومي. فروت الوقائعُ الواردة ولادة يسوع، وأبرزت بُعدها من أجل العالم على بُعد النور الحاسم، نور الموت والقيامة. هذا ما يدلّ عليه بشكل خاص الايرادات الكتابية في إنجيل متّى.
لا شكّ في أننا نودّ أن نطرح اسئلة لنرضي فضولنا وحشريتنا. كيف عاش يوسف ومريم حياتهما على المستوى السيكولوجي أو على مستوى الواقع اليومي؟ كيف كان مجيء المجوس إلى اليهوديّة؟ هل هرب يوسف حقا إلى مصر مع امرأته وابنه؟ هل قتل هيرودس حقاً أطفال بيت لحم الأبرياء؟ ولكن فضولنا لن يجد جواباً رغم أبحاثنا التي قد تكون محقّة. فالحقيقة الأخيرة للتاريخ لا تكون على هذا المستوى.
ففي نظر مت، كما في نظرنا، كان لهذه الأحداث موضع، بمعنى أن يسوع يجمل التاريخ فيصبح قلبه وغايته. إنه يجمع الأمم. وبعد اليوم، يتحدّد موقع كل انسان بالنسبة إليه، سواء كان يهودياً أم وثنياً. إنه الحدث الذي يحرّك الإيمان. والإيمان بدوره يفسّر الحدث التفسير الحقيقي. والإيمان نعيشه في الزمان والمكان، في محيط معيّن، ونعبّر عنه في فنون أدبية خاصّة. فكل نقد أدبي يلغي واقع المسيح الحيّ، ويعتبر نفسه في روحانية لا ترتبط بيسوع الناصريّ، لا يصل إلى هدفه، لأنه فقد الموضوعية وصار متحيّزاً لفكر مسبق. نحن لا نستطيع أن نقرأ التاريخ، ولا سيّما التاريخ المقدّس، بدون يسوع أو خارجاً عن يسوع.

الخاتمة
إن طفولة يسوع هي مدخل إلى إنجيل متّى كله. إنها في الوقت عينه المحطة الأولى، وهي تتضمّن سائر المحطات، كالطفل الذي حمل في ذاته حياة الإنسان كلها. إن مت 1- 2 هما قراءة جديدة للعهد القديم على ضوء تاريخ طفل صغير. وهكذا تُعلن الكتب في عيش نبويّ. والروح الذي عمل منذ الآن سيتجلّى في عماد المسيح. لقد تمّ تاريخ الخلاص في الجماعة المسيحيّة الأولى. ولكن على هذا التاريخ أن يجد في ذاته حضور ابن الله الحبيب. منذ الآن تجتمع جماعة المعمّدين في موت يسوع وقيامته.
في الواقع، مت 1- 2 هما خطبة نبويّة عن يسوع المسيح الذي جاء يتمّ المواعيد الحاضرة في تاريخ إسرائيل. إنهما يلعبان بالنسبة إلى الخبر، الدور الذي تلعبه الخطب الخمس في إنجيل متّى (5- 7؛ 10؛ 13؛ 18؛ 24- 25). وعبر الإيرادات الكتابية الخمسة، هي كلمة الله تعبرّ عن نفسها باسم الولد الذي لا يستطيع بعد أن يتكلّم. تعبرّ عن نفسها فتقول إن يسوع الذي هو "ابني" (2: 15) هو منذ البداية المسيح الذي يتركّز عليه مجيء الروح والصوت الآتي من السماء خلال عماده. هذا ما سوف نقرأه في مت 3- 4.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM