الفصل الرابع والأربعون: النساء عند القبر

الفصل الرابع والأربعون
النساء عند القبر
16: 1- 8
روى مرقس مسيرة النسوة الثلاث اللواتي جئن يحنّطن جسد يسوع، وذلك بعد أن انتهى السبت. ولكن الإضطراب سيطر على زيارتهن إلى القبر. وجدن "شاباً جالساً عن اليمين" يحمّلهن بلاغاً إلى التلاميذ. فحدث انقلاب تام فيهنّ، وما استطعن في الوقت الحاضر أن يتجاوزن هذا الخوف الذي أمسكهن.
سندرس هذا النصّ على المستوى الأدبي، على المستوى التعليمي، على مستوى التحليل النصوصي.
1- على مستوى النقد الأدبي
المشكلة الأساسية تطرح في أن خبر مجيء النسوة إلى قبر يسوع ينهي نصّ مرقس الأصلى. أما الخاتمة القانونية (16: 9- 20) فليست من قلم مرقس، فتشكّل ملحقا زيد فيما بعد. وما زال الشّراح يتساءلون: هل قرّر الكاتب أن ينهي كتابه فجأة مع خبر النساء الخائفات (آ 8) أم هل اهتمّ بأن يلحقه بآيات تلخّص ما نقرأه عند لوقا ويوحنا؟ فهناك إمكانيّتان: قد لا تكون الخاتمة القانونية دوّنت في أيام مرقس. أو تكون دوّنت وضاعت. ما هو الواقع؟
أ- رأي أول
ينتهي إنجيل مرقس في 16: 1- 8. جاءت النسوة إلى القبر في 15: 47، نظرن أين وُضع الجثمان. وها هنّ يرجعن في صباح الأحد. يحنّطن جسداً دُفن منذ يوم الجمعة؟ المهم أن الخوف سيطر على النسوة لا لأن الجسد حاضر هنا، بل لأن الجسد غائب. رأين الحجر قد دُحرج فتحوّلن إلى حجارة. وجاءت كلمة الملاك فهدّأت من روعهنّ ولكنها لم تفرحهنّ. بل ملأت قلوبهنّ خوفاً. هناك شّراح ينهون شرح مرقس مع هذا المقطع ويتركون الباقي.
ب- رأي ثانٍ
يزيد على الخاتمة الأصلية (16: 1- 8) الخاتمة القانونية (16: 9- 20). هي التي تعتبرها الكنيسة الكاثوليكية قانونية، شأنها شأن كل إنجيل مرقس. بمعنى أنها أساس العقيدة والإيمان. إذن النقاش ليس على المستوى التعليمي والعقائدي، بل على المستوى العلمي. ونشير هنا إلى أن الأناجيل التي بين أيدينا تورد هذه الخاتمة القانونية كما تورد الخاتمة الأصلية ولا تميز بين الإثنين.
غابت الخاتمة القانونية من السينائي والفاتيكاني والسريانية السينائية... وشدّد على هذا الغياب أوسابيوس وإيرونيموس. ووُجدت في عدد كبير من المخطوطات كالاسكندراني والافرامي والبازي واللاتينية الشعبية والسريانية الكيورتونية والسريانية البسيطة والصعيدية والبحيريّة. عرفها يوسينولس وإيريناوس. وهذا يعني أنها وُجدت قبل القرن الثاني.
لماذا يقول العلماء إن الخاتمة القانونية ليست مرقسية؟ إنطلقوا من اللغة والأسلوب. فهناك 20 مفردة نجدها هنا ولا نجدها في كل إنجيل مرقس. مثلاً، "بوريوماي" (ذهب). نجد هذا الفعل مراراً في العهد الجديد، نجده ثلاث مرات في الخاتمة القانونية. ولا نجده مرة واحدة في كل إنجيل مرقس (ما عدا في اختلافة في 9: 30).
ثم إن هذه الخاتمة القانونية ليست متماسكة مع 16: 1- 8. فإن آ 9 تبدأ فجأة: "نهض يسوع...". ولكن الملاك حدّثنا عن هذه القيامة. وهكذا نحسّ أننا أمام نصّ جديد يبدأ الآن. وتُذكر مريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين (آ 9). ولكنها ذُكرت في 16: 1. وهي قد ذهبت لتخبر الاخوة. ولكننا نعرف من آ 8 أن النسوة (ومنهنّ مريم المجدلية) هربن ولم يقلن شيئاً لأحد "لأنهن كنّ خائفات". وأخيراً كل الظهورات المذكورة في آ 9 ي قد تمّت في أورشليم أو في جوارها. ولا شيء يشير إلى الجليل الذي تحدّثت عنه آ 7 (إنه يسبقكم إلى الجليل).
إذا قرأنا آ 9- 20 وجدنا المراجع التي استقت منها الخاتمة القانونية.
آ 9: ظهور لمريم المجدلية: يو 20: 14- 18 (رج مت 28: 9- 10): سبعة شياطين: رج لو 8: 2.
آ 10: مريم تحمل الخبر: يو 20: 17- 18؛ لو 24: 9- 10.
آ 11: لم يصدّق الرسل: لو 24: 11، 22- 24.
آ 12- 13: ظهور لتلميذين في الطريق: لو 24: 13- 16 (مع خاتمة تشدّد على عدم التصديق؛ ق آ 13 مع لو 24: 33- 34).
آ 14: ظهور للأحد عشر. كانوا على المائدة: لو 24: 36- 45؛ رج 24: 25- 27.
آ 15: إيفاد في رسالة: مت 28: 18- 20؛ لو 24: 47- 48، وربما مر 13: 10.
آ 16: المعمودية، الإيمان، الخلاص، لا إيمان ودينونة: مت 28: 19؛ رج يو 3: 18؛ 20: 23.
آ 17- 18: موهبة الألسنة: أع، 1 كور. الحيات: لو 10: 19؛ أع 28: 3- 6.
آ 19: الصعود: لو 24: 50- 51؛ أع 1: 9.
آ 20: نشاط التلاميذ: سفر الأعمال. أسلوب رسائل القدّيس بولس.
في تعداد الظهورات، شدّد الكاتب على وضع التلاميذ الذين "لم يصدّقوا". وهكذا دلّ على أن الإيمان بالقيامة لم يُولد في مخيّلتهم. والرباط بين الخلاص والمعمودية والإيمان (ربما: إعلان الإيمان) يفترض أن هذا النصّ دوّن ربما في بداية القرن الثاني. وهذا ما يثبته أيضاً المزيج في آ 17- 18 بين "الآيات" (سامايون) بحسب النمط الإنجيلي (طرد الشياطين. شفاء المرضى)، ومظاهر عجائبية.
ج- الخاتمة القصيرة
ترجع إلى مصر. وتعود إلى القرن الرابع، وربّما القرن الخامس. في مخطوط يعود إلى القرن التاسع، نقرأ بعد آ 8: "وحملت (النسوة) بإيجاز إلى رفاق بطرس كل ما أعلن لهنّ. بعد هذا، ظهر يسوع نفسه لهم، وجعلهم يحملون من المشرق إلى المغرب بلاغ الخلاص الأبدي، المقدّلس والذي لا يفسد".
هذا النصّ هو بعيد جداً عن أسلوب مرقس ولغته. إعتُبر غير قانوني. أراد أن يقدّم جواباً على النهاية الفجائية لإنجيل مرقس، فزاد ما زاد. إذا كانت النسوة قد حفظن الصمت، فهذا يعني فقط أنهنّ لم يقدّمن "تصريحاً علنياً". لقد روين للرسل ما قيل لهنّ. ولكن روين بإيجاز. وهكذا لا تُعارض الخاتمة القصيرة ما قيل في آ 8. بعد هذا، ظهر يسوع لأخصّائه (هذا ما تقوله سائر الأناجيل). وبواسطتهم عرّف العالم كلّه على تعليم الخلاص.
د- الخاتمة المقحمة
هذه الخاتمة تنطلق من الخاتمة القانونية وتقحم بين آ 14 وآ 15 حاشمية طويلة نجد فيها اعتراضاً من التلاميذ وجواباً من يسوع. لا شكّ في أنها ألّفت لكي تخفّف من قساوة الحكم على التلاميذ في آ 14 (لم يصدّقوا)، ولكنها تهيّئ القارئ لينتقل إلى ما يلي من الخبر، إلى إيفاد أخصّائه إلى الرسالة. ما معنى أنه أرسلهم حالاً بعدما وبّخهم؟ هذا ما أراد هذا النص المقحم أن يفسرّه.
وإليك هذا النصّ: "وقالت هؤلاء (التلاميذ) لكي يدافعوا عن نفوسهم: إن هذا الدهر، دهر الشّر والكفر هو خاضع للشيطان الذي لا يسمح لمن هو تحت نير الأرواح النجسة، أن يفهم حقيقة الله وقدرته. لهذا، أكشف منذ الآن برّك. هذا ما قالوه للمسيح. فأجابهم المسيح: لقد جاءت نهاية سنوات سلطان الشيطان. ولكن أشياء أخرى رهيبة قد قربت. وأنا قد أسلمت إلى الموت من أجل الخطأة لكي يعودوا إلى الحقّ ولا يخطأوا من بعد ليرثوا مجد البرّ الروحي وغير الفاسد الذي هو في السماء".
2- بلاغ القيامة
لاحظ خبر الآلام وجود النسوة حين صُلب يسوع (15: 40: كانت هناك جماعة من النسوة ينظرن عن بعد)، وحين دُفن (15: 47: ولثماهدت مريم المجدلية...): رافقن المعلّم من الجليل إلى أورشليم، وكنّ يخدمنه (15: 41). الفعل المستعمل هو "دياكوناين" الذي يدلّ على وظيفة "الشمّاس" في الكنيسة الأولى. كما يميّز تصّرف أحد الأشخاص تجاه يسوع (1: 13، 31)، تصّرف أحد أعضاء الجماعة على مثال ابن الإنسان (9: 30؛ 10: 43، 45: جاء ليَخدم).
بعد أن مضى السبت، اشترت النسوة حنوطاً ليطيّبن جسد المصلوب. ومنذ الصباح الباكر، إنطلقن إلى القبر. أي سبت يعني؟ ذاك الذي ربّه هو ابن الإنسان (2: 28)، والذي يدلّ في الوقت عينه على غروب عالم وصباح خليقة جديدة (1: 32).
إنطلقت النسوة إلى القبر "باكراً جداً". أي حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً. ساعة لم يكن بعد قد طلع الصباح. ومع ذلك، يستبق مرقس ويتحدّث عن "طلوع الشمس". إنطلقن لكي يحنّطن جسد يسوع، ولكن من يحنّط جسداً مضى على دفنه يوم وليلتان؟ لا يهتمّ الإنجيلي بهذه الأمور غير المنطقية. بل يعبّر عن قلق النسوة: "من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر"؟ ماذا يعني هذا الحجر الذي به أغلق يوسف الرامي القبر (15: 46)؟ إنه يخبّئ عالم الموت، فيبعده عن نظر الأحياء. هو يغلق أفق التذكّر ويجعل الإنسان في عالم النسيان.
تطلّعن. رفعن أنظارهنّ قي فعلة تشبه ما فعله يسوع حين كسر الخبز للجموع (6: 41)، أو حين شفى الأصمّ الألكن (7: 34). تشبه نظرة العميان الذين يستعيدون النظر (8: 24؛ 10: 51، 52). فانتظرهنّ مشهد لم يتعوّدن عليه. حين ينظرن الآن، يرين أن الحجر قد دحرج. أن القبر مفتوح. لم يبادرن فيفتحن القبر، بل لم يتوقّعن مثل هذا الحدث غير المنتظر.
دخلن إلى القبر، توغّلن في سرّ الموت فاكتشفن لا جثة هامدة بل "شاباً جالساً عن اليمين، يلفّه ثوب أبيض" (16: 5). من هو هذا الكائن السرّي الذي يدلّ بثوبه الناصع على الطابع السماوي؟ فكأننا في مشهد التجليّ (9: 3: ثياب يسوع تلمع ببياض ناصع؛ رج دا 7: 9؛ رؤ 3: 4، 5؛ 4: 4؛ 7: 13). يشبّه مراراً بملاك كما في الرؤية التي منعت هليودورس من وضع يده على كنز الهيكل (2 مك 3: 26). ولكن مرقس يحيلنا بالأحرى إلى تصريح يسوع أمام السنهدرين (المجلس الأعلى): "سترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً على سحاب السماء" (14: 62) هل هذا استباق لمجيء المسيح تتأمّل فيه النسوة؟
خلال توقيف يسوع، رأينا شاباً يلفّه رداء أو إزار (14: 51). كما سيلفّ الكفن جثمان المصلوب (15: 46). هذا الشاب هرب عرياناً، بعد أن حاول ملاحقوه أن يمسكوه. قال بعضهم: هو مرقس نفسه. أما نكون أمام رمز عمادي: يُعرّى فيه الإنسان من اللبالس العتيق ويرتدي اللباس الأبيض الذي هو رمز انتصار يسوع على الموت. وفي الخطّ عينه نرف في هذا الشاب "يسوع" نفسه الذي صُلب عرياناً مثل آدم بعد خطيئته. ولما صار آدم الجديد استعاد لا بهاء آدم الأول وحسب، بل عظمة آدم الجديد الذي هو ابن الله. وهكذا نكتشف من خلال الرموز الرباط بين المعمودية وبين الصليب: المعمودية هي موت وقيامة مع يسوع.
إن هذا الشاب اللابس البياض هو حامل "البلاغ" الفصحي: جاء يعلن حدث القيامة. إنه يسوع الممجّد الجالس عن يمين الله والملتحف بالقدرة الإلهية، بلبالس القيامة والنصر. إنه الإنجيلي مرقس الذي يشهد للقيامة بإنجيله، إنجيل يسوع المسيح ابن الله. إنه كل مؤمن: لبس المسيح في العماد فتجسّد فيه الإنجيل في عالم البشر.
"صُعقت النسوة". ارتعبن. حلّ عليهنّ خوف مقدّس. نحن أمام كلمة يونانية قوية تدلت على شعور ديني عنيف. هناك انذهال وتساؤل حوله ما يدركه الإنسان من جديد جذري. هذا ما حدث لأهل كفرناحوم الذين أدركهم الذهول أمام أول تدخّل ليسوع (1: 27). وللذين استقبلوه بعد التجليّ (9: 15). إن متطلّبات المعلّم "القاسية" أثّرت على التلاميذ تأثيراً مماثلاً (10: 24، 32: لا يدرون ما يفعلون). هذا الشعور أصاب أيضاً يسوع خلال نزاعه. "طفق يرتاع ويكتئب" (14: 33).
النساء هنّ في حضرة الله. فكما في كل التيوفانيات البيبلية (تك 28: 17؛ خر 3: 6؛ قض 6: 22- 23؛ أش 6: 5، حز 1: 27)، يستولي الذهول (والرعدة) على الإنسان الذي لا يستطيع أن يرى الله ويبقى على قيد الحياة (خر 33: 10). ولكن إذا كان ظهور الله يحيّر ويذهل، فحضوره سيكون طمأنينة وهدوءاً. "لا ترتعبن"، لا ترتعدن (16: 6). إن الذي يجلس "عن يمين القدرة" (14: 62) يُسقط على واقع الموت نوراً ساطعاً نستطيع أن نتقبّله.
ويشكّل بلاغ الشاب قلب الخبر: هو وحي وأمر بالإنطلاق. الوحي: ،(تطلبن يسوع الناصري، المصلوب! إنه قام. ليس هو هنا". لقد انقلب الموت. وتبدل معناه: المصلوب قد قام. إستعاد مرقس هنا نواة الكرازة الرسولية كما أوردتها خطب أعمال الرسل (2: 23- 24؛ 3: 15؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 10: 39- 40؛ 13: 28- 30) مع التعبير الأوّلاني: الناصري (أع 2: 22؛ 4: 10؛ لو 24: 19)، الذي يدلي على أن القائم من الموت هو يسوع الناصري نفسه. فلا كلام خاصاً بالمرسل. كلمته هي كلمة الجماعة الرسولية. تصريع قاطع، بدون برهان وبدون شرح، لواقع يتجاوز العقل، لواقع يُعتبر أمراً ومضى: إنه قام.
ولكن يُطرح السؤال: "أين هو إذن"؟ لهذا تابع الشاب كلامه: "ليس هو هنا. هذا هو المكان الذي وضعوه فيه" (16: 6). ألن يكون المكان هو موضع الدفن، فهذا ما يعرفنه، وهنّ اللواتي شاهدن باهتمام ما فعله يوسف الرامي (15: 47). إعتبر بعض الشّراح أن هذا التشديد على موضع الدفن يدلّ على الجذور الليتورجية للإحتفال الفصحي السنوي بالقيامة. كانت تأتي جماعة أورشليم الأولى إلى قبر يسوع فتعيش حدث القيامة. بيد أنه يجب أن لا نُهمل بُعد هذه الكلمة. فالقائم من الموت لم يعد مرتبطاً بنواميس المكان والزمان: لا يحُتفظ به "هنا" أو "هناك". بل إن الأمكنة صارت بعد اليوم في خدمة حضوره. ولا يستطيع مكان من الأمكنة أن يسجنه. بما أنه قام ليس هو هنا. وليس العكس (ربما إنه ليس هنا، فقد قام! كلا). هذا وجب توضيحه لإبعاد فرضية "سرقة الجثمان". هذا ما نستشفّه من كلام مرقس. أما متى (28: 11- 15) ويوحنا فكانا واضحين. إذا كان يسوع ليس هنا، بل في مكان آخر، فلسنا أمام مدى ذات قياس بشري. نحن أمام عالم جديد لم تعتد عليه النسوة بعد.
بعد الوحي، جاء الأمر بالإنطلاق. وقد سلّمهم إياه الشاب: "فاذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: هو يسبقكم إلى الجليل" (16: 7). إذن، ليست مهمتهن بأن يعظن. هذا سيكون عمل التلاميذ ولا سيما الأحد عشر. لقد ميّز مرقس الأدوار. وكما فعل على مدّ إنجيله، وضع في المقدمة شخص بطرس (رج 1 كور 15: 5؛ لو 24: 34). إن القائم من الموت "يسبق" أخصّاءه، كما فعل خلال صعوده إلى أورشليم (10: 32: يسوع يتقدّمهم) وحسب وعده لهم حين أنبأ بإنكار بطرس له (14: 28: بعد قيامتي أسبقكم إلى الجليل). هذا التذكير يتيح للإنجيلي أن يربط القيامة بالآلام، أن يربط إيمان بطرس بسقوطه، أن يربط مصير التلميذ بمصير المعلّم. وذكرُ الجليل يعيدنا أيضاً إلى بداية الإنجيل حيث سمعنا إعلان يسوع ونداء التلاميذ.
وانطلقت النسوة اللواتي حيّرهنّ الخوف. يجب أن يبيّنّ الحضور الذي سيشهد لنفسه بفضل شهادتهنّ. كانت الشريعة اليهودية تنكر لهنّ إمكانية الشهادة. ولكن "يسوع" أرسلهنّ ليفجّرن الحياة رجاء عبر الرغبات والإهتمامات التي سُجن فيها التلاميذ. ولكي يستعدّ هؤلاء للقاء القائم من الموت، على النسوة أن يذكرنهم بما قال لهم يسوع بعد العشاء الافخارستي وسط الحيرة والضياع اللذين شكّكا الجميع. إنهن هذا الرباط بين يسوع وطاعته في ذاكرة كلمته وفي نفحة حضوره.
ولكن هؤلاء "الشهود" المميّزين قد سيطر عليهن الخرس: "هربن من القبر بعد أن سيطرت عليهن الحيرة والفزع" (16: 8). لم نعد أمام المخافة الدينية لدى ظهور اللاهوت. بل أمام ارتعاش ينتزع الكائن البشري من نفسه ويجعله في حالة انخطاف، تلك الحالة التي أحسّ بها أولئك الذين شهدوا قيامة ابنة يائيرس (اكستاسيس). إن فعل "اكستاناي" (كان خارج نفسه، خطف) يدلّ عند مرقس على دهشة الجموع (وتأثّرهم) أمام يسوع الذي يغفر الخطايا (2: 12) أو يقيم ميتة (5: 42). يدلّ على ذهول التلاميذ حين رأوا معلّمهم يمشي على البحر (6: 51). بل إن يسوع نفسه بدا وكأنه خرج من ذاته في نظر أهله (3: 21).
نحن نعجب من ردّة فعل النسوة، وذلك بعد أن دعاهنّ الشاب لئلا يتركن الذهول يستولي عليهنّ. كانت الخبرة أقوى من أن يحتويها عقل بشري اعتاد أن يرى الميت ميتاً. جاءت النسوة ليحنّطن يسوع، أي ليحفظنه في الموت. فإذا هو حيّ وهنّ أموات. فإذا هو يرسلهنّ في مهمة قريبة من الجنون: من سوف يصدّقهن؟
نعجب لموقف النسوة. ونعجب أكثر لموقف مرقس الذي ينهي إنجيله بهذه العبارة الغريبة: "ما أخبرن أحداً بشيء لأنهنّ كنّ خائفات" (16: 8). وتساءل الشراح حول هذه النهاية المفاجئة. كيف نفهم صمت النسوة ساعة يلحّ عليهنّ البلاغ بأن يتكلّمن. بيّن متى ولوقا كيف أنهنّ قمن بالمهمة خير قيام. قال متى (28: 8) إنهنّ أسرعن إلى التلاميذ "بخوف وفرح عظيم". وقال لوقا (24: 9- 11): أخبرن التلاميذ، فظن التلاميذ أنهنّ واهمات فما صدّقوهنّ. لم يقل مرقس في هذه الخاتمة الأصلية كيف تأمّن نقل البشارة الفصحية. لهذا زيدت 16: 9- 20 لتردّ على هذا السؤال.
شدّد مرقس على صمت النسوة فكان أميناً لنظرته حين دوّن الإنجيل: كيف يكشف الله عن نفسه في شخص يسوع بشكل يشبع انتظار الناس ويتجاوز هذا الإنتظار؟ فيسوع أوصى مراراً خلال حياته العلنية بأن يصمت أولئك الذين ظنّوا أنهم أدركوا هويته (1: 24- 25، 34، 3: 11- 12)، ولكنهم ظلّوا لا يفهمون سرّه (8: 30- 33؛ 9: 9). وما دام يسوع لم يقم، لا يمكن أن ندخل إلى حياته الحميمة، لأن قيامته هي التي تكشفها. ولكن حين تمّ هذا الكشف، ترك الحاضرين في الخوف والحيرة. أدركت النسوة جدّية فعل الإيمان الذي يدعوهنّ إليه تدخّل الله الحاسم، كما أدركن المسؤولية التي أُلقيت على عاتقهنّ.
3- تحليل النصّ
إذا أردنا أن نفهم نصاً فهماً كاملاً، لا يكفي أن نفسرّ كل كلمة أو كل تفصيل في الخبر. يجب أن ننتبه أيضاً إلى الطريقة التي بُني بها لكي نراعي ما يريد الإنجيلي أن يبرزه.
أ- لقاء مع الملاك (آ 1- 6 أ)
ونبدأ بالنظر إلى الظروف (آ 1- 2). إن النسوة المذكورات هنا قد شاهدن صلب يسوع (15: 40)، واثنتان منهنّ عرفن أين وُضع الجثمان وكيف دحرج الحجر على باب القبر (15: 47). وهكذا عاد مرقس إلى واقع تحدّث عن الفاعلين فيه. ثم إن شراء الحنوط منذ نهاية السبت (إذاً، في مساء السبت، وبعد غياب الشمس) والمجيء إلى القبر في الصباح الباكر ليحنّطن جسد يسوع، يدلاّن على أن النسوة لم يكنّ يتخيّلن قيامة ممكنة.
وكانت المفاجأة الأولى (آ 3- 4). تساءلت النسوة: من يدحرج الحجر؟ هل هذا وقت التفكير في هذه الصعوبة؟ ولكن هذه الملاحظة وُضعت هنا لتعدّ القارئ للحدث: "وجدن الحجر مدحرجاً" (آ 4). ولاحظ النصّ: "وكان كبيراً جداً". ذاك كان اكتشاف أول وسيتبعه اكتشاف ثان لم يكن لينتظره أحد. رأت النسوة "ملاكاً" (آ 5- 6 أ).
لسنا فقط أمام الدهشة. فلباس الشاب يدلّ على أنه كائن سماوي (رج 9: 3). وتحدّث مرقس عن الخوف (الرعدة) لا ليدلّ على ردّة فعل معقولة عند نسوة خفن من لقاء غير عادي. بل هو يشدّد (حسب الأسلوب البيبلي) بهذا الخوف الديني، على خبرة تفوق الطبيعة، على مستوى من التعالي ينكشف للإنسان فيجعله في الحيرة. إن اللفظة (تامبايستاي: ارتعب) تعبّر دوماً عند مرقس على شعور من الدهشة والخوف، على وضع يتجاوز الإنسان. تضيع إمكانيات الإنسان فلا يعود يعرف كيف يتصّرف (10: 24، 32؛ 14: 33). هناك ظهور قدرة تبدو بشكل أبيفانيا حقيقية لله في شخص يسوع (1: 27؛ 9: 15).
هذا هو الوضع هنا. صوّر مرقس مشهد وحي إلهي كما في الظهورات البيبلية حيث تكون أول كلمة لتدعو الإنسان ليطرد الخوف (آ 6 أ). فالإنسان لا يستطيع أن يتحمّل ظهور الله إن لم يهدىء الله من روعه. ثم إن الإهتمام ينصبّ على حضور "الملاك" (لا نجد اللفظة في النصّ)، لا على القبر الفارغ. وهناك تشديد على البلاغ. فالملاك لا يتدخّل في الكتاب المقدّس إلا ليحمل وحي الله. وهكذا نصل إلى الموضوع الرئيسي في خبر مرقس.
ب- البلاع الإلهي (آ 6 ب- 7)
أولاً: التصريح الرئيسي
"أنتنّ تطلبن الناصري المصلوب. لقد قام". هناك تعارض تام بين "المصلوب" و"قام". هذا هو التأكيد بانتصار المسيح على الموت. إن دراما الآلام التي احتلّت حيّزاً واسعاً في الإنجيل الثاني قد انتهت: الله أقام المصلوب (نحن هنا في صيغة المجهول: أقيم أي أقامه الله). هذا هو التعبير الأول للإيمان الرسولي. حين يقرأ المؤمنون هذا الكلام، يتقبّلون هذه الكرازة من فم شخص سرّي، شخص سماوي. يتقبّلونها على أنها كلام الله.
ثانياً: التحقّق من القبر الفارغ
"ها هو هنا" (آ 6). هذا هو الوجه الآخر للإعلان الأساسي: "لقد قام". إن ترتيب الإعلانين مهمّ. فالواحد يفسرّ الآخر والعكس بالعكس. إذا كان قد قام، فلماذا ندهش أن لا يكون هنا. إن كلمة الله تحل لغزاً لا يقدر البشر على حلّه.
"هذا هو المكان الذي وضعوه فيه" (آ 6). أي: تعالوا وتحقّقوا بأنفسكم أنه ليس هنا. هذا ما يستطيع أن يقوم به الإنسان. ولكن جاء بلاع القيامة فأدخله إلى عالم جديد يتجاوزه. إن مشروع النسوة اللواتي أتين ليحنّطن جسد يسوع، لم يعد له من معنى. فعليهنّ أن يوتجهن أفكارهنّ نحو واقع آخر.
ثالثاً: مهمة النسوة
لهذا دُعيت النسوة لتتركن القبر وتحملن بلاغاً إلى التلاميذ (آ 7). إذن، رسالة محدّدة: فالتلاميذ (وخصوصاً بطرس) سيصيرون شهود القيامة بفضل الظهورات. هل دوّن مرقس خبر بعض الظهورات؟ أيكون قد ضاع؟ أم أنه اكتفى بأن يدلّ على أن بلاغ القيامة وصل إلى النسوة، واعتبر أن الرسل هم الذين حملوه إلى أقاصي الأرض؟ أما هذا هو الذي تعيشه كنيسة رومة؟
مهما يكن من أمر، إن إنجيل مرقس يشدّد على إعلان الإنجيل في العالم كله. و"الإنجيل" في نظره هو قدرة الله الخلاصية الفاعلة كما هو التعليم الرسولي عن سرّ المسيح الذي مات وقام. وهكذا نفهم المكانة الأولى التي يحتلّها التلاميذ في كتابه: اختيارهم، تربيتهم، تصليح اتجاهاتهم حين لا توافق مسيرة الملكوت، وحي سرّ ملكوت الله لهم، إنباؤهم بمصير ابن الإنسان الذي يُرذل ويُصلب ويقوم. كل هذا يفترض فكرة رفيعة عن مهمة الرسل، حتى وإن لم يروِ مرقس خبر أعمالهم في نهاية إنجيله.
وهكذا أكد إرسال النسوة إلى التلاميذ وبطرس، على الرباط الوثيق التي تبرزه التعابير التقليدية في الكنيسة الأولى، بين القيامة والظهور للتلاميذ والظهور لبطرس بشكل خاص. ففي قلب خبر الآلام، كان قد أنبأ يسوع بظهوراته في الجليل: "بعد أن أقوم أسبقكم إلى الجليل" (14: 28). وسيقول الملاك للنسوة: "قولوا لتلاميذه إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم". بهذه الطريقة ربط مرقس بين الآلام والقيامة. وأسّس على الظهورات رسالة التلاميذ.
ج- خاتمة الخبر (آ 8)
ولكن كيف لا ندهش من خاتمة الخبر؟ كيف لا ندهش من ردة الفعل عند النسوة اللواتي ارتعدن فهربن؟ هنا نتوقّف عند نوعية خوفهن. فالخوف والرعدة يسيران معاً حين يحتار الناس أمام قدرة الله (خر 15: 16؛ تث 2: 25؛ 11: 25؛ رج فل 2: 12- 13). والضياع والإنخطاف هما نتيجة تجليّ الله (1 مل 11: 7؛ 2 أخ 14: 13؛ لو 5: 26؛ أع 3: 10؛ مر 5: 42). هنا يشدّد مرقس على الطابع العلوي للوحي الذي وصل إلى النسوة (رد 9: 6).
وماذا عن صمت النسوة (لم يخبرن أحداً)؟ هل أراد مرقس أن يدلّ على ضياعهن؟ هل احتفظ لنفسه بأن يقوله إنهن في النهاية تكلّمن؟ نستطيع أن نقدّم الفرضيات، ولكننا نجهل ما أراد أن يخبرنا به بعد آ 8.
ذكر مرقس صمت النسوة. وذكر أيضاً اضطرابهنّ (وخوفهنّ). هذا نتيجة رعدة مقدّسة أمام ظهور الله، أو بالأحرى أمام كلمة الله التي أكّدت قيامة المصلوب وألقت ضوءاً على لغز القبر الفارغ. والحال، إن موضوع الكشف عن السرّ الخفي يملأ صفحات الإنجيل الثاني. هذا السرّ هو سرّ هوية يسوع، سرّ ملكوت الله، سرّ تمام الخلاص بواسطة آلام ابن الإنسان. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يتمّ هذا الكشف عند مرقس بشكل مدهش يدلّ على مخطط الله بما فيه من مفارقة وعلى ضعف الإنسان أمام السر: هو كشف خفيّ، بدون شهود عن هويه يسوع بعد المعمودية (1: 9- 11). كشف يمنعه صمت يفرضه يسوع على "الارواح النجسة" التي أدركت سرّه (1: 24- 25). كشف محفوظ لبعض الذين يسمعون ولا يفهمون (4: 10- 13؛ 8: 30- 33؛ 9: 6- 10، 32). يجب أن ننتظر تتمة أفكار الله (8: 33) وموت المصلوب لكي يعترف رجل وثني بأن هذا الرجل كان حقاً ابن الله (15: 39). وحين تأتي ساعة الوحي السامي، وحي القيامة، يتوقّف كل شيء بسبب خوف وضياع النسوة اللواتي لم يخبرن أحداً بشيء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM